المبحث الثالث

القوانين المصرية والقضاء

(١) مقدمة في الشرائع والقوانين المصرية

كان الملك/الفرعون مسئولًا مباشرًا عن العدل والقضاء في مصر القديمة، وكان أحيانًا يمارس سلطته هذه من خلال موظفيه الدينيين أو المدنيين. فضلًا عن الكهنة المتخصصين في هذا المجال، ومنهم كهنة ماعت. وكان للملك الرأي الأعلى في القضاء، وله الحق المطلق في النظر والفصل في القضايا؛ وله أن يستعمله بنفسه أو ينيب غيره فيه، أما المؤسسة القضائية المكونة من القضاة والكهنة فكانت مرتبطة بالسلطة التنفيذية لكي تجعل قراراتها نافذة، «فلم تكن السلطة التنفيذية إذن مستقلة عن السلطة القضائية، فالوزير الأكبر كان رئيس الحكومة، وهو في ذات الوقت رئيس المحكمة العليا، وله سلطة القضاء في المملكة. كذلك كان حكَّام الأقاليم رؤساء لمحاكمها. وكان الحكم يصدر متوجًا باسم الملك؛ وكان يطلق على القضاة لقب «ساب»، وكانت وظيفة القاضي يرمز لها بالهيروغليفية بصورة ابن آوى. وكان القضاة يؤدون قسمًا يلزمهم الطاعة لجميع أوامره متى كانت عادلة. وكانت القوانين تسجل في دار العدل ويعتبر تسجيلها في هذه الدار بمثابة نشر لها، إذ بمجرد تسجيلها تسري على أهل البلاد. أما المراسيم فكانوا لا يسجلونها في دار العدل، بل كانت تنفذ بمجرد ختمها بخاتم الدولة، كان القضاة في زمن الفراعنة من القسس المتخرجين في مدارس التشريع في معابد منفيس وطيبة وأن (أو عين شمس) وكانت المحكمة الكبرى بمدينة طيبة تتألف من ثلاثين قاضيًا يُختارون من فطاحل الكهنة المتضلعين في المسائل القانونية، بنسبة عشرة عن كل مدينة من تلك المدن الثلاث، وأعطيت الرياسة لأكبرهم سنًّا، كما مُنح الرئيس مرتبًا أكبر من بقية إخوانه القضاة. وكان على معبد المدينة الذي ينتخب الرئيس منه أن يرسل إلى المحكمة بقاضٍ آخر حتى يصير عدد القضاة في المحكمة بمن فيهم الرئيس واحدًا وثلاثين قاضيًا. وكان رئيس المحكمة الكبرى إذا جلس للحكم بين الناس يضع في عنقه سلسلة ذهبية معلقًا بطرفها حجر كريم على شكل تمثال إله العدل «ما» أو «معت»؛ وكان يدير هذا التمثال على الأعضاء عندما يدلي كلٌّ برأيه، فإذا تم ذلك نطق الرئيس بالحكم. وكانت توضع على منصة القضاء أثناء انعقاد الجلسات ثمانية مجلدات ضخام تحوي كل القوانين المصرية القديمة» (مشرفة، ١٩٣٧م).

عرف المصريون القدماء القوانين والشرائع، من أمثال قانون بوخوريس، وقانون حرم حدت، وقانون أماريس مع مجموعة من التعليمات الملكية التي شكلت مرجعًا قضائيًّا أيضًا.

ظهرت في مقبرة «رخمي رع» وزير تحوتمس الثالث صورة الوزير وأمامه أربع حصر مفروشة، وفوق كلٍّ منها رسمت عشرة أشياء مستطيلة تمثل أربعين ملفوفة جلدية نُقشت عليها مواد القانون الذي كان الوزير يستعين به في حكمه للناس، وهذا يعني وجود مدونات قانونية كثيرة أتلفها الزمن.

