المبحث الثالث

الطقوس الدورية (الأعياد)

تمثل الطقوس الدورية من حيث المعنى العميق لها مناسبات لاستذكار العود الأبدي لأيام الخليقة الأولى والزمن الأول الذي ظهر فيه الكون، الآلهة، الإنسان، الزمان، المكان والأشياء بعامة والأعياد الدينية التي تأخذ طابع التكرار الأسبوعي أو الشهري أو الفصلي أو السنوي أو لسنوات معينة (كل ٣٠ سنة كما في العيد الثلاثيني المصري) هذه الأعياد لا تأخذ طابع الزمن التاريخي العادي التقليدي الذي نراه في الأيام والشهور الباقية بل هي زمن آخر استثنائي يبدو وكأنه جزء من الزمن البدئي أو الميثي … أي إننا نلمح تعارضًا بين الزمن التاريخي والزمن اللاتاريخي، أو بين الزمن الدنيوي والزمن الديني، وقد كان هذا الزمن الديني يعمل دائمًا على إنعاش الزمن التاريخي (الدنيوي) المحتضر. فهو تحديد للزمن أو إعادة توليده.

هناك تصنيفات كثيرة للأعياد تقوم على أسس معينة، فمثلًا تم تقسيم الأعياد إلى:

  • «الأعياد الزراعية وهي الأعياد المرتبطة بحياة الزراعة مثل أعمال البذر والحرث.

  • الأعياد الموسمية التي يُحتفل بها في الربيع ونصف الصيف والخريف.

  • أعياد التقويم وهي التي تعتمد على موقع الشمس وشكل القمر وبداية السنة.

  • أعياد عائلية وهي التي تعتمد على أحداث معينة تحدث في إطار العائلة.

  • أعياد الموتى من خلال ذكرى المتوفى وتكون شرفية في أوقات معينة.

  • أعياد متصلة بحياة الشعب مثل عيد التتويج وجلوس الملك على العرش.

  • أعياد خاصة مثل الأعياد التي يحتفل فيها بتكريم مؤسس أو موحد الدولة.»

(نور الدين، ١٩٩٦م، ٢٢)
figure

بلغ عدد الأعياد الدورية في مصر القديمة حوالي ٢٨٢ عيدًا، وكان عدد الأعياد المهمة في كلِّ مصر هو ٧٩ عيدًا، بلغ العدد الإجمالي لليالي الأعياد العامة في مصر القديمة «١٦٩» مائة وتسعًا وستين ليلة، بعضها متداخل التوقيت، وليلة واحدة تتم كلِّ أربع سنوات هي عيد مولد تحوتي، وفيما يلي قائمة بهذه الأعياد ومواعيدها حسب التقويم المصري القديم:

الأعياد الدورية المهمة في مصر القديمة (الجدول من وضع المؤلف)، وانظر (حرك، ٢٠١٢م).
ت اسم العيد موعده في التقويم المصري
(١) رأس السنة المصرية ١ توت
(٢) وفاء النيل ١٥ توت
(٣) عشية واج ١٧ توت
(٤) مهرجان واج ١٨ توت
(٥) ذكرى تحوتي ١٩ توت
(٦) عيد تخا ٢٠ توت
(٧) مهرجان الحصاد ٢٠ توت
(٨) موكب أوزيريس ٢٢ توت
(٩) يوم المطالبة بالحقوق ٢٦ توت
(١٠) يوم السلام ٢٧ توت
(١١) يوم الصلاة ٣٠ توت
(١٢) مهرجان مخيت ١بابه
(١٣) عيد النساجين (نيت) ٢ بابه
(١٤) إبراء عين حورس ٣ بابه
(١٥) عيد نت جر ٦ بابه
(١٦) تعامد الشمس (ميلاد رمسيس) ١١ بابه
(١٧) عيد التاج الأبيض ١٤ بابه
(١٨) افتتاح أوبت ١٥ بابه
(١٩) مهرجان خنوم ١٨ بابه
(٢٠) موكب أوبت ١٩ بابه
(٢١) توحيد القطرين ٢١ بابه
(٢٢) عيد منتو ٢٧ بابه
(٢٣) أعياد ساتت وعنقت ٢٨ بابه
(٢٤) يوم الأرض ٣٠ بابه
(٢٥) مهرجان بس ١هاتور
(٢٦) آمون حامي الضعفاء ٩ هاتور
(٢٧) السلطة القضائية ٢٣ هاتور
(٢٨) يوم حكم المحكمة ٢٦ هاتور
(٢٩) عيد الجلوس على العرش ٢٨ هاتور
(٣٠) الأحضان الأفريقية (عنقت) ٣٠ هاتور
(٣١) مهرجان هاتور ١ كيهك
(٣٢) شجرة أوزير ١٥ كيهك
(٣٣) يوم السعي ٢٢ كيهك
(٣٤) مهرجان سوكر ٢٦ كيهك
(٣٥) رفع عمود جد ٢٨ كيهك
(٣٦) مهرجان مينو ٢٩ كيهك
(٣٧) يوم البهجة ٣٠ كيهك
(٣٨) مهرجان نحبكاو ١ طوبة
(٣٩) موكب واجيت البحري ٢٠ طوبة
(٤٠) موكب باستت البحري ٢٨ طوبة
(٤١) رفع الصفصاف ٢٩ طوبة
(٤٢) سيدة الكتابة سيشات ٣٠ طوبة
(٤٣) موكب موت «سيدة أشرو» ٣٠ طوبة
(٤٤) موكب أنوبي البحري ١ أمشير
(٤٥) حورس في معية بتاح ١٠ أمشير
(٤٦) تعامد الشمس في عيد جلوس رمسيس ١٣ أمشير
(٤٧) أعياد الشمس ٣٠ أمشير
(٤٨) مهرجان بتاح ١ برمهات
(٤٩) مهرجان أمنحتب ٢١ برمهات
(٥٠) حورس في بوتو ٢٣ برمهات
(٥١) ختام أعمال أمنحتب ٢٩ برمهات
(٥٢) هاتور (باستت) ٤ برموده
(٥٣) باستت في قاربها ٥ برموده
(٥٤) شم النسيم ١٥ برموده
(٥٥) احتفال رع نينت ٢٥ برموده
(٥٦) عيد القمح ٢٧ برموده
(٥٧) كسوة حورس ٣٠ برموده
(٥٨) عيد الغلَّة ١ بشنس
(٥٩) وليمة حورس ١ بشنس
(٦٠) عيد أنوبي ١٠ بشنس
(٦١) مهرجان مين ١١ بشنس
(٦٢) احتفال بيت حورس ٣٠ بشنس
(٦٣) عيد الوادي ١٠ بئونة
(٦٤) ليلة النقطة ١١ بئونة
(٦٥) يوم الطهارة ٢٨ بئونة
(٦٦) الترحيب بحابي ١٥ أبيب
(٦٧) حورس يرحب بنت جر ١٥ أبيب
(٦٨) عودة سنوحي ٢١ أبيب
(٦٩) مولد حتحور ٣٠ أبيب
(٧٠) تدليل حورس ٣٠ أبيب
(٧١) عيد جميع الأرباب ١ مسرا
(٧٢) عيد عبيب ٢ مسرا
(٧٣) افتتاح السنة ٢٤ مسرا
(٧٤) مولد أزوير ١ أبد كوجي
(٧٥) مولد حور ٢ أبد كوجي
(٧٦) مولد ست ٣ أبد كوجي
(٧٧) مولد إيزيس ٤ أبد كوجي
(٧٨) مولد نفتيس ٥ أبد كوجي
(٧٩) مولد تحوتي ٦ أبد كوجي

