العتبة
للعتبات سحرٌ لا يقاوم، وربما تَنطوي على أسرار لا يستطيع أن يفضَّها أو يحس بها إلا شاعر أو عرَّاف حكيم … أليست هي المدخل إلى البيت والمسكن والملاذ والوطن الصغير؟ ألا تمرُّ عليه أقدامنا طول العمر في الدخول والخروج حتى تطأها أقدام أخرى تحمل نعشنا وتعبر بنا للمرة الأخيرة فوقها إلى المقر الأبدي والمصير المجهول؟ بينما أكتب هذه الكلمات وأنا الآن في شيخوختي، لا أتذكر عتبة بيتنا القديم إلا ويطفر الدمع من عيني وتجيش أمواج الحسرة والأسى والحنين في صدري.
أرى نفسي جالسًا على العتبة قبل مغرب يوم شتويٍّ دافئ. كنت آنذاك في الخامسة أو السادسة من عمري، أنتظر عودة أبي وأخي الكبير بعد أن خرجا وراء صندوق كبير مُغطى بملاءة حريرية صفراء، ومعهما حشدٌ كبير من الأهل والجيران الذين عبروا مزلقان السكة الحديدية إلى مكانٍ مجهول. كنتُ أحسُّ أنهم أخذوا معهم جدتي لأمي التي مرضتْ في الأيام الأخيرة ولزمت فراشها في الحجرة الصغيرة المجاورة للمندرة، وكنت بالطبع أمرُّ عليها وأتحسَّس وجهها وأُقبِّل يدها، وأهمس لها وهي تُقرِّب وجهي منها وتلثُم خدِّي وجبيني: «سلامتك يا ستي». وكنت أتحسَّر على أنها قد أصبحت عاجزةً عن أن تحكيَ لي حكاية قبل النوم، لتُزيل من قلبي الخوف والرعب من الجمل المتوحِّش الذي طالما هاجمني أثناء نومي، وطالما فزعتْ من نومها وراحت تُطبطب على ظهري وتهدهد صدري لأستأنف النوم بجوارها. أجل، لم يغب عنِّي أنها في أشدِّ حالات المرض، وأن أبي يخرج من عندها وهو يُجفِّف دموعه ويتلو الدعوات والآيات، وأن أمي التي تطعمها وتسقيها بيدها لا تكفُّ عن التأوه والبكاء في صمتٍ. ولكني لم أكن قد سمعت كلمة الموت، ولو سمعتها لما فهمت لها أي معنى. ذهبت ستي بالتأكيد مع هؤلاء الرجال الذين حملوا الصندوق على أكتافهم، لكنني لبثتُ على العتبة أنتظر رجوعهم وكلِّي ثقة أنها سترجع معهم بعد قليل. وحضر أبي وأخي وحدهما ووجَداني على العتبة، وأنا أمسح دموعي، سألت أخي عنها ولماذا لم ترجع معهما. ومن فم أخي سمعت لأول مرة كلمة الموت: ستك ماتت يا حبيبي وتعيش أنت. قلت، وأنا أتشنج دون أن أفهم شيئًا: ماتت؟ يعني لن ترجع أبدًا؟ ربما سألت نفسي في ذلك اليوم وما زلت أسألها: ولكن ما معنى الموت؟ لماذا وإلى أين أخذها هذا الموت، وكيف تعيش هناك، ومتى أراها مرةً أخرى؟ …
•••
وعلى العتبة كان يطيب لي الجلوس في العصاري بعد أن كبرت، وبدأت أتردد على المدرسة الابتدائية … من موقعي أتطلَّع إلى جيراننا الأعزاء وأتابع حركتهم وأسعد برؤية وجوههم المحبوبة؛ عم حنا المُقعَد وصاحب مناحل العسل قابع على الدوام على كرسيٍّ متحركٍ فوق بسطة العتبة الأخيرة أمام بيته، تعودتُ كلما رجعت من المدرسة أن أمرَّ عليه وأقبل يده الممدودة بالمسبحة الطويلة، وأن يقبلني ويدعو لي ويباركني بحق المسيح ويُحملني السلام إلى أبي. كان علامة ثابتة من علامات الطريق، وكم كان وجوده الطيب الساكن يشع بالألفة والأنس والحنان على كل الجيران.
