العمامة والقبعة
١
الأحد ٢٢ يوليو ١٧٩٨ ظهرًا
اندفعتُ وسط الجموع الصاخبة. الحرارة خانقة. الشمس لاهبة. التراب يملأ الجو. العرق يسيل على وجهي وأسفل إبطي. تعثرت في نتوء وسط الطريق كوَّنته القاذورات والعفوشات المتراكمة. توقَّف الكنسُ والرشُّ منذ ظَهَرَ الفرنسيس على تخوم القاهرة. أوشكت على الوقوع لولا أن لحقني أحدهم وشدَّني من ساعدي. سقطَت عِمامتي فوق الأرض وانفكَّ عَقْدها، التقطتها وأعدت ربْطها فوق رأسي.
سِكَك ودروب، سوق السمك، وكالة القمح، وكالة الأرز، جامع المعلق، وكالة الكتان، وكالة الزيت، وكالة الأبزارية، وكالة الملايات، درب القصَّاصين، درب البرابرة، موقف الحمير، جامع أبو العلا، سكَّة أبو العلا.
بالأمس ذاع خبر هزيمة مراد بك في إنبابة. وخرج عمر مكرم نقيب الأشراف من القلعة حاملًا بيرقًا كبيرًا أسماه العامة «البيرق النبوي». تبِعَته الألوف بالنَّبابيت والعصي، ورجال الطرق الصوفية بالطبول والزمور والأعلام والكاسات. جاء في أعقابهم العَجَزَة والشحَّاذون والمسلولون والعُميان والمجذومون. أُغلقت الدَّكاكين والأسواق. اتجه الجميع لبر بولاق لينضموا إلى إبراهيم بك الذي حشد مماليكه لملاقاة الفَرنسيين. توزَّع أبناء الطوائف بين المساجد والخرابات. نصبوا خيامًا لإقامتهم ومبيتهم. تطوَّع البعض للإنفاق على الآخر. جهَّز التجار جماعات من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل. ولم يُفِدْ هذا كلُّه بشيءٍ؛ فسرعان ما انهزم إبراهيم بك وولَّى هاربًا. وبدأت رحلة العودة إلى المدينة.
ردَّدتُ مع الصائحين: يا خَفيَّ الألطاف نجِّنا ممَّا نخاف. زَعَقَ أحدٌ خلفي: بالك! التفتُّ لأرى حصانًا يمتطيه مملوكٌ شابٌّ في سروالٍ كبيرٍ أحمر اللون، وصديري واسع ذي أكمام طويلة، وعِمامة ملفوفة حول طربوش طويل. كانت الدماء تلوِّث ملابسه. شقَّ طريقه بعنف بين الجارين فأوقع بعضهم أرضًا ودهَسهم. التصقتُ بالجدار. مال فوق فرسه ولوَّح بسيفه. التقط عِمامة أحد أولاد البلد وانفجر ضاحكًا. تكشَّفت عِمامة الضحية عن رأس حليق لم يتبقَّ من شعره سوى خُصلة واحدة. لوَّح بسيفه مرَّة أخرى في اتجاهي. ارتميتُ على الأرض. لعنتُه في سِري فلم أجرؤ على الاحتجاج.
ابتعد المملوك فنهضتُ واقفًا. وضعت ذيل جلبابي بين أسناني وجريت. مررت بشونة قمح، ثم حانوت الكتان المستورد من ألمانيا الذي تملكه الزوجة الثانية للشيخ الجبرتي ويديره ابنه خليل، ثم منزله تجاه جامع ميرزا جوربجي، يقضي به الصيف عادة ولم ينتقل إليه بعد. وكالات القطن والحِنَّاء والسكَّر والزعفران والبُن والصمغ والعاج.
أزقة ضيقة لا تتسع لمرور رجلين متقابلين. حوارٍ دائرية يتوه فيها من لا يعرف المنطقة جيدًا. عويل النساء في البيوت. رجال مهرولون وأمتعتهم فوق رءوسهم. نساء حاسرات يحملن أطفالهنَّ فوق الأكتاف.
المقس المقفرة التي تكاد تخلو من العمران. امرأة بطرحة مطوحة خلف الكتف وصُرَّة. فلَّاحات عجفاوات في جلاليبَ سوداء، ورجال ضامرون في قمصان زرقاء تشدُّها على خصورهم حبال غليظة من التيل.
الأزبكيَّة. بيوت الأمراء والأعيان. الأتباع يُكدِّسون الأمتعة فوق الجمال. ناس تخُبُّ فوق حميرها.
دُرْتُ حول البركة. أوشكتُ أن أصطدِم ببغلة يمتطيها شيخ عجوز لحِقَت به جماعة من الإنكشارية جُند الوالي التركي، تميِّزهم ريشة ذات شعبتين فوق طراطيرهم. حاذى أحدهم العجوز فدفعه جانبًا وأوقعه، ثم التقط مِقْوَد البغلة وجرَّها خلفه.
ساعدتُ العجوز على النهوض، وأخذ يولول على بغلته المخطوفة. واصلت الركض. تراجعتُ الشمس وخَفَّ لهيبها. الموسكي. عبرت القنطرة بصعوبة. خُيِّل لي أنها ستقع من فرط الزحام. قطعت شارع الأشرفية حتى نهايته في مبتدأ شارع الغورية. عطفت على خطِّ الصنادقية. اندفعت من باب الحارة المفتوح. رأيت مدرسة السنانية التي تَعَلَّمَ بها شيخي مغلَقة الأبواب، في مقابلها وكالة السلطان إينال مغلقة، وبجوارها البيت. توقَّفتُ أمامه ألهث أسفل المشربيَّات المغلقة النوافذ.
باب مقنطر مُوارَب. مَدخَل قصير بجوار مصطبة منحوتة من الحجر. باب آخر يفتح على رَحبةٍ واسعةٍ في وسطها حديقة صغيرة. الشيخ عبد الرحمن الجبرتي واقف قُرب الباب الداخلي للبيت ومِسْبحته في يده. الاضطراب ظاهر على وجهه. إلى جواره ابنه خليل الذي لم يتجاوزِ السابعة عشرة من عمره ويصغرني بعامين. منصور، عبده الأسود، يداه مضمومتان إلى صدره، وعيناه مثبَّتتان على عينَي سيِّده، يدرس رغباته لينفِّذها قبل أن ينطق بها.
لحِقني جعفر بقُلَّة الماء. حكيت لأستاذي ما وقَع من أحداث. كيف قاتَلَ المماليك في شجاعة؛ الواحد منهم يطلق أولًا قربينته ثم يدسُّها تحت فخذه، وبعدها يُطلِق طبنجاته ويقذف بها من فوق كتفه ليلتقطها خدمه، ثم يقذف بسهام الجريد الفتَّاك، وأخيرًا يهاجم بسيفه الأحدب، وأحيانًا يحمل سيفين في آنٍ واحد ويضرب بهما ولِجام الجواد بين نواجذه. لكنهم تراجعوا أمام الفرنساويَّة الذين نظموا أنفسهم في مربعات غريبة الشكل.
سألني: وإبراهيم بك؟
قلت: هرب.
انفرجت أسارير وجهه الأسمر الذي يشي بأصوله الحبشيَّة في ضحكة جافة. قال: جمعت الهزيمة أخيرًا بين الأميرَين المتنافسَين.
طوَّفتُ البصر في أرجاء الحَوْش الصغير الذي سُقِفَ بعضه، تبيَّنتُ بغلةَ أستاذي مُسْرَجةً وفوقها صندوق كبير. صندوق آخر فوق حمار، ظننته ذاهبًا إلى أحد المنزلين اللذين ورِثهما عن أبيه الشيخ حسن؛ واحد بجوار الأبزارية على شاطئ النيل، الثاني جهة بركة الرطلي بين المزارع والبساتين. قال إنه سيغادر المدينة إلى مزرعته في إبيار حتى تستقرَّ الأمور.
تطلَّعتُ إليه متسائلًا. قال: عمر مكرم وبقية الأعيان والعلماء غادروا المدينة، والشيخ السادات والشيخ الشرقاوي هربا إلى المطرية. سكتَ لحظة ثم استطرد: لم تَعُدِ المقاومة مُجْدِيةً بعد هزيمة الأميرَين. ولا بُدَّ أن الفرنساويَّة سيدخلون المدينة في الصباح.
قلت: الطريق خطِرة. والعُرْبان والفلاحون يتلقَّفون الخارجين من المدينة فيأخذون متاعهم ولباسهم.
قال: الله خير حارس.
قلت: خذ معك غَدَّارة.
أرسل الخادم جعفر لشراء بارود. خلع عِمامته ومسح عرَقَ رأسه بكُمِّ جلبابه. شعره فاحم السواد رغم سنه المتقدمة، بلغ الخامسة والأربعين منذ شهور.
انجابت الشمس. الرائحة العفنة تأتي من ناحية الحفرة التي تُفرَغ بها كراسي الراحة. لم يأتِ أحد من الشمَّاعين لكَسْحها منذ أيام. قال أستاذي إن إبراهيم بك سيئ الحظ؛ من أسبوع ضبطَته زوجته يجامع إحدى إمائه فضربَته.
– وسكتَ عليها؟
– لا يستطيع معها شيئًا؛ فهي ذات مكانة عظيمة، ولها كرامات ويأتيها الوحي من النبي.
سألتُه عن صديقه الشيخ حسن العطار، قال: ذهب إلى الصعيد. مساتير الناس هربت ولم يبقَ إلا الفقراء.
قلت إن الأمير أيوب بك الدَّفْتَرْدار استشهد في إنبابة. وكنت أعرف أنه كان قريبًا من أستاذي.
قال: سمعت من لفْظِه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين تدلُّ على ذلك. ولما حضروا إلى بَرِّ إنبابة هبَّ لملاقاتهم، وصار يقول: أنا بعت نفسي في سبيل الله.
تفكَّر قليلًا ثم أضاف: رحمه الله. كان ذا دهاء ومكْر، ويتظاهر بالانتصار للحق، وحُبِّ الأشراف والعلماء، ويشتري المصاحف والكتب، ويواظب على الصلاة في الجماعة، ويقضي حوائج السائلين والقاصدين بشهامة، ويميل إلى الخلاعة وسماع الألحان والأوتار، ويباشر الضرب عليها بيده.
عاد جعفر بالبارود والرَّصاص. قال إن سعرهما غلا؛ فصار رطل الأول بستين بارة والثاني بتسعين.
أحضر منصور الغَدَّارة ملفوفةً في خِرْقة. تبِعه خادم يحمل قنديلًا رفعه إلى أعلى. انهمك منصور في تنظيف الغَدَّارة وحَشْوها.
امتطى الشيخ بغلته وأردف خليل خلفه. لم يكن يملك جوادًا لأن المماليك لا يسمحون لأحد غيرهم بركوب الجياد. انزاح أسفل قُفْطانه عن مركوب جديد أحمر اللون هو المعروف بخُفِّ القسطنطينية. حمَل منصور الغَدَّارة في يدٍ وجرَّ الحمار خلفه. جرَّ السايس بغلة أستاذي حتى الباب. تبِعتُهم أنا وجعفر.
التفتَ الشيخ إلينا وقال: لا تفتحا لأحدٍ أو تخرجا، والجماعة أمانة.