«إن بنية الزمان الدورية هي على صعيد كوني، بايولوجي، تاريخي، بشري … إلخ هي ببساطة جوهر فكرة (العود الأبدي) التي تكشف عن أنطولوجية غير ملوثة بالزمان والصيرورة؛ لأنها توقف هذا وهذه الصيرورة. وقد كان الإنسان القديم بعمله هذا يمنح الزمان مسرى دائريًّا يلغي عدم قابليته للرجوع … كلُّ شيء يعود إلى بدايته في كلِّ لحظة … وليس الماضي غير تصور سابق للمستقبل، وما من حادثة إلا وهي قابلة للرجوع، وما من تغيير إلا وهو غير نهائي، بمعنى ما، يمكننا القول إنه لا يحدث جديد في العالم، لأن كلَّ شيء ما هو غير تكرار للنماذج البدئية نفسها» (انظر إلياد، ١٩٨٧م، ١٥٩).

وقد أذهلتنا كثرة وتنوع الطقوس الدورية أو الأعياد الدينية المصرية القديمة وهي جديرة بدراسات مثولوجية وفكرية معمقة لا بدراسات استعراضية سريعة. وحيرتنا طريقة تصنيف هذه الأعياد لكي نجد مدخلًا فكريًّا عميقًا لها. وقد اهتدينا إلى تصنيف مقبول يتيح لنا جمع هذه الأعياد وفق ترتيبات زمنية دقيقة لكننا لن نتوقف كثيرًا عند الأعياد المحلية لكل مدينة أو قرية أو إقليم وسنكتفي، على الأغلب، بدرس وتحليل الأعياد التي كانت سائدة في مصر كلها.

نود أن نشير إلى عيدٍ مهمٍّ أصبح مثار جدل كبير وهو عيد مهرجان إله الشمس سوكار على ٢٦ خوياك، الموافق ٢٢ ديسمبر، والذي أصبح يقارن بعيد حورس وعيد ميلاد السيد المسيح وإمكانية التأثر به من خلال مقارنة شخصيتي حورس وسوكار والسيد المسيح.

figure
بتاح، أوزيريس، سوكار يقترب من إله الشمس سوكار عند الانقلاب الشتوي.

(١) الأعياد الشهرية

كانت الأعياد الشهرية في مصر القديمة أعيادًا قمرية فقد ارتبطت بمراحل تحول القمر ونموه واختفائه. وكان العيدان الشهيران الرئيسان هما عيد ظهور الهلال، وعيد اكتمال القمر.

ولكن القمر لم يلعب دورًا رئيسيًّا في الديانة المصرية التي كان طابعها الأعظم طابعًا شمسيًّا، ونرجح أن سبب ذلك له علاقة بالجذور الماقبل تاريخية في مصر …

فقد جاءت الزراعة إلى مصر متأخرة ولم تتشبع العقائد المصرية الروحية بالإلهة الأم الزراعية ودورها في الإخصاب لأن الزراعة في مصر لم تكتشف محليًّا بل انتقلت تقاليدها إلى مصر من الشام. ولذلك فإن الديانة القمرية النزعة المرتبطة بالزراعة لم يكن لها دور كبير.

لقد كانت الزراعة في مصر تظهر مع الانقلاب الحجري النحاسي (الكالكوليتي) الذي حصل في الشرق الأدنى القديم والذي رتب معه ظهور العقائد الرجولية الشمسية، ولذلك كان الإيقاع الشمسي في الألف الخامس قبل الميلاد هو السائد، وفي هذا الزمن تقريبًا انتقلت الزراعة إلى مصر، فبدلًا من أن تبتكر لها إيقاعًا قمريًّا أنثويًّا من بيئتها ترافق مع نقلها الإيقاع الشمسي الذي لاءم طبيعة مصر ومكانة الشمس في بيئتها، وهكذا كان النيوليت والكالكوليت في مصر عمليًّا مرتبطين بالإيقاع الشمسي وظهور العقائد الشمسية وكان ذلك كفيلًا بإزاحة القمر والنزعة القمرية في العبارة.