في البيت الملاصق لبيته تسكن أم عزيز أفندي الموظَّف بالمجلس البلدي، التي كانت لا تُغادر جلستها وراء الباب الموارب إلا للضرورة. وكم كانت تناديني كلما رأتني فتقبلني في وجهي وتمنحني الطوفي والكراملة وحبات السكر النبات، وتقول لي السلام أمانة لأم محمد العزيزة. وكم كانت سعادة أمي بزيارة أم عزيز في المناسبات والأعياد، وفرحتي برؤيتهما تتعانَقان في بيتنا في مودةٍ ومحبةٍ وصفاء، أو برؤية أمي وهي تحييها أحيانًا من البلكونة الخشبية المطلة عليهم، أو عندما ترسلني في العيدين إليها ومعي الخادمة الصغيرة التي تحمل على رأسها صينية الكعك والغريِّبة.
أما زميلاي في المدرسة الابتدائية وصديقاي اللذان يسكنان البيت الواقع في نفس الصف المقابل على الناصية، فكانا يَضربان موعد اللقاء بيننا في يوم الخميس أو الجمعة، إما على عتبة بيتنا أو أمام باب بيتهم الحجري الحديث المطل على شريط السكة الحديدية، كانا يلمحانني جالسًا على العتبة، فيشيران إليَّ فأجري نحوهما وفي جعبتي لنزهة اليوم حكايات وأشعار مما أقرأ وأحفظ بعيدًا عن دروس العربي المملَّة، التي كنا نحضرها معًا في نفس الفصل الذي يضمُّنا. كم يرتجف قلبي الآن بالحنين والإعزاز والبهجة كلما تذكَّرت هذين الصديقين الحبيبَين أو تمثَّلت وجهيهما. كان أحدهما، وهو فرنسيس، ممتلئًا بعض الشيء دائم الضحك من قلبه، الذي لم أعرف في حياتي أصفى منه ولا أصدق ولا أطيب. وكان تسامُحُه في أمور الدين التي نتطرَّق للحديث عنها أحيانًا، من أكثر ما هزَّني وانطبع في نفسي وجعلني أكبره وأحترم تقواه العميقة وأباركها. أما أخوه منير فكان أقصر من شقيقه وأنحف، وكان كبير الرأس حادَّ الطبع مُتوقِّد النظرات بالغضب والسخط والتصميم على الانتقام، لكن ممن لا أدري … لا أدري؛ فقد كان يُخيَّل إليَّ أحيانًا أنه يشعر بأن العالم كله يضطهده ويُطارده بلا رحمة. كانت نزهتنا الدائمة على الطريق المؤدي إلى المحطة الصغيرة الوادعة، وكنا نُواصِل السير حتى نقترب من المشروع الكبير المقام في طرف لبلد لتكرير المياه، والجاثم وراء الشجر الكثيف بمبانيه الضخمة وأسراره الغامضة وبواباته الهائلة التي لم ننفذ منها مرة واحدة. ونتمشَّى على ضفة الترعة بمحاذاة المشروع ونحن نتكلَّم في كل شيء ونحكي عن كل شيء: قصص من ألف ليلة التي نقرأها سرًّا، أو من روايات الجيب التي نتبادلها من وراء ظهور الأهل، سيرة محمد وحياة المسيح من أحد الأناجيل، أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب الجديدة التي نترنَّم بها معًا، ولا سيَّما أغنية كليوباترا التي سمعتها من راديو الصديقين وفي بيتِهما عندما غنَّاها المطرب العظيم لأول مرة، حكايات الجنيَّات التي تخطف الرجال وتأخُذُهم لممالك البحر المجهولة، وإشاعات العفاريت والأشباح التي يؤكد منير أنه يراها ليلًا على هيئة قطط وأرانب وعجائز في ثياب سوداء تتربص به عند عودته متأخرًا إلى البيت. ثم الكلام الذي لا ينقطع عن المعلمين