كان يقصد زوجتيه؛ الأولى زوجَّه لها أبوه وعمره ١٥ سنة؛ أي من ثلاثين عامًا، والثانية تزوجها منذ ١٨ سنة، وولدت له «خليل» والبنت «أمان».
خرجنا إلى الحارة. البيوت المتلاصقة مظلمة. وارب البوَّاب باب الحارة الثقيل فصرَّ. نبح كلب. انتظرتُ حتى خرجا إلى الطريق. أغلق البوَّاب الباب وأحْكَمَ إغلاقه بخشبة الدُّقْر التي أدخلها في الحائط.
ولَجنا البيت من جديد، وأغلق جعفر الباب الخارجي بالمِفتاح والمِزلاج.
الأحد ٢٢ يوليو مساءً
نفَذْنا من الباب الداخلي وأغلقتُه. عبَرْنا الحَوْش، واتجه جعفر إلى غرفة الخدم بينما ولَجتُ الغرفة المخصَّصة لي، كانت جدرانها مطليَّة بالجير وذات لونٍ أبيضَ ناصع.
انحنيتُ فوق صندوق حاجيَّاتي ورفعتُ غطاءه. أخرجتُ حاشية كبيرة ووسادتين ومُلاءة. جذبت حصيرة من سَعَف النخيل بمربعات سوداء وصفراء بحيث تواجه الباب التماسًا للطراوة، وبسطتُ فرشتي فوقها.
طاردتُ الذباب والناموس. وخرجتُ مُغلِقًا البابَ خلفي. دخلت كوَّة كرسيِّ الراحة ذات المدخَل المكوع. لم تُفلح فتحة التهوية العلويَّة في تبديد الرائحة. تبوَّلتُ وغسلتُ يدي بجذور عيش النون الصفراء التي لا رائحة لها. عدتُ إلى غرفتي فوجدت خادمًا قد أحضر لي الأكل على طبليَّة. رفعت القماش الذي يغطيه. ملوخية بها قطعة من اللحم، فجل وبصل وخيار وطماطم، بنجر وخيار منقوعان في الخل، رغيفان مستديران من الخبز. لاحظت أن حجمهما أصغر من المعتاد. ولمست طعم التراب عندما مضغت لقمة، ومع ذلك أكلت في حماس، فلم يدخل جوفي شيء منذ الصباح.
شربت كوبًا من شربات الورد. تجشَّأت. دفعت الطبلية ونهضت واقفًا. ولَجت كرسيَّ الراحة ودعكتُ أسناني بالجذور الصفراء وتوضَّأت. عدتُ إلى غرفتي فجفَّفتُ يدي وصلَّيتُ العِشاء.
خرجت من جديد إلى الحَوْش المظلم. الجو حار وخانق. إلى اليسار أقبية بها إصطبل الدواب، ومخزن الغلال، ومطبخ كبير به ركن للأخشاب والفحم. إلى اليمين حجرات الخدم والعبيد والضيوف، أبوابها مفتوحة تتصاعد منها همهمة خافتة. تجاوزتُ الحجرة الواسعة المخصَّصة للطلبة والمجاورين وحلقات التدريس. تطلَّعتُ حولي فلم أرَ أثرًا لأحد. اقتربتُ من الباب الداخلي ودفعتُه. صعِدتُ سُلَّمًا قليل الدَّرَج إلى الطابَق الأعلى. هاجمَتْني الرائحة المطهِّرة لنبات الشِّيح الممزوج بخشب الصبر، ممشًى دائري يُشرف على الحَوْش، عقود وأعمدة من الرخام الملوَّن، مصابيحُ مبلورة وقناديل فِضيَّة مضاءة. غُرَف مغلَقة. مستوقَد تسخين المياه الذي يجري في مواسيرَ إلى الحمَّام.
خلعتُ أحد القناديل وحملتُه في يدي. اقتربتُ من قاعة مرتفعة درجتين. دفعتُ الباب ودخلت. رفعتُ القنديل إلى أعلى وأَجَلْتُ البَصَر حولي. السقوف والجدران مزيَّنة بالخشب المحفور والمبخور وبالقيشاني الملوَّن، ساعة حائط من البندقية، بجوار الحائط خِزانتان متقابلتان فيهما الآنية الفاخرة، أرائك وشِلَت حريرية فوق السجاجيد، تُحَف منثورة في الزوايا ومعلَّقة على الجدران. الأَسْطُرْلاب الذي ورثه عن أبيه ويُجري عليه أبحاثه في الفَلَك. ثُرَيَّات بفروع من البِلَّوْر، شماعد. يدعو الشيخ هذه القاعة «مجلس العقد الداخل». في صدرها أبيات من الشعر مطرَّزة على قطعة من الحرير، تهنئة من الشيخ مصطفى الصاوي بتمام البناء، بابان ملبَّسان بالأصداف والنُّحاس البرَّاق. أحدهما يُفضي إلى خِزانة الكتب وغُرَف النساء والعيال. والثاني إلى فسحة بها كرسيُّ راحة، ثم القاعة الكبرى التي يجلس فيها كبار الزائرين.
لمحتُ ورقةً مُلقاةً فوق إحدى الأرائك. خلعتُ حذائي عند حافَّة السجاجيد ووضعت القنديل على الأرض. تناولت الورقة. نسخة من مكتوب الفَرنسيين الذي حمله مالطيُّون من الإسكندرية. كنت أعرف محتوياته لكني قرَّبتُه من الضَّوء ومررتُ ببصري فوق سطوره: «بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في مُلْكه. من طرَف الفرنساويَّة المبني على أساس الحرية والتسوية (…) أمير الجيوش الفرنساويَّة بونابرته يعرِّف أهل مصر أن الصناجق الذين يتسلطون على البلاد المصرية (…) يتعاملون بالذُّل والاحتقار في حق الملة الفرنساويَّة ويظلمون تجارها …»
قفزتُ فوق السطور التي حفظتُها عن ظَهْرِ قلْب: «يا أيها المصريون، لقد قيل لكم إني ما نزلت بهذا الطرَف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذبٌ صريح، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيَّه والقرآن العظيم (…) ماذا يميز المماليك عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملَّكوا مصر وحدهم ويختصُّوا بكل شيء فيها من الجواري الحِسان، والخيل العِتاق، والمساكن المفرحة.» ابتسمت وواصلت القراءة: «إن كانت الأرض المصرية التزامًا للمماليك فليرونا الحُجَّة التي كتبها الله لهم (…) إن الفرنساويَّة مسلمون مخلصون (…) لحضرة السلطان العثماني.»
أعدتُ المكتوبَ الفَرنساويَّ إلى مكانه متعجِّبًا مما به من تدليس. اقتربتُ من الشباك. الحارة مُظلمة. الناس محبوسة في بيوتها بعد إغلاق البوَّابة. لغَطٌ من خلف الجدران.
حملتُ القنديل واقتربتُ في خِفَّة من الباب المُفضي إلى غُرَف النساء. فتحته في رفق. خرجت إلى بسطة يضيئها ضوء خافت منبعث من قنديل مُعلَّق في أعلى الحائط. أطفأتُ قنديلي ووضعته جانبًا. تقدَّمت من جسم ممدَّد في الركن. تعثَّرت في قبقاب خشبيٍّ فوجَّهت السِّباب إلى نفسي لأني لم أنتبه. انحنيتُ فوق الجارية السوداء. كانت عيناها الواسعتان مفتوحتين. رفعتُ قميصها الواصل حتى العَقِبَين فلم تنبِس بكلمة.
مددتُ يدي إلى خَصْرها. بحثتُ حتى عثرتُ على دِكَّة لباسها القطني. جذبتُه إلى أسفل دون أن تعترض. أمسكتُ بساقيها وثنيْتُهما إلى أعلى ثم وقعتُ عليها. وجدتُ صعوبة في دخولها فاستعنت بريقي. انتهيت بسرعة. لم تنبِس بكلمة أو حتى آهة. وظلَّت تتطلع إليَّ وفي عينيها نظرة لم أدرك كُنْهها.
اعتدلتُ واقفًا وبسطتُ قميصي فوق السروال. مسحتُ عَرَقي بطرَفه. تناولتُ قنديلي وانسحبت عائدًا إلى حجرتي.
الثلاثاء ٢٤ يوليو
توضَّأتُ وصليت الصبح وأفطرت. اتجهت إلى الإسطبل لآخذ الحمار الباقي. اعترضني جعفر مُذكرًا بتعليمات الشيخ. قال: إن الأوباش يملئون الشوارع. وإنهم نهبوا بيوت إبراهيم بك ومراد بك بخطَّة قوصون قُرب القلعة وأحرقوهما. نهبوا أيضًا عدَّة بيوت للأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونُحاس وأمتعة وباعوه بأبخس الأثمان.
جعفر مجرد خادم. وجدته بالبيت عندما ضمَّني الشيخ إليه. ورثه عن أبيه. قصير القامة، ضخم الجثة. يُشرف على بقية الخدم والعبيد. يجهَد دائمًا ليبسط سيطرته عليَّ.
وقفت حائرًا في الحَوْش. تصاعدَتْ رائحة التقليَّة من المطبخ. كان به كانون متنقِّل يتألَّف من بضع لبنات توضع فوقها شبكة من الحديد. وكان باب الحاصل مفتوحًا تبدو منه زلع الزيت والسمن والعسل والقمح، وبجواره انهمكت خادمة في دقِّ البنِّ لتحميصه، وبجوارها عكفَ الدجاجُ والبطُّ على التقاط الغداء. وفي ركن انحنت خادمة على طَسْت الغسيل. كانت قد جذبت ثوبها إلى أعلى فتعرَّى فخذاها، تأمَّلتُهما لحظة آملًا في رؤية المزيد.
لمحتُ الجارية السوداء بجوار بئر الماء تشطف كوزًا نُحاسيًّا في طست ثم تملأ زير الماء. اشتراها أستاذي من سوق العبيد منذ شهر، دفع فيها ثمانين قرشًا إسبانيًّا. كان شعرها مرفوعًا إلى أعلى كعادة الإماء، وفوقه طرحة من التيل. التقت نظراتنا فلم يَبْدُ على وجهها تعبير ما.
صعِدتُ إلى مجلس العقد. تركت خُفَّيَّ عند المَدخَل وتقدَّمت من خِزانة الكتب. استخرجت كتابًا في الطب كنت أنسخه لأحد العطارين لأستعين بأجره على مصاريفي. لم أجد عندي رغبة في العمل فأعدته مكانه وقلَّبت بين الكتب؛ نسخة من القرآن الكريم قُدِّر ثمنها بمائة وعشرين بارة، كتب الأوراد الصوفية، خطط المقريزي وميزان الشعراني و«حسن المحاضرة» للسيوطي بخطِّه، دلائل الخيرات نسختان: واحدة رخيصة اشتراها الشيخ بعشر بارات، وأخرى فاخرة بخط جميل اشتراها بعدة مئات. كتب جالينوس وسقراط وأفلاطون مجموعةً من الكتب الصغيرة في الطب اشتراها من عطَّار بخمسين بارة. مخطوط «القول الصريح في علم التشريح» للإمام الدمنهوري. مؤلفات أبيه الشيخ حسن. نسخة فريدة من القاموس العربي للجوهري. ينفرد بين كتب المكتبة بأنه ليس منسوخًا وإنما طبع على المطبعة الحجرية في تركيا.
