المبحث الرابع

أساطير الخليقة (الثيوغونيا والكوزموغونيا)

(١) خليقة مدينة أونو

(١-١) مدينة أونو

يسمى إقليم الأشمونين «أونو» أو (ونو – ونوت – ونه) بمعنى إقليم الأرنب وهو الإقليم الخامس عشر «خمنو»، وهي في اللغه المصرية تعني «خمنو» أو «خمون» بمعنى مدينة الثمانية، وهو أصل تسميتها في القبطية «شمنو» أو «شمون» كما سميت كذلك في اللغه المصرية القديمة «بر جحوتي»، أي مقر عبادة المعبود «جحوتي» معبودها الرئيسي وأيضًا اسمها الديني، بينما كان اسمها المدني هو «ونوت».

(١-٢) العالم الهيولي الأول (نون، نوو) الذي نشأ منه الوجود

نوو أو نون هو المياه الهيولية الأولى (مياه الشواش، الكاؤوس) ويتمثلها المصريون على شكل أول الآلهة العتيقة وأصل كلِّ الآلهة، ويكاد «نون» أن يكون هو الأب الأقدم في المدارس اللاهوتية السبع التي ذكرناها، يسمى نوون، والتي تعني «الداخلي» فهو تأليه لهاوية مائية سحيقة، وهو عمق سحيق يحيط بفقاعة، حيث الحياة موجودة بداخلها وكان ذلك يمثل سر نشأة الكون والأرض. نون هي أصل كتلة الأرض وهي مصدر كلِّ شيء موجود في هذا العالم المتنوع ماديًّا وروحيًّا.

كان نون الماء، في البدء، يغطي الأرض كلها، ثم ظهر أول تل رملي في وسطها لتنشأ عليه الحياة وبنيت أول عاصمة في مصر على هذا التل في عين شمس باعتبارها مكانًا مقدسًا حسب ما تراه مدرسة (أو).

يصور نون الذكر كضفدع أو رجل ذي رأس ضفدع، ويصورونه كرجل ملتحٍ ذي بشرة مائلة إلى زرقة وحمرة والذي يمثل الماء. أما نوونيت الأنثى فتصور على هيئة أفعى أو امرأة ذات رأس أفعى.

أصبح نون يعتبر في وقت الدولة المصرية الوسطى أنه أبو الآلهة وكان يصور على جدران المعابد، ومن النون ستخرج الآلهة الأولى في المدارس اللاهوتية السبع، فعند الأشمونين سيكون هناك الأوجداد الذي يتضمن ٨ آلهة هم ثامون خنمو، وفي أون سيظهر التل الأول للخليقة الذي سيظهر منه أتوم وتاسوعه الإلهي. ومن طيبة سيظهر الأفعوان الخفيُّ الخالق لنفسه والذي سيكون آمون ومقابله الأنثوي آمونيت، وفي منف سيظهر على شكل كلمة تخلق نفسها بنفسها وتنتج بتاح، وفي آبو سيظهر خنوم المائي، وفي إسنا ستظهر منه الإلهة الأم الكبيرة «نيث» التي تحمل الذكورة والأنوثة معًا وتكون على شكل أفعى ذيلها في فمها وهي ما اصطلحنا عليه ﺑ «أوروبوروس».

ويعتقد المصريون أن نون أنتج ما يعرف ﺑ «التل الأزلي» الذي كان يسمى «بن بن»، والذي هو أول تل يظهر على صفحة الماء، حيث كانت المياه تغطي الأرض بالكامل. وترى مدرسة «أون» اللاهوتية أن الإله أتوم أول من ظهر على هذا التل، ثم خلق الإنسان وشكَّله من الطين. ومعنى اسم «أتوم» «تم» أي الكامل. ويرون أن تل «بن بن» ظهر في هليوبوليس ولهذا أنشئُوا في هذا الموقع أول عاصمة في مصر.

يعرف البلشون بأنه طائر اﻟ «بنو» في مصر السفلى، وله علاقة بالشمس، فهو يظهر فوق مياه الدلتا منذ بزوغ الفجر. وربما أن هذا الطائر البنو، هو نفسه البلشون أو مالك الحزين. ومعنى اسمه «المضيء» أو «الشروق» (إيماءً إلى الشمس). واعتبره المصريون «البا» الخاصة بالإله رع؛ وأحد تجليات أوزيريس وقد بعث من جديد. بعد إبحاره عنوة وغصبًا في مياه اليم: (وترجع كلمة Phenix أي العنقاء إلى الإغريق التي أطلقوها على اﻟ «بنو»). ويمثل هذا الطائر مبدأ البعث الجديد، وأيضًا الانتعاش والحيوية: وهكذا، اعتقد الإغريق، أنه يولد ثانيًا، بعد احتراقه من رماده. وغالبًا ما يشاهد اﻟ «بنو» Phenix جاثمًا فوق مركب رع، ومسافرًا مع أحد المتوفين عبر نهر «الدوات». وبين سطور صفحات «كتاب الخروج إلى ضوء النهار»، يصرح الكاتب الحكيم «آني» عن كيفية الدخول والخروج بكل حرية من عالم «الغرب»: لقد دخلته وأنا في هيئة نسر، وخرجت منه في شكل بلشون. «فإن البلشون يرمز إلى شروق الشمس وغروبها، والتحولات الدورية المنتظمة، والتجول من الشرق إلى الغرب ومن الغرب نحو الشرق؛ أي التكرار الأبدي لدورات الحياة» (تيبو، ٢٠٠٤م، ٧٦).

(١-٣) الثامون الإلهي: أوجدود Ogdoad

Ogdoad of Hermopolis (Khmunu)

تمتاز أساطير التكوين المصرية بأنها تضع الكون والآلهة والإنسان في مستوى واحد من الخلق ولا فرق بينهم. ولذلك سنتحدث عن خلق الكون والآلهة والإنسان في الوقت نفسه.

التكوين الأول في الأساطير المصرية هو ظهور الثامون الإلهي الذي يدل على الهيولى، ويسمى (أوجدود) المشتق من كلمة ثمانية الإغريقية، وذلك قبل خلق الكون والإله الشمسي الذي خلق الكون. وقد أتت هذه الأسطورة من خنمو (الأشمونين بالقبطية، هرموبوليس باليونانية). وتنص على أنه، في الأصل، كانت ثمانية آلهة أولية موجودة فوق تل ظهر في «خنمو» من المحيط الأزلى، وهي أربعة أزواج إلهية يتكون كلُّ زوج منها من ذكر وأنثى، الذكور فيها على هيئة الضفادع التي ترمز إلى المحيط المائي والإناث على هيئة الأفاعي التي ترمز إلى الحياة المتجددة. وهذه الآلهة كما يلي (الذكر أولًا ثم الأنثى) وما تمثله من خلال تحليل معنى أسمائها:
  • (١)

    نون (نو) ونوت: يمثلان المياه الهيولية الأزلية.

  • (٢)

    حيحو وحيحوت: يمثلان سرمدية الزمان والمكان.

  • (٣)

    كيكوي وكيكوت: يمثلان الظلام.

  • (٤)

    كيرح وكيرحت: يمثلان الليل.

(في زمن لاحق أزيح الزوج الأخير وأضيف مكانه زوج آمون وآمونيت).

figure
ثامون خنمو الطالع من البيضة الكونية وهو على شكل أربعة أزواج ذكرية وأنثوية متقابلة.

البيضة الكونية

أضيفت فكرة البيضة الكونية لاحقًا، ووضعت مناظرة للربوة البدئية، «فوق الربوة الأولية تراءت بيضة تحمل بداخلها أول نور أشع على العالم: فهكذا كان أول ظهور للشمس. وقد سميت إيزيس، ابنة جب (الأرض) ﺑ «بيضة الأوزة». ومع ذلك، فقد ذكرت بعض النصوص الموغلة في القدم أن جب هو الذي خرج من بيضة بدائية كانت تستتر في أحراش الدلتا. وبشكل رمزي، كانت البيضة تمثل الحياة (إلهية أو طبيعية) في استهلالها واكتمالها. ولذلك، فقد أكد البعض أن البيضة الأصلية قد شُكِّلت فوق مخرطة الإله الفخراني بتاح. إنها — بدون شك — نبتة الحياة الطبيعية والروحانية (البيضة الأولية). لذا، فقد اعتبرت أيضًا أحد رموز البعث الجديد في نطاق العالم الآخر. ولذلك، أطلق اسم «البيضة» على التابوت الثاني الذي ترقد بداخله مومياء المتوفين» (تيبو، ٢٠٠٤م، ٧٩).

figure
ثامون هرموبوليس.

وقد عُثر في بعض النصوص على أن الزوج الرابع كان «آمون وآمونيت»، وهو تدخُّل لاحق أريد به تكريس وجود الإله آمون قبل خلق العالم.

وكان يسيطر على مشهد الضفادع والحيات الإلهية السكون، فكانوا يتعانقون على تل خنمو وينعمون بالهدوء الأبدي.

في تأمل دقيق لأسماء هذه المجموعات الثماني سنجد أنها تمثل الاتجاهات الأربعة المزدوجة ذكريًّا وأنثويًّا كما في الشكل، أي إنها تمثل الاتجاهات الثمانية، والتي هي ذاتها المرسومة في وادي الرافدين في رسم دنجر المعروف سومريًّا. وحين نجمع بداية حروفها الأربعة سيتكون لنا كلمة عنخ Ankh التي تعني الحياة أو صليب الحياة كرمز مصري معروف، ويمثل «عنخ» المفتاح الأول لأسرار «إنشاء كل شيء». يعني عنخ أكثر من الحياة — إنه أقدم رمز لرمز الأصوات والآلهة البدائية، إن Ankh هو في الواقع أسماء ما يسمى ﺑ «آلهة» الفوضى في Khemnu أو Ogdoad: Amen/Amenet وNun/Nunet وKu/Kukhet وHeh/Hehet — وهذا يحيل إلى ANKH. لدى «عنخ» نفسها أربعة جوانب متميزة وواحدة منها هي «نوب نون»/«نونيت». ويعتقد أن هذه الأزواج الأربعة هم أطفال تيهوتي وماعت. كلٌّ من Tehuti (الاهتزاز)، ماعت (ترتيب) والأزواج الأربعة لهم قوتهم الخاصة. آمين/أمينيت هي الشرارة الخفية للحياة وعكسها، نون/نونيت، هي الكتلة غير المتجانسة البدائية وعكسها، كو/كوخيت هي صفات النور وعكسها، هيه/هيت هي صفات اللانهاية وعكسها. في مرحلة ما، يدمج الثماني معًا، يحدها ماعت وتهوتي، ويتشكل الإله بتاح من هذه الفوضى، والذي يخطو على التلة، ويتشكل آتون ويهبط على كتفه، ثم يُنشأ التاسوع الإلهي أو الإنياد. يسمى هذا «الزمن الأول».
figure
ثامون الأشمونين (الضفادع والأفاعى).