والمواد المملَّة والنشاط الفني المظلوم على الدوام، بجانب أحلامنا عن المستقبل والمهن التي يتمنَّاها كل منا. كانا كلاهما يعرف تمامًا ما يُريد، فرنسيس سيدرس الهندسة، ومنير سيتجه إلى الطب، أما أنا فأشير إلى المطبعة القديمة التي كانت تقع في الدور الأرضي للبيت الذي يَسكُنانه، وأقول: سأطبع كتبي هنا، وأنشر أشعاري وقصصي. ويستغرق الاثنان في الضحك على مؤلِّف المستقبل، ويُحذرانه من بؤس جميع المؤلفين وحياتهم وموتهم جوعى محرومين … وآه يا صديقيَّ العزيزين، اللذَين فقدت أثرهما في زحام سياق الحياة ولقمة العيش. فبعد أن انتقلا مع أبيهما المهندس المسَّاح إلى مدينة أخرى، انقطعت أخبارهما عنِّي. سمعت أنهما تخرَّجا في الطب والهندسة من الإسكندرية … لكن من أين لي بالعنوان وقد خلتِ الحياة منهما، وأصبحت بغيرهما خرابًا وخواء …
وتُذكرني جلستي على العتبة بعم كامل مدير المطبعة التي أشرت إليها قبل قليل. كان يمرُّ علي وهو في طريقه إليها، فيتوقَّف أمامي، ويقول لي: هيا أيها الشاعر الصغير! لم يكن شيء في الوجود أحب إليَّ من الذهاب معه إلى المطبعة ورؤية الآلات الضخمة وهي تسحب الورق المبلَّل بالحبر الطازج، والعمال وهم يصفون الحروف بأيديهم بمهارةٍ عجيبةٍ، والجرنال المحلِّي وهو يَتراكم شيئًا فشيئًا بعد خروجه من تحت المطارح والألواح المعدنية الكبيرة. كم كانت شهية ومسكرة رائحة الحبر الأسود التي تفوح من الصفحات التي لا تزال دافئة كأرغفة الخبز الخارجة من الفرن. كم سهرت مع عم كامل، وشاركت في تصحيح البروفات، وكم رأيت من صحفيين بُؤَساء يحضرون إلى المطبعة ويقدمون الأخبار التي جمعوها من أنحاء البلد ومن أرجاء المديرية: البكوات والباشوات الذين راحوا أو جاءُوا، الأعيان الذين باعوا أو اشتروا أو زوجوا أولادهم أو بناتهم بالرفاء والبنين، الأفندية الذين حصلوا على أعلى الشهادات أو ترقوا لأعلى المناصب … كل ذلك يعدُّ وينشر في الجرنال المحلي، الذي يتَّسع كذلك لبعض القصائد والخواطر والمقالات والآراء من أدباء البلد أو المعلِّمين في مدرستها. هل أنسى أنني عرضت بعض مسوداتي على عم كامل، فقرأها بحبٍّ وعنايةٍ، وقال وهو يُربِّت على كتفي: سنَنشر لك بمجرَّد أن يصبح شعرك موزونًا … لكن استمرَّ ولا تُهمِل رعاية البذور … وكم شجعني وسأل عنِّي بعد ذلك إلى أن انصرفت عن قول الشعر، وأغلقت الجريدة والمطبعة أبوابها …
ما الذي ذكَّرني في الأيام الأخيرة بعتبة بيتِنا العتيق بعد أن هُدم البيت وبُني مكانه بيت حجري ذو سلالم رخاميةٍ لا تَحمل شيئًا من ملامح وجه العتبة الطيب القديم؟ لست أدري كيف أُجيب على هذا السؤال، لكنني أتمنَّى الأمنية المستحيلة، التي لا أعرف كيف تملكت فؤادي في أيامي الأخيرة، ولا كيف ألحَّت عليَّ بأن أكتب ما كتبت: أمنية أن أجلس ولو لحظة واحدة على تلك العتبة الخشبية القديمة، فأملأ قلبي بالصور والمَشاهد والوجوه الحبيبة، ويَجيش صدري بأمواج الذكرى والحَسرة والأسى والحنين.