معتقدات الأبدية
(١) الخلود
تظهر لنا، في التراث الروحي المصري، ثلاث عقائد جنائزية أو إسكاتولوجية منفصلة تعالج حياة ما بعد الموت المصرية، وهي «النجمية والشمسية والأوزيرية». العقيدة النجمية أقدم هذه العقائد، وهي خاصة بالملوك، وقد ظهرت في العصر العتيق وبداية العصر القديم، حيث يتحول الملك الميت إلى نجم من النجوم القطبية التي كانت تعتبر رمزًا للديمومة لأنها لا تغيب أبدًا. وربما كان تفسير وجود العدد الكبير من نجوم السماء بأنهم ملوك أو أفراد متميزون خضعوا للاهوت النجمي بعد الموت ورحلوا إلى السماء. أما العقيدة الشمسية التي ظهرت مع الأسرة الخامسة وخصت الملك أولًا، حيث ينتقل المتوفى إلى «التطهير الصحراوي» عند حافة الصحراء، ثم «التطهير الشمسي» داخل الجرة، ثم الالتحاق بالمركب السماوي للشمس، حيث يرافق المتوفى الإله «رع» في دورته السماوية. أما العقيدة الأوزيرية فهي الأقرب إلى عامة الناس رغم أنها أصبحت تطبق على الملوك فيما بعد، ومكان العالم الآخر فيها هو العالم الأسفل وليس السماء. وتسبق حياة ما بعد الموت النهائية مرحلة للحساب تتم فيها محاكمة الميت، يكون فيها أوزيريس قاضي قضاة محكمة الموتى، والميت هو أوزيريس الميت قبل بدء المحاكمة. وتبدأ المحاكمة بوزن قلب الميت، حيث يوضع في الكفة اليسرى من ميزان العدالة وريشة ماعت في الكفة اليمنى، ويقوم أنوبيس الذي له رأس ابن آوى بعملية الوزن ويسجل تحوت النتيجة.
وضع المصريون رمزًا للخلود هو صليب عنخ، أما الأبدية فقد احتوى رمزها هذا الصليب مع علامة الأبدية التي تعززها صورة إلهين.

(١-١) خلود الآلهة وخلود فرعون
ورغم تعدد الآلهة المصرية وتدرجها من آلهة كونية كبرى إلى آلهة أقاليم وآلهة شخصية وغيرها، إلا أن كلمة «نيتر» أو «الألوهية» «هى الاسم الذي كان يصف أي واحد من تلك الآلهة مهما كان اسمه، كما استُعملت لتصف كلَّ سمة ربانية. ومن الطبيعي أن تُستعمل هذه الكلمة لتصف كلَّ إله على حدة دون تكرار اسمه، وسرعان ما أدى هذا الاستخدام إلى فكرة وجود قوة إلهية مستقلة اشترك فيها كلُّ إله، ولكنها رفعت قدرة هذه الأشكال المتعددة؛ لأنه أمكن استعمالها لكل واحد منهم بغض النظر عن حدودهم» (بوزنر، ١٩٩٣م، ٣٢).
«لكن المدهش في الأمر أن الآلهة عند المصريين ليست خالدة بالضرورة، فرغم أن صفة الخلود تبدو طاغية على الآلهة، لكن «الإله المصري القديم كان يولد ويعاني ويموت مثل الإنسان، وهو هالك وغير متكامل وله عواطف وفضائل وغرائز وبدائل» (بدج، ١٩٩٤م، ٩٩).
وبذلك نستطيع القول بأن عوالم الآلهة والكون والإنسان عوالم مفتوحة على بعضها، وهي جميعًا معرضة للخلود والفناء، وفي هذه النقطة يكمن الاختلاف الجوهري بين الفكر المصري القديم والفكر العراقي القديم حول مسألة خلود الآلهة والإنسان. ولعل أسطورة أوزيريس الشهيرة خير مثال على موت الإله وذهابه إلى العالم الأسفل ليحكم مملكة الأموات هناك، فهي توضح كيفية قتل هذا الإله من قبل أخيه «ست» وذهابه إلى عالم الموت. لكن الحاجز بين عالم الأحياء وعالم الأموات رقيق جدًّا عند المصريين القدماء.
