المبحث الأول

الطقوس اليومية

(١) الاغتسال

كان «تطهير الجسد والروح» هو السبيل لمعرفة الآلهة والتواصل معها؛ إذ شمل ذلك النظافة والاستحمام الدائم الذي يمارس لعدة مرات في اليوم، كما في حالة الملك والكهنة، وأيضًا الحفاظ على نظافة الملابس، وحلق شعر الجسد بالكامل بالنسبة للكهنة.

ظهرت في مصر القديمة وظيفة «كبير مسئولي نظافة القصر الملكي» التي كان الملك ينالها، وأيضًا «كبير مسئولي نظافة الملك» و«كبير الغسالين»؛ حيث كانت طقوس الاغتسال والتطهر وغسل الملابس جوهرية بالنسبة للملك والكاهن.

ولم تكن نظافة الجسد وحدها مصدر إعجاب «هيرودوت» بمصر؛ ولكن سيطرت الدهشة عليه فترة طويلة، حين وجد المصريين سبقوا جيرانهم بإنشاء «المراحيض» داخل بيوتهم، وقد توازى ذلك أو سبقهم إليه ما كان في حضارة السند في مدينة موهنجودارو التي تتمتع بنظام صرفٍ صحي متطور جدًّا.

كان دهن الجسد بزيت العطر أحد إجراءت التطهير أيضًا، وكان يمارسه الملوك والكهنة كطقس ديني أو دنيوي، أما تطهير الروح فكان يتم عبر اتباع إرشادات «ماعت» التي تمثل النظام الحق والعدالة في الكون.

(٢) الصلاة

كانت الصلاة طقسًا دينيًّا يقوم به الإنسان العادي والكاهن والملك، وكانت تُؤدَّى وفق أوضاع منوعة كالركوع والسجود والوقوف بخشوع أمام تماثيل الآلهة. ولم يكن كلُّ تمثال يمثل الإله، فقد كانت هذه التماثيل تُعتبَر نسخًا من تمثال أصيل كان يحتفظ به في قدس الأقداس في المعبد، ولم تكن رؤية هذا التمثال أمرًا يسيرًا للناس، فقد كان الملك وبعض الكهنة من ذوي المراتب العالية هم الذين يسمح لهم كل صباح بمشاهدته والصلاة بين يديه، وكان الملك أو الكاهن يصلي وذراعاه مسدلتين على جانب جسمه، أو في وضعية السجود أو الركوع وهو يكرر الصلاة أربع مرات لتبلغ زوايا أو جهات العالم الأربع، ونص الصلاة هو:

«أعبد سيادتك، بعبارات مختارة، بصلوات تزيد من عظمتك، بأسمائك العظيمة، بمظاهرك المقدسة التي ظهرت بها في اليوم الأول للعالم» (سونيرون، ١٩٩٤م، ١١١).

وهناك نصوص مفصلة تختلف من عصر لآخر ومن إله لآخر.

figure
طقوس الصلاة مقدمة لتمثال أحد الآلهة من قبل مصلين ومصليات.

(٣) الصوم

كان الصيام طقسًا دينيًّا مهمًّا في مصر القديمة مستندًا على أساس أخلاقي رصين، وهو أن من يستطيع حرمان نفسه من الطعام لزمن معين يمكنه الامتناع عن الكثير من الأخطاء وضبط النفس عن السرقة والقتل والأذى، والحفاظ على القانون الإخلاقي العام. المصريون القدماء كانوا يصومون لمدة ٣٠ يومًا في السنة. يبدأ الصيام عند الفجر ويستمر حتى غروب الشمس، وطوال أيام الصيام يمتنعون عن ممارسة الجنس، حتى بعد غروب الشمس.

كان فطورهم يعتمد على النباتات بالدرجة الأساس، فهم يفطرون على الفول والفاصوليا والكزبرة وحساء هذه الأطعمة.