فتَّشت عن كتاب للحكايات والطرائف أو النوادر والأمثال. لم أجد «أنيس الجليس» أو «هز القحوف» للشربيني، أو نوادر جحا، ولا كليلة ودمنة، ولا حوليات الإسحاقي المليئة بالطرائف والحكايات الإباحية، لا بُدَّ أنه أخذهم معه.
استخرجت مجموعة من الكرَّاسات كان يسجل فيها تواريخ الأعلام بطلب من الشيخ مرتضى الزَّبيدي قبل وفاته.
تصفَّحتُ الكراسات على مهلٍ مستمتعًا بخطه الرِّقعة الجميل ثم أعدتها مكانها. بحثت حتى وجدت ورقة فارغة. قربت مني القلم البوص ودواة الحبر النُّحاسية المستطيلة. وتربعت فوق الأريكة في المكان الذي يحتلُّه أستاذي عادة. أسندت الورقة إلى فخذي. سجَّلت ما وقع لي منذ عركة بولاق وهزيمة إبراهيم بك. توقَّفت حائرًا قبل تسجيل واقعتي مع الجارية السوداء. يركِّز الشيخ في طياراته على الأحداث العامة ويتجنَّب الحديث عن الأمور الشخصية. قررت ألَّا أقلِّده ورويت واقعتي مع الجارية. دونت التاريخ الهجري، ثم استبدلته بالتاريخ الميلادي بالطريقة التي تعلمتها من التاجر الفَرنسي. ضربت العدد المعبِّر عن السنة الهجرية في ١٣١، وقسمت الناتج على ١٣٥، ثم أضفت إلى خَرْج القسمة الرقم ٦٢١، فحصلت على السنة الميلادية الموافقة.
رششتُ قليلًا من الرَّمْل فوق الورقة وطويتها ثم دسستها في سروالي. وهبطتُ إلى غرفتي. ارتديت قميصًا من التيل الأزرق فوق السروال. لففت عمامتي حول رأسي. اقتربت من الباب وتطلَّعت في حذر إلى الخارج.
لمحت جعفر يدخل حجرته فخرجت إلى الحَوْش. شربت من الزير وأنا أبصُّ على غرفته. وعندما لم يخرج منها اتجهت بسرعة إلى الباب. التقيت بخادم قادم من السوق يحمل صفحة من الجريد رُصَّت فوقها أرغفة الخبز المدوَّرة.
خرجت إلى الحارة. تردَّدت بين الاتجاه يمينًا حيث وكالة الجلابة التي يُعرض بها العبيد عرايا، ثم مخرج الحارة المطِّل على ميدان جامع الأزهر. اخترت الاتجاه المعاكس المؤدي إلى الأشرفية فمررت من أمام وكالة السلطان إينال ووكالة الصناديق حيث تصنع من خشب الأرز ويصنع معها الورق المقوَّى.
وجدتُ الناس تجري في اتجاه الجماليَّة. تصايحوا بأن الفرنساويَّة عدُّوا إلى بَرِّ مصر، ودخل قائدهم من باب النصر. جريت في أعقاب الجموع.
كان الزحام شديدًا أكثر من المعتاد في بين القصرين. بغال وحمير ومتسوِّلون وبضع نساء متشحات بالسواد يحاول الرجال الاحتكاك بهن، ضجيج التصايح، وجُنْد الوالي من الإنكشارية يقفون غير مبالين.
لحقت الموكب قبل أن يصل بين القصرين. وبعد دقائق رأيت ضريح السلطان برقوق بقبته المميزة، وبعدها ببضعة أمتار مدرسة وضريح السلطان الناصر محمد بن قلاوون بمئذنته السامقة، ثم البيمارستان المنصوري حيث درس خليل الطب بعض الوقت ولم يفلح. رفعت عينيَّ إلى النقش المنحوت على الحجر بطول المبنى حاملًا ألقاب قلاوون: سلطان العراقيين والمصريين، ملك البر والبحرين، صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين.
عُدتُ أدراجي خلف الموكب الذي سار ببطء تتقدَّمه راية مؤلفة من مربع كبير أبيض في الوسط يحيط به اللونان الأزرق والأحمر في الزوايا الأربع. حزَرْتُ أنها راية الفرنساويَّة. وكان المشايخ والعظماء يتقدَّمونني فوق بغالهم ممسكين بمسابحهم. وأمامهم كالعادة جماعة من العدَّائين المسلَّحين بالشوم يُخْلون لهم الطريق بضرب المارة كيفما اتَّفَق. لم يكن ثمة وجه للمقارنة مع أُبَّهة مواكب فُرسان المماليك بالسلاح والعمائم المزركشة، والعباءات الحريرية الفضفاضة.
انحرف الموكب نحو الأزبكيَّة. عبَرْنا القنطرة المقابلة لحارة الإفرنج. ثم أبطأَ قُرب بركة الرطلي. تسللتُ في الزحام حتى مقدمة الموكب فرأيته قد توقَّف أمام بيت محمد بك الألفي.
كان البيت مهجورًا بعد هروب صاحبه. ولم تكن تنقصه البيوت فله داران أخريان بالأزبكيَّة غير واحدة في باب النصر. اصطنع أيضًا قصرًا من خشب يتألف من أجزاء تُركَّب بشناكل متينة يُحمل على عِدَّة جِمال. إذا أراد النزول في مكان يجري تركيبه فيصير مجلسًا مسقوفًا يسع ثمانية أشخاص له شبابك من الجهات الأربع.
شببتُ على أطراف قدمي. تبيَّنتُ رءوس الفرنساويَّة التي تُغطِّيها قلانسُ غريبةُ الشكل ورأيتُ القادة يترجَّلون. تَقدَّمهم واحد منهم قصير القامة ضئيلها. تبزغ من قلنسوته ثلاث ريشات كبيرة. وبمِنْطَقته سَيْف طويل يصل إلى الأرض. تبِعوه إلى داخل البيت. وبدأ الجنود في إنزال الصناديق من فوق عربة يجرُّها حمار. وكانت المرة الأولى التي تعْهَد الشوارع مثلها. وأدركت أن قائدهم سيسكن القصر.
هززتُ رأسي إعجابًا بالحكمة الإلهية. فقدْ شيَّد الألفي قصره في السنة الماضية. وكان البناء حديث المدينة. فقدْ عمِل رجاله بجواره عِدَّة قمائنَ لحرْق الأحجار. وركَّبوا طواحين لطحن الجبس. وقطعوا الأحجار ونقلوها في المراكب من طُرا ثم نشروها بالمناشير ألواحًا كبارًا لتبليط الأرض. وأحضروا الأخشاب المتنوعة من بولاق وإسكندرية ورشيد ودمياط.
وعندما تم البناء سكن به وأقام احتفالًا كبيرًا دعا إليه أصدقاءه من المماليك والشيوخ ومن بينهم الجبرتي. واصطحبني الشيخ فولَجنا بستانًا عظيمًا تضيئه القناديل به جمالون مستطيل من الدِّكَك والأعمدة، وإلى جواره فسقية عظيمة من الرخام أهداها إليه الإفرنج، بها أسماك من الرخام يخرج من أفواهها الماء. وطُفنا بالداخل فرأينا للنوافذ ألواحًا من الزجاج والسلالم من الرخام المرمر والأرضية من الفسيفساء.
شرِبنا يومها عصير الفواكه في كئوس من فِضَّة. وأكلنا كتاكيتَ مشوية. وفتتنا الخبز في بهريز ثقيل الدسم مع عكاوي وذيول ثيران وأمخاخ طيور ونخاع ضأن. لكنه لم يهنأ بكل هذا سوى أيام. فلم يمضِ على إقامته بالدار الجديدة ستة عشر يومًا حتى هُزم أستاذه مراد بك في إنبابة، وغادر الدار هربًا هو وحريمه وعياله.
شرَع المشايخ في الانصراف فتبِعتُهم. قلَّبتُ جيوبي حتى جمعتُ خَمْس بارات هي ما تبقَّى معي من المصروف الذي يعطيه لي أستاذي. تلفَّتُّ حولي بحثًا عن مُكاري أكتري حماره فلم أجد. فكَّرتُ في السَّيْر إلى محطة الحمير قُرب مسجد الكِخْيا. ثم عدَلْتُ عن ذلك. درتُ حول البركة حتى صار ربع الرويعي على يساري، ثم عبَرْتُ أرض وقْف مصطفى كَتْخُدا مقتربًا من حارة النصارى. لمحتُ جمعًا من الناس وبعض العسكر الإنكشارية؛ فاتجهتُ مباشرة إلى بيْت حنا.
كان في مثل عمري، وكنت قد تعرَّفت عليه لدى تاجر الحبوب والعقاقير الفَرنسي الذي عملت عنده قبل أن يضمَّني الجبرتي إلى بيته. أمَّا هو فقد انتقل إلى بيت الشيخ البكري الذي اتخذه سكرتيرًا. واستمرَّت صداقتنا.
طرقتُ الباب عِدَّة مرات، فتحه لي شاحبَ الوجه، جذبني إلى الداخل في لهفة، تبِعتُه وأنا أردِّد بصوت مرتفع: دستور، يا ساتر؛ لتنبيه النساء. جلسنا في قاعة مجاورة للباب. أحضرَ لي كوبًا من الماء الذي يحرص الأقباط على غليه. حكيت له مشاهداتي. عرضت عليه أن يخرج معي لنتفرَّج. هزَّ رأسه متردِّدًا. ألححت عليه. غادر الغرفة وعاد مرتديًا عِمامة القِبْط سوداء اللون. كان ممنوعًا على القِبْط واليهود لبس العِمامة الخضراء أو الحمراء أو البيضاء، أو انتعال المراكيب الحمراء والصفراء. امتنع عليهم أيضًا ركوب الخيل والبغال، أو البقاء فوق حميرهم عندما يمرون بالمساجد.
سألتُه عما به، فقال إنه لم ينَمْ جيدًا لأن أطفال سكان الطابَق الأعلى كانوا يمرحون بالقباقيب الخشبية، ويلعبون بدقِّ الهَوْن.
استمهلني عند الباب وواربه. تردَّدتُ في الخارج صيحات تدعو إلى قتل النصارى واليهود. اصفرَّ وجهه وارتعش أنفه الكبير. قلت له: غيِّر ملابسك. قال: كيف؟ قلت غيِّر العِمامة، ضع واحدة بيضاء، والبس مركوبًا أصفر.
قال: سيكتشفونني. قلت: لا تخشَ شيئًا. الفَرنسيُّون الآن هُم الذين يحْكُمون وهُمْ من مِلَّتك.
دخَل وعاد مرتديًا عِمامة بيضاء.
غادرنا البيت. وجدته يتجه تلقائيًّا إلى يسار الطريق كعادة الأقباط الذين يتحتَّم عليهم تَرْك الجانب الأيمن من الشارع للمسلمين. جذبته من ذراعه ليسير إلى جواري ناحية اليمين. خرجنا إلى الشارع وسط صيحات الحمارين. قال: نذهب إلى بيت البكري فأنا قلق عليه.
قلت: لن يصيبه أذًى؛ فهؤلاء الشيوخ يُفلتون دائمًا من كل مصيبة.
قال: أنا خائف على زينب.