والحقيقة أن موت الإله لا يعني موت الألوهية «نتر»؛ لأن اختفاء إله معين يعوض عنه بإله آخر، ولا ضير في ذلك، لأن توازن الحياة والموت يبقى قائمًا في هذه الحالة. وهذا ما يفسر أيضًا ظهور الآلهة بمظهر آلهة أخرى مثل «حورس» بمظهر «أوزيريس»، أو «رع» أو «آمون»، وغيرها.
ويؤشر هذا أن الألوهية، وليس الإله، هي التي لا تفنى، ولذلك كان هناك ميل واضح إلى تجسيد الألوهية، أحيانًا، في إله واحد؛ إذ «لا سبيل لإنكار أن مصر قد عرفت في مختلف عصورها عقائد تدعو لعبادة آلهة متعددة نشأت عن الديانات المختلفة التي احتفظت، في حالة التوحيد، بالاختلافات الأصلية التي كانت في عبادات ما قبل التاريخ مع وجود اعتقاد عام لا يتناقض إطلاقًا مع عمومية ووحدة كائن إلهي، لا اسم ولا شكل له، ولكنه يضم كلَّ شيء» (بدج، ١٩٩٤م، ٣٣).
أما الفرعون فلم يكن إنسانًا بالمعنى المعروف، ولم يكن ملكًا نائبًا عن الإله، بل هو إله بمعنى الكلمة، لكن هذا الإله صاحب مهمة أرضية تفرض عليه أن يتجسد على شكل إنسان ليحكم الناس بالعدل، ثم بعد أن تنتهي مهمته يعود إلى مجمع الآلهة ويعيش معهم.
لقد كان الفرعون ابن الإله «رع» من جهة، وهو الإله الملك حور أو حورس الذي هو إله الشمس الذي يهب الحياة والطاقة والنور من جهة أخرى وكان الفرعون إلهًا في الحياة، أي ابن «رع»، وإلهًا في الموت، حيث يتحول إلى أوزيريس عندما يموت ويبقى في جنة العالم الآخر بصفة الإله الحاكم للموتى «أوزيريس».
ويرى والس بدج أن الملك كان منحدرًا من إله حكم الأرض، فهو إله بالرغم من أن له جسمًا من لحم ودم. وكانت أعمال ومشيئة وأفكار الفرعون هي أعمال ومشيئة وأفكار الإله. وكان يحضر مراسيم تقديم القرابين له كإله، بل وإن بعض الفراعنة مثل أمنحتب الثالث بنوا لنفسهم ولزوجاتهم معابد كانوا يتعبدون أنفسهم فيها.
والفرعون يموت مثل بقية الآلهة ولكنه لا يفنى، بل يدخل إلى عالم القبر مؤقتًا، والذي يكون على شكل مصطبة عظيمة أو هرم عظيم، ولا يمر الملك بمرحلة الحساب بل يلتحق مباشرة بواسطة مركبه الشمسي مع إله الشمس «رع» الذي يدور كلَّ يوم في مثولوجيا إسكاتولوجية في السماء العليا أثناء ساعات النهار، وفي السماء السفلى أثناء ساعات الليل وهكذا.
«وأحيانًا تغالي نصوص التوابيت في أهمية الملك المتوفى ولا تساويه بالآلهة أو تفضله عليها فحسب، بل تجعله كصائد يتصيد النجوم ويلتهم الآلهة الممجدين، فيعيش على آبائه ويتغذى بأمهاته فيطبخهم في قدور ويأكل في الصباح كبارهم وفي المساء أواسطهم وفي العشاء صغارهم، أما الشيوخ والعجائز من الآلهة فيكونون وقود هذه القدور، وهكذا يبتلع الملك الميت أرواحهم ويأكل قلوبهم وتيجانهم وسحرهم وقوتهم وعقولهم، وبذلك يشبع جسمه بالآلهة فيصير أعظم منهم جميعًا مثل الملك يونس (يؤانس)» (بوزنر، ١٩٩٣م، ٣٢٧).
