هذا البلد مكاني … هذا الزمن زماني
عندما تسير على الطريق، فتُدمي قدمَيك الأشواك، وتهبُّ عليك الرياح المسمومة من كل ناحية، وتتكالَب عليك الجراء — التي طالما أعطيتها من عمرك وعلمك — لتُجرب فيك أظافرها ومخالبها وأنيابها الصغيرة، وتتقافز القرود فوق الأكتاف وتتصارع على العروش الوهمية التي كانت بالأمس تُزينها كبرياء الأسود — حينئذ لا تملك إلا أن تهتف: يا ربي! لم ولدت في هذا المكان؟ لم وجدت في هذا الزمان؟
تعلم أن السؤال عقيمٌ لا جواب عنه، لكنك تتحسَّر وتتمنَّى. تتحسَّر على عمر يضيع، وطاقة تبدد، وكرامة تُنهش، ومرارة تتراكم في قلب القلب كجبل الملح، وموهبة تطفأ شمعتها الواهنة يومًا بعد يوم كلما حاولت أن تسرجها، وتتمنَّى وتطير على أجنحة التمني إلى ماضٍ انقضى أو مستقبل لم تَنْمُ بذرتُه بعد. إلى تاريخ ذهب وبلاد لم تطأها قدمك، وعصور لم تعشها ولم تدر عنها شيئًا إلا في الكتب أو في الخيال. ترافق «سقننرع» و«أحمس»، وتطارد معهما الهكسوس. تلازم سقراط وجماعته عبر شوارع أثينا وحاراتها، وتشارك في الحوار الذكي الساخر الحر. تعرج على سراقسطة فتنضم إلى مكتشف قوانين الطفو الروافع ومربع الدائرة (المدهش الرائع أرشميدس حوالي ٢١٢ ق.م.) وهو يدافع عن أسوار مدينته دفاعَ المُستميت. وربما تميل إلى سوق عكاظ، فتملأ سمعك ووجدانك بإحدى المعلَّقات. ثم تصعد تل الأيام والليالي والسنين، فتطرق باب محبس أبي العلاء، وتجلس إليه وتسمع منه، وربما تتمنَّى لو يطلب منك — وهو سيد الزهد والاستغناء — أن تُسوِّي فرشته أو تُعدَّ لُقمته. وتحضر مجلس الرشيد أو المأمون، وتمتع نفسك وتؤنسها بمساجلات الأدباء والفقهاء ومناظرات العلماء والفلاسفة والمترجمين (وقد يسعدك الحظ، فيجعلونك مساعد حنين بن إسحق أو أبيه إسحق بن حنين!) وتُواصِل الصعود إلى عصر النهضة وتؤثر صحبة جاليليو على غيره، وتطلُّ على السماء من مرصاده، وتشارك في تلميع زجاج عدساته، كما تُساهم ولو بنصيبٍ ضئيلٍ في مغامرة العقل وإرساء المنهج العلمي، وتحرير الإنسان من زنازين التخلُّف والجهل التي وضع فيها باسم الدين، والدين منها براء. وقد تعود أدراجك أخيرًا، فتهبط إلى حضاراتٍ غابرة، وتقنع بوقفة حاجب مُتواضعٍ ومتأمِّل في بلاط ملك هندي أو سومري أو بابلي أو آشوري رائع، أو في قصر إمبراطور صيني حكيم.
وترجع فتقول لنفسك: ألم يُطعن سقننرع في ظهره؟ ألم يُحكم على سقراط بشرب السمِّ؟ ألم يُقتل أرشميدس بحربة جنديٍّ روماني فظ؟ هل خلتْ أيام العرب من الغدر أو ارتوَت باديتُهم من الدماء؟ وهل نجا رهين المحبسَين من الإهانة والمرارة في زمن التدهور والتمزق والغلظة والانحطاط؟ أم بَرِئ عصر الرشيد والمأمون من الفتن والمؤامرات، وعصر النهضة من المحارق ومحاكم التفتيش، وعصور ملوك الشرق الأدنى والأقصى من استبداد السيد الأوحد وتعذيب وعذاب الملايين؟
لكنَّ أمواج الحسرة لا تَتراجع، وأجنحة التمنِّي لا تُطوى. وتطير إلى ذهنك خاطرة من خواطر باسكال (١٦٢٣–١٦٦٢م) طالما أحببتُها ورددتها: «أرى هذه الفضاءات الكونية المخيفة التي تحوطني، وأجد نفسي مُقيدًا إلى ركن من هذا الامتداد الهائل، بغير أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون غيره، ولا لماذا حدَّدت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قدِّر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها لا في نقطة أخرى من الأزلية التي سبقتني أو الأبدية التي ستأتي بعدي. لستُ أدري من كل ناحية إلا هذه اللانهايات التي تحبسني كأني ذرة وظل لا يدوم إلا لحظة واحدة وبلا عودة.» (الخاطرة رقم ١٩٤ من ترقيم برونشفيج لخواطر باسكال).