التفتُّ إليه مصعوقًا: زينب من؟
أطرق برأسه إلى الأرض: ابنة الشيخ البكري.
– يا وقعة سودة! احكي لي.
– في البداية لم أكن أراها أو حتى أسمع صوتها. كنت أظل بالحجرة المخصَّصة لي أسفل مَسْكن الحريم مباشرة. وتبلغني الوكيلة أوامرها. ثم سُمح لي بالصعود إلى الحجرة المجاورة. وصارت تُملي عليَّ أوامرها بنفسها عبر باب مفتوح بين الغرفتين. هكذا سمعت صوتها.
– رأيتها؟
– لم تكن تخرج إلَّا لِمامًا. وفي هذه الحالة ترتدي السَّبَلة الواسعة التي تتدلَّى حتى الأرض، وتغطِّي وجهها بالبرقع الذي لا يكشف سوى عينيها. في مرَّة برزَتْ فجأة من حجرتها، كانت سافرة. طالعني وجه مثل القمر في تمامه تحيط به ضفيرتان من الشعر، ويعلوه إكليل مُرصَّع. كانت في ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر فوقه قَبَاء من المُخْمَل مشدود إلى خَصْرها بمِنْطَقة من الحرير الدمشقيِّ الثمين. وتدلَّى من أُذنَيها قُرْطان تألفَّا من جوهرتين كبيرتين. لم أعرف النوم من لحظتها.
– هذا كل شيء؟
– تكرَّرتْ رؤيتي لها سافرة. كانت تمرُّ من أمام باب حجرتي دون حجاب.
– هل تعرف عمرها؟
– أظنها في السادسة عشرة.
أرادني أن أصحبه حتى بيت البكري في الأزبكيَّة، لكني فضَّلتُ العودة.
الجمعة ٢٧ يوليو
توضَّأتُ وتهيَّأتُ للخروج. كانت رائحة بيت الراحة لا تُطاق، لم يصلح البَخور في تبديدها. لمحت الجارية السوداء تملأ القُلل من مياه البئر بعد أن اختفى السقَّاءون الذين يمدُّوننا به. تابعتها وهي تُفرغ أكواب المِسْتِكة المغليَّة في القُلَل لتعطيرها. ولم تُبْدِ ما يدلُّ على أنها شعرت بنظراتي. كنت آتيها كل ليلة منذ سافر أستاذي. ترقد تحتي صامتة دون أن نتبادل كلمة واحدة. وعرَفتُ أنهم أسمَوها ساكتة لأنها لا تتحدث مع أحد.
ظهر جعفر في أعقاب خادم يحمل طاجنًا من السمك المتبَّل. وصاح به عند الباب: قل للفرَّان يرسله مع غلامه أذان العصر.
غادرتُ البيت إلى الحارة وانحرفتُ يمينًا. مررتُ بوكالة الجلابة، كان بابها موارَبًا تتصاعد من خلفه أصوات التجار. خرجت إلى الميدان المقابل لجامع الأزهر. اتجهتُ إليه ودخلت من باب المزينين الشامخ الذي تعلوه ثلاث من المآذن الخمس للمسجد. أعلاها مئذنة قانصوه الغوري ذات الرأسين.
خلعت حذائي ومضيت فوق البُسُط المنقوشة بشكل المحاريب. وعبَرْتُ الرِّواق الجديد ذا السقوف المذهَّبة المُحلَّاة بآيات من القرآن الكريم في الخط الكوفي.
وقفت أتأمَّل مِزْوَلة المواقيت التي أضافها والٍ كان تلميذًا لوالد أستاذي.
انضممتُ إلى المصلين في صَحْن الجامع، كانت وجوههم متوجِّسة تنتظر ما سيقوله الخطيب، لكنه لم يخرج عن المألوف في كل جمعة، ولم يُشِرْ بشيء لدخول الفرنساويَّة، ثم اختتم بالدعوة للسلطان العثماني، وهَدَرَ جَمْع المصلين بكلمة «آمين».
غادرت الجامع ومضيت إلى خان الخليلي. لمحت زحامًا حول عِدَّة جنود فرنساوية، كانوا بغير سلاح. اقتربت منهم في تردُّد. كانوا يرتدون سراويل مُقَمَّطة للغاية، وقَلَنْسوات تشبه زنابيل الأرز، وشعورهم مرسلَة فوق الجبهة وحول الرأس ومعقودة من الخَلْف بأُنْشُوطة.
رأيتهم يضاحكون الناس، وكان أحدهم يبغي شراء دجاجة، تطوعت لمساعدته في التفاهم مع البائع باللغة التي تعلمتها عند التاجر الفَرنسي. ولم تكن هناك حاجة لمساعدتي فقد أخذ الجندي الدجاجة وأعطى البائع ريالَ فرانسة؛ أي مائة بارة، بينما سِعْرها لا يتجاوز العشرين. وتكفي عشر بارات لمصروف بيت في اليوم من اللحم والخضار. وهو نفس المبلغ الذي يتقاضاه أستاذي في اليوم عن التدريس.
ألقى إليَّ الجُنْديُّ بقطعة فِضيَّة من ٤٠ بارة فدسستها في ملابسي.
عندما عدتُ وجدتُ الخادم صالح يشكو من عينه؛ فأرسلت جعفر ليشتريَ بذور الشِّشْمِ لنطحنها ونضع منها ضِمادة فوق العين الملتهبة.
السبت ٢٨ يوليو
اقتحم جعفر حجرتي منفعلًا. قال إن الفرنساويَّة يفتحون بيوت الأمراء المغلقة، ويسكنون بعضها أو يتركونها بعد أن يجرِّدوها من أثمن ما فيها. وقال إن الناس تحمي نفسها بأن تأخذ منهم ورقة تلصقها على دُورها. وطلب مني أن أسعى في الحصول على هذه الورقة. أوشكتُ أن أقترح تَرْك الأمر للشيخ عند عودته، ثم تبيَّنتُ الفرصة السانحة للتَّجوال في المدينة.
ارتديتُ قميصي على الفور، ووضعتُ خُفًّا في قدمي، وطلبتُ من السائس أن يُحضر لي الحمار. اعترض جعفر قائلًا: إني لن أُضطرَّ للذَّهاب بعيدًا؛ فقد عيَّن الفرنساويَّة النصراني اليوناني برطلمين في وظيفة كَتْخُدا مستحفظان مسئولًا عن الأمن والنظام بالمدينة، ويتبعه حُرَّاس لهم مراكزُ في الأحياء. وكان برطلمين هذا مِن حرَسِ محمد بك الألفي في السابق، وله حانوت بالموسكي يبيع فيه القوارير الزجاجية.
غادرتُ البيت وخرجت إلى الغورية. واصلت طريقي بحثًا عن المراكز التي تحدَّث عنها جعفر. رأيت واحدًا فذهبت إليه وأعربت عن مرادي. فقال لي العسكري في غلظة: إن صاحب البيت هو الذي يحضُر ومعه ما يُثْبت ملكيَّته.
مضيت إلى الفحامين ووقفت أتفرَّج على جماعة من الفرنساويَّة فوق الحمير. كانوا يصخبون في مرح وبينهم فتاة شقراء جميلة. تبِعتهم حتى توقَّفوا أمام أحد البيوت. فترجَّلوا تاركين حميرهم مع المُكارية. ولَجوا البيت فاقتربت منه. كان الباب مفتوحًا ورأيت في الداخل عِدَّة دِكَك مرتفعة من الخشب حَوْلها مقاعد يجلس الفرنساويَّة حَوْلها. ورأيتُ فرَّاشًا يضع أمامهم أطباقًا من الطعام.
سألت أحد المُكارية المنتظرين عن هذا البيت، فقال إنه للأكل، وقد افتتحه أحد أولاد البلد من الإفرنج يصنع فيه أنواع الأطعمة والأشربة المستساغة لدى الفرنساويَّة؛ فيشتري الأغنام والدجاج والخَضراوات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم ويطبخها، ثم يقدمها لمن يشاء مقابل قدر من الدراهم.
واصلتُ سَيْري شاعرًا بالجوع. توقَّفت أمام دكَّان حديث يبيع الفطير والكعك والسمك والجُبن المقليين واللحوم المُحمَّرة. اشتريتُ ثلاث بيضات مسلوقة ببارة، وكانت الخمس ببارة منذ أسبوع.
الثلاثاء ٣١ يوليو
عاد أستاذي اليوم من إبيار حاملًا معه أقفاصًا من العنب والتين والخوخ غير الجوافة. دَبَّ الحماس في أرجاء البيت فنحن لا نأكل الفاكهة إلَّا في المواسم لأنها غالية الثمن ونادرة الوجود.
وبهذه المناسبة كان العشاء قدرًا كبيرًا من اليَخْني وأرزًا بالزعفران والزبيب والبازلَّاء والبصل. وحلَّينا بالشمَّام البارد.
اجتمعنا في غرفة العقد بعد صلاة العشاء. وانضمَّ إلينا خليل. وأرسل أستاذي إلى العطار يشتري معجونًا مُنشِّطًا من العنبر، ثم صرَّح لنا بأن الفرنساويَّة استدعَوه لحضور اجتماعات الديوان الذي أنشَئوه. وطلبَ مني أن أحكيَ له ما جرى من أحداث أثناء غيابه.
حدَّثتُه عن الورقة المطلوبة منه، ثم وصفتُ له موكب بونابرته واستقراره في بيت الألفي. هزَّ رأسه آسفًا. كان مُعجَبًا بالمملوك ويصفه بالأمير الكبير والضِّرغام الشهير. قال: هل تعرف قصته؟ لقد جلَبه بعض التجار من الأناضول منذ عشرين سنة، واشتراه مراد بك بألف إردبٍّ من الغِلال فسُمِّي بالألفي. وكان جميل الصورة فأحبَّه وأعتقه، وجعله كاشفًا بالشرقية؛ فطرد العُرْبان وصادَر ممتلكاتهم واشتَهر بعَسْفه. ثم أقام في الصعيد أربع سنوات رجع منه بعد الطاعون، وقد اتَّزن عقله وتعلَّق بمطالعة كتب التاريخ والعلوم، وأكثر من شراء المماليك حتى صار عنده نحو ألف مملوك، وصار يزوِّجهم لجواريه، ويُجهِّزهم بالجهاز الفاخر، ويُسكنهم الدُّور الواسعة، ويُعطيهم الفائظ والمناصب.
لحظتُ تغيُّرًا في هيئة أستاذي، فمنذ مات أستاذه الشيخ مرتضى الزَّبيدي في الطاعون منذ سبع سنوات كفَّ عن ترجمة أعلام العصر، وأخذ يبدو فاقدًا للهمة والحماس. وكان يكتفي بأن يسجِّل بعض الوقائع والأحداث في أوراق متفرِّقة يسميها «طيَّارات». لكنه لم يستعِدْ أبدًا حيويته السابقة. وها هو الآن قد دبَّ فيه النشاط.
استأذن خليل منصرفًا فسأله أستاذي إذا كان قد قرأ الكتاب الذي أعطاه له وهو «آداب السلوك في الحمَّام العام» للشيخ المناوي، فأجاب بالنفي. قال: دخَل حكيم على حكيم في منزله وهو مُتوحِّد، فقال له: أيها الحكيم. إنك لَصبور على الوَحْدة. فقال: ما أنا وحدي فمعي جماعة من الحكماء والأدباء يخاطبونني وأخاطبهم. وضرب بيده على رصَّة كتب بجانبه، وقال: هذا جالينوس حاضرًا، وهذا بقراط يناظر، وسقراط واعظ، وأفلاطون لاقط، وهذا داود المعلم.
