نيشت فيرشتاندن
أمدِّد ساقَيَّ المتيبستَين على الكنبة البلدي في صالة شقَّتي المُتواضِعة بالزيتون، وأسمع زوجتي هنيَّة تُجهز الماء الدافئ في المطبخ لكي تغسلهما ثم تدهنهما بالمرهم الأحمر الذي يُلطِّف من ألمهما المُستمِر بالليل والنهار. كذلك أنتظر بين لحظةٍ وأخرى أن يفتح الباب ابني عاطف، الذي ذهب إلى الصيدلية؛ ليحضر لي أدوية الظهر والمعدة والرعشة والصداع التي لا أستطيع أن أعيش بغيرها. ولأني الآن — أنا حامد حمودة، نجار المسلح الذي جاوزَت شهرته العاصمة إلى الأرياف — لم أَعُد أقوى على تسلُّق سقَّالة، ولا حمل سيخٍ حديدٍ واحد، ولا تَحريك إصبع لتوجيه عامل أو الإشراف على عُمال بناء. فقد أصبحت في حالي البائسة أحيا مثل المحالين إلى المعاش على ذكريات الصبا والشباب، وأقضي الوقت مع الصور الباقية في ذهني وخيالي من المدن والحدائق والعِمارات والشوارع والميادين والجبال والغابات التي كان من حظِّي أن أراها، أو آكُل فيها لقمة عيش. وفي هذه الأيام التي أشعر فيها — على الرغم من تأكيدات الأطباء والزوجة والأبناء — بأن دبيب النهاية يسري في دمي وأعضائي، وأنني أرى نفسي في المنام وفي اليقَظة ملفوفًا في كفن أبيض وملاءة بيضاء، وراقدًا وحدي في قبرٍ ضيقٍ ومظلم ووحيد. في هذه الأيام تلحُّ عليَّ صورة الإنسان الذي تصوَّرت لجهلي وقلَّة حيلتي أن اسمه «نيشت فيرشتاندن»، ويُؤلمُني أن أتذكر أيضًا أنني لم أره ولم أتعرَّف عليه أبدًا، وأنه يَرقد الآن في الغالب في تابوته الخشبي داخل قبرٍ عليه شاهدٌ رُخامي في إحدى المقابر — أو ساحات السلام كما يُسمونها — في ضواحي هامبورج، تلك المدينة الضخمة ذات الميناء المهول على ضفاف الراين، التي قُدِّر لي أن أعيش فيها عدة سنوات، وأنا آكل فيها — كما سبق أن قلت — لقمة عيشٍ قُسمت لي. كان ذلك في أواخر الخمسينيات حتى أوائل الستينيات، عندما أرسل إليَّ صديقي عبده المسلح — فكذلك كان زملاؤُه يُلقِّبونه؛ لبراعته الشديدة في توضيب سقف المسلح — عندما أرسل إليَّ عقد عمل من شركة المقاولات المتحدة التي كان قد سبقني بالعمل فيها في تلك المدينة التي ذكرتها. لم أُكذب خبرًا، وسافرت على الفور إلى هناك، مدفوعًا بإعجابي بأهلها وناسها من ناحية، والإحساس بضرورة الوقوف إلى جانبهم لتعمير ما خلَّفته الحرب وراءها من دمار وخراب.
وصلتُ إلى المدينة بعد رحلةٍ مُرهقة بالطائرة، في يوم ظننته حالة استثنائية قبل أن يثبت لي أن معظم أيامهم لا تختلف عنه كثيرًا. يومٌ ممطرٌ تسحُّ فيه سماء مكفهرة ومثقلة بالضباب والعتمة من آلاف آلاف القرب المفتوحة التي تصبُّ منها على رءوس البشر المساكين شياطين البروق والرعود والصواعق والسحب والبخار التي لا تهدأ ولا تَستريح في صيف ولا شتاء. رحتُ أتجول — بعد الانتهاء من إجراءات الجمارك والجوازات — في شوارع هذه المدينة التي تطؤها قدماي لأوَّل مرة. شعرت بأنها مدينة عظيمة واسعة تشغي كخلية النحل الهائلة بنشاطٍ تجاري وملاحي لا مثيلَ له، وتعمرها — برغم الأطلال والأنقاض التي تشاهد في كل مكان — مباني ضخمة ومنازل جميلة، تزدان شرفاتها ونوافذُها بالزهور المتنوعة الأشكال والألوان، وتزدهي معظم ميادينها بتماثيل لملوك وفرسان وقُسُس عديدين، أو بنوافير تسكب أنهارًا من الحياة الفائرة التي تجذب إليها الحمام والأطفال والمُتسكِّعين الذين يتَّخذون من درجاتها الرخامية اللامعة كسلالم قصور الجنة، ملجأ لهم يَستريحون فيه. رحت أشبع عيني من المناظر المتتابعة في الشوارع والحارات والحدائق والمقاهي والقصور التي نجت من دمار الحرب، وسلمَتْ من قنابل الطائرات. بينما أتفرَّس في الوجوه الحادة الصارمة إلى حدِّ القسوة، وأتعجَّب من أنني لم أجد بينها وجهًا واحدًا يضحك أو يبتسم، مع أن صفارات البواخر التي تجأر وتُنادي من بعيدٍ، وصيحات الأطفال الخارجين لتوِّهم من المدارس، وضوء الشمس الذي بدأ يُصارِع السحب الجهمة المتكاثفة، ويفرش أشعته الذهبية على الأشجار والبيوت والأسوار والجدران وأسفلت الشوارع. مع أنها جميعًا يمكن أن تبعث الرضا وتبسط قسمات الوجوه إن لم تستطع أن تكسوها بالسعادة والابتسام.
