مع أمي
لا أدري كيف اشتعل الخلاف بين أبي وأمي، ولا لأي سببٍ. كل ما أذكره أنني كنت بعد العصر في حُجرتي مستغرقًا في قراءة «العبرات» وتجفيف دموعي بين لحظةٍ وأخرى، عندما سمعت أمي تنهنه باكيةً بعد ان انفتح باب حجرة نومها عنوة. طرقت باب حجرتي وجسدها كله ينتفض، بينما كان أبي يبرطم من وراء الباب الموارب بعبارات لم أتبيَّن منها سوى جمل مبتورة: روحي اطلبي حقَّك يا خائبة. تحرم عليك الدار إن رجعتِ من غير ما يعترف بحقك الشرعي. ناس تأكل مال النبي صحيح ولا حيا ولا اختشا … يا الله روحي … روحي …
لم أفهم حرفًا مما تردد في سمعي عن الحقوق الشرعية أو غير الشرعية. كنت لا أزال مع عبرات المنفلوطي، ولا أريد أن أضيف إليها عبراتٍ جديدة على مآسٍ جديدة. وأنقذتني أمي من حيرتي حين طلبت منِّي أن أصحبها إلى بيت خالي. وأمام بكائها الصامت لم أملك إلا أن ألبس حذائي بسرعة، وأضع جاكتة على جلبابي الأبيض، وأنزل معها السلالم وقلبي يرتجف خوفًا وشفقة وحيرة …
غادرنا البيت والشمس تُلملم خيوطها الذهبية من على الأسطح والجدران. كان بيت خالي في الطرف الآخر من البلد، وكان علينا أن نخترق حَواري وأزقة وشوارع عديدة قبل أن نصل إلى بيت العائلة الكبير. وكنتُ أمسك بيد أمي أو بطرف ملاءتها، وأحجل بجوارها كغراب أعرج. وبين الحين والحين أرفع عيني إلى وجهها المقطَّب، ودمعتها التي تسيل على خدها دون توقفٍ. كان كل شيء يطالبني بأن أقول شيئًا، لعلَّ أمي تخرج عن صمتها وحزنها. رحت أجمجم بكلام أحاول أن أملأ به فراغ الصمت المخيِّم علينا: اتركيها لله يا أمي. مجرد سوء تفاهم ومصيره يزول …
– لا تغضبي من أبي … هو قلبه طيب، وأنت أول من يعرف أن سماءه ستروق وتصفو من السحب والغيوم …
– بعد قليل سيُصلي المغرب والعشاء، ويرجع كل شيء لطبيعته …
كانت أمي تخطو في ثوبها الأسود وملاءتها السوداء، ويلفها صمت لا يقل سوادًا. وكانت دموعها تسحُّ باستمرار ويزداد انهمارها كلما قلت شيئًا، لذلك لزمت أنا أيضًا الصمت حتى وصلنا إلى بيت خالي. دخلنا من الباب المفتوح على طرقة شبه مُعتمة، ومالت أمي إلى اليمين وانحنت تُقبل رأس عجوز جالسة وراء الباب على حصيرةٍ قديمة. كانت العجوز الضريرة هي زوجة خالي القديمة، التي أنجب منها أكبر أبنائه، وكانت هذه هي جلستها بالليل والنهار إلى أن يَحين موعد نومها فينقلوها إلى فراشها. وقد تعجَّبت لأنها عرفت أمي من صوتها، ونادَت عليها باسمها، وسألتها عن أولادها وبناتها.
قالت أمي: بخير يا حاجة، كلهم بخير ويبوسوا يديك ويسألونك الدعاء …
سحبتْني أمي من يدي، فانعطفنا يمينًا إلى ساحةٍ واسعةٍ تجاورت فيها أبواب حجرات الأبناء في شبه دائرةٍ كبيرة. كانت حجرة خالي إلى اليمين مباشرة، فاتجهنا إليها وطرقنا الباب. رحَّبت بنا زوجته الطويلة العجفاء، وأيقظت زوجها الذي كان قد اقترب موعد صحوه بعد نومة القيلولة. قال لأمي: سلامات يا أم محمد، خير إن شاء الله … ردَّت أمي: خير بإذن الله. ثم وهي تُشير إليَّ بالخروج: رح العب مع الأولاد، أو رح معهم إلى الزريبة وتفرج على الحمار والبهائم … يا الله يا بني … رح أنت لغاية ما أنادي عليك …
خرجت وأنا أسحب الباب ورائي، ثم وقفت مُتلكئًا أمامه. بعد السلام والطيب ترددت كلمات وعبارات، التقطت أذني بعضها وبقي بعضها الآخر ألغازًا لا يفهمها عقلي: حق شرعي إيه يا زينب أنت وزوجك؟ بعد العمر والسنين يُطالب بحق شرعي صُرف على جهازك وزواجك؟ إذا كان زوجك عقله انجن خليك أنتِ عاقلة. أنا قلت لك وله نفس الكلام من زمان، وياما قلته وكررته، لا لك حق عندي ولا عفريت أزرق. قومي روحي بيتك، بيتك هو المكان الذي فيه أولادك. لا لا … ارجعي بيتك في الحال، أنا مالي أخت تبيت خارج بيتها. قلت لك ارجعي لزوجك وعيالك. لك أهل طبعًا وأنا أهلك وأخوك الكبير. إذا حصل منه شيء، فالرجال لهم كلام مع بعض. قومي يا بنت الناس، قومي ارجعي لبيتك قبل الدنيا ما تليِّل. يا لله توكلي على الله يا بنت الحلال، وابن الحلال زوجك خليه يضع عقله في رأسه. واطمئني يا أختي، حطِّي في دماغك إننا أهلك وسندك في كل الأحوال …
بعد قليل خرجت أمي من الباب وهي تُجفِّف عينيها بمنديلها. وضعت زوجة خالي يدها على ظهرها، وراحت توشوش لها بكلام لم أسمعه. ومالت أمي في الطرقة المُعتمة على القعيدة الضريرة، وقبَّلت يدها وسألتها الدعوات الصالحة. ورجعنا نهبط الشارع المُنحدِر من بيت خالي إلى شوارع وحواري وأزقة، عبرناها قبل قليل … سرنا صامتين بعد أن شعرت بأن أمي لا تُطيق أن تسمع كلمة واحدة. كانت بين الحين والحين تردد: الله يسامحك. الله يسامحكم كلكم. ولأني لم أفهم الذنب الذي ارتكبوه، فلم أسأل عن أي شيءٍ، وظللنا سائرين كشبحين في غبشة المساء حتى وصلنا إلى البيت. طرقت الباب، ففتح أبي وهو يتمتم بآيات ودعوات لم أتبيَّنها. كان واضحًا أنه يَختم صلاة العشاء. تراجع قليلًا إلى الوراء، وقرأ كل شيءٍ على وجه أمي الذي لفَّه الصمت والأسى، ثم قال: جاءك كلامي؟ عرفته على حقيقته؟ ادخلي يا بنت الناس ادخلي. من هنا ورايح اعرفي أن الله حق … انفجرَت أمي في البكاء، وسحبتني من يدي، فطلعنا السلالم صامتين، واتجه كلٌّ منَّا إلى حجرته.