مع أبي
اعتدتُ بعد انتهاء اليوم الدراسي أن أمرَّ على الدكان وأرجع مع أبي إلى البيت. أراه جالسًا أمامه، والمصحف بين يدَيه، وشفتاه تُتمتمان في همسٍ خفيضٍ. لقد أدى صلاة العصر في الجامع، واتَّخذ مكانه على الرصيف أمام باب الدكان، وراح يردُّ السلام على كل من يفوت عليه، أو يدخل الدكان ليشتري حاجته من الغلال. كان مُعظم العابرين والداخلين ينحنون على يده ويُقبلونها ويسألونه الدعاء. وكنتُ ألاحظ فرحة شقيقيَّ اللذين يصرفان شئون المحل بوجوده معهما؛ لأنه يَشيع البركة من حوله، وربما يشجع أيضًا على حركة البيع والشراء. أقف قليلًا إلى جانبه، أو أتنقَّل داخل المحل، حتى يُنادي عليَّ قائلًا: يا الله يا ابني نتوكل على الله.
في الطريق الترابي القصير إلى البيت، أسير بجوار كغرابٍ صغيرٍ يعرج بجانب نسر عظيم. حقيبة كتبي وكراساتي على ظهري، وفي رأسي الصغير عشرات الأفكار والحكايات التي أريد أن أقصَّها عليه. وأرفع عيني إلى وجهه، فأراه كما عهدته: مُضيء يشرق بنوره الداخلي، ومُتجهِّم الملامح، وصامت على الدوام إلا من شفتَين تتحرَّكان حركة غير منظورةٍ، وتتمتمان بالآيات أو الدعوات. وأحاول أن أنفذ إلى الحصن الحصين الذي أغلق عليه أبوابه ونوافذه، ومثل أمامي صامدًا وراسخًا ومكتفيًا بنفسه.
– بالك يا آبه؟ الأستاذ عزيز يُسلِّم عليك.
يُهمهم مُتسائلًا: عزيز بقطر؟ رجل طيب ويزورني في الدكان كلما رآني.
أواصل كلامي … وقد دبَّت الحياة في أوصالي وعروقي: أعطاني عشرة على عشرة في الإنجليزي. قال لي مُستقبلك عظيم في اللغات، المهم أن تواصل وتجتهد.
– نعم. نعم. ولكلِّ مجتهدٍ نصيب …
– وهل تعرف الشيخ عبد القادر أستاذ العربي؟
– ومَن لا يعرفه يا ابني؟ علَّم أولاد البلد كلها …
– أعطاني عشرة على عشرة في الإنشاء. قال لي مُمكن تكون شاعر أو أديب كبير …
يُجمجم أبي بكلام غير مفهومٍ. يَنحني على الأرض ليلتقط حجرًا وجده في منتصف الطريق، ويضعه بجانب السور الحجري للمضيفة الواسعة التي نمرُّ عليها كل يومٍ ثم يقول وهو يكلم نفسه: إماطة الأذى عن الطريق. بهذا أوصانا الحديث الشريف.
أتدخَّل في الكلام مسرعًا: والورق أيضًا يا أبي … خصوصًا عندما تكون عليه كتابة …
– نعم … لا بد من حملها ووضعها بجانب حائط، فربما يكون فيها …
– اسم الجلالة … هكذا قال لنا الشيخ عبد القادر؛ حتى لا تدُوسه الأقدام أو يصل إليه المطر أو الوحل …
ويَنحني أبي أكثر من مرة ليَلتقِط أوراقًا يُقبِّلها ويضعها على جبهته، ثم يركنها بحرص وحنان بجوار سور أو جدار.
وتتقلَّب الأفكار والحكايات داخل رأسي، وتهمُّ بأن تندلق من على لساني، ولكني أرفع رأسي وعيني إلى وجه أبي، فأجده قد دخل قوقعته وغاب عنِّي تمامًا، بل نسي وجودي. أريد أن أُحدثه عن النشاط الرياضي في ساحة الألعاب، وعن قراءاتنا الجماعية في المكتبة لقصة من محمود تيمور وقصيدة لشوقي، وعن حصة الأشغال وحصة الموسيقى، وكيف بدأت تعلُّم العزف على الفلوت بإرشاد الأستاذ كوكب مدرس الحساب وتوجيهه. وأريد أن أحكي عن المشاجرات بين زملائي في وقت الفسحة، وعن التلاميذ الذين طردهم المعلمون من الفصل، أو عوقبوا أمام الجميع برفع أيديهم ووضعهم في مواجهة الحائط عقابًا لهم على الإهمال أو الكلام بصوت عالٍ، أو التلفظ بلفظٍ غير لائقٍ. لكنني أنظر إلى أبي فأجده قد التفَّ على نفسه وتحصَّن في حصنه، وأصبح بعيدًا عنِّي بعد الكواكب والنجوم. ونبلغ البيت فيفتح الباب وأقفز العتبات وأدخل وراءه، وأنا أنادي على أمي لتعرف أننا وصلنا، وأن عليها أن تجهز طعام أبي.
ويَتناول أبي وجبَّته المسلوقة التي تَعوَّد عليها منذ سنين، ثم يميل إلى الكنبة الكبيرة، فيستلقي عليها ويغفو قليلًا قبل أن يصحُو على أذان المغرب. وأكون من جانبي قد فرغت من أداء واجباتي المدرسية، واتخذت الاحتياط الكافي للوضوء والصلاة وراء أبي جماعة. وما هي إلا لحظات بعد الأذان حتى أسمع صوته يناديني، وسرعان ما أكون واقفًا وراءه لكي نلتقط معًا جوهرة المغرب، كما ردَّد على سمعي أكثر من مرةٍ. وبعد أن ننتهي من الصلاة، أمدُّ يدي فأتناول يده وأُقبِّلها، بينما أتلهَّف على المستحيل الذي تمنَّيته، واكتفيت بأن أحلم به: بقُبلة من شفتَيه أو ضمة إلى صدره، أو نظرة حنان إلى الغراب الصغير آخر العنقود الذي جاء على غير انتظارٍ، واستمرَّ في الحياة بعد موت شقيقيه التوأمين دون مُبرِّرٍ، وظل طول عمره يُحاول أن يَعبُر مسافة البعد الهائلة بينه وبين أبيه الشيخ الطاعن في السن وفي الصمت.