لفَتَ انتباهي وأنا سائرٌ — كثور الله في برسيمه، الذي لا أفهم لغتَه ولا أعرف أحدًا من أهله! — بيت رائع الجمال، فسيح الأرجاء، لم أرَ في حياتي بيتًا يُدانيه في الأبَّهة والفخامة والجلال. أخذت أتأمَّل هذا البيت، بل هذا القصر، بل هذه التحفة المعمارية، وأنا واقف أمامها كالمذهول، تزدحم في نفسه نوازع الإعجاب والحسرة والاندهاش أيضًا من بديع صنع سقفه وواجهتِه وسلالمه المرمرية الناصعة، ونوافذه الطويلة والمُستطيلة التي تُشبه الأبواب في بلدي، وقصاري الزرع المتعدِّدة الألوان التي صفَّت على جوانب الدرج العريض ومدخل البيت ومُعظم أركانه ونتوءاته. قلت لنفسي: لا بدَّ أن هذا القصر يملكه ويسكنه شخصٌ عظيم، ملك أو وزير أو تاجر كبير يحتكم على أساطيل من السفن التي تجلب البضائع من الشرق ومن شتى بقاع العالم وموانيه. وانتظرت حتى مرَّ عليَّ أحد العابرين، فاقتربت منه وسألت بلغتي التي لا أعرف غيرها: قل لي أيها الرجل الطيب، هل تعرف اسم صاحب هذا البيت الرائع، أو هذا القصر المنيف، الذي يَزدهي كالعروس بألوان الزهور والزينات؟ لكن الرجل الذي بدا عليه الانشغال الشديد ربما أغضبه أن يُوقف أحد خطواته السريعة، ردَّ باختصار، وبوجه مُتجِّهمٍ، بهذه الكلمات التي دخلت أذني كوشيش قطارٍ مسرع: «نيشت فيرشتاندن». شكرت الرجل الذي ألقى عليَّ نظرة تفيض بالضيق وعدم الاكتراث، وكأنَّ الذي سأله لم يكن سوى حيوانٍ غريبٍ وغير مألوفٍ. ولما عبر بي عذرته، وتذكرت أنني كلمته بلغتي التي لا يفهم منها حرفًا، كما ردَّ عليَّ بلغته التي لا أعرف منها إلا قدر ما يعرفه هو من لغتي. لكنني شكرته بيني وبين نفسي. وقلت ربما يكون قد أدرك من ذهولي أمام القصر أنني سألته عن اسم صاحبه، ولذلك ظللت أكرر ذلك الاسم الصعب طوال سيري على القدمين متوجهًا ناحية الميناء للقاء بلدياتي، وكأنني تلميذ يحاول أن يحفظ كلمة أجنبية صعبة ومليئة بالشينات، التي بدت لي كلهاث شاحنة ثقيلة أو صفير سفينة توشك على الرحيل.
حفظتُ الكلمة التي لم أعرف معاناها إلا بعد ذلك من صاحبي عبده المسلح، ثم مِن اجتهادي على مدى شهور طويلة في تعلُّم بعض الكلمات والجمل التي تُساعدني على الحياة، والتعامل مع زملائي في العمل وسكان هذا البلد. المهمُّ أنني اعتقدت بحسنِ نيةٍ، وبثقة لا أعرف مصدرها، أن هذه الكلمة الصعبة تدلُّ على اسم صاحب ذلك البيت الذي وقفت أمامه وقفة الشحَّاذ على باب قصر السلطان. وكم قلت لنفسي إنَّ هذا الرجل «نيشت فيرشتاندن» لا بدَّ أن يكون ثريًّا جدًّا، وسعيدًا جدًّا جدًّا.