لم تظهر مدونات قانونية مفصلة في مصر، بل ظهرت وثائق قانونية ومراسيم ملكية قانونية، فالقانون كان ساريًا وفق أعراف ووثائق ومراسم. ويقينًا أنه كان موجودًا، لكن كتابته على البرديات أو الجلود جعلته قابلًا للتلف والاندثار. كانت الوثائق تشمل البيع والشراء والتنازل والإيجار والزواج والطلاق …

«وطوال التاريخ المصري ونحن نسمع محاكمات تُجرى لزوجات ملكيات لجرائم ارتكبنها، أو شخصيات مرتشية أو لصوص ارتكبوا سرقات كان معظمها لمقابر الملوك، إلا أن كل حالة كانت تُبحث في إطار ظروفها، ودون أن تكون هناك قواعد منظمة لها صفة الاستمرارية. كما أننا لا نعرف محامين احترفوا مهنة الدفاع عن المتهمين، ولكن ربما كانت هناك مجموعة من الكتبة من أصحاب الخبرة في الشئون القانونية كالمواثيق في المحكمة أو من الشهر العقاري في عصرنا الحديث» (درويش، د.ت، ٢).

وتتمثل مصادر القوانين المصرية فيما يلي:
  • (١)

    الأعراف التي كانت تحافظ عليها الآلهة والملوك والنظام السياسي والمجتمع، وتمثل «ماعت» رمز العدالة وهناك إشارة لقوانين الإله تحوت.

  • (٢)

    قوانين الملوك: وتشمل أوامرهم وتعاليمهم ومراسيمهم.

  • (٣)

    الوثائق القانونية.

  • (٤)

    الإصلاحات ومراسيمها مثل إصلاحات «حور محب» التي أشارت إلى المحاكم وساحات القضاء.

أصدر الملك «حور محب» آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة (١٣٢٨–١٢٩٨ق.م.) مرسومًا تضمن مجموعة من الأمور ذات الطابع القانوني وهي:
  • (١)

    الكهنة الأرباب الذين لقبهم «وعبو»، أي «المطهرون»، والذين من مسئوليتهم القضاء بين الناس لهم الحرية في عقد محاكمهم في أي وقت ومكان يختارونه وخصوصًا في المعابد.

  • (٢)

    يزودون بالتعليمات الشفاهية والقوانين لتصبح عندهم بمثابة «السجل اليومي»، أي «هره بت».

  • (٣)

    تحذيرهم من الشبهات وعدم قبولهم المكافآت والهدايا.

  • (٤)

    تحذير قضاة المحاكم (سد سو نوكتبت) بأن يقيموا العدل بين الناس، وأن من يطلق سراح المجرمين يُحكم بالإعدام.

كانت المعابد تستخدم كأماكن لإيداع الشكاوى، وكانت تعقد فيها المحاكم في عصر الأسرة التاسعة عشرة، وهو ما أعطى للكهنة نفوذًا أكبر، بالرغم من أن «محاكم المدينة» كانت موجودة أيضًا.

«كان الشعب والعمال والفلاحون يهابون رجال القانون، ولو كانوا في أدنى المراتب. كانت زيارتهم في أغلب الأحيان نذير عقوبة قانونية بالعصا أو مصادرة للثروات الضئيلة. ومما لا ريب فيه أن الحكماء كانوا يوصون ممثلي السلطة بالعدل والإنصاف في أداء مهمتهم قائلين: «لا تغبن أحدًا عند جباية الضرائب، ولكن لا تكن شديد القسوة إذا وجدت في القائمة مبلغًا جسيمًا متأخرًا على شخص فقير، فقسمه إلى ثلاثة أجزاء، وتترك منه جزأين حتى لا يتبقى عليه إلا جزء واحد».» (مونتيه، د.ت، ٣٤٦).

وكانت هناك مساواة بين الرجال والنساء من جميع الطبقات (ما عدا العبيد) في قانون العقوبات والقانون المدني، ولكن المساواة لا تكون قائمة دائمًا في جميع الطبقات والحالات، وكان المصري، برغم وجود قانون الإرث، يكتب وصيته ويؤخذ بها.