(٤) الختان

يعود الختان في التاريخ المصري القديم إلى عصر الأسر الحاكمة الأولى، ففي منطقة «سقارة» وعلى جدران إحدى المقابر الفرعونية في سنة ٢٤٠٠ق.م. هناك رسم يمثل صبيًّا يقف خلفه رجل يمسك بيديه، ويقف الكاهن منحنيًا لإجراء الختان، وهناك ما يشير لإجراء الختان في المومياوات المصرية المحنطة، وهناك آثار تشير لوجوده في العائلة المصرية السادسة (٢٣٤٥–٢١٨١ قبل الميلاد)، وهي عبارة عن جدارية محفورة على قبر «أنكماحور». وهناك في مقبرة (ميرر–هاشاتيف)، والذي لا بد أنه كان شخصًا له مقبرة محفورة في الجبل ٤٠ كيلومترًا عن المقبرة الملكية التي تبعد ٧٠ كيلومترًا جنوب القاهرة، حيث تم العثور على ثلاثة تماثيل له في مختلف مراحل حياته تعود إلى ما قبل ٢٢٣٠ قبل الميلاد. التمثال الأكبر منهم، لمتوسط العمر، يظهر فيه عضوه التناسلي مختونًا بكل وضوح، وهو في المتحف المصري بالقاهرة. وهناك كذلك مخطوطة باسم شخص يُدعى «أوها». يقص فيها مناسبة ختانه مع مجموعة من الصبيان.

هناك أربعة آراء تفسر الختان عند المصريين؛ وهي:
  • (١)

    يعتبر المصريون الختان شكلًا من أشكال التضحية التي تجري وفقًا لقانون السحر الثاني الخاص بالعدوى، حيث إن التضحية بقطعة من الجسد هي تضحية لا بد منها لاستمرار الحياة للجسد كله بدل التضحية بالفرد بذاته.

  • (٢)

    هناك من يرى أن المصريين القدماء كانوا يربطون الصوم بالأفعى المقدسة التي تحصل على الحياة الأبدية بتغيير جلدها، ومما يساعد على هذا التصور تشابه العضو الذكري مع شكل الأفعى.

  • (٣)

    يعتقد آخرون أن الكهنة المصريين حوروا طقس الإخصاء الذي كان مفروضًا على الكهنة المصريين في معابد الآلهة الأنثوية إلى الختان، وقد كان التحوير مناسبًا لانتشار الطقس في جميع المعابد، ثم لحق بعامة الناس.

  • (٤)

    ربما كان المصريون يمارسون الختان لأسباب غير دينية حفاظًا على النظافة، كما يرى هيرودوت ذلك، فالنظافة عندهم بمثابة الطقس، ويبدو أن قدماء المصريين كانوا أول من مارس ختان الذكور.

ويبدو أن الكنعانيين والفينيقيين أخذوا ممارسة الختان من المصريين، وجاء بعدهم المؤابيون والعبرانيون والأدوميون، وانحسرت ممارسة الختان بظهور الإغريق في الشرق، ففي القرن الخامس قبل الميلاد كان الختان يمارسه فقط المصريون والأحباش والفينيقيون والمسيحيون الذين يعيشون بالقرب من الأنهار. أما في بداية القرن الميلادي الثاني فقد تركزت عملية الختان في الإمبراطورية الرومانية في اليهود، والمسيحيين اليهود وكهنة المعابد المصرية القديمة والنبطيين، ومن اليهود انتشر الختان بين المسلمين.

figure
جدارية مصرية تُظهر عملية الختان لبعض الفتيان.

(٥) التراتيل

كانت التراتيل والأناشيد الدينية تؤدي الطقوس الدينية اليومية والاحتفالية، ولا يُعرَف على وجه التحديد فيما إذا كانت هذه التراتيل موقعة بأوزان شعرية بسبب إهمال الحركات في اللغة المصرية القديمة وعدم نطقها الدقيق، وربما اعتمدت على النبرات الإيقاعية وتكرارها (وهو ما سارت عليه التراتيل القبطية). أما القيمة الشعرية والأدبية لها فقد كانت عالية زاخرة بالصور المؤثرة في الوجدان وفي العقل معًا.

