القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية
١
قرأت عنها وشاهدت صورتها في الجريدة اليومية، التي تصدر في المدينة الجامعية الصغيرة التي أدرُس بها. كانت صورة التمثال الحجري الذي يمثلها وهي مستلقيةٌ على شاهد قبرها داخل إعلانٍ كبيرٍ من شركة سياحية لجذب الزائرين لعاصمة الغابة السوداء. وكانت مع الصورة التي تحتلُّ مكان القلب من الإعلان، صور لمناظر أخرى لبعض معالم المدينة العريقة؛ الكاتدرائية المهيبة ذات الأبراج الشامخة، تمثالا هوميروس وأرسطو على باب الجامعة القديمة، ساعات «الكوكوك» وغيرها من الصناعات الخشبية التي اشتهرت بها المدينة الراقدة في أحضان الغابة الساحرة الغامضة، بجانب بوابات عتيقةٍ وواجهات مسارح ومَتاحف قديمة وأزقَّة وحارات ذات سلالم صاعدةٍ وجداول صغيرةٍ جاريةٍ. توقفت عند صورة الفتاة المُسجَّاة على الشاهد الذي أبدع الفنان نحته، وصور فيه القارئة الحجرية فاستطاع أن يعطف العين والقلب إليها. كانت تميل برأسها الجميل ووجهها الوديع المستطيل إلى اليمين قليلًا، بينما تشابكت ذراعاها على صدرها وأمسكت يداها بكتاب كانت تقرأ فيه، عندما فاجأها الموت وأغمض عينيها إلى الأبد. لا أدري ما الذي جعَلني أنبهر بالعروس العذراء التي خيِّل إليَّ أنها مفعمةٌ بالحياة، وأنها تحرر نفسها في كل لحظةٍ من أسر الحجر وتحلِّق فوقه على الرغم من التصاقها به واندماجها فيه. وأخذت الأسئلة تنهال عليَّ: من هذه القارئة المسكينة وما قصتها؟ في أي زمن عاشت وكيف داهمها القدر وماذا كانت تقرأ قبل أن يسكت القلب ويسترخي الجفن على العين؟ وأخيرًا من هو الفنان المبدع الذي صنَع تمثالها وأفرغ فيه كل طاقته على العشق والحزن؟ أليس من الممكن أن يكون حبيبها أو عريسها أو المتيَّم الغارق في عبادتها سواء أثناء حياتها أو بعد موتها؟
حملت حيرتي ودهشتي إلى «إيفا»، زميلة دراستي العزيزة وراعيتي الوفيَّة خلال سنوات إقامتي في المدينة. وعندما أطلعتها على الصورة التي انتزعتها من الجريدة ووضعتها على مكتبي، صاحت هاتفةً: إنها القارئة الحجرية! أشهر من أنجبتهم فرايبورج في الجيل الماضي، وربما أقربهم إلى قلب كل امرأةٍ ورجلٍ وشيخ وطفل يعيشون الآن في المدينة. قلت مُستفسِرًا: زدتِني شوقًا إلى رؤيتها والقرب منها، هل يُمكن! قالت بحماسها الطفلي المعتاد: طبعًا يمكن أن نزورها، إنها تحفة المتحف القديم … سألت مرة أخرى: تحفة ومتحف … ماذا تقصدين؟ قالت: أقصد أنها الآن أعزُّ وأغلى أثر في المقبرة القديمة التي أغلقت منذ ما يقرب من مائة سنة، وصارت مزارًا لأهل المدينة والسواح الذين يَفدون عليها، ويقفون أمام القارئة في خشوعٍ وإشفاقٍ وتبتُّل لا نظير له … قلت: وأنا أيضًا أريد أن أقف مثلهم أمامها. متى نزورها؟ قالت، وهي تنظر في ساعتها مستأذنة: الأحد القادم؟ سترى بنفسِك مدى التشابُه بينكما. قلت ضاحكًا، وهي تُسلم عليَّ منصرفة: التشابه؟ أتُريدين أن كلينا ميت أم أن كلينا حجر؟ قالت مسرعة: الأفضل أن تحكم بنفسك … إلى اللقاء …
٢