يظهر لنا الفرعون من خلال المدونات المصرية كإله نشط في الأرض وفي السماء، وقد لا يعادله أي إله. وفي نهاية الأسرة الخامسة ضغطت عقائد أوزيريس على عقائد «رع»، وأصبح الملك المتوفى أوزيريس نفسه وصار صورة ﻟ «شمس الليل».
تسمى عقائد ما بعد الموت إجمالًا في التراث المصري ﺑ «العقائد الجنائزية» التي تشكل العمود الفقري لفكرة خلود الإنسان بعد الموت وبقائه حيًّا بروحه وجسده في عالم الآخرة (الدوات).
نزحت أقدم عقائد ما بعد الموت المصرية من عصور ما قبل التاريخ عندما كان يدفن الميت في قبره في رمال الصحراء أو في صخور الجبل في المناطق التي تحيط بالوادي الأخضر للنيل وهو المخصص للأحياء، وكانت هذه المناطق تسمى ﺑ «ما تحت الإله».
«وفي مناطق «ما تحت الإله» اعتقد المصريون أن الميت سيزاول حياته داخل قبره بنفس الطريقة التي كان عليها قبل الموت، ولذلك كانت تعد له في القبر مئونة كبيرة في قدور ضخمة لكي يشعر الميت بعدم تبدل حياته، ثم أضيف نقش جدران القبور بأنواع النشاط اليومي الأخرى» (بوزنر، ١٩٩٣م، ٢٣٨).
ومع ظهور الدولة القديمة (في العصور التاريخية) «استعيض عن قدور المئونة بصور أنواع الأطعمة ونقوشها على الجدران»، وزيادة على ذلك فإن السحر الكائن في النقوش والصور كان يجدد أطعمته متى أراد ويبعث الحياة في مناظر الحصاد وجمع العنب وحلقات صيد الحيوان والأسماك المصورة على جدران المقبرة، وعلى ذلك كانت فكرة الحياة في القبر لا تزال باقية ولم تندثر بل على العكس نُظِّم كل شيء بحيث يتمتع الميت إبان الحياة الثانية بمقدار وفير مما يحتاج إليه» (بوزنر، ١٩٩٣م، ٢٤٨).
وكانوا يرون في هذه الفترة أن روح الميت تغادر الجسد أولًا ثم تعود إليه بواسطة طقس «فتح الفم» الذي كان يجري على تمثال الميت ويستدعي ذلك سحريًّا التأثير على جثة الميت لكي تعود الروح إلى الجسد الميت ويعود إلى حياته بعد الموت.
وقد ظهرت ضرورة تحنيط الميت نتيجة هذه العقيدة التي تقوم بتلازم جسده مع روحه في حياة ما بعد الموت. وكان لا بد من حفظ جسد الميت لكي تعود إليه الروح التي فارقته مؤقتًا لحظة الموت، وهكذا فإن المصريين القدماء «لم يعتبروا الموت هو النهاية وإنما هو رحلة خطرة تتناثر خلالها شتى العناصر المكونة للشخص الحي، بينما يحتفظ كلٌّ منها بتكامله الفردي. فإذا أمكن إعادة اتحادها ووضعها في الجسم ثانية أمكنه أن يحيا حياة جديدة مشابهة جدًّا للحياة التي قضاها على الأرض. ومع ذلك فلتحقيق هذه النتيجة يجب حفظ الجسم الذي هو أضعف كل هذه العناصر وأكثرها عطبًا، فإذا ترك الجسم ليتعفن ضاع كلُّ أمل في اتحاد القوى الحيوية وهيكلها الجسدي في العالم الآخر فيحكم على الروح بأن تظل تبحث عبثًا إلى الأبد عن جسم لم يعد له وجود» (توكاريف، ١٩٩٨م، ٣٢٦).
