الصبي الذي كان يحمل اسمي
زارني الصبيُّ الذي كان يومًا يَحمل اسمي. وقف أمامي، على حين فجأة، واستند إلى جدار المكتبة صامتًا شاحب الوجه. لم أدرِ كيف تسلَّل إلى حجرة مكتبي بينما كنتُ أقرأ أو أكتب بحثًا أو أُترجم نصًّا أو أُحاول أن أعدَّ كلمة أقولها في ندوة أو مؤتمر. لكنني وجدته أمامي ولم يكن هناك مفرٌّ من المواجَهة. راح كلٌّ منَّا يتأمَّل الآخر دون أن يقوى على التلفُّظ بكلمة. نعم هذا وجهُه، نفس الوجه البريء المُتعَب، نفس العينين الشاردتين التائهتَين، نفس الانكِسار والإحباط، وخيبة الأمل تكسو الملامح وتَنسكِب من النظرات الحزينة. كان هو أيضًا يَتطلَّع إليَّ في دهشة مَن لا يصدق؛ ربما أذهله الشعر الأبيض الذي يغمر رأسي كالثلج المتجمِّد، أو كلال العينين اللتين بدأ نور شمعتهما في الخفوت والخمود، أو التجاعيد التي حفرتها السنين على الوجه الذابل الذي غادرتْه نضارة الشباب من أمدٍ طويلٍ. وكان لا بد أن يبدأ أحدنا الكلام، فأردت أن أحييه وأرحِّب به في مسكني وبين كتبي المتراكمة من حولي. لكن وهج الغضب الذي كان يتأجَّج من عينيه، ويلهب وجنتيه، ويُنبئ عن اتهام وشيكٍ لم يسعفني بكلمةٍ واحدة. وما هي إلا لحظات حتى سمعتُ رنين أصوات تخترق أذني كأنها تَلطمها وتهزُّها بعنفٍ وقسوةٍ: ماذا فعلت بي؟
رفعت حاجبيَّ وأنا أسأل ببراءة: ماذا تقصد؟
رفَع يده وهي يُسدِّد إبهامه نحوي: كنت شاعرًا في صباي، فإلى أين وصلت بي؟
قلت وأنا أُحاول أن أرسمَ ابتسامة على فمي: أما أنك كنت شاعرًا فهذا حقٌّ. ما زلت أذكر أنك عارضتَ غير مُجدٍ في ملَّتي واعتقادي، ويا نائح الطلح أشباه عوادينا … وما زلت أذكر أيضًا أنك كنتَ تُدوِّن قصائدك الأولى في كتيباتٍ صغيرةٍ تضع عليها اسمك، وتذكر أنها صدرت عن مطبعتك، لكنها انتهَت جميعًا إلى الفرن.
قال مندهشًا: الفرن؟!
قلت ضاحكًا: نعم، جمعتْها أمي مع مسوَّدات قصص أخرى سخيفة، ومسرحيات ساذجة، وألقتها في الفرن. كانت حجتها أنها تُعطلني عن المذاكرة، وأن الفائدة الوحيدة منها هي أن تشعل بها النار وأن تَصير إلى الرماد، وتتحوَّل إلى التراب الذي جئنا منه وإليه نعود.
سأل وهو يفتح عينيه على اتساعهما: هل معنى هذا أنك لم تُواصِل قول الشعر؟
قلت كأنني أحكي قصة خطيئة كبرى: أنا لم أتخلَّ عنه إلا بعد أن تخلَّى عنِّي … لكن الشعر كما تعلم لا يُغادر العظم واللحم الذي سكنه ذات يومٍ. بقيت منه الشاعرية التي كانت وراء ترجماتي ودراساتي التي لا آخر لها للشعر. لقد عجزت مع بلوغي العشرين عن كتابة قصيدةٍ واحدة، بعد أن تُهت وتورطت في المتاهة …
قال وهو يقترب منِّي مستطلعًا: تهتَ؟ ومتاهة؟ ماذا تقصد؟
قلت كأني أتذكر، أو كأني أعترف: نعم، شدَّتني الحكمة من يدي، فتهت منذ شبابي الباكر في صحراء العقل المجرَّد. راح الحكماء من الغرب والشرق يَجذبونني إليهم واحدًا بعد الآخر، فأنساق وراءهم وأدخل بيوتهم وصوامعهم وأعيش مع أفكارهم وتجاربهم، وأكتب وأكتب، أو أترجم عنهم. كنتُ أغوص في الصحراء اللافحة فيَزداد عطشي مع كل خطوة، وكلما لاح سرابٌ من بعيدٍ، جريت نحوه وتصورت أنه واحة أستظل بها وأستريح من وهج القيظ ومرارة الحرمان، فأحاول أن أرجع إلى النبع المنسيِّ.