وجاء صباح الأحد، فذهبنا إلى المقبرة القديمة أو ساحة السلام كما يُسمُّونها، وكانت تقع على الحدود الفاصلة بين المدينة والغابة السوداء. سِرنا على طريق ضيقٍ وصاعد تُظلِّله أشجار السرو والصنوبر التي تزقزق فوقها العصافير، وتُخشخِش أرضيته المملوءة بالحصى والأوراق الذابلة تحت أقدام عابريه. بلغنا السور القديم الواطئ بقُضبانه اللولبية السوداء، ودخلنا من البوابة الصغيرة المفتوحة لزوار يوم الأحد. أرسلت بصري إلى المقبرة الهادئة التي يلفُّها السكينة والنظام والتنسيق والجمال. قبور على اليمين واليسار، برزت فوقها شواهد مكتوب عليها الاسم والتاريخ بخطوط سوداء، محفورة في الحجارة والجرانيت. وعلى بعض الشواهد تماثيل صغيرة أو كبيرة لملائكة أو أطفال مُجنَّحين، أو نقوشٍ نباتيةٍ مختلفة. كان بعض الزوار قد سبقونا وأخذوا يتجوَّلون في المماشي الضيقة بين الأضرحة الباذخة المترفة والقبور البسيطة الفقيرة. قالت إيفا: نُلقي نظرةً على هذه التحفة الرقيقة العتيقة. وأشارت إلى كنيسةٍ صغيرةٍ على اليمين يَكسُو بوابتها الضيقة والفتحة المثلَّثة في أعلاها فروع نباتية متدلية، ويزخر باباها بزخارف ونقوش خشبية بارزة. رسمت زميلتي علامة الصليب على صدرها قبل أن نقف على مدخل ساحة خافتة الضوء وممتدة في العمق، الذي يشغله المذبح وفوقه الشموع الكبيرة التي تتراقص أضواؤها على البعد، وأمامه صفوف المقاعد والأرائك التي يجلس عليها المصلُّون أو كانوا يجلسون عليها كلما أُقيم قدَّاس، ودقت الأجراس لاستقبال ميتٍ جديدٍ أو تكريمه. أخذت إيفا تشرح لي تاريخ الكنيسة الأثرية، وتشير بحماسٍ واعتزازٍ إلى كنوزها المعمارية وزجاج نوافذها الملوَّن بأشكال القديسين، وصور ومشاهد من حياة المسيح وعذابه ووجوه حوارييه. أشرت إلى رسم ملاك مُتجلٍّ للعذراء، وهالة الضوء تشعُّ من وجهه الذي يحتل قبة الكنيسة المزدهية بألوانها الذهبية والفضية، وقلت وأنا أهمس بضحكةٍ خافتةٍ: كم يشبهك هذا الملاك، والعذراء المقدسة أيضًا. هل رسم الفنان وجهك أو وقفت أمامه وهو يرسم؟ قالت غاضبةً، وهي تلكز ظهري بقبضة يدها: أولًا: أنا لم أكن قد ولدت عندما صوَّر الفنان هذه الصور. وثانيًا: لا تكن سخيفًا ولا تَصفني بهذه الأوصاف التي لا أستحقها. قلت مؤكدًا: ولكنَّكِ في نظري مَلاك وقديسة — هذا هو رأيي فيك — قالت باستياءٍ شديدٍ: احتفظ برأيك لنفسك. أنا إنسانةٌ من لحمٍ ودمٍ على العكس منك … وضعتُ يدي على فمي حتى لا تجلجل ضحكتي في الفناء المجلل بالسكون والخشوع والرهبة: تقولين على العكس منِّي … وهل أنا حجر؟ قالت، وهي تضغط على يدي بقوة: العجيب أنك لم تَكتشِف هذا حتى الآن … هيا بنا نترك القديسين والملائكة، ونذهب إلى حبيبتك الحجرية …
٣
كان قبرها على بُعد خطواتٍ قليلةٍ من الكنيسة الصغيرة، خامس قبر إلى اليمين من المَمشى الواسع المخضل بالعشب النديِّ. هتفت عندما طالعني الوجه الناعم الحالم، الذي تنسدل عن يمينه ويساره جدائل الشعر الأشقر الطويل: ها هي ذي العروسة الحجرية. قالت إيفا، وهي تدفعُني من ذراعي: وأنت العريس الذي ظلَّت تَنتظِره عقودًا لا أعرف عددها. اقتربنا من القبر الذي تجمَّع حوله عدة أزواج من العُشاق، وقفوا أمامه خاشعين مَذهولين قبل أن يَنصرفُوا وهم ينظرون إلينا ويتهامسون.