(١-٤) الإله شبشي (إله الشمس)

أعطانا الثامون الهيلولي فكرة عن الخليقة العتيقة الساكنة التي كانت تكتنفها عناصر الماء والظلام في زمان ومكان سرمديين.

وجاء ظهور الإله الخالق بعد أن تحرك العالم الساكن. والتراث اللاهوتي والمثولوجي المصري يحفل بعدة مدارس أو مقترحات لكيفية ظهور الإله الخالق. وقد قمنا بإحصاء هذه المقترحات أو المدارس فوجدنا سبعًا تتفق إلى حد ما على ظهور الإله الخالق من الهيولى المائية الأولى، ولكنها تختلف في تحديد طبيعته واسمه.

فبينما تستمر مدرسة الأشمونين في أسطورتها وتظهر الإله الشمسي (شبشي) كإله خالق ظهر من الثامون الإلهي.

figure
الإله شبشي إله الشمس.

كانت مادة الكون قبل خلقه مكونة من المياه الأزلية الموحلة بما علق عليها من طمي، وقد استمدت صورة الأفاعي والضفادع من الصورة البرمائية حين تغرق الأرض بالفيضان، ثم يسيطر عليها سكون الماء والطمي ورءوس الحيوانات الساكنة التي تبرز منه.

وذات يوم تحركت هذه الآلهة ونتج عن هذه الحركة عدة أمور حسب روايات مختلفة للأسطورة فمنها من يرى أنها شكلت بيضة، ومنها من يرى أنها شكلت زهرة اللوتس، ومن الاثنين خرج الطفل الشمس. وهناك رواية ثالثة ترى أن الثمانية سكبوا نطفتهم على زهرة اللوتس فولدت الزهرة الطفل الشمس. أما الرواية الرابعة فترى أن الثمانية تحولوا إلى ثيران وأبقار سوداء، ثم اتحدت الثيران في ثور أسود وسمي الثور آمون والبقرة آمونيت وانقض الثور على البقرة وأراق نطفته على الماء الذي أزهر زهرة اللوتس (على شكل جعران برأس كبش) وبعد النطفة صار على شكل طفل يضع أصابعه على فمه ويحمل تاجًا عليه صل، وهو يمثل أيضًا الطفل الشمس.

وبذلك تنتهي مرحلة التكوين الثانية بظهور الطفل الشمس الذي هو إله الشمس الذي اسمه (شبشي الذي في خنمو) الابن الرائع للثامون. «زهرة اللوتس … هذا الإله الذي في قلب حوض الماء الخاص به الذي انبعث من جسدكم (أيها الثمانية)، زهرة اللوتس الضخمة المنبثقة من البركة الكبرى التي كانت فاتحة النور، عند المرة الأولى … إنكم تبصرون نورها وتستنشقون عبيرها وأنفكم ملآن بها. إنه ابنكم الذي يظهر على هيئة طفل ليثير البلاد بعينيه … لقد جئت إليكم بزهرة اللوتس الواردة من المستنقعات فهي عين «رع» شخصيًّا ذاك الذي يحقق في ذاته حصيلة الأقدمين، الذي خلق الآلهة السابقة وصنع كلَّ ما يوجد في هذا البلد، وإذ يفتح عينيه، فكل شيء ولد منه، هذا الطفل الذي يتألق في زهرة اللوتس، والذي تحيي أشعته كل الكائنات» (لالويت، ١٩٩٦م، ج ١، ٣٦).

(٢) خليقة مدينة أون (مدينة الشمس: هليوبوليس)

(٢-١) مدينة أون (عين شمس)

«مدينة الشمس» … وأطلق عليها الإغريق «هليوبوليس»، المركز الرئيسي لعبادة الشمس، وهي المحرك الأول لأقدم تقويم شمسي. وفيها معبد الإله «أتوم» الإله الأزلي الخالق، ويعني اسمه الكامل، وكان يصور على شكل رجل له لحية ويرتدي فوق رأسه التاج المزدوج، وكانت تُعبَد معه زوجته وتسمى أيوس عاس، ويعني اسمها العظيمة آتية، وكانت تُصوَّر على شكل سيدة يعلو رأسها جعران وكانت تلقب بسيدة أون.

(٢-٢) الإله أتوم في مدينة أون

أتوم بالإنجليزية Atum هو أعظم الآلهة المحلية التي كانت تعبد في الدلتا، وتم توحيده مع الإله رع وسمي أتوم رع ملك الكون.
أتوم (أو توم) «الكلمة مشتقة على ما يبدو من جذر معناه «لا يكون» أو «يكون كاملًا». كان في البداية إلهًا محليًّا لهليوبوليس، حيث كان حيوانه المقدس الثور ميروير Merwer أو (مينيوس Meneuis باليونانية) منذ الأزمنة المبكرة قرنه كهنته بالإله رع، إله الشمس العظيم، ورأوا أن المحيط البدئي نون كان يحمل في داخله روحًا من دون شكل انطوت على مجمل الوجود، هي أتوم الذي أظهر نفسه يومًا تحت اسم أتوم–رع، ثم أنتج من داخله الآلهة وكل من في أنفه نسمة حياة. اعتبر المصريون أتوم بمثابة السلف الأعظم للجنس البشري، ومثلوه في هيئة بشرية دائمًا واضعًا على رأسه تاج الفراعنة المزدوج (تاج مصر العليا وتاج مصر السفلى). لم يكن متزوجًا، ومع ذلك جرى الاعتقاد بأنه غدا أبًا لأول زوجين إلهيين دون معونة من زوجة. وفيما بعد جرى تزويجه من امرأتين، لأن لاهوت ممفيس قد زوجه أحيانًا من «أيوساس» وأحيانًا من «نبحيت حوتب»، التي ولدت توأمين هما «شو» الهواء، و«تيفنوت» الرطوبة» (فياود، ٢٠١٧م، ٤١).

كان «أتوم» ملك الأرباب، والمظهر الأول لرب الشمس في «هليوبوليس» (عين شمس). ويعتبر «أتوم» من أقدم المعبودات المصرية، حيث كان يُنظر إليه على أنه الإله الأزلي الأكبر والأقدم، وذلك وفقًا لنظرية «عين شمس» في خلق الكون.

وقد كان «أتوم» يمثَّل في الهيئة الآدمية جالسًا فوق عرشه، ويضع على رأسه التاج المزدوج. وأحيانًا ما كان يصور في هيئة الثعبان استنادًا إلى طبيعته الأزلية كرب خالق، أو قد يصوَّر في هيئة أسد، أو ثور، أو في هيئة «السحلية».

ولارتباطه بالشمس ورب الشمس، فإنه قد يصور أيضًا في صورة جعران. ولعل ذلك الجعران الضخم الممثل على البحيرة المقدسة بالكرنك كان قد كُرس له. وفي ضوء كونه الرب الأزلي والتل الأزلي، فقد يمثَّل أحيانًا في صورة التل الأزلي. كما أن «أتوم» ويده (التي قام بها بعملية الاستمناء، أو تفل فيها) قد صورا كزوج مقدس مع عصر الانتقال الأول.

figure
«أتوم» في الهيئة الآدمية، مصورًا داخل قرص الشمس.

«أتوم» جالسًا فوق ثعبان، الساعة السابعة من كتاب «الإيمي دوات».

«أتوم» بكامل هيئته.

هكذا تبدأ أسطورة أتوم:

«أنا «نوو»، أنا الواحد الأحد، ليس كمثلي شيء … لقد جلبت جسدي إلى الوجود بفضل قدرتي السحرية، لقد خلقت نفسي بنفسي وشكَّلت نفسي حسبما كنت أتمنى، حسب رغبتي» (لالويت، ١٩٨٦م، ج١، ٣٠).

وهكذا تشكل الخالق الإله الشمسي وسيطر حتى على الهيولى السابقة عليه، ولكن أتوم صار رمزًا للشمس العجوز الغاربة وكان لا بد من وجود ثلاثة أشكال؛ هي: خبيرا، ورع، وأتوم، أشكال إلهية للشمس المشرقة والدائمة والغاربة. وهو ثالوث أون (هليوبوليس) الشمسي. وكان لأتوم زوجتان هما: إيوسحاست ونبهيت حوتب، أما رع فله ولدان أو مظهران هما: هو (تاست) وسا (توج).

كانت مدرسة أون تؤكد على أن الإله الخالق هو «أتوم» الذي يتخذ ثلاثة أشكال تكون ثالوثًا وهي:
  • (١)

    خبيرا: إله الشمس المشرقة ويُرمَز له بالجعران.

  • (٢)

    رع: إله الشمس من الصباح إلى المساء ويُرمَز له بالقلق (بنو).

  • (٣)

    أتوم: إله الشمس الغرابة يُرمَز له بالثعبان أو زهرة اللوتس.

figure
خليقة مدينة أون (مدينة الشمس: هليوبوليس).

كان لاهوت عين شمس يرى أن الوجود كان فيه عماء مطلق مائي هو «نون» ظهر منه الروح الإلهي الأزلي الأول، وهو «أتوم» الذي وقف على تل ثم صعد فوق حجر «بن بن»، في منطقة أون (هليوبوليس)، على شكل مسلة هي رمز الشمس، ثم قام هذا الإله الواحد بامتزاجه بظله أو باستمنائه أنتج كائنين للفضاء والنور هما «شو» والآخر هو للرطوبة والندى هو «تفنوت»، وتزاوج هذان وأنتجا السماء (نوت) والأرض (جب)، ثم فصل شو بينهما، وظهر من تزاوج الأرض والسماء أربعة آلهة؛ هم: «أوزيريس، إيزيس، ست، نفتيس»، وسمي هذا النظام ﺑ «التاسوع الإلهي» لظهور تسعة آلهة (تاسوع عين شمس).

figure

(٢-٣) سلالة أتوم (إله مدينة أون) (تاسوع هليوبوليس)

figure
figure
تاسوع عين شمس.

(٢-٤) أساطير آلهة التاسوع الشمسي Ennead

figure

(أ) أتوم

في البدء كان نون، شواش بلا نهاية وظلام وفوضى لزمن طويل، ذات يوم ظهر من نون الإله أتوم، ولم يجد في المياه ما يقف عليه فخلق التلة الأولى (بن بن) ووقف عليها.

ظل طويلًا على التلة وأراد أن يخلق عالمًا جديدًا غير الشواش الذي خرج منه، فعطس وخرج من فمه الهواء فصنع إله الهواء (شو)، وخرج من فمه رذاذ الماء فصنع إلهة الرطوبة تفنوت.

تنفس أتوم فيهما اﻟ «كا» فتحركا وسبحا في المياه، ضاعت عين أتوم فطلب منهما البحث عنها فوجداها ففرح أتوم وبكى وسقطت دموعه على المياه فتحولت إلى بشر.