وتظهر لنا في التراث الروحي المصري ثلاث عقائد جنائزية أو إسكاتولوجية منفصلة تعالج حياة ما بعد الموت المصرية، وهي «النجمية والشمسية والأوزيرية».
العقيدة النجمية أقدم هذه العقائد، وهي خاصة بالملوك، وقد ظهرت في العصر العتيق وبداية العصر القديم، حيث يتحول الملك الميت إلى نجم من النجوم القطبية التي كانت تعتبر رمزًا للديمومة لأنها لا تغيب أبدًا. وربما كان تفسير وجود العدد الكبير من نجوم السماء بأنهم ملوك أو أفراد متميزون خضعوا للاهوت النجمي بعد الموت ورحلوا إلى السماء.

أما العقيدة الشمسية التي ظهرت مع الأسرة الخامسة وخصت الملك أولًا، حيث ينتقل المتوفى إلى «التطهير الصحراوي» عند حافة الصحراء، ثم «التطهير الشمسي» داخل الجرة، ثم الالتحاق بالمركب السماوي للشمس، حيث يرافق المتوفى الإله «رع» في دورته السماوية. أما العقيدة الأوزيرية فهي الأقرب إلى عامة الناس رغم أنها أصبحت تطبق على الملوك فيما بعد ومكان العالم الآخر فيها هو العالم الأسفل وليس السماء. وتسبق حياة ما بعد الموت النهائية مرحلة للحساب تتم فيها محاكمة الميت يكون فيها أوزيريس قاضي قضاة محكمة الموتى والميت هو أوزيريس الميت قبل بدء المحاكمة. وتبدأ المحاكمة بوزن قلب الميت، حيث يوضع في الكفة اليسرى من ميزان العدالة وريشة ماعت في الكفة اليمنى، ويقوم أنوبيس الذي له رأس ابن آوى بعملية الوزن ويسجل تحوت النتيجة.


وقد وردت في كتاب الأموات تصورات المصريين مفصلة «عن الأرواح السجينة بعد الموت ومحاكمتها وما يهددها من أهوال وعن طرق اجتنابها إياها (وهي تصورات ضبابية ومتناقضة). وتضم هذه المجموعة الواسعة «أكثر من ١٨٠ فصلًا» من صنع الجنائز السحرية، وتعود أكثر صيغها قدمًا إلى نصوص الأهرامات (العائلتان المالكتان الخامسة والسادسة)، حيث جرت كتابتها وقتذاك على جدران قبور الفراعنة، وفي المرحلة الانتقالية كُتبت هذه النصوص على نواميس أصحاب المقامات الرفيعة، ثم أصبحت نصوص الجنائز المتزايدة هذه تكتب فيما بعد على ورق البردي وتلصق على صدر مومياء المتوفى. هكذا جرى وضع كتاب الأموات المرموق مع كل محتوياته البالغة التناقض» (إيمار، ١٩٨١م، ١٠٤).
ثم تُعلَن براءة الميت من الكبائر وجرائم العنف المهددة للمجتمع (كالقتل والسرقة والسطو والزنى)، ثم البراءة من الأعمال التي تمس الضمير (كالكذب والغش والخداع والوشاية)، ثم البراءة من الأعمال التي تمس الدين والأسرة … وبعدها تعاد للميت أعضاؤه كالفم والذاكرة والقلب … إلخ.
المرحلة التالية هي ظهور طريقين للميت، فإذا كان بريئًا يذهب إلى طريق الجنة التي هي «حقول القرابين» و«حقول البوص»، وإذا كان مذنبًا يذهب إلى طريق النار.
«وتُصوَّر حقول الجنة الرجل الميت وهو يقوم بعمله ويحرث الأرض ويبذر الحب ويجمع المحصول ويجدف قاربه في مستنقعات العالم السفلي»، ويكتنف الغموض نفسه كيفية تصرفات الأموات بوقتهم، فهم تارة يستسلمون للراحة بفضل خدمة الكفلاء، ويحرثون تارة أخرى الأرض التي يهبها إياهم أوزيريس أو يقيمون في قبورهم أو يعودون هنئين وغير منظورين ليتلهوا بمشهد الأحياء على الأرض» (بوزنر، ١٩٩٣م، ٢٣٩).