ويمكن إجمالًا تقسيم التراتيل إلى دينية موجهة للآلهة ودنيوية عاطفية بشكل خاص، وتشكل التراتيل الدينية الجزء الأعظم الذي يزخر بالنصوص الموغلة في القدم ومنها التراتيل الكبرى الموجهة للشمس، والتي ظهرت في عصور مختلفة مثل (أمنحتب الثاني، أمنحتب الرابع، ورعمسيس الثاني) وتراتيل تحوت وتراتيل النيل وحورور وسوبك وخنوم … إلخ. وكان أغلبها يقوم في مضامينه على تعدد أسماء الإله وصفاته وتيجانه ومعابده وتلميحات عن أساطيره وقصصه ومعجزاته.

وهذا مقطع من نشيد إلى خنوم:
«التهليل لك
أيها «الإله» الذي زُوِّد بأربعة وجوه فوق عنق واحد،
«الإله» ذو الصوت القوي، ولكن ليس في استطاعة أحد أن يراه،
صاحب المجد العظيم والهيبة الرفيعة،
يا رب عجلة «الفخاري» الذي يشكل على هواه،
«خنوم» الذي صنع أربعة «خنوم»
إله القدر، الإله العائل
الذي تتحقق أوامره
و«كاؤه» لها منزلة تفوق تلك التي تتمتع بها الآلهة والإلهات «الأخرى».
أنت «خنوم»
الوحيد الأحد، الوحيد الأحد.
ومن عمله تخرج كل يوم ملايين الكائنات.
أنت «خنوم»
التجلي المحسوس للنسيم
المحاط بالأسرار الذي من عنقه تتولد الرياح الأربع»
(لالويت، ١٩٩٦م، ١٩٧).

وكانت هناك أناشيد دينية شائعة، كانت الناس ترددها لأزمان طويلة مثل نشيد (استيقظي بسلام …) الذي كان يوجه إلى الآلهة كل صباح في المعابد لكي تستيقظ.

وهناك أناشيد ذات طابع صوفي وطقوس خاص، مثل أناشيد «هنو» التي كان مرددوها يركعون ويضربون صدورهم بأيديهم (انظر إرمان، ١٩٩٥م، ٢٤٨).

وكانت الموسيقى تلعب دورًا ثانويًّا في أداء الأناشيد والتراتيل، ولم تكن هناك عناية بها مع هذا النوع من الشعر، على العكس من الغناء الدنيوي، وقد كان للكاهنات دور بسيط في أداء بعض أنواع الموسيقى الدينية البسيطة عن طريق استعمال الشخليلة والصنوج والعقود الكبيرة أمام الإلهة حتحور أو أي إله آخر.

(٦) التطهير

كانت طقوس المعبد اليومية على نوعين، الأول يقوم بها عامة الكهنة، وهي طقوس الخدمة في باحات المعبد، والثاني يقوم بها الكاهن الأكبر ومساعده في قدس الأقداس. أما طقوس الخدمة في باحات المعبد العامة فكان يؤديها عدد كبير من الكهنة والموظفين التابعين للمعبد، ولم يكن الغرض من هذه الطقوس العبادة، بل كانت تُؤدَّى كأعمال روتينية من أجل أن يمنح الإله الملك (الذي هو بمثابة الكاهن الأعظم) الحياة الأبدية والسعادة والنصر.

