محرقة الشعر
أما الشين في هذا العنوان فهي بالكسر لا بالفتح، ومن ثم فهو الشعر الذي خطر لي الآن أن أكتب عن حياتي معه أو بالأحرى عن مأساة حياتي. وأما المحرقة فهي مُبالغةٌ بلاغيةٌ، أرجو ألا تثير في الذهن أو الخيال شيئًا من الفواجع التاريخية والإنسانية المرتبطة بهذه الكلمة البشعة. ذلك أن المحرقة التي أتحدَّث عنها لم تَزِد على أن تكون نارًا بسيطةً أوقدتها أمي، وأطعمتها بمسودات أشعاري التي تحوَّلت في «الكانون» إلى دخان ورماد. كان ذلك في الإجازة السنوية التي أعقبت امتحان الشهادة التوجيهية (الثانوية العامة بلغة اليوم). رجعت إلى البلد من القاهرة، فوجدتُ في انتظاري صدمتين مروعتين. كانت الأولى اختفاء الدفاتر الصغيرة التي تضمُّ أشعاري التي كتبتُها عبر عدة سنوات، وخبأتها في الخزانة الخشبية القديمة التي خصَّصت أمي رفها العلوي الضيِّق لصف كتبي وكراساتي وأدواتي المدرسية، واحتفظت بالخانة السفلية الواسعة لتخزين التموين من الزيت والأرز والسكر. اكتشفت غياب الدفاتر الصغيرة العزيزة، وحين سألت أمي، قالت إن أبي وأخي الأكبر أبلغاها بأنها مملوءةٌ بكلام فارغ، وأن أفضل ما يُمكن عمله معها هو أن تصبح وقودًا لتسوية شيء أجدى وأنفع … لم أنطق بكلمةٍ واحدة، ولم أجادل أمي التي لم تكن تقرأ أو تكتب، ولا تُفرِّق بين الشعر والنثر. ذهبت إلى حجرتي، وقطي الأسود بستان يَتمسَّح في قدمي ويموء ويئنُّ كأنه يعزيني في مُصابي، وأخذت أفكر فيما جرى. هل قضت أمي وأسرتي على حلمي الطموح بأن أكون شاعرًا كبيرًا قدوته ومثله الأعلى شعراء كبار قرأت لهم ما أمكنني قراءته، بل وعارضت بعضهم مثل شوقي والمعرِّي وجوته ودانتي؟ وهل كان في الأشعار التي احترقت بيت واحد موزون أو بناء شعري بالمعنى الحقيقي؟ وإذا كان قد تردَّد فيها نفَس شعري واحد، فلماذا رفضت الجريدة المحلية في البلد أن تنشر شيئًا منها، ولماذا لم أسمع لها أيَّ صدى في مجلة الرسالة التي تجرأت في العام نفسه بإرسال بعضها إلى إدارة تحريرها بالبريد المسجل؟ هكذا بدأ الشك والتفكير في التراجع عن طريق ربما لم أُخلق له منذ اشتعلتْ تلك المحرَقة الصغيرة …
أما الصدمة الثانية، فنزلتْ على رأسي في الإجازة نفسها نزول الصاعقة. لقد بحثتُ وبحث الأهل والأصدقاء عن اسمي في قوائم الناجِحين في التوجيهية فلم يجدوه، وذهلت إلى حدِّ الجنون حين عرفت بعد ذلك أن المادة الوحيدة التي رسبتُ فيها هي اللغة العربية. كيف، وأنا شاعر كما تصوَّرت وصور لي الأستاذ علام مدرس اللغة العربية في الإبراهيمية الثانوية؟ ألم يُشجِّعني الرجل على قراءة بعض قصائدي أمام الفصل وفي المناسبات الدينية والسياسية المختلفة مثل: المولد النبوي وعيد جلوس الملك على العرش والاحتفال بذكرى عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول؟ أكان ذلك كله وهمًا وخداعًا للنفس وتقليدًا بائسًا لشعراء حقيقيين بيني وبينهم بعد ما بين الأرض والسماء؟ فكرتُ أن رسوبي ربما يرجع لموضوع الإنشاء، الذي أغرقته في بحر من الصور والرموز المتأجِّجة باقتباسات من بستان جبران المتوهِّج بالحرائق المجازية، وبدأت أعيد النظر في شاعريتي المستعارة التي لم تَرُق لسدنة اللغة الرسميين، كما لم أكن أنا نفسي حينما كتبت ما كتبت في ورقة الامتحان، فلم يخرج عن كونه أصداء باهتة وأضواء خافتة انعكست من مراياهم الصافية على مرآتي المُظلمة المشوشة. كانت تلك فرصة ثانية لمراجعةٍ أخرى صادقة، وإن لم تكن جذرية بالقدر الكافي. ورجعت إلى نصوص «المنتخب» الرائعة، فقرأتُها بتأنٍّ وحفظت الكثير منها، وإلى النحو والصرف اللذين كانا على الدوام شوكةً تدمي صدري وتمزق وجداني، فعكفت على تجويدها والتمكن منهما. وتواضعت خجلًا أمام معبود الشِّعر القاسي، فلم أُرِه وجهي طوال الإجازة الصيفية، واقتصرتُ على كتابة بعض القصص والحوارات المسرحية التي لم يَغِب عنها التأثر بالكبار، ولم تكن — كشعري الرديء الركيك — أكثر من محاولات رومانسية فجة وبلا أي قيمةٍ. ونجحت بالطبع في الملحق، ودخلت كلية الآداب لأدرس الفلسفة وأتخصص فيها.
من الغريب حقًّا أن المحاضرات والقراءات الواسعة في التراث الفلسفي، حرَّكت في نفسي روح الشعر التي تصورتُ أنها خمدت وأخلدت لنوم أهل الكهف. كانت القصائد القليلة التي كتبتها خلال السنوات الأربع بمثابة صياغاتٍ شعرية لآراء وأفكار وتأملات فلسفية تراكمت في نفسي نتيجة قراءات مُستفيضة في بعض الفلاسفة الأدباء وبعض الأدباء الفلاسفة: محاورات أفلاطون الذي ملك عليَّ كل حياتي، وصممت على قراءة ما استطعت من مُحاوراته في ترجماتها الإنجليزية والفرنسية (لجويت ودييس وغيرهما) لأكون ظلًّا وفيًّا له من ناحية، وأجيد هاتين اللغتين من ناحية أخرى، زرادشت نيتشه وبعض ما كتب عن بجانب ما أمكنني التوصُّل إليه من كتابات كافكا وكامي وغيرهما ممَّن لا أذكر الآن، باستثناء بعض أعلام المسرح اليوناني القديم والمسرح الحديث وبالأخصِّ شو وأوسكار وايلد.
وذات يومٍ كنتُ أصعد السلم الرخامي المرتفع لمكتبة الجامعة، سمعت صوتًا جهوريًّا ضاحكًا يردد كلمة نيتشه المخيفة عن موت الله، ويمجِّد الفيلسوف الشجاع البائس الحظ بسيلٍ من الكلمات المتدفِّقة الرنَّانة. وقفت أمان الشاب الأسمر ذي العينين الواسعتين والضحكة المجلجلة والشعر المهوش الطويل، وتطوعت لتصحيح ما سمعت. أوضحت بصوتٍ هامسٍ وخجولٍ أن الكلمة المخيفة لم تقصد بمعناها الحرفي؛ لأنَّ الله بحسب مفهوم الألوهية نفسه حيٌّ لا يموت، ولأنَّ المراد منها — على الأقل في تفسير هيدجر الذي كنت قد سمعت أطرافًا قليلة عنه — هو موت الميتافيزيقا الغربية ذاتها من أفلاطون إلى نيتشه نفسه، ونهاية تاريخ الفلسفة التقليدية وبداية فكرٍ جديدٍ وحصر جديد بشَّر بهما نيتشه نفسه، وأعلن مُتحديًا عالمه كله بأنه سيكون هو عصر الإنسان الأعلى، الذي يجسِّد إرادة القوة ويذيع على الناس نبوءته أو سرَّه عن العود الأبدي. أنصت إليَّ الشاب الأسمر الضحوك، وأقبل يُسلِّم عليَّ ويعلن للحاضرين من حولنا أن صداقة عمرنا المديدة قد بدأت في تلك اللحظة.