وكان القانون العام يقضي بملاحقة من يحقِّرون الذات الملكية أو من يهربون من أعمال السخرة. وكانت هناك أنظمة قضائية معقدة في الاتهام والاستئناف، وكانت هناك «قوانين جنائزية» لتنظيم حياة الموتى والدفن والقرابين المقدمة للأموات.

كان هناك قانون جنائي عام وقانون عقوبات، «كما وصلتنا بعض أحكام من قانون العقوبات في بردية وسنكار، حيث كان يكتب على الزانية والزاني الموت، غرقًا أو حرقًا، ففي روايتها عن علاقة شاب بامرأة كاهن، أن الشاب قد افترسه تمساح من صنع الكاهن نفسه، وأن المرأة اللعوب إنما قد اقتيدت إلى ساحة شمالي القصر، حيث أحرقت علنًا، وألقي برمادها في النهر، ولعل ذلك كان عقاب الزانية المحصنة، وعلى أي حال، فهناك ما يشير إلى تخفيف هذه العقوبة فيما تلا ذلك من عصور، فأصبحت جدع الأنف» (أديب، ٢٠٠٠م، ٦٥٩).

لقد أشار ديدرو الصقلي إلى وجود قانون مصري مدوَّن في ثمانية كتب كانت توضع بجانب القضاة، وقد ذكر ديدرو بعض هذه القوانين؛ ومنها:
  • (١)

    الحكم بالإعدام لكل من يرتكب واحدة من هذه الجرائم: «شهادة الزور، عدم تقديم العون لمن يتعرض للموت وهو قادر على العون، القتل العمد».

  • (٢)

    قطع اليد لكل من يرتكب واحدة من هذه الجرائم: «تزوير الكيل أو الميزان، تزوير الأختام والنقود والغش في المعاملة، الكاتب الذي يغيِّر في نصوص السجلات العامة».

  • (٣)

    الجلد بالسياط والحرمان من الطعام لكل من يرتكب واحدة من هذه الجرائم: «عدم الإبلاغ عن جريمة، اتهام بريء بالجريمة، الآباء والأمهات الذين يقتلون أبناءهم علنًا».

  • (٤)

    الإخصاء لكل من يمارس الاغتصاب.

  • (٥)

    الجلد بألف جلدة للزاني وجدع أنف الزانية.

والحقيقة أنه من خلال هذه المعلومات ومعلومات النصوص المصرية الخاصة بالجرائم والعقوبات فإننا نلاحظ أن هناك في القانون الجنائي نوعًا من القسوة الكبيرة، «فكان التعذيب مألوفًا في باب العقوبات، وكان يشمل في بعض الأحايين الشهود أنفسهم، ويبدو أن أنواعًا غريبة من عقوبات الإعدام كانت تُستعمل في بعض الأحايين مثل ترك المحكوم عليه لتأكله التماسيح، وقد يحصل بعض المحكومين على امتياز خاص بأن يسمح له بالانتحار، ونسمع بعدد من عوقبوا بقطع أعضائهم أو بترها ثم وضعوا في الأعمال الشاقة في معسكرات اعتقال خاصة. ويشبه العرف في القانون المصري شريعة حمورابي بالنسبة إلى التعويض عن السرقات بدفع الشيء المسروق مضاعفًا عدة مرات، ونجد مثل هذا العرف في أقدم القوانين الرومانية» (باقر، ٢٠١١م، ١٦٤).