«التطهر الذي يجريه الملك قبل الخدمة ككاهن أعلى للإله كان على نفس المنوال، فقد كان يتم في ملحق خاص في المعبد يسمى «بيت الصباح»، لأن التطهر يأخذ مكانه في الفجر. وقد كان الملك يُرش بالماء من البحيرة المقدسة بواسطة كاهنين يتقمصان إما شخصية «حورس وتحوت» أو «حورس وست» وربما كانا يضعان أقنعة هذين الإلهين خلال الطقس ومراسم التطهر يصحبها ترتيل كلمات وصيغ مناسبة لتغمر الملك «بالحياة والحظ والطيب»، وتجدد شبابه (فتوته). وبعد التطهر بالماء كان الملك يُبخر بالبخور وتقدم له أربع كرات من النترون لمضغها. وفي المراسم اللاحقة كان الملك يضع الملابس ثم يدهن ويزود بأدوات الزينة وعلامات السلطة الملكية، عندئذٍ فإنه يكون مستعدًّا لدخول المعبد وتقديم الخدمة ككاهن للإله طبقًا للخدمة الدينية اليومية التي وصفناها من قبل» (تشرني، ١٩٩٦م، ١٤٠).

وكانت هذه الطقوس تبدأ قبل شروق الشمس حين يقوم الكهنة بالذهاب إلى البحيرة المقدسة، أو بئر المعبد لتطهير أجسادهم بمائها المقدس، ثم يقومون بتنظيف المعبد وتبخيره. ثم يدخل حاملو القرابين ومرتلو الأناشيد ويتقدمون إلى بهو الأعمدة الثاني، حيث تقدم عدة موائد للقرابين ويضعون ما يحملون فوقها بعد تطهيرها بالماء والبخور، وكانت أعمالهم تشمل:
  • (١)

    تهيئة وجبة تقديم طعام الإله: وكانت تتمثل باللحوم والحلويات والخضار والثمار المكدسة على المناضد الدائرية، وهناك عملان رمزيان مع الوجبة هما قرابين البخور وقرابين ماعت، حيث يجري تقديم الطعام إلى الإله والعالم ومناطق نفوذه. ولم تكن الألوهية تستهلك الأطعمة، وهذا واضح لا ريب فيه (جزء من روحه غير المادي فقط، موجود في تمثاله)، هكذا تكتمل وجبة طعام الإله خارج حدود الإدراك البشري.

    تمر النفس غير المادية للأطعمة في الروح الربانية، دون أن يتبدل أي شيء في وضع القرابين المكدسة على المذابح (انظر سونيرون، ١٩٩٤م، ١١١)، وكان الكاهن الأكبر هو الذي يقدم جزءًا من الأطعمة للإله في غرفة قدس الأقداس.

  • (٢)

    النظافة وتزيين الآلهة بثيابها: وكان التنظيف يجري يوميًّا، أما زينة الآلهة فكان يُجرى مرة أو مرتين في الأسبوع، وكان مسح الإله في مقصورته وإغلاق أبوابه.

  • (٣)

    طقوس الظهيرة: كانت صلاة الظهر تُؤدَّى عندما كانت الشمس في سمتها السماوي وكان ذلك مصحوبًا برش الماء وحرق البخور أمام مقر الآلهة الضيوف والملوك المؤلهين المعبودين في المعبد إلى جانب الآلهة.

  • (٤)

    طقوس المساء: وكانت مشابهة لطقوس الصباح مع رونق أقل وإغلاق للمعبد وإقامة مراسيم العبادة في المعابد الصغيرة الجانبية المحيطة بقدس الأقداس: تكريس، إرواء، تبخير، رفع الأطعمة، تطهير كلي، ثم تغلق أبواب المعبد وينسحب الكهان، وكان الآلهة يخلدون للنوم كالبشر أما الكاهن الفلكي فيبقى ساهرًا على مصطبة المعبد يتابع حركات النجوم والزمن الليلي ليعلن حلول الفجر (انظر سونيرون، ١٩٩٤م، ١١٨).

  • (٥)

    كانت الطقوس التي يقوم بها الكاهن الاكبر كلَّ يوم من النوع الخاص يساعده كاهن يستطيع القيام بتأدية الطقوس وحمل المبخرة والشعلة التي ستوقد.