سأل مندهشًا: النبع المنسي؟
قلت: أجل. النَّبع الأصلي الذي كانت تشغلني عنه المهنة التي تورَّطتُ فيها، ولقمة العيش التي لم يكن منها مفرٌّ، وزحام المعرفة والثقافة الذي كنتُ مُضطرًّا للمشاركة في أسواقه الصاخبة … هل فهمت يا عزيزي الغائب الحاضر؟
هزَّ رأسه آسفًا، وقال: وماذا كنتَ تُريد من ذلك النبع؟
قلت متعجبًا: وماذا يطلب المرء من النبع الطاهر النقيِّ؟ أن ينهلَ منه ويغتسل من رماد العالم، ويجد ذاته الضائعة …
ضحك فجأةً، وقال: ما زلتُ لا أفهم … نبع ورماد وذات … ماذا تُريد أن تقول؟
قلت: كنتُ في تلك اللحظات السرابية القليلة، أجد نفسي في قصة أو مسرحية أو خاطرة أكتبها وأستمتع بها قبل أن أكتشف أن السراب هو السراب، وأن قيظ الصحراء وضياع المتاهة لن يلبثا أن يجرَّاني كالعبد المغلول بالسلاسل والقيود.
قال، وعلى فمه بسمة ساخرة: وصرت قصَّاصًا وكاتبًا مسرحيًّا يتحدَّث عنه.
قاطعتُه، وأنا أُشير بيدي ساخِطًا: النقاد؟ باستثناء اثنين أو ثلاثة يذكر القصَّاصُون فلا يذكر اسمي، ويعدُّ كتاب المسرح فلا يتذكَّرني ناقد ولا مسرح … وإذا ذكرني أحدٌ فأنا عنده مترجم الشعر وشارحه، أو مُعلِّم الحكمة الذي قضى شبابه على أبوابها. وهكذا تراني الآن أيها الصبي الطيب الحبيب، تراني شيخًا هدَّه المرض والغدر والتجاهُل وخيبة الأمل.
اقترب منِّي، وثبت عينيه في عيني: ألست أنت الذي تجاهلت نفسك وانشغلت عن نبعك … لا تلم إذن إلَّا نفسك.
قلت: معك الحق، لا يصحُّ أن ألوم إلا نفسي … ولا يَنبغي عليَّ إلا أن أتدارك ما فاتني … هل تتصوَّر أن البقية الباقية …
لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خُيِّل إليَّ كأن الصبي قد كبر فجأة في السن، وطالت قامته، ووقف أمامي مُتحديًا ومُحذرًا. مدَّ يدَه في جنب صداره، فأخرج ساعةً كبيرة مُستديرة تشبه الساعة العتيقة التي كان أبي يضعها في جيب جلبابِه، ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة. وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيًّا غريرًا، دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوتٍ مُرتفعٍ: الحياة وقت، ولكل وقتٍ قلب؛ أي له مركز ومُنتصَف. من أراد الحقيقة وصمَّم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركز ولم يَنحرف عنه. ألا يُقاس الوقت بالسنين والشهور والأيام واللحظات؟ الحياة سنة ومركزها وقلبها هو أجمل شهورها، لكنك ضيعت على نفسِك هذا الشهر. والحياة يوم له مركزه وقلبه ومُنتصفه، لكنك ضيَّعت اليوم وأنت تحلم مفتوح العينين. والحياة آن أو لحظة لها مركزها وقلبها ومنتصفها، لكنَّك فوَّت على نفسك الفرصة فلم تعشْها ولم تتذوَّقْها، ولم تغترف كما ينبغي من نبعها. لكن انسَ هذا الآن، انسَه وامنع أسنانك أن تعضَّ لحمك. فها هي الحياة ما زالت تقدم لك قلبها ومركزها ونبعها المتدفِّق من أعماقها. قم ولا تُضيِّع هذه اللحظة كما ضيَّعت غيرها.