تنهَّد في أسًى. كان يُعذِّبه أن خليل لا يهوى القراءة. ومضى قائلًا: هل سمعت عن الشيخ يوسف المغربي الذي تُوفي منذ أكثر من مائة عام؟ لقد بدأ حياته حِرفيًّا قبل أن يخطوَ على الطريق الذي جعل منه عالمًا. كان يصنع حمائل السيف وهو صبي، وفي نفس الوقت يقرأ القرآن الكريم في جامع طولون من المغرب إلى العشاء، فمنَعه أحد أخواله قائلًا ليس في أقاربنا علماء. تطلع لمن؟ فأخذ يقرأ خفْيةً، ثم ترك صُنْع الحمائل، وساعده جماعة من الناس على الاشتغال بالعلم، سمحوا له بالجلوس في دُكَّان قماش يبيع فيها، وصار يشتري الكتب ويقرؤها، ثم التحق بالأزهر.
انصرف خليل فسألني عن أثر الأحداث في الناس، قلت: إنهم خائفون، فالفرنساويَّة يقطعون كل يوم رءوس خمسة أو ستة في الشوارع. وبعض السوقة فتحت عِدَّة دكاكين بجوار منازلهم يبيعون فيها أصناف المأكولات. وفتح النصارى اليونانيون خمامير وقهاوي، ثم أضفت: هناك أيضًا شائعات عن معارك بين المماليك والفرنساويَّة في القبة والمطرية والخانكة وأبي زعبل.
حَسَرَ أكمام جُبَّته إلى قرابة إبطيه. وطلب مني أن أُحضر له المحبرة والريشة وأوراقًا. كان يجلس متربعًا فوضع الأوراق على فخذه وانحنى فوقها، وأخذ يكتب. وعندما انتهت الصفحة ألقاها جانبًا وتناول غيرها.
اكتشف نفاد الحبر فاستدعى خادمًا وأرسله إلى الحسينيَّة ليشتريَ من الحبَّارين. تغلَّب عليَّ فضولي فسألته عمَّا يكتب. قال وهو يُبعد الناموس عن وجهه: أُسجِّل ما ذكرتَه لي الآن. سأكتبُ مدة الفرنسيس في مصر؛ فقلبي يُحدِّثني أننا مقبلون على أحداث جِسام.
سمعنا دقًّا على الباب الخارجي؛ انزعج وجمع الصُّحُف وأخفاها تحت حشِيَّة الأريكة، نهضت واقفًا منزعجًا أنا الآخر.
ظهر جعفر عند باب القاعة وخلفه الشيخ المهدي الذي يحرر منشورات بونابرته في القالب العربي. فكَّ الشيخ المست الجلدي الذي يغطِّي نعليه ثم خلعهما، وترك عصاه بجوار الباب. نهض أستاذي مُرحِّبًا بالشيخ، وأفسح له مكانًا بجواره. كان يرتدي عِمامة كبيرة ملفوفة حول قاووق طويل تبدو قمته ظاهرة في أعلاها. وحول عنقه فرو سمور تدلَّى طرَفاه فوق كتفيه.
خلع الفرو والعِمامة متشكِّيًا من الحرِّ وألقاهما على الأريكة، ومسح رأسه وجبينه بكُمِّ قُفْطانه. أحضر له خادم كوبًا من شربات الورد، ثم وضع أمامه صَحْنًا من الفواكه المجفَّفة التي كانت ترِدُ من تركيا قبل وصول الفرنساويَّة.
قال إنه حضر اجتماع الديوان قبل يومين ببيت قائد أغا قرب الرويعي، وحضر معه الفرنساويَّة، وبعض المشايخ مثل عبد الله الشرقاوي، وخليل البكري، وسليمان الفيومي، والصاوي، والسرسي.
– ماذا فعلوا؟
– طلب الفرنساويَّة خمسمائة ألف ريال سُلْفة من التجار. ووضعوا اشتراطات مُحصَّلها التحايل على أخْذ الأموال. وأخَذ يعُدُّ على أصابعه: أن يأتيَ أصحاب الأملاك بحُججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك، فإذا أحضروها وبيَّنوا وجْه تملُّكهم لها إمَّا بالبيع أو الانتقال لهم بالإرث؛ يؤمَر بالكشف عليها في السجلات، ويدفع الواحد منهم على ذلك الكشف قدرًا معيَّنًا من الدراهم، فإن وجد تمسُّكه مقيدًا بالسجل طُلب منه بعد ذلك الثبوت، ويدفع على ذلك الإشهاد بعد ثبوته وقَبوله قَدْرًا آخَر، ويأخذ بذلك تصحيحًا، ويُكتب له بعد ذلك تمكين، ويُنظر بعد ذلك في قيمته، ويدفع على كل مائة اثنين. فإن لم يكن له حُجَّة، أو لم تكن مقيَّدة بالسجل، أو مقيَّدة ولم يثبت ذلك التقييد؛ فإنها تُضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم.
قال الجبرتي: خرجنا من بلوة لنقع في واحدة أشد. هل تذكر عندما فرض الأتراك ضريبة الحماية على الأرض؟ جعلوا على كل فدان عشر بارات، فكلُّ من كان تحت يده شيء يكتب له عَرْضحال، ويذهب به إلى ديوان الدَّفْتَرْدار فيعلِّم عليه علامة، ثم يذهب بذلك العَرْضحال إلى كاتب الرزق فيكشف عنه في الدفاتر المختصَّة بالإقليم الذي فيه الأرصاد بموجِب الإذن بتلك العلامة، فيكتب له تحتها علامة بعد أن يأخذ منه دراهم، فيرجع إلى الدَّفْتَرْدار فيكتب تحته علامة غير الأولى، فيذهب إلى كاتب الميري؛ فيطالبه حينئذ بسنداته وحُجج تصرُّفه، ومن أين وصل إليه ذلك، فإن سهلت عليه الدنيا ودفع له ما أرضاه كتب له تحت ذلك عبارة بالتركي لثبوت ذلك، وإلا تعنَّت على الطالب بضروب من العلل، وكلفه بثبوت كل دقيقة يراها في سنداته وعطل شغله، فما يسع ذلك الشخص إلَّا بذْل همَّته في تتميم غرضه بأيِّ وجه؛ فيستدين أو يبيع ثيابه.
سألته بعد انصراف الشيخ المهدي عمَّا إذا كان سيحضر اجتماعات الديوان. تفكَّر قليلًا وهو يتحسَّس لحيته، قال: لن نخسر شيئًا، ستكون فرصة ثمينة للحصول على الأخبار من منبعها.
٢
الجمعة ١٧ أغسطس
أيقظني أستاذي في الفجر لنحضُر الاحتفال بوفاء النيل المبارك. صلَّينا وأفطرنا. امتطى بغلته وركبت أنا حمارًا. خرجنا إلى الجامع الأزهر فالتقينا السقَّائين بستراتهم الجلدية وأحذيتهم العالية.
اتجهنا جنوبًا واخترقنا الحواري والأزقَّة حتى بلغنا الشارع المحاذي لضفة الخليج اليمنى، والذي يمتدُّ من باب الشعرية حتى قناطر السباع.
صادفنا موكبًا من العساكر والمارَّة يتقدَّمهم رجل عملاق ببشَرة برونزية، وعينين جاحظتين، وخدَّين غائرَين، وفوق رأسه عِمامة بيضاء كبيرة، ويُحيط بجبهته رباط أسود، ويتعلَّق خنجر طويل بنطاقه الأحمر اللون فوق قميص مُوشًّى بالقصب، وحذاء برقبة، وبين يديه الخدم بالحِراب المفضَّضة. تعرَّفت فيه على الخواجا برطلمين.
تباطأنا حتى ابتعد الموكب، ثم واصلنا السير لغاية قصر قنطرة السد عند فم الخليج. هنا يخرج الخليج من النيل جنوبي قصر العيني عند السبع سواقي.
التحقنا بالركب الذي تقدَّمه القائد بونابرته بصحبة بقية القادة ومشايخ الديوان، وخلفه عساكره وطبوله وزموره. كان الزحام شديدًا على الشاطئ الذي ظلَّلته أشجار الكافور والصَّفْصاف. ورأيت أن أغلب الحاضرين من النصارى الشوام والقِبْط والأروام والإفرنج البلديين ونسائهم، وقليل من الناس البطَّالين.
تعلَّقت عيوننا بمنصة خالية تعلوها مظلَّة. ثم دقت الطبول والصُّنوج. وتقدَّم بونابرته ومعه الجنرالات ومندوب الباشا وأغا المشاة نحو المنصة بخطوات ثابتة وسط التصفيق. لم أصدِّق عيني عندما تبيَّنت ملابسه؛ كان يرتدي قُفطانًا دمشقيًّا، وعِمامة غُرست فيها ريشة إوزة.
اتخذ مكانه فوق سُرادق مذهَّب يُطلُّ على النيل الممتلئ. وانحنى شخص على المياه يقيس مستوى ارتفاع النهر. ساد الصمت، ثم أعلن عن منسوب المياه. صفَّق الجمهور. أعطيت إشارة تحطيم الحاجز الذي كان يحبس المياه، فهوت المعاول. وشرع مرور الماء، ثم انكسر الحاجز، وتدفَّقت المياه إلى الخليج لتملأ بِرَك القاهرة وتروي القليوبية والشرقية. علَت الزغاريد ودوَّت المدفعية. وقذف أحدهم في المياه بتمثال لعروس النيل فهَدَرَت الأصوات. وقفز بعض الرجال والصبية في الماء، بينما ألقت فيه النسوة مِزَقًا من شعورهن وملابسهن.
ووصلت مئات المراكب القادمة من بولاق في سباق للفوز بالجائزة المخصَّصة للصف الأول، وقام بونابرته بتسليمها للفائزين. ثم شرع يوزِّع بسخاء هبات كثيرة تسابَق الجمهور عليها. وأخذ يرسل التَّحايا بكفَّيه مائلًا إلى الأمام بشكل مضحك. ثم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وقلَّده نقابة الأشراف مكان عمر مكرم الهارب. وأخيرًا أعطى الإشارة بالانصراف.
استدار أستاذي ببغلته في طريق العودة. واستأذنتُ منه في زيارة صديقي عبد الظاهر الذي يسكن قرب قناطر السباع، أذِن لي فانطلقت بحماري وسط بيوت مظلمة متداعية تنبعث منها روائحُ كريهة وحوانيتُ أشبَه بمرابط الخيل. رجال في أسْمال محشورين في الأزقَّة أو قاعدين يُدخِّنون القصبات أمام مداخل بيوتهم وحوانيتهم. عميان يشحذون. نساء قليلات مُقزِّزات يُخفين وجوهًا عجفاء خلف خِرَق نَتِنة، وتبدو صدورهن المتهدِّلة من أرديتهن القذرة. أطفال صُفْر الوجوه ينهشها الذباب.