وقفت أتأمَّل بديع صنع الفنان الذي سوَّى من الحجر هذه التحفة الحيَّة، وشعرت بأن أناملي تَرتكِب ذنبًا لا يُغتفَر بمرورها فوق الوجه الشاحب المستطيل، ولمسها للعينين المُغمضتين وخصلات الشعر وثنيات الثوب الطويل الشفاف، الذي انسكبت حنياته كأمواج جدول رقيق صافٍ. والكتاب الذي يَرقد على صدرها، واليد الصغيرة النحيلة التي تمسك به، بينما استندت الرأس البديعة إلى اليد الأخرى. وبعيدًا عن تنظيرات الفن وفلسفات الجمال، رحت أسأل نفسي وزميلتي: كيف استطاع الفنان أن يُحيي الحجر ويضع فيه الوثبة التي تُخيِّل للناظر إليه، أنه لا يكف عن محاولة التحرر من الجمود والانطلاق من الأسر، والعلو فوق الحجر والموت والمقبرة كلها إلى قلب الحياة الدافئة الجيَّاشة بالحب والأمل والشوق الذي لا يَنطفئ لهيبه؟ وتخرجني إيفا من صمتي الذاهل الحائر، وتقول وهي تمدُّ يدها إلى يدي وتضعها على يد القارئة: هيَّا بنا نُعِدِ الحجر إلى الحجر ونَعقد الزواج … أسال مندهشًا: زواج؟ هل أنتِ جادةٌ؟ ترد بسرعة: كل الجد. هو الزواج الوحيد الذي يصلح لك وتصلح له … تفلتُ منِّي الضحكة، بينما تُصوِّب سبابتها محذرة من تهوري ونزقي: ألا تطلب المستحيل على الدوام؟ هذه هي العروس التي تليق بك، وهي تغمض عينيها علامة الرضا والموافَقة. هيَّا هيا ولا داعي للتردُّد. وتضع يدها على يدي، التي مدتها على يد العذراء النائمة، وتُتمتِم بكلماتٍ وعباراتٍ لاتينيةٍ تلتقط أذني بعضها ويغيب عنِّي بعضها الآخر. وبعد أن تنتهي من صلاتها، وترسم علامة الصليب على صدرها، تقول وهي تمسك بذراعي وتتهيَّأ للانصراف: الآن قد تمَّ كل شيءٍ. وجدت زوجة لا تكف مثلك عن القراءة، ويُمكنك أن تزورها متى تشاء. قلت: نعم، تمَّ كل شيء، ولا ينقصنا إلا شيء واحد: أن أكون حجرًا يرقُد بجوارها ليرعاها ويؤنس وحشتها … قالت إيفا ضاحكة، ونحن ندلف من البوابة إلى الطريق: لا ينقصك شيء على الإطلاق … هذا هو الزواج الكامل الخالد … ما الذي تَطمع فيه أكثر من ذلك؟ قلت: أطمع فيما تمناه شاعرٌ عربيٌّ قديم، قال: يا ليتَ أن الفتى حجر … قالت ضاحكة قبل أن يلفنا الصمت: لكنك في غنى عن الطمع والتمنِّي، ألست مستغنيًا عن كل شيء وكل إنسانٍ؟
٤
لم أردَّ عليها بكلمةٍ واحدةٍ طوال الطريق إلى البيت الذي أسكنه. استغرقني حلم القارئة الحالمة، ودخلت أنا أيضًا في شرنقتي أو قوقعتي الحجرية التي ألوذ بها عادة من ضجيج العالم والناس، ولازمني الشعور بالذنب وأنا أفكِّر في حالي مع الحبيبة المستحيلة التي تَمشي إلى جواري، وأرى على وجهها علامات الألم والأسى الممتزجة بالمرارة وخيبة الأمل.
