أحمس …

ذات يومٍ في إجازة منتصف العام، أحاول أن أدفئ نفسي من البرد، فأقطع غرفتي الضيقة ذهابًا وجيئة، وأرفع عقيرتي بالكلام الحماسيِّ الذي كُلفت بحفظه عن ظهر قلب. رحت أتقمَّص الدور الذي سأقوم به بعد انتهاء الإجازة، بينما تشاركني في التعبير تقلصات وجهي وإشارات يدي وذراعي في الجهات الأربع. يا له من دور عظيم لإنسان عظيمٍ. وهل من شيء أسمى من تمثيل دور أحمس الخالد في التاريخ، هل من بطل أخطر من بطل الاستقلال والتحرر من ربقة الاستعباد والاحتلال وطرد الهكسوس الغزاة المغتصبين، الذين استقروا في شمال البلاد؟

انطلق صوتي يُردد الخطاب الطويل، الذي ألقاه أحمس في البهو الكبير على مسمع من الأعيان والأمراء والقواد والضباط:

«سننتصر عليهم ما في ذلك شك. لقد انتصروا علينا وأخضعونا وأذلونا قبل قرنين من الزمان؛ لأنهم وجدوا أمامهم ملوكًا منقسمين متنازعين. أما اليوم فأمامهم شعبٌ متحد الكلمة، متماسك البنيان. انتصروا أول مرة؛ لأنهم جلبوا معهم خيولهم وعرباتهم وسيوفهم التي لم يكن لنا عهد بها من قبل، أما الآن فسنحاربهم بأسلحتهم، وسنبرهن لهم أننا أصبحنا أكفأ منهم في استعمالها. لا، لن يهدأ لي بال حتى أطرد آخر هكسوسي من أرض الوطن …»

ضقت ببرد الحجرة، فخرجت ألتمس شيئًا من دفء الشمس على السطح. كانت أمي تنشر الغسيل وتتحرك كالنحلة بين الحبال والطشوت وحجرة الفرن، وكنت منغمسًا في الدور وصوتي يردد الكلام، ويرن كجرس إنذار أو بوقٍ صغير يحث جيشًا من المحاربين على التقدم والزحف:

«لقد أعلن الأمير سكنن رع الحرب عليهم، وسقط صريعًا في ميدان الجهاد والشرف، وقام والدي كاموس بتهيئة الشعب في الجنوب للجهاد، ولكن المنية عاجلته قبل أن يطرد أولئك المغتصبين القَذِرين، لكنَّني سأُحقق أمنيته لو أطال آمون في أجلي …»

قالت أمي، وهي تتوقف وسط السطوح وتنظر إليَّ متوجسةً: مالك يا ابني؟ كفى الله الشر …

– لا بد أن أحفظ الدور يا أمي قبل أن تبدأ المدرسة …

– دور؟ يعني تمثل وتقف على المرسح؟

– اسمه المسرح يا أمي. الأستاذ علام أسند إليَّ دور أحمس بطل الاستقلال، ومحرر شمال الوادي من الهكسوس.

قالت يائسة، وهي تُنفِّض الغسيل: والله ما أنا فاهمة يا ابني.

قلت ضاحكًا، وأنا أتابع القراءة والإشارة بيدي وذراعي وكل جوارحي: المهم تدعي لي …

قالت، وهي تتجه إلى الفرن بدلًا من تضييع الوقت فيما لا يفيد: داعية لك يا ابني من قلبي، ربنا ينجح مقاصدك أنت وزملاءك.

كان الأستاذ علام مدرس اللغة العربية قد استدعاني إلى حجرته، وقال لي: أنا يا ابني واثقٌ منك؛ فأنت تحب الشعر وتنطق الخُطب نطقًا سليمًا، كما أني أتوسَّم فيك حب الفن. سألته أي فن يا أستاذي؟ أجاب بحماسٍ شديد: فن المسرح الذي يجمع كل الفنون. لقد أعددت مسرحية قصيرة من منظرين عن رواية صدرت عن أحمس بطل الاستقلال لأحد أدبائنا الكبار، اختزلت المشاهد واختصرتُ الحوار بقدر الإمكان ليستطيع التلاميذ أن يحفظوه ويرددوه. أنت الذي سيقوم بدور أحمس، وسنبدأ البروفات بعد الإجازة مباشرة … خذ … هذه الورقة فيها القطعتان اللتان سترفع بهما صوتك في المنظرين … احفظ النص جيدًا حتى لا تتلجلج أمام الجمهور. سألته عمَّا يقصد بالجمهور، فقال ضاحكًا: زملاؤك ومُعلِّموك وأولياء الأمور. المهم تشد حيلك أنت وبقية الممثلين لترفَعوا رقبتنا أمام الناس.