  • رع: إله الشمس، صاحب المركب السماوي الذي يرحل به في الأعلى قوس السماء العلوي، كلَّ يوم، من المشرق إلى المغرب في رحلته النهارية، ومن المغرب إلى المشرق في رحلته الليلية. مركز عبادته في مقره الأساسي في مدينة «هليبوليس» منذ حوالي الأسرة الرابعة باعتباره الإله القومي لمصر كلها، وهو رئيس التاسوع منذ الأسرة الرابعة أصبح الإله الرسمي للبلاد. اندمج مع أتوم وشكَّل «أتوم–رع» على رأس التاسوع، ضُم «رع» إلى الإله «حورس» ليصير اسمه «رع–حور أختي» بمعنى «رع، هو حورس الأُفقين»، وهو الإله الحاكم في كل أنحاء العالمين: «السماء والأرض» و«العالم السفلي». وقد اتصلت صورة «رع المتحد بحورس» الجديدة بالصقر أو الباز الذي يرمز لحورس. واندمج مع آمون منذ الدولة الحديثة تحت اسم «آمون–رع».

    ومن ضمن تحولاته أن طائفة عبادة الثور مينفس كانت تجسيدًا لرع، وتمركزت عبادته في مدينة «أون»، أو «هليوبوليس» حيث مقبرة رسمية لثيران الأضحية شمال المدينة.

    أساطيره كثيرة في شبابه وشيخوخته فهو من خلق كل أشكال الحياة، عن طريق استدعائها بأسمائها السرية. لكن الإنسان خلقه من دموعه وعرقه، وبالتالي أطلق المصريون على أنفسهم «أنعام رع». في أسطورة البقرة السماوية يتآمر البشر ضد رع، وكيف أنه أرسل عينه متمثلة في الإلهة سخمت لمعاقبتهم. فعندما تصبح متعطشة للدماء كانت تهدأ بشرب البيرة الممزوجة بصبغة حمراء.

  • رع (أوفرا): «من المحتمل أن الكلمة تعني «الخالق»، كما أنها اسم لقرص الشمس السيد حاكم السماء. كان له معبد رئيسي في ميلويوبوليس، حيث كان كهنة المدينة يؤكدون أنه في هذا المكان تجلى رع في جسم حجري على شكل مسلة تدعى ابن بن. وقد جرى الاحتفاظ بها بكل ورع في المعبد الذي يطلق عليه اسم هيت ابن بن، أي قصر المسلة. في السابق، طبقًا لتعاليم لاهوت هليوبوليس، كان إله الشمس يقيم في حضن المحيط البدئي نون تحت اسم أتوم. ولكي يحمي ضياءه من الانطفاء حرص على إبقاء عينيه مغلقتين. كان يحيط نفسه بحوض من أزهار اللوتس، إلى أن جاء يوم أحس فيه بالتعب من حالته غير المجسمة هذه، فنهض بإرادته وقوته الخاصة من الهوة، وتجلَّى تحت اسم رع. ثم أنجب بعد ذلك شو وتيفنوت. عندما أنتج رع من نفسه أول زوجين من الآلهة لم يكن معه امرأة. ولم يحدث إلا بعد مضي وقت طويل أن أعطيت له زوجة اسمها رات، وهو الصيغة المؤنثة للاسم رع. أما البشر فقد خُلقوا من دموع رع. ونحن هنا ربما أمام تلاعب لفظي؛ لأن كلمة واحدة في اللغة المصرية تدل على الدموع على الناس. في الوقت نفسه خلق رع كونًا بدئيًّا مختلفًا عن العالم الراهن، وحكمه من «قصر الأمير» في هليوبوليس، حيث أقام بصورة رئيسية. وتصف لنا نصوص الأهرام حياته الملكية، وكيف بعد حمامه الصباحي وتناوله الفطور كان يركب قاربه ويتفقد برفقة كاتبه المدعو وينج أقاليم مملكته الاثني عشر، ويقضي ساعة في كل منهما» (فياود، ٢٠١٧م، ٤٢).
  • أتوم–رع: إله مزدوج ناتج عن اندماج الإلهين الكبيرين «أتوم = التام» و«رع = الرائي»، وذلك بسبب تنافسهما على رئاسة التاسوع، فكان لا بد من اندماجهما في إله واحد يمثل الشمس.

(ب) شو

إله الهواء وأشعة الشمس، يصور على هيئة رجل، له ريشة فوق رأسه، بعد أن تزوج من أخته «نوت» أنجب الأرض والسماء وفصل بينهما، فوضع أقدامه على ابنه الأرض (جب) ورفع ذراعيه ساندًا بهما ابنته «نوت» إلهة السماء.

figure
شو وهو يحمل السماء التي يعلوها مركب رع.

(ﺟ) تفنوت

إلهة الرطوبة تماثلت مع عين الشمس بعد الأسرة الخامسة، ثم مع جميع آلهة اللبؤات (حتحور، سخمت، مخت)، وفي الفترة المتأخرة تماثلت مع «موت، باستت، روت»، وفي نشأة الكون الهليوبوليسية تماثلت مع ماعت، وعُدَّت أحيانًا (بتماثلها مع سخمت) زوجة بتاح، وكان له معبد وكهنة في مدينة لينوتبوليس، وهي مركز عبادتها. وهي تشكِّل النظام الكوني مع ماعت.

(د) نوت

إلهة السماء وإلهة الموتى لأنهم يرحلون لها، وتُرسم عادة مرصعة بالنجوم. لها علاقة بالبعث والحياة الآخرة للميتين، وأورثت ذلك لأبنائها الأربعة الذين أصبحت لهم علاقة مع الموت والموتى، وتمثلت في نصوص الأهرام بأنها البقرة الشافية، وحامية الأموات، وكانت تذكر وترسم في داخل تابوت الميت. واختلط دورها، في أواخر عصر الفراعنة، كثيرًا بدور حتحور كسيدة شجرة الجميز المقدسة، التي تقدم للميت الأكل والشراب، كما كانت حتحور تمثل أيضًا كإلهة للسماء.

ورد في بردية سيتي: صاحب الجلالة رع أنجبته تلك الإلهة عند الأفق الشرقي. ولهذا يظهر على الأرض، يشرق ويولد من جديد. فيفتح رع فخذي أمه «نوت» (كل صباح) ويبتعد عنها ويظهر في السماء. وبذلك يظهر رع على الأرض كما ولد أول مرة. فهو يفتح «كيس الجنين» ويسبح في أشعته الحمراء. وينظف نفسه بين ذراعي أوزيريس أبيه. وبذلك يعيش أوزيريس أيضًا بعدما جاءه رع. وبذلك يظهر شفق الصباح. وهو فعَّال بين ذراعي أبيه أوزيريس في الشرق. ويكبر قدره عندما يرتفع في السماء.

figure

(ﻫ) جب

إله الأرض (إلى جانب سوكار وأكر) وإله الخصوبة، يتم تصويره على هيئة رجل، وأحيانًا بعضوه المنتصب. ويعتبر راعيًا لحق الملوكية، فالملك أو فرعون كان بمثابة «خليفة جب» واعتقد المصري القديم أن فرعون ما هو إلا تأكيد ﻟ «عرش جب». كان يعبد في هليوبوليس باعتباره أبًا للآلهة وعلى الأخص أوزيريس.

كذلك عُبِد جب في منف وفي كوم أمبو، كما ذكر على جدران في معبد آمون في مدينة «هيبيس»، وكان اسمه مصدر اسم مصر القديم (كيمي أو كيميت)، أي الأرض السوداء الخصبة، وهو مصدر الكيمياء والخيمياء لعلاقته بالمعادن التي في الأرض.

(و) إيزيس

إلهة الحب والجمال في طورها الأول كحبيبة وزوجة للإله أوزيريس، وإلهة الأمومة بعد أن أنجبت ولدها حورس وأرضعته، فهي تمثل الأمومة والحنان ومحبتها لزوجها أوزيريس وبكاءها المستمر عليه وبحثها عنه، وتعتبر إلهة السماء، وهي إلهة السحر، وقواها السحرية مكنتها من إحياء أوزيريس ومن حماية وشفاء حورس، استخدمت قواها في التحول لقتال وتدمير ست وأتباعه، صارت رمزًا للأمومة والحماية، انتشرت عبادتها في أوروبا منذ العصر اليوناني الروماني.

(ز) أوزيريس

إله الخضرة والخصب والإله الذي يجمع الحياة والموت معًا، ففي طوره الأول كان إله الخصب والرخاء والحياة، وفي طوره الثاني أصبح إله الموت والعالم الآخر، فهو الإله الذي قاسى من الشرور على يد أخيه «ست» الذي كان يريد التخلص منه ليتزوَّج «إيزيس»، لكنها كانت تحب أوزيريس، وبفضلها استطاع أن يعود للحياة، وأصبح موته وبعثه بمثابة فداء للبشرية للعيش بحياة أبدية.

figure
تصوير على ورق البردي من الأسرة التاسعة عشرة. الإله الأول في الصف هو أوزيريس رع. A depiction on a papyrus from the nineteenth dynasty. The first god in the row is Osiris-Re. (after Spiegel, in Westendorf, Gottinger, p. 163, fig).
figure
مومياء رأس حمل من قبر نفرتاري توضِّح أوزيريس رع في هيئة خنوم وهو بين إيزيس ونفتيس. The Ram-headed mummy from the tomb of Nefertari (after Spiegel, in Westendorf, Gottinger, p. lïO.69. 3).
figure
وزن قلب المتوفى أمام الإله أوزيريس.

(ﺣ) نفتيس

إلهة البيت بالمصرية القديمة «نبت–حوط»، ومعناها «سيدة البيت»، هي إلهة للولادة وللموتى، وهي إلهة الجنوب، ونظيرة وأخت إيزيس، زوجة الإله «ست»، اشتركت مع أختها الإلهة «إيزيس» في طقوس وقاية وبعث الإله المتوفى «أوزيريس» قلَّما عُبدت وحدها، تلبست شخصية إيزيس واقتربت من أوزيريس وأنجبت منه، وتقترن أحيانًا ببعض الإلهات الأُخريات مثل «ماعت، عنقت»، وعُبدت «نفتيس» في الحقبة المتأخرة في مدينة «ميد» بمصر العليا.

figure
الإلهتان الحاميتان إيزيس ونفتيس.

(ط) ست

إله الصحراء والموت والقحط والعاصفة والشر، له شكل يجمع بين عدة حيوانات، جسمه جسم كلب صيد وذنبه طويل متصلِّب مشقوق الطرف وعيناه لوزيتان وأُذناه طويلتان مستقيمتان، فهو يجمع صفات الكلب والذئب والثعلب، عُبد في مدينة «أفاريس»، يعاكس في صفاته ووظائفه «أوزيريس»، وهو الذي قام بقتله وتمزيق جسده، لكن حورس ابن أوزيريس ثأر له بعد أن قام رع بنفي ست إلى الصحراء، وله وظائف في العالم الآخر، حيث يقوم بمطاردة الثعبان أبوفيس الذي يعترض سفينة رع في رحلتها الليلية.

