ستي ستيتة
كلُّ شيءٍ فيها كان يَضحك أو على الأقل يبتسم. يبدو أنها — دون خلق الله جميعًا — قد استقبلت الدنيا أول ما استقبلتها وتنفَّست هواءها، بضحكةٍ مجلجلةٍ لا بصرخةٍ مولولةٍ. إن كنت قد نسيت شكلها وملامحها الدقيقة — فقد توفيت وأنا بعد في المدرسة الابتدائية — فلا يُمكن أن أنسى أنها لم تكفَّ أبدًا عن الضحك. كانت تعيش على مساعدة الجيران الميسورين والمستورين، في العجين والخبيز والغسيل والطبخ والتنظيف. تُجلجل ضحكتها طول الوقت منذ أن تقف على الباب في انتظار من يفتح لها، إلى أن تخرج في آخر النهار، وتحت شالها الأسود الطويل بعض ما جاد به الكرام من الزَّاد والخزين والفاكهة. وترجع إلى غرفتها الصغيرة فوق سطح البيت المجاور لنا، لتنام بعد أن تزوَّج ابنها الوحيد وترك الغرفة إلى غرفة أخرى على سطح آخر، وبعد أن مات كذلك زوجها الذي لم تكن تذكره وهي إلا بقولها: المتعوس الخائب الذي ترَكني لا ورائي ولا قدامي.
كانت أمي تحبُّها وتأنَس إليها، وكلما ضاقت بوحدتها، وأوشك الحزن والبكاء على أهلها الأموات أن يغلبها، نادت عليها من الشباك المطلِّ عليها من حجرة الفرن: ستيتة، تعالي وحياة أبوك شوية … تستفسر الضاحكة الأزلية: خبيز ولا غسيل ولا … تُقاطعها أمي: لا خبيز ولا غسيل … تعالي يا شيخة … فكِّي عني ضيقتي … ولا تلبث دائمة الضحك أن تحضر، وتشرب القهوة، وتحكي من النوادر والغرائب والحكايات، ما يرجُّ الجسد كله من السرور والنشوة والعجب.
ما الذي يُذكرني بها اليوم مع بداية العام الدراسي، مع أني قد خرجت للمعاش وتركت التدريس، وشاب شعري وأصبح الذين لا يَعرفونني ينادونني يا جدو ويا حاج. وبينما أسير في الشارع وحولي صغار التلاميذ ذاهبين إلى مدارسهم أو راجعين منها، تتراءى لي ستي ستيتة على الفور. ذلك أنني لا أستطيع أن أنسى أنها هي التي أوصلتني إلى المدرسة في أول يوم دخلتها فيه. أقول أوصلتني، والحقيقة أنها حملتني حملًا فوق كتفيها. كنا في عز الشتاء، السماء تمطر بلا رحمةٍ، والسيول تملأ الشوارع، وأكوام الوحل كالتلال الصغيرة على جانبي الطريق وفي وسطه، والبرك تتكون باستمرار وتتسع في الشوارع والحواري التي لم يدخلها الصرف الصحي، ولم يُفكِّر أحد في رصفها بالأسفلت.
كنت أقف أمام الباب في انتظار الحنطور الذي اتفق أبي مع صاحبه على أن يفوت علينا طول أيام الشتاء، ليَحملني مع بعض أبناء الجيران إلى المدرسة الواقعة في الطرف البعيد من البلدة عند مدخلها الغربي. مرَّت ستِّي ستيتة بالصدفة، ورأتني على الباب وفي يدي شمسية صغيرة وحقيبة أوراق وفي اليد الأخرى العامود المعدني ذو الأدوار، الذي ملأت أوعيته الصغيرة المستديرة بطعام الغداء. يبدو أن القلق والخوف الذي يصل إلى حدِّ الرعب من اليوم الدراسي الأول، قد ارتسما على وجهي وأسدلا عليه ستارًا من الصمت المشحون بالفزع والرهبة. كانت أمي واقفةً وراء الباب الموارب في انتظار الحنطور الموعود، عندما ظهرت ستيتة، وقالت وهي تضحك، بعد أن أدركت الموقف كله: شاء الله يا حنطور، الجرس زمانه ضرب وأنت هنا واقف على الباب؟ يا الله يا ابني! يا الله يا حبيبي!
حاولَتْ أمي أن تُثنيها عن عزمها: الدنيا شتا يا ستيتة، والوحلة للركب. اصبري … زمان الحنطور في السكة … قالت ستيتة، وهي ترفعني على كتفيها وتغطي رأسي بشالها الأسود الطويل: وزمان الجرس ضرب. يا الله يا ابني! يا الله يا حبيبي، كل سنة وأنت طيب …
راحت تخوض في الوحل، والمطر يتساقَط على رأسينا بلا انقطاعٍ. ربما أحسَّت بحزني وخوفي، فظلَّت طول الطريق تُشجِّعني وتدفع الابتسام إلى وجهي، برغم الجو الممطر والسماء المكفهرة والبرد الذي يَرجف البدن: إيه يعني شوية برد وشوية مطر! بكرة تصفو السما وتطلع الشمس وترجع العصافير للشجر. اضحك يا رجل … اضحك للدنيا ولا يهمك من المطر والبرد والوحل، حتى المصائب قابلها بالضحك تخف عنك. اضحك وأنت تلعب، واضحك وأنت تُذاكر دروسك، اضحك في المدرسة والبيت والشارع والجامع. كلنا ماشيين يا حبيبي، وفي الآخر يرمونا في قلب العتمة وينثروا فوقنا حفنةَ تراب. ربك هو العالم بيوم ما، نصحى من النومة وكل واحد منا ياخد كتابه باليمين أو بالشمال. أنا نفسي هامد يدي واخده وانتظر حكم الله، وابتسامة الأمل والرضا على وجهي وفي قلبي. اضحك يا حبيبي دائمًا، من ساعة ما تصحى من النوم لغاية ما ترجع تنام بالليل. خذ الضحكة معك، وأحلامك بإذن الله تكون كلها فرح وهنا …
هكذا مضت تُردد أنشودة الضحك والفرح طول الطريق. لم أفهم بطبيعة الحال كل ما قالت، لكنني على الأقل نسيت المطر والبرد والوحل، وانشغلت عن رعبي وخوفي من أول يوم دراسي في حياتي. وعندما رجعت من المدرسة بعد الظهر بالحنطور مع بعض زملائي وجيراني، وحكيت لأمي ما كان من ستي ستيتة، ضحكت هي الأخرى، وقالت وهي تُجفف دموعها من شدة الضحك: هي دي ستيتة وهذا طبعها، تضحك طوب الأرض وتميت من يسمعها من الضحك …
الغريب أن ضحكها كان سبب موتها. كانت في زيارة جيرانها الأقباط مع الطيبة الحنون أم الأستاذ جورج الموظف بالبلدية، وكانت منهمكةً في رواية قصتها مع المتعوس خائب الرجا الذي عمل فيها عملته، وتركها مع ابنها ليأكلا الريح ويطعما البرد والجوع. ضحكت في ذلك اليوم على سيرة رجلها، كما لم تَضحك أبدًا في حياتها. وفجأة طالت الضحكة، فشهقت شهقة طويلة خرج معها السر الإلهي …
علمت أمي على الفور بموتها، فقالت لأبي الذي أظهر النية الطيبة لتجهيزها وعمل مأتم لها: خلي الوحدانية المسكينة معنا في مدفن العائلة، هي منا وعلينا يا حاج. قال أبي: بالفعل، هي واحدة من العائلة يا أم محمد.