وفي مرحلة لاحقة اختلطت هذه العقائد الثلاثة مع بعضها وأصبحت كلُّ واحدة تعكس الأخرى وتنهل منها، «حتى يستحيل إعطاء صورة منطقية للحياة المصرية بعد الموت دون الالتجاء إلى تحليل تاريخي لمختلف العناصر، فإن المتوفى يكون في وقت واحد وفي الوقت نفسه في السماء وفي سفينة الإله وتحت الأرض يفلح الحقول الفردوسية وفي قبره يتمتع بطعامه ومن آن إلى آخر يعود إلى الأرض ليرى ثانية الأماكن التي كان يحبها في الزمن العابر أو ليحدث بعض الأضرار بالأحياء، وهي أمور يصعب على متوفى واحد أداؤها معًا» (بوزنر، ١٩٩٣م، ٢٣٩).
كذلك اختلطت حياة ما بعد الموت عند الملوك وعند عامة الناس وصارت السيناريوهات الإسكاتولوجية متبادلة عند الاثنين، وازدادت مراحل ما بعد الموت تعقيدًا، «وأخيرًا رأى المصريون دمج مختلف مظاهر الحياة وراء القبر هذه معًا فخصصوا وقت النهار للبقاء في القبر في هدوء مع رحلات الأرض بين الفينة والفينة، وفي الليل يصاحب الميت الشمس في رحلة تحت الأرض إلى العالم الآخر فيرسي سفينته ويقف في الطريق في حقول أوزيريس. وعندما تعيد أشعة الفجر الشمس عالمنا تطير الروح الجائلة مسرعة إلى قبرها لتجد فيه الظل والبرودة» (بوزنر، ١٩٩٣م، ٢٣٩).
هكذا إذن لم يبحث الملوك أو الناس عن الخلود أثناء الحياة، لأنه كان في الدين المصري مضمونًا بعد الموت. فلا جدوى من البحث عن الخلود وهو قادم لا محالة. ولذلك يمكننا التعرف على مفهومين متناقضين للخلود في التراث الرافديني والتراث المصري؛ أولهما يبحث عن الخلود في الحياة إما كاملًا أو جزئيًّا، والآخر ينتظر خلودًا وهميًّا بعد الموت. الفرق كبير بينهما ولكننا على العموم نجد أن «الآلهة والكائنات الإنسانية قد حُكم عليهم أن يعيشوا على الأرض، فإنهم أيضًا قد حُكم عليهم أن تكون لهم مخاوفهم وأفراحهم، وأن يتزوجوا زوجاتهم وأن ينجبوا أطفالهم، وأخيرًا قد حكم عليهم أن يموتوا وأن تحسب عدد سنين حياتهم على الأرض وتسجل» (عويس، ١٩٩٦م، ٦٦).
(٢) العود الأبدي
لعل الدين المصري هو أكثر الأديان القديمة إفصاحًا للعود الأبدي، فمن مصر أتتنا أشكال الأوروبوروس التي صارت رمزًا أساسيًّا من رموز العود الأبدي وغيرها من المفاهيم التي في هذا المجال.