تعرفت بعد ذلك على رائد الشعر الجديد في مصر، صاحب «الناس في بلادي، ومأساة الحلاج، والأميرة تَنتظر، وأقول لكم، وشجر الليل» وغيرها وغيرها من روائعه. وتعمقت صداقتنا مع تأسيس الجمعية الأدبية المصرية وقراءتنا المشتركة في شعر «إليوت ورلكه»، اللذين كنت أعشقهما وأجتهد أن أعديه بحبهما، وفي شعره هو الذي كان يشقُّ قلبي ويحفر فيه مجراه بعمقه وحزنه وتجديده وأصالته. ها أنا ذا أمام شاعرٍ موهوبٍ وأصيل، فهل أحسُّ في نفسي وفي شعري «الذهني» الرديء بأي حظٍّ من الموهبة أو الأصالة؟ ألم تَرفض زميلتي في الجامعة وحبيبة قلبي تلك القصائد التي كنت أعطيها إيَّاها تقربًا إليها، وتمحكًا في كلمة منها، فتردها إليَّ وهي تبتسم، قائلة: القصيدة غامضةٌ ولم أفهم منها شيئًا؟! وأستاذي الذي كنت آخذ رأيه في شعري، ألم يكن يُعيده إليَّ وهو يُربِّت على ظهري عطفًا أو سخرية، ويقول: الأوزان صحيحةٌ وليس فيها أي خللٍ؟ في لحظة صدق مع النفس، وعبر أزمة روحية بلغت حد المحنة، قررتُ التخلِّي النهائي عن قول الشعر، أو بالأحرى قرَّر الشعر نفسه التخلي عنِّي إلى الأبد! لكن هل تخلى عنِّي حقًّا وإلى الأبد؟ ألم يسكن اللحم والعظم ويعشش في أركان القلب، بحيث يَتسرَّب في كل سطرٍ من مقال أو قصة أو مسرحية أو حتى بحث كتبتُه بعد التخرُّج واستكمال الدراسة بالخارج؟ بالفعل، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون معظم الفلاسفة الذين شُغلت بهم بعد ذلك من الفلاسفة الشعراء — من أفلاطون إلى نيتشه حتى هيدجر — وأن يكون أغلب الأدباء الذين ترجمت شعرهم ودرسته وحللته من الشعراء المتفلسفين أو المفكرين، من سافو وألكايوس الإغريقيين وشعراء الحكمة البابليين عبر جوتة وديوانه الشرقي بوجه خاص إلى بودلير وفاليري ورلكه وحتى أنجاريتي الإيطالي. وتراكمت مئات القصائد — حرفيًّا لا مجازيًّا — في بعض كتبي التي يكاد معظم المثقَّفين لا يذكرونني — إن ذكرني أو تذكرني أحد! — إلا بها (ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر، قصيدة وصورة، لحن الحرية والصمت، للحب والحرية، أزهارٌ من بستان الشعر الغربي قديمًا وحديثًا … إلخ) وعندما أضع هذا الركام الهائل أمامي، عندما أُلقيه في كفَّة ميزان العمر والجهد، أقول لنفسي وسكاكين الحسرة تشقُّ قلبي: قصيدة واحدةٌ أو حتى بيت واحد من الشعر الحقيقي في الكفة الأخرى كان من المُمكِن أن ترجح في الميزان، لكن ماذا أفعل وقد اكتشفت في لحظة المكاشفة التي سبق أن ذكرتها أنني لا أملك الموهبة ولا الأصالة التي لا بدَّ منهما لكل شعرٍ حقيقيٍّ؟ وهل سيُعزِّيني أو يحمل إلى نفسي شيئًا من الرضا أنني كنت أشعر أثناء إعادة إبداع ما سبق إبداعه — وهذه هي ترجمة الشِّعر الحقيقية — بقدر غير قليلٍ من النشوة والغبطة؟ هل سيُعزِّيني أيضًا أن كنز الشعر المحترق المفقود إلى الأبد كان يَشعُّ أحيانًا في كثير مما كتبت من قصص أو مسرحيات ومقالات؟ آه! حتى لو صحَّ هذا، فيا له من عزاء هش ومخادع كالسراب الخلَّب الغدار!