هكذا لا أفتأ أُجاهد نفسي حتى لا تسترسل في تأملاتها عن النهاية واللانهاية، وزمانية الوجود الإنساني ومكانيتِه، ومعناه أو انعدام معناه وهو يذوب كالقطرة ويتلاشى في بحر السرمدية، أو يتأرجَح كالقشة فوق محيط الفضاء الشاسع. وأزجر نفسي كي لا تَستسلِم لشطحات ربما تكون عميقةً ودقيقة، لكنها — في اللحظة الراهنة التي أحياها، وفوق شبر الأرض الذي يشغله جسدي — لا بدَّ أن تكون شطحات مُترَفة وغير مسئولة، أو طرقات يائسة على قيثارة قدرية يُداعب أوتارها الخليُّ والخائف والهارب والمحزون المكتئب بلا أمل في الشفاء.
هذا الزمن زماني
صحيح أنني لم أخترْه بنفسي، ولم أُسأل عن رأيي قبل أن أوجد فيه. لكن هل هذه هي المشكلة؟ إذا كنا نحن الشرقيين لا نملُّ الحديثَ عنها، ونأبى إلا أن ندور بمناسبة وغير مناسبةٍ حول مسائل الجبر والقدر، كأنما نُبرِّر آفة الهروب من الحرية والاختيار، ومن شجاعة تحمُّل المسئولية وأداء الواجب! فإنها في الحقيقة قد لا تكون مشكلةً، أو هي على أقل تقدير ليست هي مشكلتي الحقيقية «هنا والآن». فأنا أحيا في هذا الزمن وهو يَحيا فيَّ، أنا جزءٌ منه وهو جزء منِّي. ولدت في أواخر الثلث الأول من القرن الماضي، ولا يَعلم إلا الله متى تُطوى صفحات كتابي. أعرف يقينًا أنني أتنفس هواء عصر القلق والتعذيب والمَذابح والمَقابر الجماعية والرعب النووي وعصابات المافيا والإرهاب والتلوُّث وإبادة الخضرة وأخطار الأورام المُداهمة والسكتات القلبية والدماغية المباغتة، والعيون الإلكترونية الراصدة في كل ركن وكل منعطفٍ، وفجور رأس المال الذي طغى واستشرى حتى زاد الفقراء فقرًا والجوعى جوعًا والأغنياء المترفين قهرًا وجبروتًا، وروَّج تجارة الجنس والمغيبات والمخدرات، وما فتئ يعدُّ لسحق شعوب ومناطق بأكملها. وأعرف كذلك يقينًا أنني عشت زماني الواعي في هذا الركن، الذي قيَّدت إليه وجربتُ فيه من الأحزان أكثر بكثير مما تذوقت من الأفراح، وعانيت من الهزائم وخيبات الأمل في العمل والحب ما لا تُقاس به النجاحات النادرة والضحكات القليلة المغتصَبة. لكنه في النهاية هو عصري، وليس لي اختيار في أن أكون فيه أو لا أكون.
وهذا البلد مكاني
أعلم أنه هو بلد العتمة — على الرغم من شمسِه الأبَدية الساطعة — وأن الظلمات تزحف عليه من الخارج ومن الداخل منذ آلاف السنين، ولا تزال جحافلها ومسوخها وأشباحها تجوس فيه (جحافل ظلمات التسلُّط وخدمه وحشمه من مسوخ الفقر والذل والنفاق والغدر والقبح والمَلل …).