«لا يوجد اتفاق بين الباحثين حول المعنى الدقيق للاسم ست، ولكن البعض يرى اعتمادًا على المقارنة مع اللغة القبطية أن الكلمة تتضمن معنى الأسفل، مثلما تتضمن كلمة حورس معنى الأعالي، فحورس هو ساكن الأعالي وست هو ساكن الأسافل. كما تساعدنا الإشارة التي تسبق كلمة ست في الكتابة الهيروغليفية، على تبين خصائص وصلاحيات للإله. فالإشارة هنا هي نفس الإشارة التي تكتب بها كلمة الصخرة، وفي هذا دلالة غير مباشرة على ارتباط ست بالأراضي الصخرية الجرداء وبالصحارى القاحلة والبوار والجفاف» (السواح، ٢٠١٧م، ١٥).

figure
ست يطارد أبوفيس (بردية هر–أوبن ب) السلالة ٢١.

(٣) خليقة تل العمارنة (خليقة آتون)

(٣-١) مدينة أخيتاتون

تل العمارنة («أخيتاتون» أي: «أفق آتون»)، كانت العاصمة التي بناها الملك أخناتون، وتقع في محافظة المنيا على بعد خمسة وأربعين كم جنوب مقابر بني حسن، وقد شهدت المدينة بعد خرابها بزمن طويل نزوح قبيلة العمارنة البدو لها وسكنت هناك مدة طويلة، فسميت المنطقة باسم تل العمارنة الموجود في دير مواس في محافظة المنيا في شمال صعيد مصر.

(٣-٢) الإله آتون في مدينة أخيتاتون (تل العمارنة)

آتون هو قرص الشمس نفسه وهو الدائرة المضيئة، فهو يختلف عن رع الذي يعيش في داخل قرص الشمس، ونرجح أن جذوره القديمة تعود إلى إله الشمس السومري «أوتو»، وربما إلى إلهي الشمس في بلاد الشام «أوهون» و«أدون».

كان آتون مثل آلهة هليوبوليس، إله الشمس. ومنذ بداية الدولة الحديثة، أصبح تأثير ديانة هليوبوليس في ازدياد.

ووصلت إلى أعلى مراتبها في عهد الملك أخناتون، الذي رفض الآلهة كلها، واعتقد به كربٍّ واحد في شكل قرص الشمس، بأشعتها التي تنتهي بأيدٍ بشرية، لتمنح الحياة والرخاء للناس وللأسرة الملكية. وكان معبد آتون في العمارنة، عاصمة أخناتون، أو في الكرنك، بدون سقف؛ ليسمح لأشعة الشمس بالتغلغل في داخله. بعد وفاة أخناتون، عاد آتون مرة أخرى، لمكانته الأولى، كأحد الأرباب المصرية.

ترنيمة آتون الكبرى (نشيد الشمس) هي ترنيمة مصرية قديمة كتبها أخناتون لإله الشمس آتون، الذي حاول تحويل مصر إلى توحيد عبادة الإله آتون. وقد وجدت منه نسخة شبه كاملة، في مقبرة آي الموجودة بمقابر تل العمارنة. تركز الترنيمة على وحدانية الإله (الذي هو قرص الشمس) كإله خالق محافظ على العالم وخالق كل مظاهر الحياة على تنوعها. آتون هو «سيد جميع البلدان، يشرق لها جميعًا ويحفظ حياة البلاد الأجنبية أيضًا، حيث أنشأ نيلًا في السماء ويجعله يهبط على الأرض». فهو ليس إلهًا على مصر وحدها، وإنما إله للناس أجمعين. يذكر النص علاوة على ذلك الخاصية الكونية له كجرم سماوي كما يذكر خصائصه كملك على الناس.

figure
آتون (قرص الشمس) يهب الحياة بأشعته المنتهية بكفوف آتون (أتين) الإله الواحد الذي لا شكل له والذي هو قرص الشمس.

تعد المأثرة الكبرى التي خرج بها أخناتون إلى العالم حدثًا نادرًا في تاريخ الأديان القديمة النزاعة في غالبيتها إلى تعدد الآلهة.

فقد بشر أخناتون بالإله «آتون» الذي يعني قرص الشمس، والذي رمز له بهذا القرص مع أشعة تنتهي بأيدٍ تمنح الحياة لمن يطلبها، ولم يصور الإله آتون بصورة إنسان أو حيوان مطلقًا كما هو حاصل مع جميع الآلهة المصرية.

ورفض أخناتون (نبي أو رسول الإله آتون) أن يكون الإله آتون له علاقة بهيولى العالم القديم أو أنه مظهر من مظاهر الطبيعة، ورأى أنه الخالق الواحد الأحد ولا شريك له من الآلهة:

«ما أكثر مخلوقاتك!
وما أكثر ما خفي علينا منها!
أنت إله يا أوحد ولا شبيه لك،
لقد خلقت الأرض حسبما تهوى أنت وحدك،
خلقتها ولا شريك لك،
خلقتها مع الإنسان والحيوان كبيره وصغيره،
خلقتها وكل ما يسعى على قدميه فوق الأرض،
وكل ما يحلق بجناحيه في السماء.»
(أبو بكر، ١٩٦١م، ٩٧–١٩٨)

وإننا لنلمح الشكل المادي للإله الخالق هنا في صيغة قرص الشمس «آتون» الذي عُبد في مصر قبل أخناتون وكان إلهًا ثانويًّا، لكنه ارتفع إلى أقصى شكل توحيدي له في عصر أخناتون، وربما كان مصدر هذا الإله غير مصري، فاسمه يدل على اشتراك واضح مع الإله السومري «أوتو» إله الشمس في سومر.

(٣-٣) تكوين مخلوقات آتون (إله مدينة أخيتاتون)

تعد المأثرة الكبرى التي خرج بها أخناتون إلى العالم حدثًا نادرًا في تاريخ الأديان القديمة النزاعة في غالبيتها إلى تعدد الآلهة، فقد بشر أخناتون بالإله «آتون» الذي يعني قرص الشمس، والذي رمز له بهذا القرص مع أشعة تنتهي بأيدٍ تمنح الحياة لمن يطلبها، ولم يصور الإله آتون بصورة إنسان أو حيوان مطلقًا كما هو حاصل مع جميع الآلهة المصرية. ورفض أخناتون (نبي أو رسول الإله آتون) أن يكون الإله آتون له علاقة بهيولى العالم القديم، أو أنه مظهر من مظاهر الطبيعة، ورأى أنه الخالق الواحد الأحد ولا شريك له من الآلهة.

figure
آتون: أيدي الشمس تخلق وتمنح الحياة.

«آتون: هو أحد تجليات رع في شكل قرص الشمس، والذي اتخذه الفرعون أمنحتب الرابع إلهًا أعلى وأوحد. وهكذا غيَّر اسمه إلى: أخناتون، أي المطيع لآتون. وقد مثل آتون في هيئة قرص الشمس، تنبعث منه أشعة، في هيئة أذرع آدمية تنتهي بأيدٍ، تمتد لمباركة البشر وحمايتهم. ولقد تعارضت عبادة آتون المتجلي مع عقيدة آمون المستتر؛ وبالتالي، طغت لبعض الوقت على سيطرة ونفوذ كهنة طيبة (حوالي عام ١٣٦٠ق.م.) وعلى ما يبدو، فإن عبادة آتون هذه تختص بالأفراد المتدينين؛ ولذا، لا يستطيع أن يمارسها إلا من سلكوا لأطول مدًى طريق الوعي واليقين، فإنها تعمل على الإطاحة بجميع الآلهة الأخرى القائمة؛ وتمحوها تمامًا لكي تحل مكانها عبادة مبدأ إله أوحد متألق الضياء وخلَّاق، أو بالأحرى، قوة مفعمة بالحيوية والمعرفة» (تيبو، ٢٠٠٤م، ١٠).

يوضح النشيدان (الصغير والكبير) لأخناتون قدرة الإله الواحد الأحد «آتون» على خلق الكون والناس والحيوانات والنباتات وكل الأشياء، ولا يتطرقان مطلقًا إلى خلق آلهة مشاركين أو أدنى أو قبل أو بعد الإله آتون، وهذا هو جوهر فكرة التوحيد الآتونية. وفي النشيدين تأكيد على أن الإله آتون هو الإله الخالق، حيث يؤكد النشيد الصغير ما يلي:
«إيه أيها الإله الذي سوَّى نفسه بنفسه!
خالق كل أرض، وبارئ كل من عليها وما عليها،
إن الناس وقطعان الماشية والغزلان والأشجار التي تنمو،
فوق البرية إنما تحيا جميعًا عندما تشرق عليهم.»
(مهران، ١٩٨٩م، ١٥٢)

يوضح هذا المقطع خليقة آتون للأرض والكائنات الحية دون تمييز وبلا أسطورة أو قصة خليقة متدرجة … لأنه تعارض مع قصص الخليقة السابقة ووقف ضدها، وجعل من الإله الحي الواحد الأحد خالقًا عظيمًا، ولكن السؤال هنا هو عن أي طريق خلق آتون مخلوقاته، هل عن طريق الكلمة مثل بتاح، أم التناسل والعرق والدموع مثل «رع»، أم عن هذه الطرق مجتمعة مثل «آمون»؟

figure
أخناتون وعائلته والإله آتون يمنحهم الحياة.

وحقيقة الأمر أن آتون كان يخلق الكون والحياة عن طريق أشعته وضوئه فهو قرص الشمس الذي صوَّرته رسومات أخناتون بأن له أشعة تمتد منه لتنتهي بكفوفٍ صغيرة تمسك أحيانًا رمز الحياة «عنخ»، أي إن هذه الكفوف كانت هي التي تحمل الحياة، وتخلق ما تريد وتمنحه هذه الحياة. وإن الشمس عندما كانت تغيب تدخل الحياة كلها في نوع من الغيبوبة والموت المؤقت، ولذلك فإن الحياة تعود لها عندما تعود أشعة الشمس وكفوفها لتمنح الحياة من جديد، ويوضح تلك الحقيقة هذا المقطع من النشيد الصغير:

«أنت أب وأم لكل من خلقت،
عندما تشرق فإن عيونهم ترى بواسطتك،
إن أشعتك تضيء العالم كله،
عندما تشرق ينشرح كل قلب لأنك سيدهم،
وعندما تغرب في أفق السماء الغربي،
فإنهم ينامون وكأنهم أموات،
يلفون رءوسهم بالغطاء،
وتقف أنوفهم عن العطس،
حتى يعود شروقك في الصباح في أفق السماء الشرقي،
فيرفعون أذرعهم إليك تعبُّدًا.»
(مهران، ١٩٨٩م، ١٥٢)
وإذا أردنا تحليل النشيد الكبير تفصيليًّا فسنرى أن الخليقة الآتونية مفصلة، فهو أولًا يقوم بخلق الكون والليل والنهار والحيوانات والنباتات والمياه، ثم يقوم بخلق الإنسان:
«أنت يا من جعل سائل الذكر ينمو في المرأة،
ومن يضع الماء في البشر،
أنت يا من يأتي بالحياة للوليد، وهو في بطن أمه،
أنت يا من تسكته بتوقف دموعه،
أنت يا من رعيته في الجسد،
ثم تعطي الهواء ليتنفس كل من خلقت،
إنه ينزل من الجسد فيتنفس يوم مولده،
أنت يا من تفتح فمه،
وتخلق له مقومات الحياة.»
(مهران، ١٩٨٩م، ١٥٧)

ثم يشرح كيف يخلق فرخ الدجاج (الصوص) ثم يذكر كيف خلق البلدان والفصول والنيل … إلخ. ويرى أخناتون أنه ابن الإله آتون الذي وهبه الحكمة، ولا تقع هذه الصفة ضمن فكرة أن الملك أو الفرعون هو الابن الإلهي للرب، بل إن الناس جميعًا هم أبناء الرب وأنه بمثابة الأب والأم وإن أخناتون هو الابن الذي وهب الحكمة.