لكن إمكانيات وجود قانون دولي واضح كانت صعبة في مصر، «وإذا كان القانون الخاص قد استطاع أن يتطور إلى حد كبير، في بعض العصور على الأقل، في مجتمع خاضع لنظام تراتبي صارم، وعلى قدر كبير من الرقي، كما هو الحال بالنسبة للمجتمع المصري، فيبدو لأول وهلة استحالة قيام قانون دولي عام. ففرعون هو النائب الأوحد على الأرض للإله الخالق، وابنه الذي من صلبه، ومن ثَم فهو نفسه إله. والخليقة كلها بين يديه من الناحية القانونية، لا يمثلون عند الأطراف سوى الخواء الأولي، بعد أن طردهم إليه الإله الخالق. ويقع على عاتق فرعون أن يخضعهم وأن ينشر الحضارة بين ظهرانيهم. ولكن الأحداث الفعلية قد تكفلت بمهمة تكذيب هذه النظريات تكذيبًا لاذعًا ومريرًا. وحتى في أوج ازدهار الإمبراطورية، عندما كان «أمنحتب» الثاني و«تحوتمس» الرابع لا يزالان يحتفظان بحيويتهما كمقاتلين شديدين غداة انتصاراتهما العظيمة، كانت شعوب أجنبية عظيمة تعيش عند الحدود الشمالية للممتلكات المصرية، شعوب كانت منظمة تنظيمًا راسخًا، وعلى قدر كبير من التحضر ويعرفهم المصريون معرفة طيبة، إنهم الميتانيون أولًا، ثم البابليون والآشوريون وعلى رأسهم الحيثيون، الذين يلوح تهديدهم في الأفق، ليصبحوا عما قريب مرهوبي الجانب. والجميع كانت تسيطر عليهم الثقافة البابلية التي نجحت لغتها القومية وهي الأكدية أن تفرض نفسها في نهاية المطاف كلغة دولية في الشرق الأدنى» (دوما، ١٩٩٨م، ٢٢٧).

(٢) المؤسسات القانونية

كان هناك نوعان من المحاكم:
  • (أ)
    المحاكم الدينية: كانت مقراتها في المعابد، ومنها معابد منف وخصوصًا معبد بتاح، وكان الكاهن هو القاضي الذي يحكم وفق قانون الإلهة «ماعت»، وكان يلقب ﺑ «المنصت في معبد بتاح» أو «قاضي معبد بتاح»، والذي يسمى بالمصرية «سدم Sdm»، أي «المنصت» أو «المصغي».

    وقد ورد «نص قانوني» مدون على الجدارين الشمالي والجنوبي في الحجرة الثانية لهيكل مقبرة كاتب خزانة معبد بتاح واسمه «موسي» من عهد رمسيس الثاني شمال «سقَّارة»، وقد اشتهر هذا النص باسم «قضية نزاع المائة عام»، وملخصها ما يلي: كان هناك نزاع قديم على ميراث بين والدة «موسي» التي اسمها «نبت نفرت» وشخص اسمه «خاي»، وقد ظلت هذه القضية رهن المحاكم حتى استأنف «موسي» الحكم وعرضها على القضاة مرة أخرى، فأحضر الشهود وكان بينهم راعي الماعز «مس من» والشاهد «بابا»، وهو كاهن معبد بتاح وآخرون، الذين ناصروا قضية المدَّعي وأدوا القسم عدة مرات وقالوا بأنهم لو ظهروا كاذبين فلتقطع أنوفهم وآذانهم ويرسلوا إلى كوش (في السودان).

    وكان هذا النص يشير إلى وجود المحكمة داخل معبد بتاح لأزمان طويلة، وأنه يمكن الاستئناف بها، وأن هناك تقليد وجود الشهود ووجود عقوبات محددة لشهادات الزور.

  • (ب)

    المحاكم المدنية: وكانت تسمى «محكمة المدينة» التي كانت تتألف من القضاة ويرأسها موظفو الأقاليم، أما في العاصمة فكان يرأسها «الوزير». وكانت هناك محاكم خاصة تتشكل بأمر الفرعون. وكان التحقيق يجري أولًا والقضاة ينظرون ويمحصون في التحقيق ثم يصدرون قرارًا موجزًا يقضي بأن المتهم بجانب الحق أو بجانب الباطل، ثم يأتي بعدها اعتراف المتهم وإطلاق الحكم عليه.

كتَّاب العقود: كانت عقود الزواج تكتب من قبل كتَّاب العقود منذ عصر الدولة الحديثة بشكل خاص على أوراق البردي. وكان عقد الزواج يتضمن ما يلي:
  • (١)

    تعهد الزوج، حيث يكتب فيه قوله: لقد اتخذتك زوجة … إلخ.