ولكن القمر اقتصر إلى حدٍّ ما على الوقت وتنظيم الزمن معبرًا عنه بالإله تحوت رب العلم والمعرفة والحر والحساب، فقد كان القمر مصدر تنظيم الشهر ومعرفة أيامه من خلال تغيراته المستمرة من الهلال إلى نصف البدر إلى البدر المتكامل ثم الهلال ثم الاختفاء.

واتصل القمر أيضًا بالإله «خنسو» إله القمر وابن الإله آمون في ثالوث طيبة الذي كان معروفًا بالتجوال المستمر وهو إله الحساب الزمني.

وفي العصور الأخيرة من الدين المصري ارتبط القمر بالإله أوزيريس وذلك اعتمادًا على دورته الشهرية التي تبدأ بالولادة ثم الاكتمال ثم الموت كونها تشبه دورة حياة أوزيريس.

إن عيد الهلال وعيد البدر يمثلان العيدين نصف الشهريين للمصريين، ولا نعرف تفاصيل كثيرة عن طقوسهما.

إن الاحتفالات القمرية ذات بُعد ديني، وكانت مرتبطة في وقت مبكر من الحياة المصرية بالملك (الفرعون)، فقد كان الفرعون المتوفى عندما يصعد إلى السماء يتصل بالقمر … وهذا ما يوضحه التالي من نصوص الأهرام:

«التوأم الذي يعبر السماء هو «رع» و«تحوت» اصطحبا الملك معكما … سوف يأكل مما تتغذيان، ويشرب مما تشربان، ويعيش مما تعيشان، وسوف يجلس على مقعدكما، ويكون قويًّا بفضل ما يصنع قوتكما، ويكون قويًّا بفضل ما يصنع قوتكما، وسوف يبحر على قاربكما» (لالويت، ١٩٩٦م، ٢٠٦).

وكان القمر يقوم بالصيرورة الكونية دينيًّا ويصالح الإنسان مع الموت، أما الشمس فتكشف عن نمط آخر من الوجود: لا تسهم في الصيرورة وهي في حركة دائمة لا تتغير، وهيئتها دائمًا هي. لكن القمر يسهم في الحياة (الصيرورة والتكاثر والتناقض) وفي الموت. إن ما يكشفه القمر للإنسان الديني لا يقتصر على اتصال الموت بالحياة اتصالًا لا انفصام له وحسب، وإنما أيضًا، وبصورة خاصة، إن الموت ليس نهائيًّا، وإنما تعقبه ولادة جديدة دائمًا (انظر إلياد، ١٩٨٧م، ١٤٨).

(٢) الأعياد الفصلية

(٢-١) أعياد الفصول الثلاثة

كان المصريون يقسمون السنة إلى «١٢» شهرًا مقسمة إلى ثلاثة فصول، لا نستطيع البت في بدايتها ونهايتها. ولكن بعض العلماء يعتقدون بأن هذه الفصول، وأعيادها التي تكون في بدايتها تنتظم كما يلي:
  • عيد أخت Akhet وهو عيد فصل الفيضان الذي يبدأ في ١٩ تموز، وينتهي في ١٥ تشرين الثاني، وهو ما يقابل فصل الخريف تقريبًا.
  • عيد بيرت Pert وهو عيد فصل الزرع الذي يبدأ في ١٦ تشرين الثاني وينتهي في ١٥ آذار، وهو ما يقابل فصل الشتاء تقريبًا.
  • عيد شموت Shemut وهو عيد فصل الحصاد الذي يبدأ في ١٦ آذار، وينتهي في ١٣ تموز وهو ما يقابل فصل الصيف.

أما الأيام الخمسة النسيئة «من ١٤-١٩» تموز فقد كانت عيدًا سنويًّا للأيام الزائدة عن السنة المكونة من «٣٦٠» يومًا عند المصريين، يسمى عيد أيام النسيء الخمسة.

والظاهر أن الأعياد الفصلية كانت أعيادًا زراعية ترتبط بالمحاصيل وبذرها ونموها وحصادها، ولذلك نرجح أن يكون الإله أوزيريس هو الراعي الأول لمثل هذه الأعياد والشعائر الزراعية؛ لارتباطه بطقوس الزراعة والبذار.

ومن خلال الاستعراض السابق يتضح لنا أن كلَّ فصل يتكون من أربعة أشهر وكل شهر من ٣٠ يومًا. وسيقسم الفلكيون كلَّ شهر إلى ثلاث مناطق برجية تتكون كلٌّ منها من عشرة أسماء، أي إن هناك «٣٦» منطقة برجية وتكوِّن كلُّ ثلاثة منها (على نظام الشهر) برجًا مصريًّا باسم معروف.

كان استقبال الفيضان أو الزرع أو الحصاد في بداية كلِّ فصل من الفصول المصرية مدعاة للاحتفال بخير قادم، ففيضان النيل كان استهلالًا لسقي الأرض لدفن الحبوب في الأرض، حيث تستذكر فيها طقوس دفن وموت أوزيريس على أنها بعث قادم للغير والزرع. أما الحصاد فقد كان مناسبة لجمع جهود السنة الزراعية وانتصارًا لقوى البعث والزراعة.

(٢-٢) الطواف

كان الطواف بتمثال الإله الرئيسي المحفوظ في قدس الأقداس في معبده طقسًا كهنوتيًّا موسميًّا يجري في كلِّ فصل على وجه التقريب. ويرى سونيرون أنه كان يجري بمعدل (٥-١٠) رحلات مخصصة لأحد الآلهة أو لآلهة آخرين من المكان نفسه، والذي يتبدل مساره حسب الهدف من الطواف والمعبد المقرر للاستراحة الليلية.