(٢-١) أوروبوروس
«هو الثعبان الذي يلتهم ذيله، وهكذا يكون دائرة يتراءى بداخلها (بالمشاهد المصرية القديمة) طفل يمص إصبعه الإبهام. فها نحن هنا أمام أحد تجسدات رع نفرتوم؛ أي كائن ما (العالم) في بداية تكوينه، سواء الطبيعي أو المعنوي. وبوجه عام، يرتكز هذا التصوير لدورات الحياة الأبدية على شكل أسدين يستدير أحدهما نحو الشرق والآخر نحو الغرب. الأول يستمد من الماضي جوهره ونبعه الأساسي، أما الثاني فيعد من أجل المستقبل؛ الأول يشير إلى مكان تواري الظلمات اللازمة لجميع التغييرات (الغرب) والآخر يبين موقع الولادات المقبلة (الشرق). ولقد «استعادت» التقاليد الإغريقية بعد ذلك اﻟ «الأوروبوروس» في إطار رموزها. وعامة، هو رمز وعلامة للحياة؛ إنه يجمع كلًّا من المبدأ الخصيب المتعلق بأوزيريس، ومبدأ الموت ثم التجدد الذي يعمل ست على إنعاشه وتأججه؛ وربما قد يبدو اﻟ «الأوروبوروس» مدمرًا ومهلكًا، ولكنه، على أية حال، مُنقي ومطهر للمادة. وهكذا، فمن خلال هذا الثعبان المعبر عن الأبدية والخلود، يتصالح الأخوان (أوزيريس وست) من أجل أن يحققا مسيرة وسياق الحياة اللانهائية» (تيبو، ٢٠٠٤م، ٥٤).



(٢-٢) أكر
كان إلهًا للأرض في عصر ما قبل الأسرات، وجاء ذكره في نصوص الأهرامات على أنه أحد آلهة عالم الأموات ثم حامٍ للأموت، وهو أحد مساعدي الإله رع في معركته مع شياطين الليل «هو أحد تجسدات الأرض (جب هو تجسده الرئيسي)؛ ويتمثل في شكل أسدين وقد أدار كلٌّ منهما ظهره للآخر؛ ويحملان معًا المجال الأرضي. وهو كذلك تعبير عن الفجر والغسق، وعن الشرق والغرب الذي يحيط بقرص الشمس الأبدي ويحميه. وهو من أكثر الرموز الهيروغليفية تعبيرًا عن استمرارية دورات الحياة في الكون، وفي «العالم الآخر» (أسد الغرب)؛ عن التجربة الدنيوية (الشمس)، وأيضًا عن مولد الوعي (أسد الشرق). وقد اعتبر «أكر» أحد الرموز الممثلة لانتقال الروح إلى عالم الضياء والنور. إنه يحدد موقع تحولات الروح الذي لا يمكن مغادرته إلا من خلال الحصول على صفات العدل والصدق، أو بالتحديد، عندما يتحول المتوفى إلى أوزيريس أو حورس، أو بالأحرى إلى كائن «مبرأ»، أو كيان يشع ضياءً. وأحيانًا، تصور المركب الشمسية وقد استقرت فوق الرمز «أكر» (تيبو، ٢٠٠٤م، ١١).

(٢-٣) دائرة أوزيريس
وضع المصريون القدامى ألغازهم الفكرية والروحية في نصوص أساطيرهم، وسندها مدفون في ثنايا هذه النصوص دون إفصاح صريح عنها، ولذلك يكون التحليل المثولوجي للنصوص مكملًا لتلك اللَّذة الروحية والجمالية التي ما زالت النصوص تنبض بها.
تشكل فكرة أوروبوروس جسد أوزيريس فكرة متممة لمظاهر الدائرة الكونية التي تربط بين مظهري أوزيريس الأرضي (الخصب) والشمسي (الضوء)، فقد قام ست بقتل أوزيريس وثني جسده على شكل دائرة تحيل إلى الدائرة الشمسية الكبرى التي يقوم ست أيضًا بصنع مراكبها وجعلها تدور في عالمي الظلام والنهار.