  • (٢)

    تحديد المهر الذي يدفعه الزوج كهدية لزوجته وهو كمية من الفضة عادةً.

  • (٣)

    التزامات الزوج بحق زوجته في إطعامها وكسوتها.

  • (٤)

    قائمة ممتلكات الزوجة التي تحضرها معها من بيت أبيها على ما يبدو.

  • (٥)

    التزام الزوج بأنه إذا ترك زوجته فإن عليه أن يعوضها ويعوض أبناءها ويعيد ممتلكاتها التي أحضرتها.

(٣) الشرائع المصرية المكتوبة

(٣-١) قانون الدولة العتيقة: الأسرتان ١، ٢

الملك مينا هو أول ملوك مصر القديمة، وهو الذي وحَّد مملكتي مصر في الشمال والجنوب في دولة واحدة وطبَّق فيها قانونًا واحدًا هو قانون «تحوت» نسبة إلى الإله تحوت إله الحكمة والعلم وإله القانون، وهو القانون الذي كان سائدًا قبل عهد مينا في مصر السفلى وحدها، ويرجع العلماء تاريخ هذا القانون المكتوب إلى عام ٢٨٠٠ق.م. ولكن لم يصلنا شيء من أحكامه.

(٣-٢) قانون الدولة القديمة: الأسرات ٣-٦

يبدو أن المصريين أصدروا مبكرًا الكثير من التشريعات والقوانين التي كانت بمثابة التعليمات الشارحة لقوانين سلطة الملوك الذين هم مصدر التشريع الأول، والذين استعملوا سلطتهم التشريعية في مناسبات متعددة ولأغراض مختلفة، ففي أواخر عصر الدولة القديمة عثر على نقوش من عصر الأسرتين الخامسة والسادسة عبارة عن تخليدات حجرية لقرارات ملكية كانت فيما سبق مكتوبة على البردي.

أصبح القضاة كهنة لإلهة العدالة ماعت، واعتُبر الوزير كبيرًا لكهنة هذه الإلهة، أما «ولاية القضاء من اختصاص الأمير صاحب الإقطاعية: ترتب على توارث حكَّام الأقاليم لحكمها واستقلالهم بها أنهم كانوا يمارسون ولاية القضاء داخل إماراتهم منذ عهد بيبي الثاني الذي سقطت بعد حكمه بست سنوات الأسرة السادسة. وأصبحت الأحكام القضائية تصدر باسم إله الإقليم لا باسم الملك، والأمير يستمد ولاية القضاء من إله إمارته وليس من الملك، فهو يحكم بصفته أميرًا إقطاعيًّا لا بصفته قاضيًا. وترتب على ذلك عدم جواز الطعن في أحكامه أمام المحكمة الاستئنافية العليا بالعاصمة. ولذلك اندثرت المحكمة العليا ولا تجد لها أثرًا منذ آخر عهد بيبي الثاني، ومن ناحية أخرى انقطعت صلة إدارة المحاكم في الإمارات المركزية في العاصمة وانقطعت صلة فروع الإدارة في الإمارة بالإدارة المركزية فاندثر القضاء الإداري» (أبو طالب، ٢٠٠٦م، ٣٢٥).

المحكمة الإقطاعية: ظهرت هذه المحكمة لأول مرة في تاريخ مصر في عهد الأسرة الخامسة بعد ظهور النظام الإقطاعي وانقسام المجتمع المصري إلى طبقات وراثية، وتطلق عليها النصوص محكمة الإله الأعظم «نتيرا» أي «محكمة الملك» وقد أنشئت هذه المحكمة في عهد ثالث ملوك الأسرة الخامسة، وتنعقد برئاسة الملك وعضوية بعض الأشراف من آبار رجال البلاط الملكي الذين يختارهم الملك. وهي تختص بنظر المنازعات بين الأشراف وبنظر المسائل المتعلقة بعهد الولاء الذي يربط الشريف «إيماخ» بالملك. ومن أهم العقوبات التي توقعها حرمان الشريف من الدفن بالمقبرة الملكية أو سحب الإقطاعية أو المنحة التي سبق أن حصل عليها من الملك وأصاب الضعف عهد الولاء الذي يربط بين الملك والأمراء في الأقاليم لدرجة أننا لا نجد أثرًا للمحكمة الإقطاعية منذ عهد الأسرة التاسعة» (أبو طالب، ٢٠٠٦م، ٣٢٥-٣٢٦).

