نهايات وأخرويات الآلهة وكائناتها (موت الآلهة وعودتها)
(١) موت أوزيريس
تحدثنا في الفصول السابقة عن مأساة موت أوزيريس على يد أخيه «ست» وكيف أنه قام بعد قتله بتوزيع أجزاء جسده في أقاليم مصر، لكن إيزيس زوجة أوزيريس جمعت أجزاء جسده، ثم عاشرت جسده وأنجبت منه حورس. وأصبح أوزيريس في عالم الغيب. وإلهًا للعالم الآخر، عالم الدوات.
«كان أوزيريس يرمز إلى مبدأ أبدية الحياة الدورية، كما جسد النيل، والقمح، ومصر السفلى والدلتا، واعتبر أيضًا» الحياة المتولدة من داخل الأرض «وتعمل على إخصاب السماء، إنه رب النبات والمزروعات (وبالتالي الازدهار أيضًا)، وهو بذلك يتعارض مع ست، إله الجبال والصحاري، ومن خصائص أوزيريس: التاج الأبيض (في البداية كان يصنع من فروع شجرة السنط المسننة)، والصولجان والسوط وإحياءً لذكرى آلامه ومعاناته، كان المصريون يشتركون في مواكبه الكبرى وقد توجوا رءوسهم بتيجانٍ نباتيةٍ مصنوعةٍ من الشوك المجدول على هيئة قبةٍ. ومثلما لقب ديونسيوس، فيما بعد ببلاد الإغريق، سمي أوزيريس أيضًا ﺑ «رب النبيذ» مع ارتباطه الأبدي بالحياة والإغداق والرعاية الشمسية» (تيبو، ٢٠٠٤م، ٥٦).
لم تقدم دراما الصراع بين أوزيريس وست أو بين حورس وست قيمة خلاصية عميقة، ولم ترتقِ للنضج الثنوي الذي أفصحت عنه فيما بعد الزرادشتية وطريقتها الملهمة والذكية في ذلك.
«تقدم لنا ديانة مصر القديمة نموذجًا عن كيفية الانتقال من مفهوم القطبية إلى شكل من أشكال مفهوم الثنوية، وعن الدور الذي تمارسه الأخلاق في هذا الانتقال، عندما تتحوَّل من شأن دنيوي إلى شأن ديني، وما ينجم عن ذلك من ظهور فكرة الشيطان، وهي الفكرة التي تؤصل لمعتقد الأخروية والنهايات. ولكن المعتقد الأوزيري لم يصل بهذه الأفكار الدينية جميعها إلى نهاياتها المنطقية؛ لأن القطبية لم تتحول إلى ثنوية جذرية، ولا حتى إلى ثنوية أخلاقية تامة. فرغم علو شأن الأخلاق في العبادة الأوزيرية، فإنها لم تطغ تمامًا على الطقوس وبقيت التمائم والتلاوات السحرية وكلمات القوة وما عليها جزءًا لا يتتجزأ من الممارسات الدينية الأوزيرية مثلما كانت سابقًا. ورغم كون أوزيريس إلهًا أخلاقيًّا إلا أنه لم يتحول إلى مبدأ كوني للخير، مثلما لم يتحول ست إلى مبدأ كوني للبشر. فرغم اتخاذ ست للكثير من ملامح الشيطان الكوني، إلا أنه لم يتقمص فعلًا شخصية الشيطان، لأن أهم سمة تميز الشيطان هي انقلابه على القوة الإلهية وتحوله إلى ملعون ورجيم من قبل إله الخير ورهطه السماوي، وهذا لم يحصل لست الذي بقي عضوًا محترمًا في البانثيون الإلهي، وبقي الناس يعبدونه ويشيدون له المعابد والهياكل حتى نهايات التأريخ المصري. وبلغ من إجلال بعض الفراعنة له أن تسموا باسمه مثل سيتي الأول من أواخر القرن الثالث عشر ق.م.» (السواح، ٢٠١٧م، ٣٣).
(٢) يونس يذبح ويطبخ الآلهة: Unas
الملك يونس (من الأسرة الخامسة)، تُرك عنه نص غريب مدوَّن على جدران الهرم، يصفه بصفات غير عادية على الأرض، فقد جاء إلى الدنيا من دون ولادته من أم، أي إنه خُلق ذاتيًّا، وتجاوزت قدرته قدرة أبيه الذي وهبه الحياة فهو ابن الإله «تم»، ويوصف بأنه الثور لبأسه وخصوبته، وهو محاربٌ قديرٌ على الأرض وكل من هزمهم كانوا أسفل قدميه، وهو إله الحكمة، وكان يطالب بعودته للسماوات كإله سكن أرض أجداده، ولكي يأكل من نتاج ميراثه فقد قرر أن يعرج إلى السماوات تتبعه بدائله الروحية (الكاهات)، وأمامه ثعبانه، وتحميه روح الشعلة وقدرته.