(٤) خليقة طيبة

(٤-١) مدينة أواست (طيبة)

طيبة (Thebes) هي مدينة متحفية فرعونية قديمة بمصر العليا، وإحدى عواصم مصر القديمة إبان المملكتين الوسطى والحديثة أيام قدماء المصريين، وحاليًّا يطلق عليها الأقصر. ومن أشهر آثارها على الضفة الشرقية للنيل معبد الأقصر. واسمها المصري القديم أواست Ouaset وتعني الصولجان، وهي عاصمة الإقليم الرابع لمصر العليا (إقليم العرش).
الإله آمون الذي كان قد فرض نفسه كإله رئيسي لطيبة في أواخر الأسرة الحادية عشرة على حساب تواري الإله «منتو Montou» الذي ظل رغمًا عن ذلك يُعبَد في كافة أنحاء المنطقة، فعلى الضفة الشرقية يقع جهة الشمال معبد آمون بالكرنك وكذلك معابد منتو، وخونسو، وموت وبعض الآلهة الأخرى. ويقع جهة الجنوب معبد يرتبط بالشمال بممر طوله ثلاثة كيلومترات ألا وهو معبد آمون رب الإخصاب في الأقصر.

(٤-٢) الإله آمون في مدينة أواست (طيبة)

الأجيال الثلاثة لتطور آمون:

الجيل الأول: آمون

آمون، (إله الشمس والريح والخصوبة) ومعنى اسمه الخفي. كان اسمه يكتب أم ن. بل إن اسمه خفي أيضًا وشكله لا يمكن إدراكه. الغموض المحيط بآمون سببه هو كماله المطلق، وفي هذا كان مختلفًا عن كل الآلهة المصرية الأخرى. كانت قداسته بمكان بحيث إنه ظل منفصلًا عن الكون المخلوق. كان مرتبطًا بالهواء ولهذا كان قوة خفية، مما سهل له الترقي كإله أعلى.

زوجته الإلهة أمونت Amunet، Amaunet أو Amonet، ولكنها غالبًا ما كانت تعرف بالاسم موت، وكان لها رأس إنسانة مرتدية التاج المزدوج للوجهين القبلي والبحري، وكان ابنهما هو خونسو، القمر. معًا شكلوا ثالوث طيبة. كان اسمها، يعني «الأنثى المخفية»، واسمها مشتق من اسم آمون.

الجيل الثاني: إرتَّا

(خالق الأرض: إرتا) وجاء عندما استولى آمون على ثامون خنمو، ويظهر في صورة ثعبان يسمى (أبو الثامون) وهو يتفق تمامًا في الصفات والخصائص مع «بتاح تا ثنن». وهو بمثابة آمون الأول، وكان يتخذ صفة الهيئة الجنسية للإله (مين) ويسمى (آمون في الأقصر) و(إله ربوة جيمة) ويوصف بأنه (الرب الحي، رئيس الأرباب، الثور) ويلقب ﺑ (حور رافع الذراع).

وهذا الجيل الثاني لآمون، والذي يتخذ الهيئة الجنسية ويحمل اسم «آمون إم إيبت»، هو نفسه المعبود الذي يتجه في موكب من معبد «الأقصر» عبر النيل إلى «مدينة هابو» في البر الغربي، حيث يقدم القرابين لأبيه «آمون، كم إتف»، وكذلك للثامون (أبنائه).

الجيل الثالث: أب الثامون

يتحول آمون إلى قائد «الثامون» كأبناء، والمعبود «آمون» هو أيضًا أحد أعضاء الثامون، والذين هم أبناء «آمون إم إيبت» (أبو آباء الثامون). وقد كان لهذا «الثامون» دور مساعد له في إتمام عملية الخلق، إذ إنهم خلقوا الضياء والشمس «رع». وقد وصف «آمون إم إيبت» بأنه (حور، ابن إيزة)، وهو هنا يعبر عن جيل ثالث وأخير في إطار الأجيال الثلاثة لآمون، ويأتي هنا وفق رأي «زيته» كابن ﻟ «آمون إم إيبت» أيضًا، وحفيد «آمون» الجد (كم إتف)، وذلك في إطار مفهوم «كا موت إف» الخاص بالمعبود «آمون».

وكان الهدف من ارتباط «آمون» بلقب «كا موت إف» هو ربطه بمفهوم الخصوبة بما يؤكد على النشأة الذاتية للمعبود، والتي تجعل من «آمون» حلقة وصل بين أجياله الثلاثة، وتربطه بالتالي بمذاهب الخلق الثلاثة السابقة عليه، فتربطه بالمعبود «بتاح» (في مذهب «منف» في الخلق)، والمعبود «رع» (في مذهب عين شمس)، وثامون «الأشمونين». (في مذهب الأشمونين).

وبذلك يتضح أن علاقة الاندماج بين «آمون-رع»، و«مين» لم تكن أبدًا مصادفة أو ناتجة عن التجاور المكاني لمركزي عبادتيهما (قفط، وطيبة)، ولكن يبدو أن خلف تلك العلاقة دوافع دينية قوية، وكذلك دوافع سياسية، مؤداها أن رب الدولة الرسمي أراد أن يتقمص شخصية رب الخصوبة القديم (في هيئته، وخصائصه، وألقابه)، مدعيًا بذلك مقدرته على أداء نفس دوره الحيوي في الكون؛ ليؤكد من خلال ذلك جدارته بأن يكون سيدًا للكون، وملكًا للأرباب.

figure
آمون، وآمون رع.

وكان ثالوث طيبة يتكون من آمون وزوجته «موت» التي كان رمزها الرخمة وابنه «خونسو» الذي كان إله القمر الذي يرمز له بالصقر.

خليقة آمون (امتصاص الخليقات السابقة)

يبدو أن الإله آمون كان خفيًّا اسمًا وشكلًا ولكنه كان حين يباشر عملية الخلق يظهر في/أو مع الآلهة الأخرى المعروفة في مصر كما سنرى في التكوين الثالث ولكنه سرعان ما يعود إلى شكله الذي أتم عهد «كم آتف» هو الشكل الأزلي القديم له. وكانت طريقة خلقه استيلائية؛ أي إنه كان يستولي على الآلهة الذين سبقوه، ويصبح هو خالقهم ويوضح هذا الإجراء طبيعة الدولة الحديثة التي جسدت به قدرتها على امتصاص كل ما سبق من عقائد. ولكنه كان بحق الإله الذي سطعت تحت لوائه حضارة مصر في طورها الذهبى. وهكذا صارت واست (طيبة) هي أول مدينة ظهرت في الوجود، وهي الماء الأول (نون) والأرض الأولى (التل الأزلي) حيث ظهرت الخليقة وكوَّنها آمون.

كان آمون (إله واست أو طيبة) على شكل ثعبان يتخذ العالم السفلي مقرًّا له والعالم السفلي هنا مكان محدد في واست وهي أول مكان ظهر من النون على شكل تل أولي ويقع تحديدًا في مكان غرب طيبة في مدينة حابو اسمه «يأت ثامو» ومن هذا المكان انطلق آمون وبدأ بخلق الأرض، ولذلك سمي «إيرتا».

وفي مدينة الأشمونين بعد أن حشر كهنة طيبة الإله آمون وزوجته، فبدلًا من الزواج الرابع (كيره وكريهه) أصبح «آمون وآمونيت» هما الزوج الرابع للثامون الهيولي الأشموني، ثم أصبح بالتدريج هو الإله الأعظم في الهيولى وأصبحت بقية الآلهة السبعة شكلًا من أشكاله. وتطور الأمر حين أصبح بمرور الزمن إله الهواء في مدينة الأشمونين وبذلك صار حفيظًا على مقومات الحياة وشريكًا في توليد شمس السماء والصورة الأصلية لإلهها، وصار لقبه الجديد هو «الحفيظ» ثم صار لقبه «آمون رع» ليسيطر كليًّا على ألوهية الشمس، واتجه الإله إلى مدينة «أون»، وسيطر على تاسوعها ثم اتجه إلى منف وسيطر على عرش بتاح ثم عاد إلى طيبة واختفى في جحره القديم كثعبان. وكان يسمى أيضًا ﺑ «المقوقئ العظيم»؛ لأنه خلق العالم من بيضة وكان يرمز له بالإوزة.

وهكذا خلق آمون الكون كله وعاد مختفيًا في مكانه … وحقيقة الأمر أن ليس هناك قصة خليقة منظمة للإله آمون بل هناك محطات اكتساح أو استيلاء متتالية للعواصم التكوينية الإلهية القديمة (الأشمونين، أون، منف) كان هذا الثعبان يستولي عليها واحدة بعد الأخرى. وهكذا نجد أن الإله آمون شكَّل النموذج التفريدي (Henotheism) الأكبر في التراث اللاهوتي المصري ويأتي بعده بتاح الذي كوَّن تاسوعًا مرقعًا، ثم استولى على تاسوع أون. وهذا ما فعله آمون أيضًا الذي شكل له مجمعًا إلهيًّا يتكون من «١٥» إلهًا من هنا وهناك. وتبين هذه الترنيمة الموجهة لآمون من عصر أمنحتب الثاني مكانة آمون وقدرته:
«التعبد ﻟ «آمون–رع»
الثور في قلب هليوبوليس، رئيس الآلهة جمعاء،
الإله الكامل والمحبوب
الذي يهب الحياة لكل لهب وكل ماشية على السواء،
تحية لك، يا «آمون–رع» يا سيد عرش القطرين،
الذي يتزعم الكرنك، ثور أمه الذي يهيمن على حقوله،
«الإله» صاحب الخطوة الواسعة الذي يتزعم مصر العليا،
سيد «المجابو» وأمير بلاد «يونت»
إله السماء العظيم، أول الأولين في الأرض،
سيد ما هو كائن، وسند الأشياء كلها،
إنه الواحد الأحد، فلا يوجد سواه بين الآلهة،
إنه الثور الكامل للتاسوع وزعيم الآلهة جمعاء،
إنه سيد الحقيقة والعدالة، ووالد الآلهة،
فهو الذي شكَّل البشر وخلق الأغنام،
سيد ما هو موجود وخالق نباتات الحياة،
«إنه» فاطر المراعي التي تحيي القطعان،
«إنه» القدرة الإلهية التي خلقها بتاح،
«إنه» الفتى الجميل والمحبوب الذي لا تنفك الآلهة تهلل له،
فاطر العالم السفلي والعالم العلوي على السواء مضيئًا بنوره القطرين
بينما يعبر السماء في سلام،
الملك «رع» ملك الوجهين القبلي والبحري، صاحب
القول الصادق، زعيم الأرضين.»
(لالويت، ١٩٩٦م، ج ٢، ١٦٦–١٦٧)

(٥) خليقة منف

(٥-١) مدينة منف

منف أو منفر أو ممفيس مدينة مصرية قديمة من ضمن مواقع التراث العالمي، أسسها عام ٣٢٠٠ قبل الميلاد الملك نارمر وكانت عاصمة لمصر في عصر الدولة القديمة (الأسرات ٣-٦) وكانت فيها عبادة الإله بتاح، ومكانها الحالي مدينة البدرشين محافظة الجيزة على بعد ١٩ كم جنوب القاهرة.

وكانت منف معروفة باسم «الجدار الأبيض» حتى القرن السادس والعشرين قبل الميلاد إلى أن أطلق عليها المصريون اسم «من نفر» وهو الاسم الذي حرَّفه الإغريق فصار «ممفيس» ثم أطلق العرب عليها «منف».

(٥-٢) الإله بتاح في مدينة منف

الجيل الأول: بتاح

كان تأليهًا للربوة المقدسة في قصة بدء الخليقة الإنيادية، والتي كانت تعرف حرفيًّا بالاسم: «تا–تنن» (ومعناها: الأرض المرفوعة) أو تانن (الأرض المغمورة). أهمية پتاح في التاريخ يمكن فهمها من كون الاسم الغربي لمصر، مشتق من الهجاء اليوناني للكلمة «ح–وت–كع–بتاح» والتي تُكتب أحيانًا: «حت–كا–بتاح»، وتعني «معبد–كا–بتاح» أي معبد روح بتاح وهو معبد في منف. وحسب حجر شباكة فإن بتاح نادى على الدنيا إلى الوجود، بعدما رأى الخليقة في قلبه أثناء منامه، فتكلمها فكانت، لذا فاسمه يعني الفاتح (كفاتح فاه). ولذا فإن طقوس فتح الفم، التي كان يؤديها الكهنة في الجنازات ليطلقوا الروح من الجسد، أول من بدأها كان بتاح. أتوم خلقه بتاح ليحكم الخليقة بينما هو جالس فوق الربوة المقدسة.

الجيل الثاني: والد أتوم

في منف كان بتاح يُعبد وكان يُرى على أنه والد أتوم، أو بصفة أدق كوالد نفرتوم، ابن أتوم. وعندما اندمجت المعتقدات الإنيادية وأوكدواد فيما بعد، بأتوم أصبح رع (أتوم–رع)، والذي كان يُرى على أنه حورس (رع–هراختي)، مما أدى إلى القول أن بتاح تزوج سخمت، والتي كانت تعتبر في ذلك الوقت أقنوم لحتحور، أم حورس، وبالتالي أم أتوم.

الجيل الثالث: بتاح–سوكر

لما كان بتاح هو الربوة المقدسة، وكلمته بدأت الوجود، فقد اعتُبر إله الحرفيين، وخصوصًا الحرف الحجرية. ونتيجة لارتباط الحرف الحجرية بالمقابر وارتباط المقابر الملكية بطيبة، فإن الحرفيين اعتبروا أنه يحكم مصائرهم. وبالتالي فهو رائد (أول) الحرفيين وهم أول الخليقة فإن بتاح أصبح إله البعث. ولما كان سوكر كان أيضًا إله الحرفيين والبعث، ولاحقًا وحد قدماء المصريين بين بتاح وسوكر ليصبحا «بتاح–سوكر».

figure
بتاح، Phoh, Loh بتاح الذي يمنح الحياة للآلهة.

خليقة منف (خليقة بتاح)

غلبت على الإله بتاح الصورة المعنوية لا المادية ولذلك لم تكن له صورة مادية تتمثل بمظهر من مظاهر الطبيعة كالشمس أو القمر أو الهواء أو النجوم. وحتى مظهره الشمسي كان معنويًّا ورمزيًّا؛ لأن الإله الخالق في مصر كان لا بد أن تكون له مسحة شمسية. وكان الإله بتاح راعيًا للحرفيين والبنَّائين ومخترعًا للفنون وكان العجل أبيس هو رمزه الحيواني المقدس.

والإله بتاح في حقيقته إله لوغوسي؛ لأنه خلق الكون عن طريق الكلمة التي تجسَّدت عبر مرحلتين الأولى خفية هي الفكرة والتي يمثلها القلب، والثانية علنية وهي الكلمة التي يمثلها اللسان. فقد كان يخلق العالم والناس والآلهة والأشياء بمجرد أن يفكِّر بها في داخله ثم يطلق اسمها فتتخلق.

وقد صار، فيما بعد، الإله حور قلبه والإله تحوت لسانه. وتكوَّن ثالوث منف من الإله بتاح أبًا والإلهة سخمت إلهة القوة أمًّا، أما الابن فهو الإله نفرتوم الذي يمثل زهرة اللوتس.

ويفسر اتخاذ «بتاح» صفة إله الحرفيين أو الصنَّاع أنهم حين كانوا ينحتون أو يرسمون أو يشكلون أو يكتبون، فإنهم يخلقون على هيئة تماثيل أو نقوش أو تصاوير أغلفة، هي كتل أو مجرد ملامح، في الإمكان أن تدب فيها الحياة عند النطق بالكلمات من قبل الإله بتاح، ولذلك فإن الحرفيين كانوا يعرفون باسم «سي عنج»؛ أي «ذاك الذي يُحيي» وفضلًا عن ذلك فهي طريقة لإسباغ الخلود على الخلق الجديد، من خلال إيجاد أشكال تغالب الأيام، فتحييها عناصر الكائن اللامادية (انظر لالويت، ١٩٨٦م، ج٢، ٢٨).

(٦) خليقة آبو

(٦-١) مدينة آبو (الفانتين)

لم يتبقَّ من مدينة إلفنتين سوى تل من الأطلال يصل ارتفاعه إلى حوالي ١٢ مترًا، ويشغل معظم مساحة الجزء الجنوبي من الجزيرة التي تقع في مواجهة مدينة أسوان. والجزء الجنوبي هذا عبارة عن عدد من الصخور الجرانيتية الضخمة لم يكن يظهر منها فوق السطح، وقت الفيضان، سوى صخرتين، ونشأت المدينة في البداية على الصخرة الشرقية منهما.

الإله خنوم في مدينة آبو

إله كان يصور على شكل كبش، أو رجل له رأس كبش وله قرنان (ربما اشتق اسم الغنم منه). طبقًا للمعتقد المصري القديم قام خنوم بعملية الخلق المادي للإنسان من طمي النيل على عجلة الفخار. وبعض الروايات تقول إنه كان يشكِّل الأطفال الصغار من طمي النيل المتوفر عند أسوان ويضعهم في أرحام أمهاتهم. وقد عُبد في أماكن مختلفة في مصر مثل أسوان وإسنا وممفيس (منف) باعتباره الإله الذي أتي بالنيل ليقيم الحياة على ضفافه.

figure
خنوم، خنوم يخلق الإنسان على دولاب الفخار وخلفه تحوت.

يرجع تاريخه إلى عصر الدولة القديمة، حيث عرف في ديانة قدماء المصريين بأنه «نب–قبحو»، أي سيد المياه وظل يعبد أيضًا خلال عصر الدولة الحديثة، وكانت إلفنتين مركز عبادته.

يظهر خلال عصر الدولة الوسطى تقديس لخنوم باعتباره من يأتي بفيضان النيل وما يحمله من طمي وخصوبة للأرض، وكانت تلك النقوش مرسومة على معبد ساتيس الجديد، حيث لم يذكر النص فيه بمهام خنوم التي تبوأها في الماضي. ومع مجيء الأسرة المصرية التاسعة عشرة أثناء الدولة الحديثة اتخذ خنوم لقب نب–أبو، أي سيد إلفنتين. وقبل ذلك كانت الإلهة ساتيس هي التي تحمل لقب «سيدة إلفنتين».

يعتبر خنوم إله خالق الإنسان، واعتقد المصري القديم في بعض مناطق مصر أن خنوم كان يصنع الناس وحيوانات ونباتات من طمي النيل ويعطيهم الحياة بعصا سحرية. فكان يعتبر إلهًا للخصوبة وكانت حقت زوجته فكان سيد الإنجاب والولادة.

وكان ثالوث مدينة آبو يتكوَّن من خنوم وزوجته عنقت (سيدة ماء النيل) رمزها الغزالة أو زوجته الثانية ساتت إلهة الماء والرطوبة ورمزها البقرة. «خنوم–رع إله عجلة الفخاري، الذي أسس الأرض بساعديه، الإله الذي يوحد الأبدان في بطن الأم، البناء الذي يعمل على ازدهار الفرخين، الذي يوحد الأبدان في بطن الأم، البناء الذي يعمل على ازدهار الفرخين، الذي يحيي الكائنات التي ما زالت في طفولتها بفضل نسمة فمه، الذي يغمر البلاد بأمواه اﻟ «نوو» الدافقة، في حين تحيط به الدائرة السائلة الكبرى، ويحيط به بحر الأطراف العظيم».

وهناك نصوص مصرية قديمة أعطت الصبغة الشمسية للإله خنوم بل وجعلته يأخذ أوامره من الإله «رع».

(٧) خليقة إسنا

(٧-١) مدينة إسنا (سايس، صا الحجر)

صا الحجر إحدى قرى مركز بسيون التابع لمحافظة الغربية، وهي مدينة لها تاريخ مصري قديم. وهي غير صان الحجر (تانيس سابقًا) بمركز الحسينية محافظة الشرقية. اسمها في عهد الفراعنة «صاو» وحرفها الإغريق إلى «سايس» Saïs وتسمى في العصر الحديث صا الحجر. لصا الحجر تاريخ قديم يرجع إلى الدولة القديمة، وذكرت في مخطوطات فرعونية كثيرة. وتبين الحفريات أن تاريخ سايس يعود إلى ٤٠٠٠ سنة قبل الميلاد كمدينة بها سكان كثيرون. كانت عاصمة لمصر الفرعونية في عهد الأسرتين ٢٦ و٢٧ ومن أشهر ملوكها بسماتيك الأول (٦٥٦ قبل الميلاد) وهو الذي كوَّن جيشًا وطرد الأشوريين من مصر، والملك آمون حور.

(٧-٢) الإلهة نيث في مدينة إسنا (سايس، صا الحجر)

نيت (وتنطق كذلك: نيث) الإلهة الحامية لساو عاصمة المقاطعة الخامسة من مقاطعات الوجه البحري (صا الحجر الحالية)، حيث كان مركز عبادتها في دلتا النيل الغربية والذي ظهر في وقت مبكر من عهد الأسرة الأولى، وهي واحدة من الآلهة الثلاثة المسيطرين في المدينة القديمة تا سنيت أو إيونيت (المعروفة حاليًّا بإسنا)، والتي تقع على الضفة الغربية لنهر النيل، نحو ٥٥ كم من مدينة الأقصر، في محافظة قنا. هي إلهة الحرب والصيد، كما يشي بذلك شعارها بوضوح: سهمان متقاطعان على درع.

figure
الإلهة نيت تحمل رمزها فوق رأسها. رمز تانيت.