لكنني أرجع وأقول: نعم يا نفسي، هذا هو بلدي. أعلم هذا منذ وعيت وفكرت وعلمت وكتبت وحاولت — وكم حاولت — أن أغيِّر شيئًا من نفسي أو مما حولي ومن حولي. كان الحظ رحيمًا بك عندما ولدت لأب تقيٍّ صارمٍ جاد، وأم عطوف حنون، وعندما أحاطت بك وحنَّت عليك آلاف العيون والقلوب المحبة، ورعى دربك عشرات المعلمين والمربين و«الآباء» العظام. وكان طيبًا ورحيمًا بك أيضًا عندما قاسيت الفقر والوحدة، وذقت مرارة التجاهل والجحود، ووجدت نفسك وحيدًا في مواقف الغدر والظلم والمهانة، وحوصرت بصغار الصغار وحقد الحاقدين وتضخم المتضخمين. وأقول لنفسي أيضًا: إذا بقيت في هذا البلد فافعل — أقول افعل ولا أقول تكلم — وإذا تكلمت أو فكرت فليكن كلامك وفكرك دليل عمل وخطة فعل وتغيير وتحدِّ لصور التخلف ومسوخ القبح. وإذا غادرته إلى بلد آخر — ربما لا تشعر فيه بالغربة التي حاصرتك في بلدك — فأنت تحمل — شئت ذلك أو لم تشأ — أثقال تاريخه وألواح قيَمه — المظلومة المُهدَرة — في دمك، وتضع بلورته الصافية نصب عينَيك دائمًا فتزداد حبًّا له وقربًا من روحه وحقيقته. ومن يدري؟ ربما قدر قدرك الطيب الرحيم — مهما تصورت في كثير من الأحيان قسوته عليك! — أن تكون حلقةً ضرورية في سلسلة أجيال وحضارات وصراعات ضرورية. وربما هتف صوت الزمن الآتي في لحظتك الراهنة، وقال لك على لسان أبنائه: نحن نغبطك على الأزمات التي عشتها، والمِحَن التي ألمَّت بك وعبرت عنها، ولو لم تعشها وتعبر عنها — أنت وأبناء جيلك ومن فاقكما موهبة وخيالًا ونجاحًا — فربما كانت خسارتنا فادحةً، وربما لم يُتح لنا أن نعرف شيئًا عن تجربتكم التي تعكس من بعيد تجربة عصركم ومجتمعكم وحاضركم، الذي غدا اليوم ماضيًا. ونحن نحسدُك؛ لأن قلبك الصغير قد نبض في نفس الوقت مع قلوب عظيمة نعتز بعطائها، وعقول مُلهمة نُقدر اليوم روعة ما بذلت وقدمت. ومن يدري أيضًا؟ ربما كنت — أنت ومن هم ألمع منك وأقدر — مرآة وضعت أمام عصرك ليتأمل فيها نفسه ويحاسبها ويحاول تغييرها، كما وضعت أمام بلدك، لعله يرى وجهه الحقيقي الذي تمنَّيت وتمنوا معك أن تكشفوا عنه الحجب والغيوم واللطخات التي شوهته، وأن تكونوا في النهاية ملمحًا طيبًا من ملامحه الأصيلة الطيبة. وأخيرًا، تهتف بنفسك أو تهتف بك:
هذا البلد مكاني … وهو مكان طيب لا أعدل به — مهما ابتعدت عنه بالروح أو بالجسد وباليأس أو التعفف — أي مكان آخر سواه.
وهذا الزمن زماني … لا أملك إلا أن أحياه وأعانيه وأتحداه …
ويوم يرتعش الطائر الأخضر الصغير في صدرك، حين يرى الصياد الأسود الملثم يقترب منك، ويُسدِّد سهمَه لقلبك، ويطويك في جرابه الذي لا يمتلئ أبدًا … يومها ادع الله أن يمهلك لحظة لتسأل نفسك: هل استطعتُ أن أُغيِّر شبرًا واحدًا من مكاني؟ هل تركت ورائي شعاعًا واحدًا يُصارع ظلمات عصري وزماني؟ ادعُه أن يمدَّ في عمر وعيك لحظة واحدة تهمس فيها شفتاك: