النبوءة
في ضحى ذلك اليوم البعيد الكئيب — كان يوم جمعة، وفي يوم الجمعة ساعة نحس — صحوت من نومي على صوات أشبه بحريقٍ مُشتعلٍ بالصياح والصراخ في بيت من بيوت الجيران. صوات يثقب الأذن كمسمار مَحميٍّ بالنار، ويروع القلب ويهاجمه كالفزع الأكبر. جريت إلى أمي لأعرف الخبر، كانت تطلُّ من شباك حجرة الفرن وتُكلم جارتنا الست سكينة. أغلقت الشباك، والتفتت إلى وجهي المُختلِج بالخوف والرعب، قالت في صوت حزين: يا ابني أنت فيك شيء لله. وقفت حائرًا وقلبي يخفق متوقعًا الشر، فأردفت قائلة: أنت يا ابني مكشوف عنك الحجاب …
– كيف يا أمي؟ لماذا تقولين هذا؟
– الرؤيا التي حكيتها لي يوم الجمعة الذي فات تحقَّقت اليوم، والنار التي شفتها في المنام أحرقت بيت الحاج فرحات وربنا يصبره على ما بلاه.
– ماذا حدث؟ هل مات الحاج؟
– أبدًا يا ابني، عزرائيل ترك الرجل العجوز وخطف ابنته.
– بنته؟ لولا؟ لا يمكن. مستحيل، أنا كنت معها هي وأخيها أحمد من أسبوع واحد. لولا راحت؟ قلت لك مستحيل …
– رُح اسأل يا ابني وقف مع صاحبك. أمر الله وقضاه، والأعمار بيد الله …
نزلت السلالم كالمجنون متوجهًا إلى سراي الحاج فرحات على الناحية الأخرى من بيتنا. كان كل شيء مُطابقًا للرؤيا التي لمعت في ذهني، كأنني شاهدتها ليلة الأمس؛ الحريق الذي رأيته يأتي على البيت ويتركه كركامٍ مُتفحِّمٍ كان يشتعل في الحناجر التي تصرخ، والأنين الذي يتصاعَد من الكبار والصغار، والرءوس المستندة إلى الجدران غير مصدقة، بينما ترتج الظهور ببكاء لا ينقطع. وجرْي وهرولة ونداءات وصيحات مذعورة، ورجال ونساء يهبطون من السيارات والحناطير ويسرعون بالدخول من الباب الكبير، وهم يولولون ويُبسمِلُون ويُحوقلون. وأقترب من أحد الواقفين لأسأله عن صديقي وزميلي أحمد، فيقول: راح الجبَّانة مع الرجال ليفتحوا المدفن ويجهزوا تربة الصغيرة المسكينة. وأبتعد عن الهرج والمرج، وأقف على جانب الطريق. هل يُمكن أن يحدث ما حدث؟ هل تغتال الزهرة المتفتحة وتذبح العصفورة الحلوة فجأة ودون ذنبٍ؟ قالوا هي السكتة القلبية التي لا تصيب غير الشيوخ الكبار، فكيف تفاجئ بنت العشر سنوات؟ وأنا؟ ماذا أفعل أمام هذا الجنون والذهول؟ كيف سأَحتمِل الصدمة في أول حب تسلَّل إلى قلبي، أول حب أذوق حلاوته ومرارته؟ من المسئول يا ربي عن مقتل البراءة وموت الجمال؟ وكيف أمكنَني أن أتنبأ بالهول الفظيع؟ أأكون بالنبوءة والرؤيا قد شاركت دون أن أدري في الجريمة؟ ويلي مِن شؤمي ونحسي … وليتَني ما دخلت بيتهم، ولا وقع بصري عليها، ولا تَعلَّق قلبي بها، ولا حلمت بحبها حلم الكافر بالجنة.
ما هي إلا ساعة أو بعض ساعةٍ حتى خرج النعش الصغير محمولًا على الأعناق، مشيعًا بالصوات الجارح والنهنهات المفجعة والدعوات المُرتعشة الخائفة. كان جمع كبير قد احتشد على الكراسي التي وضعت أمام البيت، ولمحَت أبي وأخي الأكبر وسط زحام الماشين وراء الصندوق المجلل بالزهور والمغطَّى بالحرير. وتبعت الموكب من بعيد كأني حيوان منبوذ وطريد، تطفر الدموع من عينيه وهو مذهولٌ، وتنغرز سكين الموت المحتوم لأول مرة في قلبه، فيطلق اللعنات على القدر القاسي الذي قضى على حبِّه وأمله الوحيد، عندما قضى على المحبوبة المُمدَّدة في نعشها الصغير. وبقيت واقفًا على بعد من الجامع، مستندًا إلى جدار ووجهي بين يدي، أخفيه عن الأعين كما يُخفي المذنب خطيئته ويُحاول أن يداري جريمته.
خرج النعش من الجامع بعد الصلاة على اللؤلؤة القتيلة، وسرتُ وراء الموكب الحاشد المتجه إلى الجبَّانة الكبيرة، محافظًا على مسافة البُعد الكافية عمن يعرفني ومن لا يعرفني، ومحصنًا نفسي من كل عين تُحاول أن تتسلل إلى كياني المرتجف الباكي لتعرف سرِّي؛ الذي لم يعرفه ولن يعرفه أحد غيري.
بعد الدفنة وانصراف المشيعين والمعزِّين، رجعت من الطريق الغربي المؤدي إلى الترعة والمنتزه ومزلقان السكة الحديدية. رحتُ أطوف بالسكك البعيدة على غير هدى، أمرُّ على الناس والبيوت والأشجار والحيوانات الراجعة من الحقول كأني في حلم كاذبٍ. أفكر طول الوقت في مُعاقبة نفسي على ذنبٍ لا حيلة لي فيه، ورؤيا مشئومة كأنها تهمة موجهة إليَّ. وداهمني الليل وأنا أتقلب في جحيم السؤال والندم والذهول والاحتجاج والبكاء الأخرس. وعندما رجعت إلى البيت تركت جسدي يسقط متهالكًا على العتبة. كانت المصابيح تتلألأ في الصوان الكبير، وتلاوة القرآن تملأ الأرجاء بالرهبة والحزن والخشوع والصبر الصامت الكظيم. رفعت رأسي إلى السماء، فوجدت نجمًا يرتعش بضوءٍ أحمر، يترجرج كبقعة من الدم. تطلعت إليه وقلبي يهتف به: أنت يا كوكب النحس المتربِّص بي، يكفيك ما فعلت بها وبي. أستحلفك بالله وملائكته أن لا تُطاردني على طريقي. أستحلفك أن تبتعد عن رأسي ورءوس أحبابي وأهلي وبلادي.