مرسوم نفر إر كارع (كاكاي) (٢٤٧٥–٢٤٥٥ق.م.)

هو الفرعون الثالث خلال الأسرة الخامسة. اسم تتويجه، نفر إر كارع، يعني «الجمال هو روح رع»، ظهر مرسومه على حجر بالرمو في السنة الأولى من حكمه يعلن فيه إعفاء الكهنة من مزارعي المعابد من القيام بأي عمل آخر تتطلبه مشاريع الإصلاح في الأقاليم الأخرى، بالإضافة إلى تقديمه العديد من الهبات للمعابد وتقديم مذبح للإلهة حتحور المعبودة بمعبد بتاح في منف.

كما أصدر مرسومًا في أبيدوس، وهو محفوظ الآن في متحف الفنون في بوسطن نقش على لوحة من الحجر وغير مؤكد إذا ما كانت نسخة هذا المرسوم من عهده أم منقولة في عصر لاحق وهو موجه إلى رئيس الكهنة حم حور يقول فيه: لا أعطي الحق لأي شخص في أخذ أي من الكهنة ممن في المقاطعة لنقلهم لأعمال أخرى خاصة بالمقاطعة مضافة إلى أعمال خاصة بالإله لحساب قدس الأقداس وحساب المقاصير التي هم فيها للمحافظة على المعبد الذي هم فيه فهم معفون أبديًّا.

«تناول مرسوم من مآترع Mentare الذي طبع منذ سنوات قليلة تحذيرات وجهت بلهجة شديدة إلى الوزراء وكبار الموظفين والقضاة وحاكم كوش وإلى قواد حملة السهام وإلى حراس الذهب، وإلى الأمراء ورؤساء القبائل في الجنوب وفي الشمال وإلى الفرسان ورؤساء الأسطبلات وحملة المظلات وإلى جميع رجال حرس القصر الملكي وجميع المبعوثين. وكان المقصود من هذا كله حماية معبد ملايين السنين الذي كان الملك قد شيده في أبيدوس وخصص له في سخاء الأملاك والخدم والمواشي لمنع هؤلاء الموظفين من سوء استغلالها. وكان الملك على حق؛ إذ كان يخشى أن يجبر على السخرة الرعاة وصيادي الأسماك والمزارعون والصناع أو أن تستغل المستنقعات في صيد الأسماك أو الأراضي المخصصة لصيد الحيوان أو أن تُصادر السفن وبصفة خاصة السفن القادمة من بلاد النوبة المحملة بمحاصيل المناطق الجنوبية. كما قرر أن كلَّ موظف يضع يده على ممتلكات المعبد يعاقب بضربه مائة ضربة بالهراوة على الأقل، وأن يرد ما سرقه وعليه أن يدفع ما يعادل قيمته مائة مرة على سبيل التعويض. وقد تصل العقوبة في بعض الحالات إلى مائتي ضربة وخمسة كسور في عظامه، وقد تصل في بعض الحالات القصوى إلى جدع الأنف وقطع الأذنين وحجز الجاني ويصبح عاملًا زراعيًّا بين خدم المعبد» (مونتييه، د.ت، ٣٤٩).