وعندما وصلنا إلى البيت الذي أسكنه، وقبل أن أمدَّ يدي لتوديعها، فوجئت بصدرها على صدري وشفتَيها على شفتيَّ وذراعيها تضماني إليها بشدة. أحسستُ بجسدها الضئيل النحيل وهو يرتعش وينتفض كجسد طائرٍ يحتضر. ربَّتُّ على ظهرها وأنا في غاية الارتباك، وقلت وأنا أتكلف الابتسام: أنت بنفسك عقدت زواجي على القارئة الحجرية، لا تنسَي بعد الآن أنني حجرٌ. نظرتْ إليَّ صامتة، ثم هزتْ رأسها وهمست: أراك غدًا في الجامعة …
٥
كانت أول من التقطني من وسط الزحام الذي وقفت فيه حائرًا، بعد خروجي من المدرج الكبير الذي استمعت فيه إلى محاضرة الأدب الألماني التي كنتُ فيها الأجنبي الوحيد الأسود الشعر بين المئات من الطالبات والطلاب ذوي الشعور الشقراء والعيون الخضراء.
أقبلت عليَّ مترفِّقة باسمة، وسألتني: أنت من مصر، أليس كذلك؟ رددت عليها بابتسامة: صدق حدسك، من بلد الأهرام وأبي الهول. ضحكت قائلة: واضح … هل تَقبل دعوتي غدًا مساءً على عشاء بسيطٍ مع بعض الطلبة الأجانب مثلك؟ قلت لها: بكل سرور، ووضعت العنوان في جيبي وأنا أشعر بالامتنان نحو الشقراء القصيرة، التي اخترقت طوق الصمت والوحدة المضروب حولي منذ أن بدأت الدراسة قبل أسابيع قليلة.
استجبت للدعوة في مساء اليوم التالي، وسرعان ما وجدت نفسي — بفضل المضيفة الطيبة المَرِحة — وسط زملاء من كينيا ونيجيريا واليابان وبعض الدول الأوروبية، إلى جانب عدد من الزميلات الألمانيات. وعرفت بعد ذلك أنها جمعيةٌ صغيرة من أصدقاء الطلبة الأجانب، مهمتها تخفيف وطأة الغربة عنهم، وتنظيم اللقاءات والرحلات التي تُعرِّفهم بمعالم المدينة والبيئة الطبيعية، وتُساعدهم على التغلب على صعوبات اللغة والدراسة والحياة في مُجتمَعٍ شديد الجدية والتنظيم والجهامة. ومع مرور الوقت وتعدد اللقاءات والاحتفالات والنزهات في الغابة السوداء وجبالها العالية وطرقاتها وأجوائها الساحِرة، تعمَّقت الصلات مع الجميع بفَضل راعيتنا الصغيرة النشيطة التي لا تكفُّ عن الحركة والمرح والانطلاق النَّقي البريء، وإغراق المجموعة كلها بمجاملاتها وهداياها وتعاطفها الحنون، وتطوعها لحل المشاكل التي يواجهونها بنبلٍ وكرمٍ وسخاءٍ يفوق طاقتها المحدودة ودخلها المتواضِع من منحة الطلبة الفقراء. كنت على وعي تامٍّ بأنها تختصُّني بقدرٍ كبيرٍ من التعاطُف الذي ينمُّ عن الحب الحقيقي، وربما ساعدت أمارات الاكتئاب والانكسار المرسومة على وجهي — التي طالَما حاولت دون فائدة تغطيتها بالمرح والضحك والثرثرة الثقافية — ربما ساعدت على زيادة اهتمامها بي ورعايتها الدائمة لي. كنتُ أحسُّ على الدوام بأنها أمي الصغيرة، كما كنت من الفظاظة وقلة الذوق بحيث أُصارحها باستمرار بأنها أخت وملاك وقديسة. كانت تثور على هذه الأوصاف