يوسف والجب
رأيتني فجأة في غيابات الجب. هتَف هاتف مِن فوقي: أنت الآن في الجبِّ الذي ألقيَ فيه يوسف! ثم أردف بصوت مُتحشرِجٍ ومُخيفٍ: اعلم أنك أنتَ نفسك يوسف! أفزعني الصوت، كما زادني الظلام رعبًا. كان أول ما فعلته أن أطمئنَّ على خلو الجبِّ من الحيَّات والثعابين والعقارب والحشرات. ولما استراح قلبي، عدت بالذاكرة إلى ما قبل وقوعي في هذا الجب، أو هذا البئر الملعون. بدا لي كل شيء غريبًا لا يُصدق، فأنا لم أكن أرتع وألعب مع إخوتي، ولم يكن بيني وبينهم شيء حتى يَكيدوا لي. ثم إن ذهني خالٍ تمامًا عن يعقوب، وأستبعد أن يكون هذا اسم أبي الذي أعلم تمام العلم أنه مات منذ أكثر من أربعين سنة، عندما كنت أعيش وأدرس في الغربة. وأما عن الذئب الذي قال الإخوة لأبيهم إنه قد أكلني، فأنا واثقٌ أنه بريء من دمي، وأن التهمة نفسها تثبت أن البشر أنفسهم ذئابٌ أفظع وأبشع من كل الذئاب. لكن ما العمل إذا كان الصوت الهاتف يؤكد أنني وقعت في الجبِّ. وها هو يَنطق من جديد ليُنذرني، ويحذرني من أن أشك لحظةً واحدة في أنني يوسف نفسه؟!
لم يكن أمامي إلا أن أنتظر. مددت قدمي في الفراغ المُعتم، وأسندت رأسي إلى الجدار الصخري، وقلت لنفسي عسى أن يأتي بعض السيارة فيلتقطوني. ما هي إلا لحظات حتى صدق ظنِّي، وسمعت همهمات بشر وثغاء جمال وأصداء هتاف وصياح، تتناهى إليَّ في سجني السفلي العميق. اقتربت الأصوات المتداخلة من حافة الجب، ورأيت فيما يرى النائم أكثر من وجه بدوي صلب الملامح، يُطلُّ عليَّ من أعلى. بادرت بالصراخ بأعلى نبرة تقدر عليها حنجرتي وصدري ورئتاي، اللتان خُيِّل إليَّ أنهما امتلأتا بالتراب والرمال: أخرجوني من هنا! أرجوكم أخرجوني! …
ملأ الوجه العريض الذي أحرقته الشمس فتحة الجبِّ، وأخذ صاحبه يسألني: مَن أنت، ومن الذي رماك هنا؟
– أنا يوسف. أنا الذي ألقَوه في غيابات الجب وتركوه. أَنزِلوا الحبال حتى أصعد إلى الأرض، وأرى الشمس، وأتنفَّس الهواء …
– ليس قبل أن تحكي لنا قصتك. قبل أن تروي لنا رؤياك …
– وماذا أحكي لكم وكل شيءٍ مأثور ومعروف. أنا الذي رأيتُ أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتُهم لي ساجدين.
رنَّت ضحكة مجلجلة سرعان ما أعقبها سؤالٌ ساخرٌ: وماذا أيضًا؟ هل ستقول إننا نحن السيارة الذين سنمرُّ عليك ونُدلي دلونا، ويصيح فينا صائح: يا بُشرى هذا غلام، ثم يشتريك شارٍ من مصر يُربِّيك ويُسلِّمك لملكها فتعيش في قصره؟
صحتُ، وأنا أشدُّ منه خيط القصة وأهتف: نعم نعم، وتُراودني امرأة العزيز عن نفسي وينجِّيني الله منها، وتقطع النسوة أيديهن حين يذهلن بجمال وجهي، وأُتَّهم وأدخل السجن، وألقى هناك فتيين أُعبِّر لهما الرؤيا …
تعالت ضحكة الوجه المطل عليَّ من أعلى، ثم انتشرت كالدوامة بين الرعاة المتحلقين حوله: وربما تدعي أيضًا أن فرعون جعلك وزيرًا، وائتمنك على خزائنه، ومكَّن لك ولإخوتك في الأرض بعد أن نجحَت خطتك في إنقاذ مصر من المجاعة، ولم تَسمح للبقرات العجاف أن يأكلن البقرات السمان.
قلت في صوتٍ تُبلِّله الدموع: المُهم الآن أن تخرجوني من هنا. أنزلوا الحبل حتى أصعد إلى الهواء والنور. كل ما قلته وتقولونه مأثور ومعروف حتى لأصغر الأطفال …
صرخ الوجه المخيف، ورجَّت أصداء صرخته أعماق الجبِّ: كل ما تقوله أضغاث أحلام، لا أنتَ يوسف ولا هذا البئر هو بئرك.
– لتكن كلها أضغاث أحلامٍ وأوهام. عَجِّلوا بالتقاطي ولا تتركوني في هذا الظلام …
– بل نتركك — عقابًا لك — للمزيد من الأحلام والأوهام. نتركك للهمِّ والوحدة والاكتئاب. ستسير القافلة ولن توقفها أحلامك وأوهامك … ابق في جُبِّك، واشك أمرك لله …
قلت، وأنا أبكي وأرتعب من تصوُّر وجودي في الظلام، وانتظاري للموت الوشيك، أو لمعجزات الصدفة: ولمن أشكو بثِّي وحزني إلا إليه؟ اذهبوا إذا شئتم، لن أيئس أبدًا من رُوح الله!
انخرطت في نشيج الوحيد الممزَّق على الحافة بين الأمل في سيارة أخرى، واليأس من كل عونٍ أو رجاء. وعندما أفقت على الدموع التي تُبلِّل وجهي، والصيحات التي تزلزل صدري، فتحت عيني ووجدتني جالسًا في سريري — وسط غبشة الظلام التي تسبق الفجر — لا في غيابات الجبِّ.