كان هذا الطقس كهنوتيًّا بالدرجة الأولى يمارسه كهنة المعبد، وكان يجري بعد أن تقام صلاة احتفالية بدل الصلاة النظامية يوضع خلالها تمثال الإله داخل هيكل صغير من الخشب في قارب يحمله الكهان على أكتافهم، مخترقًا أزقة القرى، وكان هذا القارب نموذجًا مصغرًا للسفينة التي تمخر عباب نهر النيل في الأساطير، تتزين مقدمته ومؤخرته برمز ألوهي يكون غالبًا لحورس الصقر وقرص الشمس وخونسو وقرص القمر.

وتعلو هيكل الإله مظلة من الخشب الخفيف أو القماش المشرع على أعمدة رفيعة من الخشب، وفي مؤخرة القارب مجذاف طويل جانبي يقوم بمثابة دفة التوجيه وكانت صورة الإله تزين هيكل الخشب وترتفع في المقدمة بعض الرايات الإلهية المقدسة (انظر سونيرون، ١٩٩٤م، ١٢٠-١٢١).

كان قارب الطواف يحمل أحيانًا على أكتاف نحو من ثلاثين كاهنًا تحت إشراف كهنة كبار، وكان لقب «حامل القارب» هو الذي يطلق على هؤلاء الكهنة الصغار. وكان شرف حمل القارب وابتغاء رضا الإله دافعًا أساسيًّا ليقوم الكهنة والرجال بالتناوب على حمله طيلة فترة الطواف الطويلة.

«كان الكاهن يمشي أمام القارب، يحمل المبخرة بيده ينشر منها دخان البخور لطرد الجن والأرواح الشريرة التي تحوم حول القارب. كان الكهان يسيرون خلفه بمواكب طويلة بثيابهم النقية الطاهرة، ويرتلون بعض الأناشيد الوقعية.

figure
طقس الطواف.

ناووس وحامل على شكل سفينة، ومن أسفل قاعدة حجرية (من معبد أبيدوس).

قارب خنسو الصغير الذي يطرد الشياطين، ومن أمامه كاهن يحرق البخور. (من نصب بنترش).

ينشط حولهم جميع المؤمنين والعاطلين عن العمل متأثرين وغوغائيين، مطلقين صرخات الفرح، مع جوقات المغنيين المقدسين» (سونيرون، ١٩٩٤م، ١٢٢).

وكان موكب الطواف هذا يقطع المدن والقرى مستريحًا في محطات استراحة صغيرة وفي محطات كبيرة هي عبارة عن معابد صغيرة لذلك الإله، وفي الحالين كانت تجري عند الاستراحة طقوس معينة كالتبخير والتقدمات المتنوعة وقراءة التراتيل المقدسة، وكانت تُعطى النبوءات باستشارات مكتوبة.

وكان طقس الطواف يجري أحيانًا كجزء من أعياد الآلهة أو أثناء التتويج السنوي لحيوان مقدس ليرافق في اليوم الأول من السنة الاتحاد بين الإله وتمثاله على الأرض. ويأخذ الطواف طابعًا جماهيريًّا في الغالب حتى إن الناس كانوا يحيُّون الإله ويلوِّحون بأيديهم فرحًا لمروره من أمامهم. وكان طقس الطواف أحيانًا طقسًا سريًّا محدودًا.

ومن الأمور التي كانت ترافق طقس الطواف، وخصوصًا في عهد الإمبراطورية الجديدة، استشارة الإله وطلب نصائحه أو ما يعرف ﺑ «الوحي الإلهي»، حيث يقوم الكهان بدور الوسيط بين الإله ومن يستشيره من الناس. وإذا كان الأمر يتعلق بالفصل بين خصمين أو تحديد خط سلوك المستقبل. وكان الإله (عبر الكهنة) يعطي أحكامه بنزاهة مطلقة دون أن يميز بين غني أو فقير ودون أن يأخذ بنظر الاعتبار ظروف المتظلمين … كانت العدالة المطلقة قانونه.

وربما كان يجري ذلك وسط الهتاف والتهليل حين كان موكب القارب يشق حشود الجماهير المحتفلة، فلا يتمكن عند ذاك الكهنة الوسطاء من تبليغ الوحي الإلهي، ولذلك يعبر عنه بحركة حاملي مقدمة القارب فإن ثقُل القارب وجعل حاملي القارب ينحنون بوضوح فإن ذلك يدل على أن الإله موافق، أو أن يتقدم الحمَّالون بالقارب إلى أمام، أما إذا تراجع حاملو مؤخرة القارب إلى الخلف فإن ذلك يعني النفي أو السلب. وهكذا كان الإله يعطي أجوبته عن طريق حركات معبرة يسلمها لحاملي قاربه.

وإذا أردنا الإشارة الواضحة لموضوع الوحي الإلهي فإننا نقول إنه كان يعبر عنه في معابد تلك الآلهة، قبل أو بعد الطواف، من خلال أصوات الآلهة التي كانت تنطلق بهدوء ووقار وجلال تحيطه مشاعر الخوف والرهبة من غرف تفصلها عن الناس الذين يسألون الإله جدران أو قناطر ذات أبواب وتعلوها نوافذ مفتوحة يخرج منها الصوت الذي ينفذه كهان مختبئون في هذه الغرف، والذين تحوطوا لأية مفاجأة قد يرتكبها زائر ويفتح عليهم الباب، فصنعوا مسالك للتخفي والتراجع، وكان هناك إجراء أكثر احترازًا يقضي بأن تنصب التماثيل المجوفة للآلهة بحيث تسمح بالاتصال بها صوتيًّا ويقوم كاهن مستتر خلفها أو بعيدًا عنها بالكلام، حيث يظهر الصوت وكأنه من هذه التماثيل.