وتغضب وتنفجر في بعض الأحيان باكية، ولكن يبدو أنها اقتنعت أخيرًا بعجزي عن أن أحبها كما يحب الرجل المرأة. وماذا كان بوسعي أن أفعل وقد منعتني طبيعتي الشرقية الموروثة من أن أشعر نحوها بما يشعر به الرجل نحو الأنثى، وكيف كان من المُمكن أن يتطرق إليَّ هذا الشعور بعد أن ترسَّخ في قلبي الإيمان الصادق العميق بقَداستها وملائكيتها التي تسمو بها فوق المرأة أو الأنثى، كما نطقت كل تصرفاتي نحوها بأنها أخت عزيزةٌ، ولا يمكن أن تكون إلا أختًا؟ ومع أنها سلَّمت مع الزمن بعجزي وتحجري، فلم تنقطع يومًا عن إغراقي بحنانها وهداياها: كتب ونتائج فلَكية عليها صور القطط التي أحبها الشعراء، الذين أجد نفسي معهم، أشكال من الحلوى والطعام الذي تتصوَّر أنني أتذوقه، تذكُّر مُستمرٌّ لعيد ميلادي الذي أنساه على الدوام ولا أهتم بالاحتفال به، متابعة لدراستي وقراءاتي، وحوارات مُتواصِلة عن جوته وهلدرين ورلكه وغيرهم من شعراء العصر، ثم آخر أفضالها بمراجعة رسالتي في الدكتوراه كلمة كلمة وسطرًا سطرًا، ومساندتي بكل ما تملك أثناء الاستعداد للامتحان النهائي.
٦
ورجعت للوطن في أوائل الستينيات، ولقيت ما لقيت من ألوان الإحباط وخيبة الأمل: في البحث عن مَسكنٍ ملائمٍ، والسعي الفاشل للارتباط، والتعثر الدائم بين الكتابة والترجمة والتدريس، ومواجهة الغدر والتجاهل والإهانات الصريحة والخفية. وفاجأتني بعد سنوات باشتراكها مع فوجٍ سياحيٍّ قادم إلى مصر، استقبلتُها بكل ما أملك من حفاوة وترحاب، وطفت معها على كثير من الأماكن والمتاحف التي لم تكن مدرجة على البرنامج الجماعي. وأردت أن أشعرها بجو الأصدقاء الذين أحيا لهم وبهم، قأقمت لها سهرة في مكتب الصديق الذي اعتدنا أن نَلتقي عنده كل ثلاثاء، وعندما دخلت معي وطالعت الأصدقاء بوجهِها الصبياني الضئيل، وشعرها الأشقر المهوش، وضحكتها الرنانة النقية كولدٍ شقيٍّ، هتف بي صديقي الشاعر الكبير وهو يتأملها من أعلى إلى أسفل: والله أمرك عجيب … هل تنقصنا المومياءات حتى تأتيَنا بمومياء جرمانية؟ كظمت الضحكة والحسرة في قلبي، ولم أُترجِم لها ما قال. ومضت السهرة كما تمنيت، ولمس الأصدقاء مدى رقتها وحنوِّها وعمق ثقافتها. وهمس في أذني صاحب الدار: اسمع نصيحتي، لن يصلح لك سواها ولن تَصلُح أنت لغيرها. وانتهت الليلة كما انتهت الرحلة، ورحت أودِّعها في المطار. شكرتني من كل قلبها، ثم ارتمت على صدري وبكت ورأسها على كتفي. ربَّتُّ على ظهرها وقبَّلتُها في جبينها، وأردت أن أُذكِّرها بوداعنا بعد زيارتنا للقارئة الحجرية، وأقول لها سامحيني على عجزي وتحجري، فسبقتني قائلة، وهي تمسح دموعها وتحاول أن تضحك بصوت عالٍ: أتمنى لك كل خير … ليتني أنا أيضًا أصبح حجرًا كما قال شاعركم القديم.