بلَغتُ مجموعةً من الأحواش الكبيرة التي تمتلئ بأكواخ صغيرة يتكدَّس داخلها الفقراء مع حيواناتهم. ولَجتُ حَوْشًا يلعب به أطفال قذرون بجوار كرسيِّ راحة مكشوف. وفي جانب ركَع شابٌّ على ركبتَيه دافنًا رأسه بين ركبتَي حلاق يُزيل شَعره. ربطتُ الحمار في مسمار بمَدخَل الحَوْش، واتجهت إلى الكوخ الذي يُقيم به عبد الظاهر مع أمه الكفيفة، ويدفع إيجارًا له عشر بارات في الشهر.
كنا قد تعلمنا سويًّا في الكُتَّاب. وجئنا معًا من الصعيد هربًا من الطاعون. واضطر للعمل في وكالة أقمشة ليعول أمه. ولم تنقطع صلتنا. وصرنا نلتقي كثيرًا بصحبة حنا.
كان في سِنِّي وأكثر سُمرة ونحولًا. رحَّب بي وجلسنا فوق مصطبة حجرية بالحَوْش. تعرَّفت أمه بالداخل على صوتي فحيَّتني. ونادته فدخل وعاد بصَحْن من البلح وكوب من اللبن الرائب. سألته عن الأحوال فاشتكى من قلة الرزق. وقال إن التاجر صاحب الوكالة أنقصَ أُجرته متحججًا بالأموال التي دفعها للفرنساويَّة، وإنهم لم يذوقوا اللحم منذ عِدَّة شهور.
تردَّدتْ فجأة صيحاتٌ مذعورة، واختفى الأطفال على الفور داخل أكواخهم، وأغلقت أبوابها، وأزاح الحلاق زَبونه جانبًا ولوَّح بموساه في الهواء.
ظهرت دورية من جُنْد الفرنساويَّة في مدخَل الحَوْش وتجاوزته مبتعدة. ولم تلبث أبواب الأكواخ أن فُتحت وخرَج الأطفال، وعاد الزَّبونُ الشابُّ إلى حِجْر الحلاق.
قال عبد الظاهر إن الفرنساويَّة يصعدون الأزقَّة والدروب للتحرش بالنساء. وأردف بتصميم: ونحن على استعداد لهم.
ردَّدتُ آية من سورة القصص:وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ.
قال: نسيتَ أول الآية: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا.
– لم يأتِ أحد بعْد. وعمومًا فإننا أفضل حالًا من أيام الأتراك والمماليك.
– خسئت. أولئك مسلمون لا نصارى.
– سمعتُ من أستاذي أن الفرنساويَّة ليسوا نصارى وإنما هم من الدَّهرية.
سألني هازئًا: وما هذه الدَّهرية يا مولانا؟
– الذين يُنْكرون البعث والدار الآخرة والأنبياء، ويقولون بقِدَم العالم، وبأن الحوادث الكونية من فِعْل الحركات الدورية. وعقيدتهم هي تحكيم العقل. ويزعمون أن الرسل محمدًا وعيسى وموسى كانوا جماعة عقلاء، وأن الشرائع المنسوبة إليهم كناية عن قوانين وضعوها بعقولهم لتناسب أهل زمانهم.
– إذن هم كفَرة ويجب قتالُهم.
– وكيف السبيل إلى ذلك؟
لم يُجِب وشعرتُ أنه يُضمر شيئًا لا يُفصِح عنه.
سألني عن حنا، ثم قال إن القِبْط استقوَوا بالفرنساويَّة وإن معلمهم يعقوب رافق عسكرهم إلى الصعيد ليُعرِّفهم الأمور. دافعتُ عن حنا قائلًا: إنه لا شأن له بهذه الأمور، وإنه موضع ثقة الشيخ البكري.
دعاني لتناول طعام الغداء لكني اعتذرت وانصرفت بحماري لألحق بصلاة الجمعة.
الجمعة ١٧ أغسطس مساء
اضطجع أستاذي فوق الأريكة وتربعت عند قدميه. قرأت عليه حصة اليوم من كتاب الشيخ النفراوي في الرد على الأسئلة الخمسة التي ذكرها الشيخ العلامة أحمد الدمنهوري. كنت أقرأ وأنا أهتزُّ كالعادة يمنة ويسرة، ويستوقفني ليستفسر عما فهمتُه أو ليشرح لي ما استغلق عليَّ فهْمُه. انتهيت من السؤالين الأول والثاني حول إبطال الجزء الذي لا يتجزَّأ وقول ابن سينا عن ذات الله، وكيف أنها نفس الوجود المطلق. ثم توقَّفنا عند السؤال الثالث في قول أبي منصور الماتريدي إن معرفة الله واجبة بالعقل مع أن المجهول من كل وجه يستحيل طلبُه.
قال الشيخ: يكفي هذا اليوم. حان وقت العشاء. نأكل هنا.
كانت عادته أن يتعشَّى في غرفة نومه بالطابَق العُلوي.
انضم إلينا خليل، وأحضر لنا الخادم صينية بها صَحْنان من العدس وبصل.
تبسَّم الشيخ وقال: هل تعرف ما قاله الشيخ الأنبوطي الشافعي رحمه الله؟ قال:
لم تمنعنا أبيات الأنبوطي من التهام الطعام بالملاعق الخشبيَّة، ثم اغتسلنا وأخرج الشيخ أوراقه وبدأ يكتب. رويتُ له واقعة الدورية الفرنساويَّة وتعليق عبد الظاهر عليها، لكني احتفظت بالحديث الذي دار بيني وبينه لنفسي. وتناولت ورقة فارغة ووضعتها على فخذي، وغمست ريشة في المحبرة، سجلت ذلك الحديث، ثم وصفت احتفال وفاء النيل.
تطلَّع إليَّ فجأةً عابسًا: ماذا تفعل؟
قلت: أدوِّن تفاصيل الاحتفال.
– لأي غرض؟ لقد دونتها.
– فكرت أن أقلدك.
بدا عليه الضيق ولزم الصمت. واصلت الكتابة حتى انتهيت، ثم أعدت المحبرة والريشة مكانهما، وحملت الورقة وأنا أحركها في الهواء ليجفَّ الحبر، وانسحبت إلى حجرتي.
استلقيت على فرشتي وأنا أفكِّر في ردِّ فعله. تقلبت واشتقت إلى الجارية السوداء لكني لم أجرؤ على الذَّهاب إليها في وجود أستاذي.
الخميس ٢٣ أغسطس
أقضي هذه الأيام في حجرتي بين الفرشة وكرسيِّ الراحة، فقد أصابني الزُّحار كعادتي مع كلِّ فيضان. وتناولتُ كميات كبيرة من مغلي جذور الإشار الهنديَّة والصمغ العربي والرمان.
السبت أول سبتمبر
عاد الجبرتي من اجتماع الديوان ساخطًا، قال إنه طلب مع الآخرين من أصحاب التزامات الأراضي الإذن في التصرف في حصصهم؛ فاشترط الفرنساويَّة دفْع الحُلْوان.
كان الشيخ ملتزمًا على أرض في قريته إبيار. يدفع ما يتقرر عليها من مال، ويحصل من استغلالها على ما يشاء.
تبِعتُه إلى مجلس العقد حيث خلَع فروته وحذاءه وهو يزفِر مستاءً، قال: إن بونابرته أحضر شالًا بألوان الراية الفَرنساويَّة، ووضعَه على كتف الشيخ الشرقاوي؛ فتغيَّر مِزاجه وامتُقع لونُه واحتدَّ طبْعُه، ورمى به إلى الأرض. ثم قرأ المعلِّم التركي نقولا قصيدة باللغة العربية يُشيد بها بالقائد الفرنساوي. سكتَ ثم ردَّد بلهجة مُتهكِّمة بيتًا منها:
أضاف: عند انصرافنا صادفنا الشيخ السادات في طريقه لمقابلة بونابرته. لا أظنُّه سيرفض وضْع الشال الفرنساوي.
استأذنت من الجبرتي بعد القيلولة، وذهبت إلى مقهى فتحي — أحد صنائع الفرنساويَّة قرب المشهد الحسني. كان مزوَّدًا بموائدَ وكراسيٍّ خشبية بدلًا من المصاطب أو المقاعد الحجرية. ويجتمع فيه الناس للسَّمر والحديث واللعب ويحضُر معهم فرنساويَّة.
انضمَّ إلي حنا ثم عبد الظاهر. قال حنا إن الفرنساويَّة احتلوا بني سويف. كان يبدو حزينًا كسيف البال. سأله عبد الظاهر ساخرًا عن أخبار زينب، قال: إن البنت فجَرت؛ فهي تخرج الآن كلَّ يوم دون أن تغطيَ وجهها. سكتَ ثم قال: تلصَّصتُ عليها مرة في حجرتها. كانت سافرة بلا برقع، واليلك مفتوح من أمام يظهر منه قميصها، ورأسها تحت طاقية تدور بها مِسْبحة من اللؤلؤ، وتتدلَّى منها ضفاير من الحرير تزيد من طول خُصلات الشَّعر. كانت مُمسكة بمرآة تزيل بالموسى كثافة حاجبيها وتجعلهما خطَّين رفيعين فوق الجفن. ثم اكتشفتُ أنها تتكلم مع أبيها. ورأيتها تمدُّ نحوه قدمها ذات الخلاخيل فإذا به يركع ويُقبِّلها، ودفعَته بقَدمها فوقَع على الأرض.
تطلعنا إليه في دهشة. قال إنه لا يستغرب هذا؛ فالرجل معروف بمجونه. كلَّ ليلة يشرب خمر البرجندي الممزوج بالبراندي، ولا يرحم البنات والصبيان.
ظهر الاستنكار على وجه عبد الظاهر، وقال: كافر وكافرة.
دخل قبطان فرنسي برفقة امرأة من أولاد البلد المخلوعين. رماها عبد الظاهر بعيون نارية، وقال: هي وأمثالها يستحقون القتل.
قال حنا: قوما معي لنرى زينب فموعد خروجها الآن.
مضينا نحو الموسكي وعبَرْنا القنطرة، وسرنا بين المتاجر المتخصِّصة في بضائع أوروبا: جوخ، ورق، مناديل، سجاجيد، تبغ، صابون، تين مجفف، سكاكين، أمواس، شيلان، أكواب زجاجيَّة، سكر، ساعات حائط، فانلات منقوشة، ساعات ذهبية، دبابيس. مررنا بعَطْفة تؤدي إلى حارة اليهود حتى وصلنا العتبة. سرنا في اتجاه شارع مشتهر، ثم انحرفنا يسارًا قرب جامع الكِخْيا. استوقفَنا زحام من الناس. وتبيَّنا أن حمارين اصطدما بسبب السرعة، وكان الراكبان فَرنسيَّين، وقد تكرَّر هذا في الآونة الأخيرة بسبب من السرعة التي يسوق بها الفرنساويَّة. ولاحظتُ أن عددًا من المحلات التِّجارية رفعَت لافتات باللغة الفرنساويَّة. وكان الجابي أمام أحدها.
كان في زي المماليك المؤلف من السراويل الفضفاضة الطويلة المشدودة فوق الكعبين والعِمامة فوق القاووق، وحول وسطه مِنْطَقة عُلِّق بها خنجر من الأمام، وعلى مَنْكِبَيه جُبَّة تدلَّى على جانبها الأيمن سَيْف معقوف. برفقته جندي فرنسي يحمل دفترًا كبيرًا فيه أسماء التجار، وبيانات عن الضرائب المطلوبة منه، ومعه الكاتب وعلى رأسه عِمامة كبيرة، وفي مِنْطَقته دواة مستطيلة من النُّحاس.