مضيت في طريقي إلى الميناء وأنا أُفكِّر في الرجل ذي الاسم العسير العجيب، وفي صاحبي الشهم عبده، وفي الناس المتجهِّمين المُسرعين الذي أقابلهم مع كل خطوةٍ أو أمرُّ بهم في الطريق. وأخيرًا، وبعد أن سألت بعض العابرين باللسان واليدين، بالصفير والشخير وتقليد حركات الأشرعة والبحَّارة والملَّاحين، أخيرًا وصلت إلى الميناء الذي بدا لي كذلك مدينة وحده، مفتوحة على البحر الواسع المترامي الأمواج. وقفت في ذهولي على الشاطئ أراقب السفن التي تدخل الميناء أو تخرج منه، فلفتَت انتباهي بجانب العجائب والغرائب الكثيرة، سفينة عظيمة بدا أنها رست على الميناء قبل قليلٍ، وشرع العمَّال والحمَّالون والونشات الكبيرة في تفريغها من شُحناتها وحمولاتها المُلفتة للأنظار: صفوف الصناديق الكبيرة، والأكياس المنتفخة المتراصَّة بجوار بعضها على رصيف الميناء، أوعية وبراميل وكراتين تفوح من بعضها روائح البنِّ والشاي والفلفل والتوابل، فضلًا عن أجولة السكر والأرز التي كان من السهل التعرُّف عليها. توقفت طويلًا أتأمَّل السفينة والبحَّارة والحمالين والصناديق المتنوعة الأشكال والألوان، وأنا أقول لنفسي إنها قادمةٌ بغير شكٍّ من الهند الشرقية أو بالتأكيد من بلد آسيويةٍ غنيةٍ بمحاصيلها ومُنتجاتها وموادِّها الخام. ووخزني حبُّ الاستطلاع المغروس في فطرتي والموروث من أهلي، فاقتربت من رجلٍ طويل ومهيب كان يقف مثلي على الرصيف ويتأمَّل السفينة والشعب المشغول بأمورها بانبِهار لا يَقلُّ عنِّي. كان كل همِّي في تلك اللحظة هو أن أعرف اسم المحظوظ مالك هذه السفينة، بل هذه المدينة العائمة، فسألته بلغتي التي لا أعرف غيرها عن صاحب هذه السفينة الرائعة الزاخرة بأعجب السلع والبضائع. أجاب الرجل بعد أن نظَر إليَّ من علٍ بامتعاضٍ وغضب ظهَرا على حاجبَيه المعقودين، وعينَيه الساخرتين، وشفتيه الممطوطتين: «نيشت فيرشتاندن». ضربتُ بكفِّي على ركبتي، وهتفتُ صائحًا والرجل يَرمقني وهو يَنصرِف كأني مجنون أو مُختلُّ العقل: ومن غير مالك القَصر يمكن أن يملك هذه المدينة العائمة على سطح الموج؟! لا عجب! لا عجب!
انصرفت أنا أيضًا وابتعدت عن الشاطئ وأنا أتفكَّر في تصاريف القدر وقسمة الحظوظ، وأعي عن يقينٍ مدى فقري وبؤس حالي بالقياس إلى أمثال هذا الرجل الذي غمره الثراء والنعيم بغير حسابٍ. وبينما كنت خارجًا من منطقة الميناء في طريقي للبحث عن مبنى شركة المقاولات القريبة التي يعمل فيها صديقي عبده — وأعترف الآن أنني كنت أتحسَّر على نفسي، وأتمنى عليها أن أعيش كما يعيش هذا السيد نيشت، الذي لا أعرف حتى كيف ينطق اسمه ولو ليوم واحدٍ — إذا بي ألمَحُ من بعيدٍ موكب جنازةٍ مهيبة يشقُّ طريقه في سكون وجلال إلى «ساحة السلام» الواقعة غير بعيد من الميناء. كانت تتقدم الموكب العظيم أربعةُ خيولٍ وقورة ومتدثرة بأشرطة قطيفية سوداء، تكسوها من العنق إلى الذيل، وتجرُّ وراءها عربة سوداء كبيرة لنقل الموتى تَنسدِل على نوافذها الزجاجية ستائر سوداء أيضًا. ويمشي خلفها جمع غفير من المشيعين الذين يرتدون معاطف سوداء في بطءٍ وحزنٍ شديدَين، كان من الواضح أنهم من أصدقاء المُتوفَّى ومعارفه وأقاربه، الذين