وربما قدم الوحي الإلهي عن طريق الحلم، أو النوم في المعبد وانتظار الحلم الذي سيبعثه الإله للسائل. وربما دخل الإله في جسم إنسان أو طفل بطريق الرعب والخوف في حالة تشبه الجنون المقدس. وكان الأطفال الفقراء والمساكين اللاجئون في المعابد يُستخدَمون كوسطاء لنقل كلام الإله (انظر سونيرون، ١٩٩٤م، ١٣٠-١٣١).

وكانت المواكب أحيانًا تقام في النهر، إذا كانت مسيرة الطواف تتضمن مدنًا واقعة على نهر النيل، وهنا يكون القارب حقيقيًّا محاطًا بقوارب الكهنة والرسميين والناس.

(٣) الأعياد السنوية

وهي الأعياد التي كان كلٌّ منها يقام لمرة واحدة في العام في الوقت نفسه مثل الأعياد الآتية:
  • (١)

    عيد رأس السنة.

  • (٢)

    عيد نهاية السنة.

  • (٣)

    عيد أيام النسيء الخمسة.

  • (٤)

    عيد فيضان النيل.

  • (٥)

    عيد الحصاد.

  • (٦)

    عيد ظهور نجم الشعرى اليمانية (عيد ترقب الفيضان).

وكانت هذه الأعياد تعتمد على التقويم السنوي الثابت الذي يقسِّم أيام السنة إلى ٣٦٠ يومًا على مدى ١٢ شهرًا بمعدل ٣٠ يومًا لكل شهر. أما الأيام الخمسة فسُميت أيام النسيء التي كان المصريون يحتفلون بها عيدًا، والغريب في الأمر: هذا التقسيم السنوي والاحتفال بالأيام الخمسة التي اعتُبرت خارج السنة ما زال اليوم يعمل به الصابئة المندائيون في العراق فهم يسمون عيد النسيء بعيد البنجة.

أما ربع اليوم الذي كان لا بد من إضافته لكل أربع سنوات فلم يعمل به المصريون إلا في نهاية الحكم الإغريقي لمصر … وهو زمن متأخر جدًّا يقع من الناحية العملية خارج الحضارة المصرية القديمة.

واستعملت كلمة «رنبت» بمعنى السنة، وتأتي غالبًا عند الحديث عن السنة الجديدة أو بالتحديد «بداية أو مفتتح العام». وقد حلل الأستاذ علي فهمي خشيم هذه الكلمة ووجد أن هذه الكلمة نشأت أصلًا عن معنى «الطلع الجديد» أو «النبت الجديد» حين بدأ فصل الإنبات وليس مجرد «السنة = العام، الحول»، ثم صار الشباب، الطلع الجديد، والخضر والفاكهة (النبات) وتجرد حتى صار يعني السنة أو بالتحديد السنة الجديدة بداية الإنبات (انظر خشيم، ١٩٩٠م، ٦٥٧–٦٥٨).

(٤) أعياد الملوك

تنوعت أعياد الفرعون في مصر، فكان ينظر لها كأعياد دينية بسبب المعتقد المصري الذي يجعل من الملك إلهًا. وهي أعياد رسمية من الناحية الأخرى بسبب الطبيعة السياسية لها، وكانت أعياد الملوك (الفراعنة) تتوزع على عدة مناسبات هي:
  • (أ)

    عيد الميلاد: الذي يحتفل بمناسبة ميلاد الفرعون الإلهي الذي كان الفرعون يعتبر فيه ابنًا للإله رع منذ منتصف الدولة القديمة، وكان قبل ذلك ملكًا وسيدًا لقومه.

  • (ب)

    عيد التتويج: الذي يحتفل به بمناسبة جلوس الفرعون على العرش، وكانت تُتلى فيه صلوات خاصة وتُجرى طقوس دينية متوارثة، وكان يظهر الفرعون على رأس موكب الاحتفال ويأتي بعده الكهنة الذين يحملون تماثيل الفراعنة العظام قبله مثل «مينا» موحد القطرين وأول ملوك الدولة القديمة، و«منتوحتب الأول» معيد الوحدة ورأس الدولة الوسطى، و«أحمس» محرر البلاد ورئيس وحدتها ورأس الدولة الحديثة.

    وهذا التقليد يدل على الوحدة السياسية والروحية لمصر عبر تاريخها الطويل، وعلى ندرة الضغائن السياسية بين الفراعنة، وهو ما كانت تفتقده كلُّ دول العالم القديم.

    وكان جوهر هذا العيد مستندًا إلى تخليد ذكرى قيام وحدة القطرين وكان الكاهنان «حور» و«ست» المقنعان يقودان الملك ليغسلاه ويطهراه ثم يقدماه لبقية الآلهة ويضعا على رأسه التاجين الأبيض والأحمر. ثم يتم الطواف المرتبط باتحاد القطرين حول الحائط الأبيض، ثم يحتضن إله الدولة الملك الجديد بين ذراعيه، ويخلد اسمه على أغصان الشجرة المقدسة (انظر مهران، ١٩٨٤م، ١١٣).