بعد عِدَّة عطفات ولَجنا درب عبد الحق حتى الدار التي أنشأها علي بك الكبير على بركة الأزبكيَّة لمَحْظيَّته خاتون التي تزوجها مراد بك من بعده. كانت دار البكري بجوارها وتُطلُّ على البحيرة.
رأينا أمامها جمْعًا غفيرًا من أولاد الكتاتيب والفقهاء والعُميان والمؤذنين وأرباب الوظائف. وعرَفنا منهم أنهم يشتكون إلى الشيخ البكري من قطْع رواتبهم وخُبزهم لأن الأوقاف استولى على نِظارتها النصارى القِبْط والشوام.
خرجَت جماعة منهم من البيت بعد قليل. وشرع الجميع في الانصراف.
وقفنا على مَبْعدة ننتظر. وعند الغروب ولَجتِ الدربَ مركبة فاخرة يجرها جوادان. وفي مقدمتها يجلس جنديان ثُبِّتَ ريشُ النعام في قَلَنْسوتَيهما.
قلنا في نَفَس واحد: مركبة ساري عسكر. فلم يكن يركبها أحد غير بونابرته.
ولم تلبث أن خرجت فتاة في رداء سابغ، وبرقع من الموسلين الأبيض يغطي وجهها كله عدا العينين، وشال يغطي رأسها. هبط أحد الجنديَّين ففتح لها الباب. ودارت العربة في نهاية الدرب لأنه مسدود، ثم مرت من أمامنا. انزوى حنا خلفنا كي لا تراه. ولم تكن قد أغلقت نافذة المركبة. ورأيتها تخلع النقاب والبرقع كاشفة عن وجه رائع الجمال.
تبِعنا المركبة على مَبْعدة. ورأيناها تتوقف أمام بيت بونابرته. وبدا حنا موشكًا على البكاء؛ فنهره عبد الظاهر قائلًا: ما نهاية هذا كله؟ أنت قِبْطي وهي مسلمة.
قال حنا مدافعًا: الحب لا يعرف التفرقة بين البشر في الدين أو غيره.
استعاذ عبد الظاهر من الشيطان الرجيم، وقال: إنها كافرة تستحق الرجم.
الخميس ٦ سبتمبر
حضر الشيخ الصاوي ومعه شيخ آخر في الصباح الباكر. واجتمعا بأستاذي في القاعة الداخلية. تلكَّأتُ بجوار الباب، وسمعت الشيخ الصاوي يقول إن الفرنساويَّة أمهلوا محمد كُرَيم حتى الظهر كي يدفع ثلاثين ألف ريال وإلا أعدموه.
كان الشيخ كُرَيم في الأصل قبَّانيًّا يزن البضائع، ثم صار وكيلًا لمراد بك الذي جعله حاكمًا للإسكندرية. وعندما وصلت المراكب الفرنساويَّة قام بتحصين القلاع، وجمع جيشًا من المواطنين تصدَّوا للغزاة، ثم اعتصم بقلعة قايتباي إلى أن رأى عبث المقاومة فأعلن الاستسلام، وتلقاه بونابرته لقاءً كريمًا، وأبقاه حاكمًا للمدينة.
والظاهر أنه واصل في الخفاء التحريض على قتالهم، ودافع عن أهل المدينة عندما فرض الفرنساويَّة سُلفة إجبارية على تجارها، وتلكَّأ في تحصيلها فقبضوا عليه. وعندما حضروا إلى مصر عثروا في بيت مراد بك على خطاب من كُرَيم يتضمَّن خططًا لمقاومة الفرنساويَّة فأحضروه إلى مصر وحبسوه.
قال الشيخ الصاوي إن كُرَيم أرسل في الصباح إلى المشايخ وإلى المحروقي، وذهب إليه البعض فترجَّاهم قائلًا اشتروني يا مسلمين.
قال الجبرتي: الحال واقف كما تعرفان، ولست قادرًا على التصرف في أرض الالتزام بأبيار، ولا أستطيع جمْع ضرائبها من الفلاحين.
أومأ الشيخان بالموافقة وانصرفا. وناداني الشيخ لأُحضر له الأوراق والريشة والمحبرة. كان مقطِّبًا باديَ الانزعاج. كتب قليلًا، ثم قام وأخذ يتمشَّى في أنحاء القاعة وهو يجذب شعر لحيته. قرب الظهر طلب مني الذَّهاب إلى الرميلة لمعرفة الأخبار.
سحبتُ حماري وغادرتُ المنزل. خرجتُ على حماري إلى بين القصرين، ومضيتُ جنوبًا حتى بوابة المتولي، فانطلقت في الشارع الطوالي الذي يبدأ عند تقاطع شوارع زويلة وقصبة رضوان والسكرية والدرب الأحمر. واصلتُ حتى شارعي المحجر والمحمودية إلى أن ظهرتْ مئذنة جامع السلطان حسن، فانحرفتُ يسارًا حتى بلغت الجامع نفسه في ميدان الرميلة تجاه القلعة.
طفتُ بالميدان الذي يسمَّى بسوق العصر ويختص بتجارة الماشية والحبوب والخَضراوات. كانت عربات الباعة الجائلين من صغار تجار التبغ وقصب السكر تتوسط الميدان، وبجوارهم قَرَّادون يُلعِّبون القرود. وقفت في طرَف الميدان إلى جوار جامع صغير على ناصية الشارع المتجه إلى اللبودية والسيدة زينب. ترجَّلتُ عن حماري وربطتُه في عمود وجلستُ إلى جواره. اقترب مني رجلان في ملابس أولاد البلد. تطلَّعا إليَّ بنظرة متفحِّصة، ثم واصلا السير. تبِعتُهما ببصري، كانا يحدقان في المارَّة، ولاحظت أنهما لم يغادرا الميدان وإنما يطوفان به، وأدركت أنهما من عيون فرط الرمان.
تردَّد أذان صلاة الظهر. ومضى بعض الوقت وعيني على باب القلعة المعروف بباب العزب والمحصَّن ببرجين هائلين تزينهما الرايات البيضاء والحمراء، كان مغلقًا وأمامه بضعة حراس من الفرنساويَّة. شعرت بالملل وقررت الانصراف. فجأة فُتح باب القلعة وخرج عدد من جند الفرنساويَّة شاهري السيوف. وتبِعهم جندي يحمل طبلًا. وبعد قليل خرج حمار فوقه شيخ عاري الرأس. أدركت أنه محمد كُرَيم.
تقدَّموا في الميدان والطبَّال يضرب على طبلته. ركبت حماري وتبِعتُهم من مَبْعدة. شقوا به الصليبة ثم كتفوه وربطوه وضربوا عليه بالبنادق، وأخيرًا قطعوا رأسه، ورفعوه على نبوت، وطافوا به بجهات الرميلة والمنادي يقول: هذا جزاءُ مَن يخالف الفرنسيس.
عدت إلى البيت مهلوعًا. رويت لأستاذي ما شاهدته فلم يعلِّق بشيء.
الثلاثاء ١١ سبتمبر
كان أستاذي يُلقي درسه في الجامع الأزهر. صعِدت إلى مجلس العقد. أغلقت الباب خلفي. كان الخدم قد انتهوا من تنظيف القاعة. وكان خليل في وكالة أمه، أمَّا جعفر فذهب إلى السوق. كنت في مأمن من أن يدخل عليَّ أحدٌ.
بحثتُ عن أوراق أستاذي التي يسميها «طيارات» ويسجِّل فيها وقائع الأيام. لم أجد أثرًا لها فوق الأريكة أو أسفل وسائدها وحشيتها. تقدَّمتُ من خِزانة الكتب وفتحتها. قلَّبتُ في محتوياتها دون أن أعثر على شيء. فتَّشت بقية الأرائك والمساند. طويت أطراف السَّجاد وبحثت أسفله وخلف الأَسْطُرلاب وتحته.
جلستُ أفكر فوق الأريكة. كان يغادر القاعة عادة بلا شيء في يديه، ومعنى ذلك أنه كان يترك أوراقه بالداخل. ولما كان يخشى زيارة مباغتة من الفرنساويَّة فقد أخفاها في مكان ما قريب. تأملت محتويات الغرفة ثم قمت إلى خِزانة الكتب وفتشتها من جديد. لاحظت فجأة أن أحد جوانبها أسمك من بقية الجوانب. أنزلت الكتب المجاورة على الأرض. وفحصت الجانب السميك. دفعته بإصبعي فتحرك حركة خفيفة. دفعته إلى أعلى. واكتشفت خلفه فراغًا يضم أوراقًا.
استخرجتُ الطيارات وقلَّبت فيها. كانت مرتَّبة حسب التاريخ، وتبدأ بمقدمة صغيرة تنتهي بآية: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ، وتبعها بالأحداث منذ وصول الإنجليز إلى ثغر الإسكندرية قبل مجيء الفرنساويَّة، ثم سجَّل ما وقع بعد ذلك.
أوشكتُ أن أعيد الأوراق إلى مكانها عندما لفت نظري شيء. بحثتُ عن الورقة التي دوَّن فيها أحداث اليوم العشرين من شهر ربيع الأول الذي يوافق أول سبتمبر، وتتبَّعتُ ما دوَّنه بعد ذلك، فوجدتُ أنه انتقل مباشرة بعدها إلى أحداث الأيام التالية دون أن يذكر شيئًا عن إعدام محمد كُرَيم.
تعجَّبتُ للأمر: هل نسي؟ تصفَّحتُ الأوراق القليلة التالية حتى تاريخ اليوم فلم أجد أثرًا للخبر. وكان أحيانًا إذا فاته شيء يسجِّله في الأيام التالية.
سررت لأني دوَّنت في أوراقي كل التفاصيل. حمِدُت الله وقرَّرتُ ألَّا أذكر له شيئًا عن الأمر كي لا أكشف تجسسي على أوراقه.
أعدتُ الأوراق مكانها مرتَّبة كما كانت. وأنزلتُ لَوْح الخشب، ثم أغلقتُ الخِزانة وغادرتُ القاعة منتشيًا بأني حقَّقتُ شيئًا فات على أستاذي.
الجمعة ١٤ سبتمبر
انتهى خليل من حلاقة رأسه وصعِد ليستحمَّ. أخذت مكانه فوق القاعدة الحجرية في الحَوْش، ووقف الحلاق خلفي يُعمل مِقصَّه في شَعري. وجالت عيناي بين الخدم الذين ينتظرون دَورهم، ولاحظت فجأة أني لم ألمح الجارية السوداء منذ أيام.
أراد الحلاق أن يترك شعر وجهي النابت لتنموَ لي لحية، لكني رفضت وطلبت منه أن يُزيله، ثم تركتُ مكاني لجعفر، وذهبتُ إلى حجرتي فأخذت ملابس نظيفة وبحثت عن فرخ من ورق اللف البلدي فلففتها به.