(٣-٣) قانون الدولة الوسيطة: الأسرات ٧-١٨

عدم انفصال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، حيث كان الفرعون مصدر التشريعات ومنفذها بمساندة آلهة العدالة ماعت «وكانت العدالة من بين الألقاب الملكية، ومن ثَم كان هو المسئول عن إقامتها على الأرض. وبالنظر إلى أنه يجمع بين يديه سلطات التشريع والقضاء والتنفيذ فإننا لا نجد في مصر الفرعونية انفصالًا بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية. فالوزير كان على رأس السلطة القضائية فضلًا عن كونه رئيسًا للسلطة التنفيذية. والموظف الإداري كان يجلس للقضاء للفصل في بعض الخصومات بجانب عمله الإداري. وبجانب ذلك كان هناك قضاة يتفرغون للعمل القضائي» (أبو طالب، ٢٠٠٦م، ٣٥٤).

مرسوم مساندة أعضاء الأسرة الحاكمة أثناء حكم الأسرة الثامنة

كان ملوك الأسرة الثامنة الذين حكموا من منف معتمدين على مساندة حكَّام بعض الأقاليم القوية لهم، وخصوصًا في الصعيد، والذين حصلوا في مقابل ذلك على العديد من الامتيازات، ويدلل على ذلك بعض المراسيم التي أصدرها آخر ملوك هذه الأسرة، والتي عُثر عليها في معبد المعبود مين في قفط، فقد صدرت هذه المراسيم لمصلحة اثنين من أعضاء الأسرة الحاكمة، وهما شماي وابنه إيدي بتحديد ألقاب زوجة الوزير شماي وتعيين ابنه إيدي حاكمًا للصعيد خلفًا لأبيه.

(٣-٤) قوانين الدولة الحديثة: الأسرات ١٨-٢٠

(أ) قانون حور محب (١٣٢٣–١٢٩٥ق.م.)

حور محب هو آخر فراعنة الأسرة المصرية الثامنة عشرة، بدأ سلسلة شاملة من الإصلاحات الداخلية لتقييد إساءة استخدام السلطة التي بدأت في ظل أخناتون، وعين القضاة بطريقة عادلة وأعاد السلطات الدينية وسلطات الأقاليم. وهكذا أعاد الانضباط إلى الإدارة الحكومية، وبسبب ما حصل من إساءة في استخدام السلطة وضع التشريعات والقوانين لتنظيم حياة المجتمع، واهتم بإصدار العديد من القوانين التي تنظم العلاقة بين الفرد والسلطة الحاكمة لأول مرة في تاريخ مصر.

نُقشت نصوص قوانينه على لوحة حجرية طولها خمسة أمتار وعرضها ثلاثة أمتار، وسطرت في «٤٩» سطرًا على واجهة اللوحة الحجرية منها ١٠ سطور على جانبيها الأيمن والأيسر، بجوار بوابة حور محب في معبد الكرنك بالأقصر، كما عثر على نسخة ثانية من هذا التشريع محطمة الأجزاء في أحد معابد آمون بمدينة طيبة، يعتبر قانون حور محب أهم اكتشاف في ميدان التشريعات القانونية في مصر الفرعونية، فضلًا عن كونه النص القانوني الوحيد الذي عُثر عليه منقوشًا على الحجر، ولقد صيغت قوانين حور محب بأسلوب كتابة النقوش الملكية، إذ تصدَّر هذا التشريع مقدمة تحمل ألقاب الملك، وبعض عبارات المديح، وانتهى بخاتمة تعهَّد فيها المشرع بإقامة العدل وإعادة النظام والأمن، وحث فيها على تنفيذ قوانينه، وهذا الأسلوب من الكتابة يشبه إلى حد كبير التشريعات الشرقية الأخرى البابلية والحيثية.

اكتشف تشريعات هذا الفرعون العالم الأثري الفرنسي جاستون ماسبيرو سنة ١٨٨٢م، وقام بترجمته ترجمة مبدئية، كما اهتم به الكثير من العلماء، وترجموه إلى عدة لغات وعلقوا عليه، أمثال ماكس مولر وبريستيد.

(ب) قانون سيتي الأول (١٣٠٦–١٢٩٠ق.م.)