    ولكي يأخذ حفل التتويج بُعدًا دينيًّا عميقًا كانت تلحق به احتفالات الملك بأبيه الإله مين، وهو أقدم مصري ويرمز للإخصاب والزراعة لكي يستبشر الناس خيرًا زراعيًّا عند تتويج الملك. وكان موكب الملك المتجه نحو معبد الإله مين يتكون من ولدي الملك اللذين يحملان مروحتين عن يساره ويمينه، ويتقدم الموكب كاهنان يحملان المباخر يليهما الكاهن المرتل. وحين يصل الموكب إلى مقر الإله مين الذي يخرج من قدس أقداسه، ويتقدم لملاقاة الملك في المعبد موكب عظيم يتقدمه العجل الأبيض والمقدس عند مين، ثم صف من الكهنة الذين يحملون الشارات الملكية والرموز الإلهية وصور ملوك الوجهين القبلي والبحري الأقدمين، ويقف الملك على شرفة بها ساريتان عليهما لباس رأس الإله، ثم يطلق الكهنة أربع أوزات إلى أركان السماء الأربعة لتنقل الأنباء بأن حور بن أوزر وإيزا قد وضعا على رأسه التاجين، الأبيض والأحمر، وعندما يتم إعلان فرعون للآلهة ملكًا على أرض مصر، يتقدم برفع قربانه إلى تماثيل أسلافه، ثم يقطع حزمة من سيقان القمح كأول ثمار للأرض وذلك بمنجل موشًّى بالذهب، وتكريمًا لأوزر أول ملك علَّم شعبه الزراعة، ثم يعود الملك بعد ذلك إلى قصره ليمارس سلطانه ويتقبل التهاني من رجال بلاطه. (انظر مهران، ١٩٨٤م، ١١٥).

    ويتضح من خلال هذا العرض الدور المزدوج للدين المصري الشمسي والزراعي، فقد مثل القسم الأول الجانب الشمسي بظهور الإلهين حورس وست، وكان هذا الجانب يلمح للقوة السياسية.

    أما القسم الثاني فيمثل الجانب الزراعي الخصبي القديم الذي يمثله الإله مين، ويظهر فيه الإلهان أوزيريس وإيزيس وسيقان القمح والمنجل، وهذا ما يمثل البعد الزراعي الخصبي وهو البعد الديني القديم، وبجمع هذين الجانبين، يمتلك الفرعون سلطته السياسية والدينية ويبدأ بحكم البلاد، وفي الحالين هناك استعادة للإيقاع الشمسي والإيقاع الزراعي لبدايات مصر.

  • (جـ)

    العيد الثلاثيني (عيد سد – حب سد) وهو أهم الأعياد الملكية التي تقام بمناسبة تولي الفرعون الملوكية قبل ثلاثين عامًا.

    لم يتم الالتزام الدقيق بعدد السنين الثلاثين للاحتفال بهذا العيد، وهناك شواهد كثيرة في هذا المجال، يبدأ هذا بإعادة بناء مقصورات صغيرة في المعابد تحتوي على آلهة الأقاليم المصرية المصنوعة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وتُكسى بالملابس الرقيقة وتمسح بالدهون وتسر بقرابين جديدة، وكان الملك يجلس على أحد عرشين يمثلان مصر العليا ومصر السفلى، ثم يقوم الملك بعدْو راقص أمام هذه المعبودات، ويكرر كلَّ رقصة أربع مرات، ثم يعدو ليجلس على أحد عرشي البلاد المقامين فوق منصة عالية تُنصَب فوقها خيمة. وكان الملك يشرب، قبل «العدو الراقص» شرابًا معينًا من آنية على هيئة طبق، ويقدمها له قرد أبيض، يذكر في النصوص القديمة باسم «الأبيض العظيم»، كما كان الناس يقومون بدفن تمثال الملك في الليلة السابقة على يوم الاحتفال (انظر أبو بكر، الموسوعة المصرية، ٢١٠).

    هذه هي طقوس العيد الثلاثيني حتى أواخر الأسرة الخامسة، ثم أضيقت لها طقوس أخرى حلت محلها أخيرًا، أهمها منح الإله حقوقًا واسعة ثم الاحتفال بإطلاق عجل من حظيرته المقدسة، ويرمز ذلك إلى زيادة الخصب في البلاد، ثم إقامة عمود «جد» وإطلاق أربعة سهام يوجه كلٌّ منها إلى أحد أركان العالم.

    إن الشكل القديم للعيد الثلاثيني يشير إلى جذور في غاية القدم، وإذا كان الباحثون قد وصفوها بالغموض ولم يُصر إلى تفسيرها الدقيق، فإننا نرى أن جذور هذه الطقوس تتصل بطقوس «الغصن الذهبي» الذي كان طقسًا تمارسه الأقوام البدائية، حيث كان الملك الجديد يقوم بكسر الغصن الذهبي ثم مصارعة وقتل الملك الكاهن القديم ليصبح بعدها ملكًا جديدًا، وقد كان الملك الجديد يقوم بإنعاش قوى الطبيعة المحتضرة من جديد، ومن هنا اعتقد الناس أن بإمكان الملوك تقديم ما يستطيعون بالصلاة والتضحية وإرسال المطر أو ضوء الشمس في الموسم المناسب، وأن يساعدوا على نمو المحاصيل وما إلى ذلك (انظر فريزر، ١٩٧١م، ١٠٠).

    وتستند فكرة العيد الثلاثيني إلى العصور البدائية الأولى، حين كان الناس يتمثلون في الحاكم قوة تهيمن على مظاهر الطبيعة وترتبط بها، بحيث يتحتم عليها التخلص من الحاكم بعد مرور ٣٠ عامًا على حكمه بقتله، وحتى لا تتأثر مظاهر الطبيعة بشيخوخته وضعفه، فتقل المحاصيل ونتاج الماشية. فكانوا يسارعون بقتله وإحلال شاب قوي صحيح الجسم خلو من مظاهر الضعف في مكانه (أبو بكر، الموسوعة المصرية، ٢١٠).