تقول الأسطورة المتعلقة بأساس العقيدة المصرية القديمة: «إن ست حالما اغتال أخاه أوزيريس، عمد إلى ثني جسده بحيث يوضع الرأس بين الفخذين، وأيضًا لكي تتحطم «أربعة» أماكن بالعمود الفقري. «أيا أوزيرسي! لقد ثُنيت في هيئة دائرة! … إنك هائل الضخامة، أوزيريس، ها هي الدائرة الكبرى وقد توارت بداخل اسمك!» ونلاحظ الإيماء هنا إلى الشمس الغاربة، وإلى عالم الظلمات الذي ينسحب بداخله «كوكب النهار». ومنذ ذلك الحين، دأبت الشمسُ، مثلها كمثل أوزيريس على السفر بشكل مستتر، وقد حملتها المركب التي صنعها ست. ولا ريب، أنه من خلال الطقوس المتعلقة ﺑ «ثني» جثمان أوزيريس، في عدة أجزاء، يتحتم علينا البحث عن المصدر الأسطوري لأجزائه المفقودة التي عكفت إيزيس على البحث عنها بمختلف المناطق الدينية على ضفاف النيل. ونلاحظ أن وصف الثنيات يفصح عن مختلف المناطق المحددة لموضع نقاط الطاقة لدى الإنسان: الرقبة، وأربع نقاط أخرى وأسفل العمود الفقري. ولا يتبقى سوى المنطقة السابعة المسماة بالتاج والواقعة بواسطة قمة الرأس. ومن هذه النقطة يدخل «الضوء» ويكون العقل والروح بمنأى عن ممارسات ست الإجرامية» (تيبو، ٢٠٠٤م، ١٤٥–١٤٦).
وهكذا تكون الأسطورة قد حددت مندالًا جسَّد أوزيريس ومناطق الطاقة السبعة التي ينفذ منها الضوء لروحه التي تبقى حية. هذه الشفرات المدفونة في النص الأسطوري هي ما تحدثنا عنه.
(٣) مركزية المكان
(٣-١) مركزية المعبد
كانت المعابد المصرية بيوت الآلهة أو بيوت الملوك الإلهيين التي خُصصت لهم. وكان جوهر طقوس المعابد يقوم على أساس إبعاد القوى الكاؤوسية والظلامية التي تحيط به، فالمعبد هو منطقة الضوء والخلق والآلهة، وما يحيط به يمثل منطقة العماء والظلام الذي تسكنه القوى الشريرة. وكانت تلك الطقوس من أجل الحفاظ على النظام الإلهي للكون والذي تمثله «ماعت».

(٣-٢) مركزية الهرم
«ورغم أن أساس الأهرام كان قائمًا على كونه قبرًا إلهيًّا فرعونيًّا، أي الهرم قبر لفرعون باعتباره إلهًا، ولذلك أخذ هذا الشكل المرتبط بشكل الشعاع الشمسي الهابط من قرص الشمس إلى الأرض وهو يتشكل بمثلثات متصلة الرأس أو على أساس أنه يشبه التل الأول الذي ظهر من الكون في بحر النون الهيولية المصرية. ومهما كان الأمر فإن هناك من وجد أن للهرم علاقة بالفلك، وقد درس عالما الفلك ريتشارد بروكتور ويبانزي سميث الأهرام، ووجدا أن الهرم بُني على مرحلتين؛ الأولى منهما عام ٥٦٠٠ ق.م. كمرصد للشمس قام ببنائه علماء كهنة عين شمس عند بداية الأسرة الأولى، وقام بتكملته ملوك الأسرة الرابعة عام ٤٧٦٦ق.م.» (كريم، ١٩٧٥م، ١١).