جاءوا لتوديعِه إلى مقرِّه الأخير في بيت الأبَدية. وكانوا يسيرون أزواجًا أزواجًا في صفوف صامتةٍ خرساء، بحيث لا يُسمَع غير أصوات الموسيقى الجنائزية التي تُصاحب الموكب، ورنين أجراس صغيرةٍ تدقُّ من أبراج كنائس قريبة وبعيدة … أخذت أتأمَّل المشهد المؤثر في أسًى شديد، على الميت وعلى نفسي المسكينة التائهة في أرض غريبةٍ وسط أناس لا تَعرف لغتهم ولا يَعرفون لغتها … وعندما حاذتني عربة الموتى وجدت نفسي تُتمتِم بالفاتحة، وأرفع يدي وإبهامي دون أن أشعر وأردد الشهادتين. ولما جاوزتني العربة، قلت لنفسي وأنا أفكِّر في المصير المحتوم: هم بشرٌ مثلنا على كل حالٍ، مهما قست وجوههم ونطقت ألسنتهم بلغة لا تُفهم! ولكنني اندفعت نحو آخر زوج من المُشيِّعين لأسألهما وأنا أعتذر لهما بانحناءةٍ شديدة من رأسي عن اسم المتوفَّى المرموق، الذي تحمله العربة السوداء ذات الخيول الأربعة السوداء. وقلت في أسًى حقيقي، وبلغتي التي أعلم أنهما لن يفهما منها حرفًا: لا بدَّ أن المرحوم كان صديقًا لكما، ولا شك أنه كان رجلًا بارزًا في المدينة، ولهذا تدقُّ له الأجراس ويسيطر الحزن والخشوع على كل من يمشي في جنازته، أليس كذلك أيها السيدان؟ نظر إليَّ السيدان في تعجبٍ، وخرجت من أفواههما في نفس واحد، الكلمة نفسها التي سمعتها قبل ذلك مرتين: «نيشت فيرشتاندن» …
لا أدري كيف فوجئتُ وأنا أسمع الاسم بدمعتَين تسقطان على خدِّي، وبحجر ثقيلٍ يجثم فوق صدري ويوشك أن يخنق أنفاسي. أخذت أقول لنفسي بعد أن تابع السيدان سيرهما خلف الجنازة: مسكين أنت والله يا سيد نيشت الذي لا أعرف حتى كيف أنطق اسمه، ما الذي أخذته من كل ثروتك؟ سبحانك ربي في علاه. لم تأخُذ يا عبد الله الألماني إلا ما يأخذه فقيرٌ مثلي جاء بعقد عمل إلى بلادكم — مجرد كفنٍ وملاءة بيضاء — لا قصر ولا سفينة، لا مال ولا مجد، بل عملك الصالح أو الطالح يا سيد نيشت هو الذي يدخل معك في ليل الظلمة الأبدية، فيؤنسك أو يزيد من كربك ووحشتك … هكذا قلت لنفسي والله، ولم أتردَّد لحظةً عن أداء الواجب. سرت خلف السيدين اللذين بدا عليهما الضيق من سؤالي عن الميت، وربما أخذا يلعناني بكلمات لن أفهمها. مشيت ومشيت وراء المشيعين، ونسيتُ كل شيءٍ عن العمل والصديق الذي ينتظرني في مقر الشركة. وعندما دخلت «ساحة السلام» مع الداخلين، تعجبت من نظامها الجميل وتنسيقها المتقن، وكأني داخل بستان شاسع الأرجاء، أشجاره وزهوره ليست سوى القبور وشواهدها المصفوفة في صفوف بديعة الصنع والتكوين. نعم، تبعت جثمان الرجل الذي أعجبت به إلى حدِّ الحسد، ثم بكيتُ عليه لمَّا فهمت أنه هو نفسه صاحب القصر والسفينة — المدينة — وظللت واقفًا مع المشيعين وهم يُنزلون السيد «نيشت» في قبره، كما استمعت حتى النهاية لكلمات الوداع التي ألقاها قسيس شابٌّ بصوتٍ جهوريٍّ واضح، وإن لم أفهم منها كلمة واحدة. ثم دخلت مع معظم المشيعين بعد انتهاء مراسم الدفن مطعمًا صغيرًا أُقيم — ويا للعجب! — بالقرب من ساحة السلام، وأدهشني أنه كان مُستعدًّا لاستقبال هذا العدد الضخم من الأهل والأصدقاء الذين راحوا — وأنا معهم — يُشبِعون جوعهم ويَروُون عطشهم على روح المرحوم.