سيتي الأول هو الفرعون الذي بدأت معه الأسرة التاسعة عشرة في حكم مصر، وهو ابن رمسيس الأول والذي خلف حور محب الذي لم يترك وريثًا على العرش. من أشهر الأعمال التي قام بها بناؤه لمعبد أبيدوس، ولوحة الأجداد التي سجلها على أحد جدران المعبد، وهي عبارة عن أسماء الملوك الذين سبقوه في حكم مصر وعددهم ستة وسبعون ملكًا، ومن أهم ما تركه الملك سيتي الأول مرسومه الذي ينص على حماية مؤسسة دينية في أبيدوس ضد استغلال موظفي الحكومة لممتلكاتها، ويلاحظ في هذا المرسوم العقوبات نفسها التي نص عليها تشريع حور محب قبله.

(٣-٥) قوانين الدولة المتأخرة: الأسرات ٢١–٣٠

(أ) قانون بوخوريس (٧١٩–٧١٢ق.م.)

هو أحد فراعنة الأسرة الرابعة والعشرين، جمع القوانين التي كانت سائدة قبله مع بعض التعديلات التي أجراها. ويعتبر هذا القانون هو الصورة الأخيرة التي استقر عليها القانون المصري. ويتضمن التقاليد المصرية القديمة التي كانت سائدة قبل عهد هذا الملك بعد أن أدخل عليها الكثير من التعديلات. ويرى بعض المؤرخين أن «بوخوريس» تأثر بقوانين وادي الرافدين، لا سيما شريعة حمورابي، وذلك بسبب الصلات التجارية بين مصر وبلاد وادي الرافدين، وقد روى «هيرودت» و«ديودور الصقلي» أن قانون «صولون اليوناني» قد تأثر بمدونات مصر القديمة، ولا سيما قانون بوخوريس. ورأى الكثير من الباحثين أن «قانون الألواح الاثني عشر الروماني»، قد تأثر بقانون بوخوريس.

figure
المشرعون الكبار في مصر القديمة.

وبذلك نكون قد عثرنا على الحلقة المفقودة التي ربطت قوانين الرافدين بقوانين الإغريق والرومان، وهذه الحلقة هي «قانون بوخوريس» المصري، وهو ما يكشف عن فاعلية التواشج بين الحضارتين المصرية والرافدينية.

ألغى العقوبة البدنية التي فرضها ستي الأول، وخفض فوائد الديون، وألغى الاستعباد بسببها لأن المدين مسئول عن دينه فإذا عجز عن تسديده استولى عليه الدائن، ومنع حبس المدين ليسهل الاستيلاء على أمواله … وكانت قوانينه متأثرة بقانون حمورابي، فقد مُنحت المرأة المساواة والحرية الفردية ومساواتها بالرجل في حق الإرث وفي حق التملك وإبرام التصرفات القانونية، وكان لها الحق في الطلاق مع طلبها المبلغ المقرر لها، ولها الحق في تقييد حرية الزوج في حالة إقدامه على الزواج من امرأة ثانية، فيمكن للزوجة أن تشترط على زوجها في عقد الزواج بألا يتزوج من ثانية، فإذا خالف ذلك فإنَّه يتعرض لدفع تعويض مالي كبير تحدده المرأة، وقد يصل هذا التعويض إلى ما قيمته جميع أمواله، وهذا ما يفسر لنا ندرة تعدد الزوجات في عهده.

(ب) قانون أمازيس (٧٥٠–٥٦٢ق.م.)

أمازيس هو الفرعون أحمس الثاني للأسرة الفرعونية السادسة والعشرين، وجاء بعد بسماتيك الثاني وبعد بوخوريس، ويعتبر العلماء قانونه نسخة طبق الأصل لقانون بوخوريس، وحفلت فقرات قوانينه بتحقيق العدالة وإنصاف كل فئات المجتمع المصري، وقد تميز بأنه قانون مدني وبعيد عن الطابع الديني سواء في مجال الأحوال الشخصية أم في نظام المعاملات المدنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