حين وصل للسماء أرهب المخلوقات السماوية وأرعبها، فقد انحلت الأمطار والنجوم واهتزت عظام إله الأرض «أكر»، وهربت كلُّ المخلوقات أمامه، فقام يونس بالجلوس وظهره في اتجاه الإله العظيم سيب (إله الأرض)، ثم قام بجمع الآلهة كلها بنصب الفخاخ لها، وقام إله القمر خونسو بقطع رقابها وإخراج أمعائها، وقام الشيطان شيسمة بجزرها وطهوها، وقام يونس بأكل الآلهة، ويستبعد تلك التي شاخت ويستعملها كوقود لوعاء الطبخ، وفي الصباح يأكل الآلهة الكبيرة، وفي العشاء يأكل الآلهة الفتية، وفي الليل الصغيرة، وبذلك انتقلت له طاقة الآلهة وأكل معلومات كلِّ إله (كما يقول النص)، أكبر من قدرات «سع–حو» التي في السماوات، وله «سيخم» أو جسد روحي عظيم والقدرة، وصار بوسعه العودة للسماء دائمًا. أي إنه حصل على الجهاز الروحي كاملًا وحصل على الخلود كاملًا، وإنه حصل على اﻟ «كا» مزدوجة، وأصبح له قدرة «سيخم»، وأن «كرسي قلبه» سيبقى بين هؤلاء الذين يعيشون فوق الأرض للأبد للأبد.
«الأرواح وأرواح الآلهة أصبحت في يونس ومعه، وأن ظلالها وأشكالها المقدسة أصبحت معه، وبذلك نرى أن يونس قد استوعب في جسده الروحي كلَّ حياة وقدرة الآلهة وأن جزءًا منه أصبح له دوام أبدي، وأنه يستطيع أن يفعل أي شيء وكل شيء يسعده. إلى هنا ومن الطبيعي أن نتوقع نهاية هذا الفصل، ولكن ما جاء في الجملة الأخيرة عن أنه قد أصبح إلهًا له «كا» مزدوجة مستتر وغير معروف، وأنه قد أصبح له قدرة «سيخم» استطاع بها تنفيذ تعليمات الحرث وأن «كرسي قلبه» سيبقى بين هؤلاء الذين يعيشون فوق الأرض للأبد للأبد … يجعلنا نرى مدى صعوبة فهم وشرح الديانة المصرية وقوانين الآلهة، فمن الجزء الأول من الجملة المأخوذة عن النص والتي تم ترجمتها وتحليلها من قبل … عرفنا أن الملك المتوفى قد أصبح إله الآلهة … خالدًا وغير مرئي ومزودًا بقدرات فائقة في السماء … إلخ، ولكن في نهايته نحن نقرأ أن «كرسي قلبه» سيبقى بين هؤلاء الذين يعيشون على الأرض للأبد … للأبد … بمعنى أن يونس سينعم بعد الوفاة باستمرارية الحياة التي بدأها في هذا العالم، أي إنه سيكون له تواجدان أحدهما سماوي والآخر أرضي» (بدج، ١٩٩٨م، ٦٧-٦٨).
«وهكذا بكلمات القدرة وأرواح الآلهة التي بداخله أصبح يونس مأوى قدرة الله وكبير الآلهة، وأصبح في استطاعته أن يتحرك في السماء بحبور كسيخم أو قوة عظيمة يمكن رؤيته في السماء ممثلًا بكوكبة نجوم على هيئة «صياد» عملاق تسمى أوريون، وأصبح بذلك لديه القدرة على تكرار صعوده اليومي في السماء مثل هذه الكوكبة … وبالطبع لا يستبعد أن يكون تعريف كوكبة أوريون بالملوك الذين أكلوا الآلهة قد جاء من تراث الشعب السامي الذي عاش في الدلتا في عصر الأسرات، والذي أصبح أساس الأسطورة المتداولة عن أوريون بين العرب والعبرانيين بعد ذلك» (بدج، ١٩٩٨م، ٦٥).