    ويتطابق جوهر فكرة الغصن الذهبي مع فكرة العيد الثلاثيني المصري، ويدل على ذلك أن الناس يقومون بدفن تمثال للملك في الليلة السابقة على الاحتفال، وهو نوع من القتل الرمزي للملك القديم وظهور ملك جديد خلال الاحتفال. ونود أن نشير إلى أن فكرة الغصن الذهبي أي تزعم الملك المطلق وعدم مغادرة عرشه إلا بالقتل … كان تقليدًا من تقاليد الغابة، حيث كان مجتمع القرود محكومًا من قرد زعيم يحتكر لنفسه كلَّ إناث مجتمعه ولا يزحزحه عن هذا المنصب إلا قرد جديد يقوم بقتله ويحتكر الإناث له. ويبدو أن راسب هذه العادات التي اكتسبها الإنسان المنحدر من الغابة ظلت معه في احتكار الحكم، بل وقد يكون القرد الذي يقدم الشراب للملك (الأبيض العظيم) في الاحتفال الثلاثيني هو أحد رموزه المترسبة في ذاكرة الإنسان المصري القديم.

    وفي جميع الأحوال كانت أعياد الملوك تحمل إيقاعها الكوني ومعنى فكرة العود الأبدي ليس إلى بدايات التكوين بعامة، بل إلى بدايات تكوين مصر نفسها ونشوء تقاليدها الروحية والسياسية. وهذا ما يجعلها تحمل إيقاع العود الأبدي أيضًا الذي هو جوهر الطقوس الدورية والأعياد الاحتفالية القديمة.

(٥) أعياد الآلهة

كانت الأعياد الدينية للآلهة تتصل مباشرة بتقديس إله معين وتكريس معبده، ولم تكن الآلهة العظمى لها مثل هذه الأعياد فقط، بل حظيت بعض الآلهة الثانوية بها على مقدار شعبيتها وانتشار عقائدها بين الناس، وكانت هذه الأعياد تستغرق عدة أيام قد تصل إلى حوالي الشهر كما في عيد الإله آمون (أوبت) في الأسرة العشرين الذي أصبح لمدة «٢٧» يومًا.

وكانت الأعياد في مدينة هابو تنفصل عن بعضها أحيانًا بمدة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة أيام … وهكذا، وقد ترسخت في الأذهان أن هذه الأعياد قديمة جدًّا أنشأها «رع» بنفسه منذ الأزل، وكانت هناك أعياد محلية لكل مدينة تتضمن عيدًا رئيسيًّا لإله المدينة يذكر بانتصاره على أعدائه ويحكي قصته، أي أسطورته على المستوى الطقسي أو التمثيلي العفوي.

وليس بإمكاننا الآن تقديم عرض مفصل لكل الأعياد التي كانت تقام للآلهة المحلية منها أو المصرية لضيق المجال، ولكننا سنكتفي بالمرور سريعًا على بعضها وشرح العيد الأكبر في الدولة الحديثة الذي كان مخصصًا للإله آمون، والذي كان يسمى عيد «أوبت».

كان عيد الإلهة حتحور في دندرة يستمر لمدة «١٥» يومًا تقضي خلاله الإلهة أيامها عند زوجها الإله حور في إدفو، وكان عيد الإلهة «باستت»، كما يقول هيرودوت، عيدًا جماهيريًّا كبيرًا يحتفل به حوالى ٧٠٠.٠٠٠ رجل وامرأة يشربون ويضحكون ويتمتعون كما يريدون (انظر أحمد، الموسوعة المصرية، ٣١٤).

ومن الأعياد الجنزية الخاصة بالآلهة عيد الإله آمون، حيث يزور فيه هذا الإله وادي الضفة الغربية الذي يقع أمام الأقصر، حيث جبانات الموتى الكبيرة التي يجتمع عندها في هذا العيد أقارب الموتى مقدمين لهم القرابين والصلوات. وقد بدأ هذا العيد منذ الأسرة «١١»، وأصبح في الدولة الحديثة من أهم الأعياد الجنزية (انظر أحمد، الموسوعة المصرية، ٣١٥).

(٥-١) الأعياد الأوزيرية في أبيدوس

ولا شك أن أعظم الاحتفالات والأعياد القديمة كانت أعياد أبيدوس الخاصة بتجسيد أسطورة الإله أوزيريس التي كانت تنحو منحًى دراميًّا، وهناك من يرى أن هذه الأعياد الأوزرية كانت النواة التي خرج منها المسرح في العالم القديم، وأن أعياد ديونيزيوس اليونانية التي خرج منها المسرح اليوناني كانت امتدادًا لأعياد أوزيريس.

ويعتقد أن منشأ هذه الأعياد في مدينة أبيدوس (أبجو) كان مرتبطًا بإله الغربيين أو إله الموتى «خنتي أمنتي»، وقد كانت مدينة مقدسة بسبب ارتباطها بعقائد ما بعد الموت، وتطوَّر الأمر عندما ارتبط الإله أوزيريس بالإله «خنتي أمنتي» وحل محله في العبادة، وازداد الأمر تعقيدًا عندما اعتقدوا أن مقبرة الملك «حر» من الأسرة الأولى هي مقبرة أوزيريس. وهكذا رأوا أن روح أوزيريس تعيش جميلة غناء بأرض بكر على شاطئ النيل قرب أبيدوس، ثم سرعان ما تضخمت قداسة أبيدوس بمرور الأجيال، حتى اعتبرت دارًا للحج والزيارة، ربما منذ أيام الدولة القديمة (انظر مهران، ١٩٨٤م، ٤٣٢).

وتحولت أبيدوس إلى أعظم مقبرة مصرية تقرُّبًا من الإله أوزيريس، وأصبح الحج الديني المصري القديم موجهًا نحو هذه المدينة إضافة إلى الاحتفالات السنوية التي يمثل فيها الكهنة مقتل أوزيريس.