الخالق السابع في المثولوجيا المصرية هو الإلهة «نيت» صاحبة القوس (القواسة)، وهي إلهة مدينة سايس (صا الحجر) في غرب الدلتا وكانت إلهة للصيد، وقد ورد ذكرها منذ عصر ما قبل الأسرات على فخار نقادة واعتبرت في الدولة القديمة ابنة «رع» لكنها سميت بعد ذلك «أم رع» وصارت زوجة الإله «خنوم». ولعبت دورًا مهمًّا في المعتقدات الجنزية منذ متون الأهرام. وكانت تُصوَّر على هيئة سيدة تلبس تاج مصر السفلى الأحمر وتمسك بيدها قوسًا وسهمين (انظر صادق، الموسوعة المصرية، ٣٩٤).

وتحكي أسطورة خلقها أنها انبثقت من ذاتها من قلب «النور» والأرض ما زالت في ظلماتها. وصارت بقرة ثم صارت سمكة بيضاء، وأخذت تسير في طريقها حتى أضاءت البصر بعينيها فكان النور، وارتفعت أكمة وسط المياه هي «إسنا» وتسمى أرض المياه ومدينة سايس التي حلقت عليها كالجعران، ثم ظهرت مناطق أخرى في مدينة سايس وسميت أرض سايس أرض الترويج. وفي هذا المكان ستخلق الآلهة ثم الشمس ثم بقية العالم عن طريق الكلمة كما سنرى في التكوين الثالث.

وهكذا تمثل أسطورة الإلهة الخالقة «نيت» أسطورة مثالية للجمع بين طريقتي الخلق الأنثوي (باعتبارها إلهة) والخلق الذكري (عن طريق الكلمة) وهو توصل نادر جسَّدته أسطورة هذه الإلهة خارج النظام الشمسي للخلق. وقد شبه اليونان هذه الإلهة بمعبودتهم أثينا (بدلالة القوسين اللذين تحملانهما) واعتقدوا أنها تشق الطريق أمام فرعون عند خروجه إلى الحرب وتتولى حمايته.

وفيما يلي النص الذي يشير إلى خلقها:

«إن أب الآباء، وأم الأمهات، الكائن الإلهي الذي استهل وجوده في البدء، كان موجودًا في القلب اﻟ «نوو» لقد انبثقت من ذاتها، بينما كانت الأرض لا تزال في الظلمات، ولم يكن نبات ينمو. اتخذت في البداية شكل بقرة حتى لم يكن في مقدور أي إله، في أي مكان كان، أن يعرفها، ثم تحولت إلى سمكة بياض وعندئذٍ بدأت تسير في طريقها. أضاءت البصر بعينيها فكان النور. عندئذٍ قالت: هذا المكان الذي أنا موجودة فيه، فليصبح من أجلي أرضًا يابسة في قلب اﻟ «نور» حسب الكلمات التي نطقت بها. وصار هذا المكان أرض المياه، ومدينة سايس.» (لالويت، ١٩٨٦م، ج١، ٤١).

حملت الإلهة نيت عناصر الأنوثة والذكورة معًا، وهذا ما يؤكده أحد رسوماتها على البردي، فهي تفرد جناحيها وتظهر برأسها الأنثوي ومعه رأسان لأسد وطير، ويظهر عضوها الذكري منتصبًا.

figure
الإلهة (نيث، نيت) تفرد جناحيها وتظهر برأسها الأنثوي ومعه رأسان لأسد وطير ويظهر عضوها الذكري منتصبًا.
figure
البردية من داما هيروب مصر، سلالة ٢١، ويحتوي على واحدة من أقدم صور معروفة من أوروبوروس، الثعبان الذي أكل ذيله، هنا قد تمثل البروج، دورة لا تنتهي من الأبراج من خلال السماء ليلًا.

وصفتها الأساطير «على أنها أم لرع وعبب. وعندما أضيف عليها أوصاف أنها إلهة مائية، كانت تعتبر أيضًا أمًّا للإله سبك (التمساح). وكان هذا الارتباط مع الماء، أي النيل، أدى إلى اعتبارها أحيانًا زوجة للإله خنوم، وربطها بمنابع نهر النيل. وكانت مرتبطة مع سمك البياض النيلي وباعتبارها إلهة للخلق وللنسيج، كان لها أن تجدد العالم على نولها يوميًّا. ويسجل جدار داخلي للمعبد في إسنا سردًا للخلق نيت وهي تخرج في بداية الخلق أول أرض (التي سميت بعد ذلك بالإله تاتنن) من المياه الأزلية (نون) في بداية الخلق، وكل ما تتصور في قلبها يأتي إلى حيز الوجود بما في ذلك ثلاثون إلهًا. ومع عدم وجود زوج معروف لها وصفت بأنها «الإلهة الأم العذراء».»

إلهة فريدة من نوعها، غامضة وعظيمة، جاءت لتكون في البداية وتسبب كل شيء في المستقبل … الأم الإلهية لرع، الذي يضيء في الأفق.

وقد ظهرت نيث كبقرة سماوية تحمل رمز الأوروبوروس الذي هو عبارة عن ثعبان ذيله في فمه ويعبر عن اللامتناهي وهو يحمل طفل الشمس وهي محمولة على أسدين ربما يمثلان أكر (رب الأرض القديم).

وهذه هي المرة الأولى في التأريخ يظهر فيها رمز الأوروبوروس الذي يلعب دورًا هامًّا في بدايات الخلق والإلهة الأم.

figure
الطفل الشمس محاطًا بالثعبان الذي لا نهاية له (أوروبوروس) وتحمله البقرة السماوية والأسد الأفق، بردية داما حيروب، حروين Papyrus of Dama Heroub Egypt

إلهة السماء الراعية تحمل الشمس والقمر والنجوم على جسدها، من داخل غطاء تابوت حجري يعود للعصر المتأخر.

(٧-٣) خلق سلالة نيت (إلهة مدينة إسنا)

figure

الخالق السابع في المثولوجيا المصرية هو الإلهة «نيت» صاحبة القوس (القوَّاسة) وهي إلهة مدينة سايس (صا الحجر) في غرب الدلتا، وكانت إله للصيد، وقد ورد ذكرها منذ عصر ما قبل الأسرات على فخار نقادة، واعتُبرت في الدولة القديمة ابنة «رع»، لكنها سميت بعد ذلك «أم رع» وصارت زوجة الإله «خنوم». ولعبت دورًا مهمًّا في المعتقدات الجنزية منذ متون الأهرام. وكانت تُصوَّر على هيئة سيدة تلبس تاج مصر السفلى الأحمر وتمسك بيدها قوسًا وسهمين (انظر صادق، الموسوعة المصرية، ٣٩٤).

figure

وتحكى أسطورة خلقها أنها انبثقت من ذاتها من قلب «النور» والأرض ما زالت في ظلماتها. وصارت بقرة ثم صارت سمكة بيضاء وأخذت تسير في طريقها حتى أضاءت البصر بعينيها فكان النور، وارتفعت أكمة وسط المياه هي «إسنا»، وتسمى أرض المياه ومدينة سايس التي حلقت عليها كالجعران، ثم ظهرت مناطق أخرى في مدينة سايس، وسميت أرض سايس أرض الترويج. وفي هذا المكان ستخلق الآلهة ثم الشمس ثم بقية العالم عن طريق الكلمة كما سنرى في التكوين الثالث.

وهكذا تمثل أسطورة الإلهة الخالقة «نيت» أسطورة مثالية للجمع بين طريقتي الخلق الأنثوي (باعتبارها إلهة) والخلق الذكري (عن طريق الكلمة)، وهو توصل نادر جسَّدته أسطورة هذه الإلهة خارج النظام الشمسي للخلق. وقد شبه اليونان هذه الإلهة بمعبودتهم أثينا (بدلالة القوسين) واعتقدوا أنها تشق الطريق أمام فرعون عند خروجه إلى الحرب وتتولى حمايته.

قدَّم النص، الذي قام باكتشافه وترجمته «سرجي سونيرون» عن خليقة الأم الكبرى «نيت» القواسة، ضوءًا جديدًا على قصة الخليقة المصرية فقد جمع هذا النص في ثناياه بعض ما ذهبت إليه المدارس والخليقات السابقة، ولكنه قدَّم في الوقت نفسه صياغة خاصة به، وهو نص يعود إلى عصر الإمبراطور تراجان، ولكنه بالتأكيد ذو جذور بعيدة في الزمان والمكان.

بعد أن ظهرت «نيت» بنفسها من اﻟ «نوو» العظيم واجهت على ما يبدو مهمات خلق الكون والآلهة والبشر على أربع مراحل تحولت فيها هذه الإلهة الأم البقرة إلى عدة أشكال، خلقت بعدها ما طاب لها من الخلق على أساس الكلمة في الغالب، وكما يلي:

(أ) البقرة السمكة (لاتيس)

وهي البقرة التي تحولت إلى سمكة بياض بعد أول خروجها من اﻟ «نوو» وانبثاقها من ذاتها، وقد كانت «إسنا» مدينتها تعرف في الماضي باسم «لاتوبوليس»، أي مدينة «لاتيس» وهو اسمها اليوناني، حيث الجبانة الشاسعة للسمك المحنط الموجودة في الصحراء بإسنا.

وقد سارت هذه السمكة في طريقها وفتحت عينيها فكان النور، ثم نطقت بكلمات وبزغت الأكمة التي في إسنا، وعندئذٍ ظهرت مدينة «سايس» ثم «برنثر» ثم «به» ثم «دب»، وسميت أرض سايس أرض الترويح ووسط الابتهاج العام بها ظهرت مصر كلها فوق هذه الأكمة. هذا ما كان من شأن الأرض، أما الآلهة فقد خلقت بالكلمة ثلاثين إلهًا بأن نطقت بأسمائها وحين ظهر الآلهة حيوها وقالوا لها:

«مباركة أنت، يا سيدة الآلهة، يا أمنا، يا من أتت بنا إلى الوجود. لقد صنعت أسماءنا، بينما كنا لا نزال بلا شعور، لقد فصلت من أجلنا بين النهار وبين الليل. لقد شكلت من أجلنا أرضًا يمكن أن نقف فوقها. لقد فصلت من أجلنا بين النهار وبين الليل … يا للفاعلية! آه … يا لفاعلية كل ما يخرج من قلبك أنت … آه أيتها الوحيدة التي أتت إلى الوجود عند البدء. إن الزمن الأبدي والزمن اللانهائي يمران أمام وجهك.» (لالويت، ١٩٩٦م، ٤١-٤٢).

ثم أطلقت على أرض «إسنا–سايس» اسم «الأرض العليا»، ووعدت الآلهة بأنها ستحيطهم علمًا بما سيجري وعليهم أن يتذكروا مقاصدها الأربعة الخيرة.