انتهت الإجازة ورجعنا إلى المدرسة. كنت أختال على غير عادتي وأنتفخ كالطاووس، وربما صدقت بيني وبين نفسي أنني أحمس بطل الاستقلال ومحرر البلاد. وعندما سألت عن موعد البروفات، أبلغوني أن الأستاذ علام قد نُقل إلى الصعيد، وأن الأستاذ حسن مدرس التاريخ والمشرف على النشاط المدرسي هو الذي سيتولى الموضوع. وجمعنا الأستاذ بعد الظهر في قاعة المكتبة، وبدأ كل منا يُسمِّع دوره: الأمراء والأعيان والضباط والحراس والحجاب، وقبلهم جميعًا أحمس البطل والمُنقِذ. وبذَل كل منا ما في طاقته لتقديم دوره على أحسن وجه، وشاع الأُنس والحماس والرضا، وتفاءلنا بإقامة عرض ناجح يحوز القبول والاستحسان، ويختتم به العام الدراسي. وتطلعت أنا لبداية البروفات حتى أتلبس بالدور بحق، وأرتدي ملابس الأمير وأضع تاج الوجهين على رأسي، وأحمل الدرع والحربة في يدي، وأقود الجميع أمام حصن العدو في أواريس.

قال لي الأستاذ حسن بعد انصراف الزملاء وانفراده بي في قاعة المكتبة: أردت أن أكلمك بعيدًا عن زملائك. أنت فتى طيب ومُخلِص ومتفوق في دراستك، لكن لا تغضب منِّي إذا صارحتك بأنك لا تصلح لدور أحمس على الإطلاق …

سألت، وأنا أشعر بجفاف حلقي وارتفاع نبضي: لماذا؟ هل قصَّرت في شيء؟

قال مؤكدًا كلامه: ليست مسألة تقصير، بل تكوين واستعداد. أنت قصير القامة وخجول ونحيل وشاحب الوجه، وأحمس البطل لا بدَّ أن يكون طويلًا عريضًا قويَّ البُنيان، جريئًا كالأسد ومرتفع الصوت كالرعد. اسمع نصيحتي يا بني، ولا تَغضب منِّي …

قلت، وقد زاد اضطراب قلبي وغامت الدنيا أمام عيني: أنا أسمعك يا أستاذي …

قال، وقد ارتسمت على وجهه أمارات الارتياح: ليس معنى إسناد الدور لغيرك أنني سأستغني عنك، بالعكس، سأعطيك دور واحد من الكومبارس …

كنت أسمع الكلمة لأول مرة في حياتي، فهتفت: ماذا؟

قال بسرعة ووضوح: الكومبارس هم مجموعات من الممثلين الذين يقومون بأدوارٍ مساعدةٍ؛ يجرون في مجاميع، أو يهتفون في مظاهرات، أو يَرفعون الأعلام ويصيحون مهللين فرحين. إن دورهم أساسي في أي مسرحيةٍ، ولكنهم راضون متواضعون، وقد يشارك الواحد منهم في المسرح عشرات السنين دون أن يَتفوَّه مرة بكلمة واحدة … اسمع نصيحتي يا بني … هذا هو الدور الوحيد الذي يُناسبك. سنبدأ السبت القادم، وستكون على رأس المجاميع التي تزحف أو تهتف أو تحيي القائد المنتصر ورجاله … أرجوك يا بني … لا تتطلَّع أبدًا إلى ما يخالف طبيعتك … تأكد أنك خلقت للدور الذي وصفته لك وحاول أن تتقنه …

قلت مصدومًا بالحقيقة، وواثقًا في نفس الوقت من صدق الأستاذ، الذي طالما لمستُ قبل ذلك حبه وحنانه ورعايته: سأفعل ما يرضيك يا أستاذ …

قال ضاحكًا وهو يُربِّت على كتفي: وما يُرضيك سيرضيني، وسوف تُعلِّمك الأيام أن نظرتي لا تخيب …

وعلمتني الأيام صدق كلمات المعلم بالرغم من قسوتها، وعشت منذ ذلك اللقاء وتلك التجربة الصغيرة عيشة الكومبارس بين المهمشين ومجاميع البسطاء والفقراء والمجهولين، واستطعت مع الأيام أن أقتل في نفسي أي نزوع إلى البطولة أو الزعامة أو القيادة أو السُّلطة والتسلط على اختلاف أشكالها ودرجاتها. والذي أذهلني وفاجأني في ذلك اليوم البعيد الذي عُرضت فيه المسرحية، أن الجمهور صفَّق طويلًا لمجاميع الكومبارس، وربما sصفق لي أنا أيضًا، وعبَّر عن حبِّه وإعجابه الشديد بالعاملين الصامتين.١
١  الرواية المذكورة في النص هي رواية «أحمس بطل الاستقلال»، للمرحوم الأستاذ عبد الحميد جودة السحار، وقد اعتمدت عليها واقتبست النص المذكور منها، راجع: أحمس بطل الاستقلال، القاهرة، مكتبة مصر ودار مصر للطباعة، ١٩٧٧م، ص٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