وكان الكاهن الأكبر يتقدم بخطوات بطيئة ومهيبة عبر بهو الأعمدة الأكبر متجهًا نحو قدس الأقداس وهو يتمتم بنصوص دينية يبدؤها بقوله:

«إني كاهن ابن كاهن، إني طاهر ابن طاهر، إني آتٍ للقيام بالخدمة، بعد أن أزلت عن كاهلي كلَّ شرور الأرض، إني طاهر، إني طاهر.»

ثم يتقدم نحو الباب ويفك ختمه ويفتح غرفة قدس الأقداس المظلمة ويقوم مساعده بإضاءة الشعلة، وحرق البخور ثم يتقدم الكاهن نحو الناووس، حيث يحفظ تمثال الإله في خزانة الخشب هذه فيفتحها ويتأكد من ختمها فيظهر تمثال الإله ويسجد الكاهن مباشرة ويقبِّل الأرض منبطحًا على بطنه، ثم تقدم له القرابين ويخرج بخشوع ويمسح آثار أقدامه على الرمل ويقفل الغرفة لكي لا يدخل أحد غيره إلى هذه الغرفة (انظر أبو بكر، الموسوعة المصرية، ٢٢٥).

ولعل أهم عمل كان يقوم به الكاهن الأكبر هو (إحلال الإله في تمثاله) ويتم ذلك بتلاوة ترتيلة يومية أثناء احتضان الكاهن التمثال الإله وهو في قدس الأقداس ثم رفعه من الناووس ووضعه على الأرض، فإذا ما حلت روح الإله في الجسد (أي في التمثال) أصبح الإله موجودًا في المعبد ويأخد الكاهن في معاملته كما يعامل الملوك في قصورهم (انظر أبو بكر، الموسوعة المصرية، ٢٢٥).

(٧) القرابين

كان طقس تقديم القرابين تقليدًا مصريًّا يوميًّا مبنيًّا على أساس أن الآلهة والأموات من الناس يحتاجون إلى الطعام كما يحتاج إليه الناس الأحياء، وكان تقديم القرابين شعيرة ثابتة في الطقوس الإلهية اليومية التي يقوم بها كهنة المعابد أو في الاحتفالات الدورية وطقوس المناسبات الدينية، فقد ذكرنا كيفية تقديم القرابين في التقاليد اليومية لخدمة المعبد والتي كانت للآلهة الكبيرة ثم قدمت للآلهة الصغيرة، ولتماثيل الملوك والأمراء.

figure
كاهن يرتدي الجلد الطقسي الكهنوتي يقدم بعض الطيور كأضحية ساخنة.

وكانت هذه القرابين تُقتسَم آخر الأمر بين الكهنة والعاملين في المعابد وتتكون القرابين عادة من الحيوانات والنباتات، وقد تكون بسيطة تقتصر على صب الماء والبخور كما هي الحال في قرابين الظهيرة اليومية، أما قرابين الصباح والمساء فقد كانت عامرة.

فيما يخص الموتى كانت العقائد الجنائزية المصرية المبكرة ترى ضرورة تقديم الطعام والشراب إلى الميت، ولذلك كانت تدفن مع الميت جرار مليئة بالطعام والشراب، ثم أصبح لزامًا على الابن الأكبر أو الكاهن المنتدب لهذه المهمة تقديم الطعام والشراب اليومي للمتوفَّى، ثم اقتصر الأمر على تقديمه في الأعياد، وكانت شعائر «فتح الفم» الجنائزية للمتوفَّى تشير إلى استرداد قدرته على الأكل والتمتع بالقرابين التي تقدم له.

كانت مائدة القرابين التي تقدم للمتوفَّى في العصور الأولى مقتصرة على رغيف يوضع على حصير يفرش أمام القبر. ولذلك أصبح شكل الرغيف هو رمز القربان في الكتابة المصرية.