ونرى أن أرقام السنوات هذه مبالغ فيها، فهي لا تتفق مع التحديدات لبناء الأهرام، والتي لا تتعدى الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد. لقد ظهر أن الوجوه الأربعة للأهرامات تقع باتجاه الجهات الأربع الرئيسية، وهذا يعني أن المصريين كانوا يعرفون بدقة اتجاهات الأرض وخاصة الشمال. وهناك من يرى أن ذلك لم يتم عن طريق بوصلة أو جهاز آخر، بل عن طريق ملاحظة اتجاه النجم القطبي الذي يقع دائمًا باتجاه الشمال. وربما تكون معرفتهم الدائمة بأن الظل الأقصر المثبت على الأرض (الساعة الشمسية) يكون دائمًا باتجاه الشمال، عاملًا أساسيًّا في ذلك. لكنهم في الليل كانوا يعتمدون على رصد النجم القطبي لتحديد موقع الشمال. ولم تكن جميع المباني الجنائزية أو الدينية المصرية متجهة بدقة نحو الجهات الأربع أو النجم القطبي، بل بعضها كان باتجاه نهر النيل الذي يجري من الجنوب إلى الشمال أيضًا في معظم اتجاهاته، أي بغض النظر عن تعرجاته. كان مانيتون المصري يرى أن بناة الأهرام قوم غرباء أتوا من الشرق، وأن الهرم أُنشئ ليكون مصدرًا للتنجيم الذي كان يُعتبَر جزءًا من العقيدة الدينية ومكملًا لبيت المعرفة المقدسة وأسرار الوجود «وكان بركتور قد كشف في بحوثه أن الإله تحوت أمر ببناء الهرم بمعرفة سماوية في موقع اختاره على الهضبة الغربية لتحفظ به أسرار الكون السماوي ويتلقي به كهنة الشمس رسالة الإلهة. ورأى أن قاعدة الرصد في الهرم هي الممر الصاعد أو البهو العظيم الذي يتجه نحو شروق نجم الشعرى اليمانية. ورأى أن تاريخ بناء الهرم الأكبر هو ٥٢٠٠–٥٦٠٠ق.م. الذي يتفق مع التاريخ الذي حدده مانيتون لبداية التقويم التحوتي الذي حدده مرصد كهنة الشمس، وبدأ في عصر الملك ثاني ملوك الأسرة الأولى ابن الملك مينا، والذي يذكر بعض المؤرخين أطلق على نفسه اسم تحوت تيمنًا باسم الإله تحوت الذي وهب سر المعرفة المقدسة» (كريم، ١٩٧٥م، ١١).

كل هذه الصفات المذهلة تجعل الهرم مركزيًّا في تأثيره بالنسبة للأرض ومصر وللفصول والزمن، وهو ما يجعله نموذجًا فريدًا للعود الأبدي المكاني.
(٤) مركزية الزمان
(٤-١) بدء الزمان
لا شك أن الزمن البدئي هو الزمن الحقيقي في التصورات الفكرية والروحية المصرية، ويسمى هذا الزمن، عادة، ﺑ «العصر الذهبي»، وهو عصر بداية الخلق من نون وأتوم ورع، ثم خلق العالم وولادة أوزيريس، حيث عمَّت الخضرة والازدهار العالم وملأته بالخير والخصب.
أما «العصر الفضي» فهو العصر الذي قتل فيه أوزيريس على يد أخيه «ست» وولادة حور الذي انتقم لأبيه، وهو ما تجسده أسطورة إيزيس وأوزيريس التي سنذكرها بشيء من التلخيص.
العصر النحاسي؛ هو العصر الذي تناغمت فيه العناصر الكونية التسعة، والذي تجسده أسطورة مدينة هليبوليس، ثم تكوين المملكتين: مصر العليا ومصر السفلى.
العصر الحديدي؛ وهو العصر الذي اتحدت فيه المملكتان واختلطت فيه عناصر العبادتين الخصبية والشمسية، لتشكلا عبادة واحدة هي الديانة المصرية.
كل هذه العصور حصلت، رمزيًّا، فيما قبل التاريخ، وشكَّلت ما نسميه بمثولوجيا أدوار مصر. لكن العصر الذهبي يبقى هو عصر العود الأبدي، والذي يشكل مركزية الزمان المصري مثولوجيًّا.
(٤-٢) نهاية الزمان
لم يحدد المصريون نهاية محددة للعالم لأنهم اعتقدوا أن وجود العالم الآخر يمثل نهاية الزمان والمكان، فالحاجز بين الحياة والموت حاجز رقيق، ولذلك وضعوا خرائطهم عن عالم ما بعد الموت باعتباره استمرارًا طبيعيًّا لعالم ما قبل الموت، ولهذا نرى أن الزمن الأخير هو زمن مثولوجي أيضًا سيتخلله الحساب والعقاب والثواب عن طريق النار أو الجنة الأوزيرية، وهو العالم الذي سنشرحه بالتفصيل في الفصول القادمة.