(ب) البقرة أحت

figure

وهي البقرة التي خلقت الإله رع (صنعته بيدها وخلقته في قلبها)، وظهر هذا الإله (الذي هو الشمس) وحين فتح عينه ظهر النور وحين أغلقها ظهرت الظلمات وولد البشر من دموعه والآلهة من لعاب شفتيه، وكان اسمه خبري (خبيرا) عند الفجر و«أتوم» عند المساء واسمه الدائم هو «رع» الذي خرج من بيضة نيت التي وضعت فيها إفرازاتها، وفجَّرت مياه النوو هذه البيضة فارتفعت المياه في مكان واحد، وسقطت نطفة على البيضة وتحطمت البيضة وخرج رع.

وكان رع قبل ذلك مختفيًا في قلب نوو لاس (آمون) و(خنوم). ولما كبر «رع» ألقى بنفسه حول عنقها وأصبح هذا اليوم هو اليوم الجميل لبداية السنة. وحين بكى «رع» عندما لم يرَ أمه ظهر البشر من دموعه والآلهة من لعابه. ثم وضعت الإلهة الأم ابنها في «مركب الشمس» وكانت تجزل له الثناء تهليلًا معتبرة إياه وريثها.

وكانت الإلهة «نيت» قد بصقت في اﻟ «نوو» فقامت الآلهة العتيقة بطرد هذه البصقة فصارت ثعبانًا طوله «١٢٠» ذراعًا أطلق عليه اسم «أبوفيس» الذي عصى «رع» مع بني جنسه الذين انبثقوا من عينيه، ولذلك خرج الإله تحوت من قلب رع وتصدى لهؤلاء، فأصبح «تحوت» إله هرموبوليس (الأشمونين) مع الآلهة الثمانية الهيولية. ثم ذهبت «نيت» إلى مدينة إسنا وقامت بإرضاع «رع» ليقوى وسهرت على تربيته ليقف بوجه أعدائه.

(ﺟ) البقرة «محت ورت» (السباحة العظيمة)

figure
الإلهة نيت في صورة البقرة «محت ورت» السبَّاحة العظيمة وهي تضع رع بين قرنيها.

أخرجت نيت من فمها سبعة أحاديث تحولت إلى سبعة آلهة وقامت هذه الإلهة «أحت» بوضع الإله رع بين قرنيها وسبحت في الماء (صورة مألوفة للبقرة السماوية وهي تضع الشمس بين قرنيها).

إن الأحاديث السبعة للإلهة نيت كانت قد تحولت إلى عمليات خلق تبدو وكأن كل عملية خلق قامت بها إلهة (الأرض، المدن، الآلهة، الشمس، البشر، أبوفيس، تحوت).

وقد تبنت مدينة لاتوبوليس هذه الفكرة ولذلك كانت آلهة الأحاديث عبارة عن العنصر الفعال لكلام الإلهة وقد ظهرت بعد نشاطها فتجمدت على هيئة مبادئ إلهية ميتة. وكانت هذه الإلهة–الأحاديث السبعة مدفونة في جبانة إلهية في «برنثر» (انظر لالويت، ١٩٩٦م، ج٢، ٥٤). ثم رحلت الأم إلى مدن الجنوب لصد العصاة الذين يتآمرون على «رع» (وهم جماعة أبوفيس)، وكان يتألق أمامها لهب سواء في الوجه القبلي أم الوجه البحري.

(د) البقرة أوريرت

عادت الإلهة «نيت» من جولتها الخلقية هذه إلى مدينتها الأولى «سايس» مساء يوم الثالث عشر من الشهر الثالث من فصل الجفاف، وكان عيدًا جميلًا وعظيمًا في السماء وعلى الأرض وفي كل بلد من البلدان، وعند ذاك بدلت من هيئتها وصارت الإلهة «أوريرت» البقرة أم رع، وتناولت قوسها بيدها وسهمها بقبضتها، وأقامت في معبد نيت في صحبة ابنها «رع».

واحتفل الإله رع لأن أمه أوصلته سالمًا معافًى وأمر بإقامة الأفراح وأن تشعل المشاعل أمامها وتقام الأعياد حتى مطلع الفجر.

(ﻫ) الإله توتو بن نيث

توتو (بالكتابة المصرية القديمة يُلفظ: twtw، وباللغة اليونانية هو Tithoes) معناه «صورة» كان لقب توتو في معبد شنهور (من يأتي إلى الشخص الذي يدعوه)، هو ابن نيث وهو إله مصري شعبي معبود في جميع أنحاء مصر خلال الفترة المتأخرة. يُصوَّر أحيانًا بشكل مجسم ولكن بشكل عام كنوع من أبي الهول، مع رأس بشري، وجسم أسد، وذيل على شكل ثعبان، يظهر توتو واقفًا، يرافقه أو حتى يرتدي شياطين أو جنيين مختلفين في شكل تمساح إضافي، أسد، كبش، أبي منجل و/أو صقور يخرجون من صدره الرقبة و/أو الظهر مجموعة من سبعة من رؤساء الحيوانات المكملة له.

يعتبر الإله توتو هو الشكل المتأخر للإله شو. ويظهر كرجل يرتدي قلنسوة طويلة مع الصل يورايوس وأقراص للشمس، وفي بعض الأحيان يضع أصبعه إلى فمه، على غرار هربوقراطيس (حورس الطفل). ويظهر في شكل أبي الهول الذي يخطو، الذي يدوس الوحوش الصغيرة تحت قدميه. تم تطوير معبد كبير مخصص لتوتو في بلدة كيلس في الواحات الداخلة المصرية.

figure
نحت صخري بارز للإله توتو في القرن الثالث ق.م.
المعبد الوحيد المعروف المكرس لتوتو يقع في كيلَّس Kellis القديمة. ومع ذلك، له نقوش في معابد أخرى، مثل معبد كلابشة … ومن بين عناوينه الأخرى «ابن نيث» و«الأسد» و«قوة عظيمة» و«سيد شياطين سخمت وشياطين باستت».

أيقونات توتو تظهره مكوَّنًا من جسم أسد مجنح، رأس إنسان، رءوس أخرى من الصقور والتماسيح متوقعة من الجسم، وذيل الثعبان. كان ابن نيث (الإلهة الخطرة). ونسب لآلهة أخرى مثل موت، سخمت، نخبت باستت. وظهر توتو كماحق للشياطين أو حتى كزعيمٍ لهم. كان دوره ذبح الشياطين التي ترسلها «الآلهة الخطرة». ولا بد لنا من ملاحظة أن الأبناء الآخرين لهذه الآلهة قاموا بنفس الوظيفة. ومنهم «ماحص وخنسو ونفرتم». في الأصل كان حارس المدافن، ثم أصبح، في وقت لاحق، يقوم بدور حراسة النوم من الخطر أو من الأحلام السيئة، واعتُبر إلهًا حاميًا من الشياطين، وهو الإله الذي يطيل عمر وحياة الناس في العالم الآخر. كانت تقدم له الطقوس على المذابح المحمولة وكانت التقدمات له تشمل الإوزة والخبز، وكانت الطقوس للحماية من الشياطين والأحلام السيئة. وذكر توتو أنه أعطى الحماية من الشياطين، وإطالة العمر وحماية الناس من العالم الآخر.

من الجوانب المثيرة للاهتمام في توتو هو تبنيه للعديد من سمات الصور الملكية الفرعونية القديمة، مثل لقب «ملك مصر العليا والسفلى». في أوقات سابقة، كان «أبو الهول»، حارس الأهرام، يشبه إلى حد كبير توتو الذي يرمز إلى الكا الملكي، روح الملك الحاكم، عندما تم إعادة تشكيل المعابد خلال الفترة الإمبراطورية الرومانية، حيث تم تصوير الإمبراطور الروماني الحاكم من خلاله في أداء وظائف الطقوس المعيارية للفراعنة.

يلفت الانتباه مرافقة الطائر «أبي منجل» للإله توتو، ومعروف أن هذا الطائر هو رمز للإله تحوت إله الكتابة والقمر، وهو ما يؤكد رأينا بأن الإله توتو إله قديم جدًّا كان معروفًا في وادي الرافدين كإله للمعرفة وله علاقة بالإله تحوت، والذي يُلفظ ﺑ «توت، طوط».

figure
الإله توتو شبيهًا ﺑ «أبي الهول» وحارسًا لمصير وحياة الإنسان.

(و) أسطورة خلق الإنسان الأنثربوغونيا Anthropogony

نرى أن خلق الإنسان حصل مع خلق الآلهة كما لاحظنا ذلك في مثولوجيا هليوبوليس، ولكن هناك أسطورة تُعنى بخلق الإنسان من «عين رع» بسيطة جدًّا قياسًا إلى أساطير خلق الآلهة والكون. فالأسطورة لا تعطي لهذه العملية بُعدًا عميقًا يتناسب مع أهميتها كما في أساطير الشعوب الأخرى.

تروي الأسطورة أن الإله «رع» وهو إله الشمس قد فقد إحدى عينيه ولم يعد يرى بوضوح فيرسل ولدَيه (شو إله الهواء وتفنوت إله الرطوبة) ليبحثا عنها فيغيبان وقتًا طويلًا مما يضطره لاتخاذ عينٍ أخرى ووضعها في مكان تلك المفقودة.

وبعد زمن عادت «العين المفقودة» ولكنها لم تجد لها مكانًا في وجه «رع» فبكت وذرفت الدموع التي تسمى باللغة المصرية «رمت». ويبدو لنا أن التناظر بين الدموع والبشر (رموت، رمت) هو سبب نشوء هذه الأسطورة، وهذا ما يؤيد النظرية اللغوية في نشأة الأساطير.

وتستمر الأسطورة، حيث يقوم «رع» بمعالجة الموقف وتسليم الإله «تحوت» إله الحكمة هذه العين المفقودة ليرفعها هذا بدوره إلى السماء وتكوِّن «القمر» فتكون بذلك عين السماء في الليل. وتعطي هذه النتيجة إمكانية وجود علاقة بين دمع الشمس والإنسان والقمر، وصلة تحوت الإله بكل هذا.

ونضيف لذلك ونقول إن تحوت يعطي هذه العين المفقودة إلى الإله حورس عندما فقد هذا عينه اليسرى في حربه مع ست قاتل أبيه أوزيريس. وهي العين التي تحولت إلى الرمز المعروف ﺑ «واجات» أو «عين حورس» الذي يتخذ كتميمة ضد الشر. ولكي تكتمل أسطورة خلق البشر لا بد أن نذكر كيفية انفصال الآلهة عن البشر وتركهم لحكم الملك الفرعون الذي هو إله مسئول عن حكم البشر، حيث تقرر الأسطورة بأن «رع» يقرر الانسحاب من الأرض إلى السماء ويستقر فوق بقرته السماوية (المرفوعة من قبل ابنه شو) ويتسلم «تحوت» إدارة الأرض ويتسلم «جب» إله الأرض إدارة الرموز الملكية، وينفصل الآلهة عن البشر. وتكون هذه بداية حكم الفرعون للأرض كإله نيابة عن الآلهة الآخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