كان أوزيريس، أولًا، قبل أن يذهب إلى مدينة أبيدوس في مدينة «ددو»، وكان هو حصرًا إلهًا للمياه والحبوب والبذور والزراعة بشكل عام. وكان يرمز له هناك في مدينته الأولى «ددو» بالعمود الثقيل الوزن الذي يسمونه «دد»، وقمته العليا مقسمة إلى تيجان تظهر منها نتوءات توحي بأنها سيقان النباتات، وحزم الأعشاب المرصوصة، ولكنه عندما تغلب في عصر الأسرات الأولى على إله الموتى الأبيدوسي، صار يرمز إليه بمومياء محنطة تمسك الصولجان وعصا الحكم. وأما اﻟ «دد» رمزه الأصلي فظلت له قيمته الأصلية في الكتابة المصرية، وفي الفكر المصري، إذ صار يرمز إلى استمرار البقاء، وأيضًا المتعة والبهاء الملكي (انظر ذريل، ١٩٧٣م، ٤٧-٤٨).

وهكذا عبرت الأعياد الأوزيريسية عن قضية مزدوجة هي «الحياة، الموت»، وصارت تحمل هذا الجدل المخصب، وكان ذلك أحد أسباب استمرارها. وتحولت هذه الأعياد إلى «طقوس أسرار»، أيضًا لأنها كانت تحمل في أعماقها أسرار الإنبات والإخصاب، إذ سيعود الإله إلى الحياة مثل البذرة المدفونة في الأرض حين تبذر في الخريف لتنبت مع حلول الربيع.

وكان الكهنة في المعابد، وفي معبد أبيدوس تحديدًا، يقومون بعرض تمثيلي إيمائي ويكررون أسرار موت وبعث أوزيريس، وخلاله يرتدون الأقنعة، ويقومون بأدوار الآلهة، وكان في وسع الشعب المحتشد على شواطئ النهر وفوق التلال أن يرى من على بُعد عرض هذه الأسرار. وتذكر هذه المسرحيات البدائية، بطبيعة الحال، بما كان يصير مثلها في وادي الرافدين ومقتل تموز (دموزي) وبعثه، بطريقة متشابهة تقريبًا. أما الجانب الجنائزي من الأعياد الأبيدوسية فكان يتجسد في زيارات الطواف الجنائزية لتوابيت الموتى، وفي الألواح التذكارية التي يضعها أهل المتوفى هناك إن لم يدفن الميت في أبيدوس بعد أن يزورها تابوت الميت.

(٥-٢) عيد أوبت (آمون)

كان هذا العيد أعظم أعياد الدولة الحديثة، وكان يُجرى في شهر «بابه» الذي أخذ اسمه منه. وهناك أكثر من إشارة للأيام التي يستغرقها والتي تتراوح بين «١ و١١ و٢٤ و٢٧» يومًا حسب روايات مختلفة في أزمان مختلفة أيضًا، وربما يكون بدأ بيوم واحد وانتهى إلى ما يقرب الشهر. وكان جوهر هذا الاحتفال هو طقس «الطواف» الذي كان طقسًا موسميًّا إلى حد ما. ويبدو أنه كان كذلك في بداية الأمر حتى أخذ «طقس طواف الإله آمون» طابع العيد والاحتفال العظيم.

كان العيد يبدأ من معبد آمون في الكرنك، حيث يتم إخراج قارب آمون من قدس أقداس المعبد والخروج به عند باب المعبد، حيث يقدم الملك تقدمته للإله الذي يحمل قاربه ما يقرب من الثلاثين كاهنًا، وهناك قوارب أخرى محملة بالقرابين.

ثم يبدأ موكب القوارب الذي يتقدمه جندي ينفخ في النفير، ثم قارب الإله آمون ثم الملك والملكة ثم قوارب القرابين، وتصحب الموكب جوقات الغناء والطبول.

وعندما يصل الموكب إلى النيل تنزل القوارب وتوضع في الماء ويبدأ الموكب من جديد يسري في النيل ويقوم البعض بجر المراكب ضد التيار خدمة للإله في عيده.

أما الملك والملكة فيأخذان مكانهما وسط القوارب المختلفة، وكان الناس المحتفلون على شاطئ النيل يهللون فرحًا ويحيون موكب المراكب ويصرخون ويقفزون ويضربون الصلاصل ويرتلون أنشودة قديمة ترددها جماعة من المغنيات والكهنة.

وحين يصل الموكب إلى الأقصر يتجهون إلى المعبد ويعاد حمل القوارب في موكب راجل، ويضاف له مركبا الآلهة موت وخونسو (زوجة وابن الإله آمون) ليتشكل ثالوث الإله آمون، وهو ثالوث مدينة طيبة. ووسط هذا الجو الاحتفالي ترقص مجاميع من النساء اللائي يلبسن ملابس شفافة بحركات خليعة وجذابة وفي معبد الأقصر يدخل الملك إلى غرفة قدس الأقداس، حيث يكون مركب آمون ويقدم له القربان بطقوسية ومراسم خشوع، بينما تنتظر حاشيته وكهنته على باب قدس الأقداس.

ويبدو أن البقاء في الأقصر لعدة أيام كان يعني زواج الإله آمون من موت أو إعادة أحياء ذكرى زواجه، وكان ذلك يعني بطبيعة الحال زواج الملك والملكة والاحتفال بذكراه.

وفي طريق العودة إلى الكرنك كانت الاحتفالات تتم بالطريقة نفسها وكان الناس يهللون على الضفاف للملك الذي سرى بآمون على المياه، وكان الاحتفال يُختتَم عند العودة إلى الكرنك بتقديم القرابين العظيمة في معبد آمون هناك، وهناك أعياد آلهة أخرى مثل الإله «مين» إله الإخصاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