أمام الفرح
وحيد على الدوام وحزينٌ، كأنَّ الوحدة والحزن هما قدري وكوكب نَحسي الذي لا يتخلَّى عني. لا أدري ما الذي وضعني في قبضتهما منذ الطفولة وحتى الشيخوخة. لا أستطيع أن أفهم أو أُفسِّر كيف اختلَط سمهما بكل قطرة من دمي، ولا متى أو كيف غرست شجرتهما المرَّة في صميم كياني …
إن أنسَ لا أنسى يومًا رجعت فيه من الدكان في طريقي إلى بيتنا. كان الوقت قبل الغروب بقليل، وكنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، أقضي إجازة الصيف في البلد بعد حصولي على الابتدائية والتحاقي بالمدرسة الثانوية في عاصمة المديرية. كانت أصوات الطبول والدفوف تُدوِّي داخل المضيفة الكبيرة وعلى بابها، وكان كثير من الخلق يتدافعون للدخول من البوابة أو يتزاحَمُون أمامها، بينما الأضواء المبهرة والملونة تتألق من اللمبات المربوطة سلوكها بالسور الحجري، أو على الأبواب والنوافذ وفوق سطح المضيفة. ومن حين إلى حينٍ، تُجلجل زغرودة طويلة مدوية أو ترن أصوات ضحكات منطلقة من كل مكان، وتصفيق بالأيدي لا ينقطع، ودعوات مرتفعة إلى السماء بأن يتمم الله بخير، ويسعد العروسين، وعقبال الأنجال في حياتكم إن شاء الله.
انزويت في ركنٍ هادئٍ وظليل في الطرف الأقصى من السور. لا أدري حتى اليوم لماذا كان كل شيء يَدفعني إلى الانفجار في البكاء. كل دقة طلبة، كل زغرودة تُحلِّق في السماء كصيحة طائر ينادي على إخوته في السرب الهائم تحت السحاب، كل ضحكةٍ تصلصل في الفضاء كصهيل خيول مُنطلقة في السباق، كل ضوء يلمع ويبرق بألوانه الحمراء والصفراء والزرقاء ويخلب الأبصار، وكل سيارة أو حنطور يقف أمام البوابة وينزل منه رجال أو نساء في كامل زينتهن، ويَسحبن في أيديهن أولادًا وبنات يخطرن في أثوابهن البيضاء كأنهن عرائس صغيرة. كنت أنفحم في البكاء مع كل صوتٍ أو ضوء أو حركة أو نداء، وأنتفض وأختلج وأرتج تحت وطأة الإحساس بالخجل والذنب والعجز والنشوز عن بقية الخلق الذين ملئوا الساحة والشارع بالفرح والهيصة والزيطة. وبينما أنا أنشج وأُنهنِه وأُبلِّل نفسي الحزينة بدموعي التي لا تتوقَّف، إذا بيدٍ تُربِّت على ظهري بحنانٍ، وشبح طويل ينحني عليَّ، ويقرب وجهه من وجهي:
– ما لك يا حبيبي … كفى الله الشر …
قلت، بعد أن رفعت وجهي إليه، وعرفت أنه هو جارنا أبو يوسف الموظَّف في مكتب البريد:
– أبدًا أبدًا … لا شيء …
– ولكنك تبكي كأنك في جنازةٍ. الناس جميعًا فَرِحون وأنت الوحيد …
– نعم، أنا الوحيد وسط الزحام.
– لستَ وحيدًا وسط أهلك وأبناء بلدك. تعالَ معي يا رجل، وستعرف أن الجميع مدعوون للفرح …
– الجميع؟
– نعم نعم، الأعيان والفلاحون والتجار، حتى الضيوف والأغراب مدعُوون من الليلة لزفاف ابنة الباشا على ابن البيك. شرق البلد وغربها أصبحا سمنًا على عسلٍ، وانتهى الصراع والخلاف الأزلي بينهما. تعال معي لترى بنفسك …
– لا أرجوك.
– ستجد أقاربك هنا … وربما تجد أباك وشقيقك …
– أعفني … ليس لي في الزحام ولا في الأفراح …
– تعالَ اسمع الكلام … ستضحك وتفرفش وترقص وتغني مع العوالم … وستأكل من البوفيه الهائل الذي يتسع للجميع …
– للجميع … ولكن ليس لي …
وغلبني البكاء فانفحمت فيه فجأةً، ولم أستطع التحكم في دموعي ورعشات أطرافي ونهنهة صدري … وانصرف جارنا، وهو يقول ضاحكًا: ذنبك على جنبك … ستندم على الفرصة التي ضاعت منك … اسمع الكلام وتَعالَ معي يا رجل … البلد كلها تُحبك ويسعدهم أن يروك …
– وأنا أحب الجميع وأرجو الخير للكل … لكنَّني أحب أن أكون وحدي …
– طيب على راحتك، لكن تَعدني أن ترجع للبيت وتُسلي نفسك بأي شيء … سمعت أنك شاعر … هيا اكتب لنا قصيدة … قصيدة عن العصفور الذي لزم عشه ورفض أن يرفرف فرحًا مع السرب …
قلت، وأنا أُجفِّف دموعي وأحاول أن أتماسك وأصلب طولي: ادخل أنت بسلامة الله وافرح مع الجميع … أما أنا …
انحنى بقامته الطويلة وقبَّلني على خدي، وربَّت بحنوٍّ على ظهري.
كدتُ أنفجر مرة أخرى في البكاء، ولكني لملمت أطراف نفسي وشكرته. ومضيت بعيدًا عن الأضواء والزغاريد والضحكات وصخب الرقص والغناء. لم أذهب إلى البيت كما وعدتُه، بل عبرت مزلقان السكة الحديدية، واتجهت إلى منتزه شجرة الدر الكبيرة، بحثًا عن شجرة أجلس تحتها وتُظلِّل وحدتي ودموعي.