ورغم أن تقاليد تقديم القرابين إلى المتوفَّى ظلت قائمة إلا أن العلم الكهنوتي اخترع طريقة سحرية لطعام أبدي عن طريق رسم مائدة قرابين باذخة في أغلب الأحيان، «حيث يُنحت في الحجر أمام الباب الوهمي أو اللوح الذي يدل على مكان القربان، وكثيرًا ما كانت تنقش بعض مناظر الطعام من خبز ولحم وطير وفاكهة وزهر من فوق رسم الحصيرة الأصلية، وذلك مع أدعية تقليدية بوافر الطعام من قبل الملك والآلهة لروح المتوفَّى، وربما زودت أحيانًا بمواضع منقورة للزيوت، وقناة يجري فيها ما يصب عليها من القربان السائل، حيث يستقبل في وعاء ملحق بها أو يوضع تحتها، وكانت هذه الموائد تقدم أحيانًا هدية من الأحياء إلى أحبابهم المتوفين» (يوسف، الموسوعة المصرية، ٣٢٥).

كانت الصيغة التقليدية لتقديم القربان هي «قربان يقدمه الملك» التي كانت الصلوات تبدأ بها من أجل الموتى في الجبانات ومن أجل الآلهة في المعابد.

ولكن الصيغة التي شاعت هي أن يسمى القربان ﺑ «عين حورس» فكل طعام وكل شراب والثياب والأدهان والمساحيق، كلُّ ذلك يجب تسميته هكذا حتى يصل الأمر إلى أن يسمى النبيذ عين حورس الخضراء، واللبن عين حورس البيضاء والأدهان وكل ما له رائحة طيبة يسمى «عرق الآلهة» ويدهن الإله برائحته … العرق الذي خرج من لحمه، وكانت الحيوانات التي تذبح في ساحة خاصة من المعبد كأنما هي أعداء الإله التي تقتل لإرضائه، وكانت قرابين اللحم تقدم إما نيئة أو مشوية ومن النادر أن تحرق (انظر إرمان، ١٩٩٥م، ٢٤٥).

figure

(٨) طقس فتح الفم

figure
طقوس فتح الفم.

طقس خاص من أجل أن يواصل المتوفى رحلته الليلية في عالم الدوات يمارسه نوع معين من الكهنة اسمهم «سم» يعملون، في الغالب، في خدمة الإله بتاح إله منف، يرتدون جلود الفهد ويضعون على وجوههم قناعًا لحورس، ويرافقه مرتل. ويقوم الكاهن بفتح فتحات الرأس للمتوفى أو لموميائه لكي يعطى المتوفى فرصة لحياة جديدة وليتمكن من تناول طعامه وسماع أصوات القضاة الذين سيحاكمونه وليتكلم وليتنفس. ثم يُقدَّم للمتوفى كأس من النبيذ وعنقود من العنب.

«قبل أن يخصص تمثال لهذا الغرض الطقسي فإن مراسم «فتح الفم» كانت تؤدى له في «استديو» المثال التي يطلق عليه اسم «قلعة الإله». وبهذه المراسم الطقسية كان التمثال يقرن مع الإله أو مع إنسان، ويزود بالحياة والقوة في كلٍّ منهما. وكان طقس «فتح الفم» يتكون من عدد من الطقوس القديمة في أصلها والتي ذكرت أول إشارة لها في بداية الأسرة الرابعة، كما أن أول وصف متكامل لها في حوزتنا يعود رغم ذلك إلى الأسرة التاسعة عشرة عندما كانت هذه الطقوس تقع في إطار مراسم طويلة تؤدى جميعًا في الجنائز عند المقبرة على المومياء وليس على تمثال الميت، وبذلك كان جسد الميت يوهب بالحياة كما أن ملكاته كانت تتحد لكي يمكن له أن ينتفع من الخدمة اليومية التي تُؤدَّى له في الهيكل الجنائزي للمقبرة» (تشرني، ١٩٩٦م، ١٤١-١٤٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