خرجتُ إلى الحارة. مشيتُ بضع خطوات، ثم ولَجتُ عَطْفة غير نافذة بآخرها حمَّام الصنادقية. استقبلني الخدم في الحجرة الأولى حيث أودعت ملابسي. ناولني أحدهم فوطة لففتها حول جسمي، وتبِعتُه في ممر. أحسست بوهج الحرارة يتزايد تدريجيًّا حتى اشتدت في مدخل الحجرة الثانية.
أحاطت بي سحابة من بخار ساخن معطر. رقدت على قطعة من قماش صوفي. اقترب مني عملاق عاري الصدر. انحنى فوقي وأخذ يطقطق مفاصلي، ثم بدأ يدلك جسمي بقفاز صوفي، كان يضغط عليَّ بقوة حتى خُيِّل إليَّ أن جِلْدي سينفصل عن جسمي. وتوالى سقوط خيوط سوداء من جلدي.
انتقلتُ غارقًا في عَرَقي إلى حجرة مجاورة حيث سكب على رأسي رغاوى صابون معطر وخرج. وكان بالحجرة صنبوران؛ واحد للماء الساخن والثاني للماء البارد فاغتسلت، ثم هبطت في مغطس مليء بمياه شديدة السخونة، وانتقلت منه إلى مغطس آخَر من المياه الباردة. ارتديت قميصًا وعدت إلى الحجرة الأولى. جلست فوق حشيَّة موسَّدة فوق أريكة حجرية. وقدم لي الخادم النارَجيلة وفنجانًا من القهوة.
كان بجانبي شيخ أصلع ذو لحية عظيمة. وكان يتبادل الحديث بصوت خافت مع زميل له شديد البدانة.
أنصتُّ لحديثهما، وتبنيَّتُ أن الشيخ الأصلع يعدِّد ما فرضه الفرنساويَّة من مقرَّرات على المواريث والموتى، وعلى الرزق والأطيان والهِبات والمبايعات والدَّعاوى والمنازعات والمشاجرات والإشهادات. وقال: إن المسافر لا يسافر إلَّا بورقة، ويدفع عليها قدرًا، وكذلك المولود إذا وُلِد، ويقال له: «إثبات الحياة»، وكذلك المؤجرات وقبض أجر الأملاك، وغير ذلك، أي على كل شيء.
انضم إليهما شيخ جليل معلقًا على أخبار وصول الإنجليز والأتراك إلى الإسكندرية، وتدميرهم لمراكب الفرنساويَّة. وتطلع البدين نحوي وسمعتُه يقول لزميله بصوت خافت إن الفرنساويَّة سيقطعون لسان من يردِّد هذا الخبر أو يتكلم في هذا الشأن.
تساءل الشيخ الثالث: هل سمعتما قصة رسول السلطان؟ وضحك. قال: إن أغا يونانيًّا حضر من الإسكندرية، فمرَّ بالشارع وذهب لزيارة المشهد الحسيني. واستغرب الناس هيئته وقالوا إنه رسول من عند السلطان بجواب للفرنسيس يأمرهم بالخروج من مصر. وبلغ بونابرته أن هناك مكتوبًا من السلطان وردَ إلى بعض المشايخ فركِب من فوره في خيوله وعساكره وحضر إلى بيت الشيخ السادات، وأثناء مروره بباب المسجد وجد الناس متجمعين داخله وخارجه. وعندما رأوه تصايحوا بصوتٍ عالٍ: الفاتحة! ويقصِدون الدعاء بقدوم الأتراك وخروج الفرنساويَّة. وبهِت بونابرته وسأل من معه عن الأمر. ولم يفهم المترجمون بالطبع واقع الحال أو لم يريدوا إغضابه، فقالوا له: إنهم يدعون لك؛ فصدقهم وانصرف.
ضحك الجميع ثم انتبه الشيخ لوجودي فلزم الصمت وهو يحدِج رفيقيه بنظرات ذات مغزى. وما لبثوا أن غيَّروا كلامهم. وحكى الشيخ تفاصيل ما جرى للشيخ المحروقي شهبندر التجار الذي اغتنى من تجارة الصادرات والواردات، وكيف رافقه بعض الأعراب أثناء عودته من الحج لحمايته، وفي الطريق نقضوا عهدهم، ونهبوا حمولته، واستولَوا على البضائع التي أحضرها من الحجاز وعلى ما معه من أموال. وفقدَ الرجل نحو ثلاثمائة ألف ريال فرانسة. قال الآخَر: إن الله منتقم جبار، فهو يعمل في تجارة الحرائر ولما حصل الطاعون استولى على بيت شريكه وزوجاته وتجارته ثم خدم مراد بك وإبراهيم بك وصار من كبار الأثرياء.
غادرت القاعة فوجدت ملابسي قد تعطَّرت بدخان خشب المر. ورَشَّ الخادم رأسي وكل جسمي برغاوى الصابون المعطر. دفعت عشر بارات وعزائي أن الجبرتي يدفع في الحمَّام الذي يتردَّد عليه ٣٠ بارة.
الأربعاء ٢٦ سبتمبر
منذ أربعة أيام احتفل الفرنساويَّة بعيدهم فأقاموا صاريًا كبيرًا وسط بركة الأزبكيَّة قال عنه العامة إنه الخازوق الذي أدخلوه فينا. وضربوا مدافع كثيرة، وتجمعوا عند الصاري الكبير، وعند العشاء عمِلوا حرَّاقة بارود وصواريخ ونفوط وشبه سواقي ودواليب من القار ومدافع كثيرة.
وصباح اليوم دوَّى طرْق عنيف على الباب الخارجي. فهُرعت إليه وسبقني جعفر لفتح الباب. ألفينا أمامنا جنديًّا فرنساويًّا وبرفقته اثنان من أصحاب الدَّرَك، وامرأة شامية سافرة الوجه. قال لهم جعفر إن الشيخ في الأزهر، فطلبوا أسماء الساكنين وسجلها أحد الدَّرَكيين في دفتر كبير. ثم أمرَنا ألا نُسكن أحدًا من الأغراب، وأن نضع على الدار قنديلًا ونلازم الكنسَ والرشَّ وتنظيف الطريق من القاذورات. وألا ندفن ميتًا بالتُّرَب القريبة من المساكن، كتربة الأزبكيَّة، والرويعي، وإنما نستخدم القرافات البعيدة في باب اللوق وعرب اليسار والخليفة وغيرها.
قلت للدركي إن هذه أوامر كثيرة ومن الصعب أن نتذكرها كلها.
تطلع إليَّ في صمت برهة، ثم قال: لم أنتهِ. وأمرَنا بترك الفضول والكلام في أمور الدولة. فإذا مرَّ علينا جماعة من العسكر الفرنساويَّة مجروحين أو منهزمين لا نسخر بهم، ولا نصفق عليهم كما هي العادة.
سألتُه: هل هذا هو كل شيء؟
قال: عليكم أيضًا بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالأسطح خمسة عشر يومًا، وتبخير البيوت، كل ذلك للخوف من حصول الطاعون.
قال جعفر إن الفرش منشور في الشمس.
قال الدَّرَكي: لا بُدَّ أن نتأكد.
قلنا: إن الصعود إلى أماكن النساء مستحيل.
قال: لهذا أحضرنا المرأة معنا.
صعِدت المرأة إلى أعلى الدار. وعندما عادت كتبوا بذلك أوراقًا ألصقوها على الباب الخارجي.
السبت ٦ أكتوبر
عاد الجبرتي من اجتماع الديوان وهو يردِّد ساخرًا: نو، نو. أسرع إليه جعفر بالماء والقهوة. وروى لي الشيخ أن الترجمان طلب اختيار شخص يكون كبيرًا ورئيسًا عليهم. فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوي. فقال الرئيس: نو، نو، وإنما ذلك يكون بالقرعة. فعملوا قرعة بأوراق، فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي.
لوى الجبرتي شفته ساخطًا. قلت له إنه اختيار جيد؛ فهو رجل شجاع. قال: ماذا تعرف أنت عن الشيخ الشرقاوي؟ قلت: أتذكر أنه منذ حوالي ثلاث سنوات حضر له أهل بلبيس وشكَوا من أتباع محمد بك الألفي الذين فرضوا عليهم إتاوات باهظة. فجمع الشيخ الشرقاوي المشايخ في الأزهر وأمروا الناس بإغلاق الحوانيت، وركبوا وخلفهم خلق كثير من العامة وذهبوا إلى بيت الشيخ السادات، ثم إلى جامع الأزهر، وفي اليوم التالي حضر الوالي التركي إلى بيت إبراهيم بك، واجتمع الأمراء وأرسلوا إلى المشايخ، فحضر الشيخ السادات والنقيب عمر مكرم والشرقاوي والبكري، ودار الكلام وانتهى بأن تاب الأمراء والتزموا بما شرطه العلماء، وانعقد الصلح على أن يصرفوا غلال الشون وأموال الرزق، ويُبطلوا المظالم والتفاريد والمكوس.
أضفت: هو رجل شجاع إذَن.
قال: كان يدافع عن مصلحته؛ فله أرض بالقرية التي تعرضت للعدوان. اسمع قصة الشيخ الشرقاوي.
قال إنه وُلد في ذات القرية ببلبيس في أسرة فقيرة. وعندما أتم حفظ القرآن في الكُتَّاب ارتحل إلى القاهرة لاستكمال تعليمه بالأزهر. وعاش وسط المجاورين في حالة من الكفاف؛ فاضطُر إلى العمل إلى جانب دراسته. وتلقَّى الطريقة الصوفية على يد الشيخ الكردي. وعاش في ضنك، لا يُطبخ في داره إلا نادرًا، وبعض معارفه يرسلون له الصفحة من الطعام، ويدعونه ليأكل معهم. ثم عرفه الناس واشتهر ذكره فواصله بعض التجار الشوام وغيرهم بالزكوات والهدايا؛ فراج حاله وتجمَّل بالملابس وكبَّر تاجه. وضم إليه أشخاصًا من الطلبة والمجاورين الذين يحضُرون دروسه. وصار يذهب بهم إلى بعض المآتم فيُنشدون ويذكرون، ثم يطلبون العشاء ويأخذون دراهم.
ارتشف الشيخ من قهوته ثم قال: عندما أراد السلوك في طريقة الخلوتية حدث له اختلال في عقله، ومكث بالمارستان أيامًا، ثم شُفِي فلازم الإقراء، وألف في تاريخ الولاة والسلاطين وفي علم التوحيد. وتمكَّن بمساعدة بعض الأثرياء من شراء دار، وأصبح من أصحاب الأملاك، وتولى مشيخة الأزهر، وكان أول ما فعَله أنه أراد التعويض عن أيام الحرمان بالمبالغة في إثبات قدره؛ فزاد في تكبير عمامته وتعظيمها حتى صار يُضرب بها المثل. وعندما جاء الفرنساويَّة تقرَّب إليهم، فجعلوه رئيسًا لديوان القضايا، فانتفع بالمعلوم المرتب له، واستولى على تركات ودائع خرج أربابها. وزاد طمعه فاستولى على إيرادات خان خوند طغاي، وأقام به مسجدًا وضريحًا لنفسه، وبنى بجانبه قصرًا ملاصقًا. واشترت زوجته الأملاك والعقار والحمَّامات والحوانيت.
تعجَّبتُ: كيف صار إذن شيخًا لجامع الأزهر؟
قال: الله ابتلى الأزهر بأهل السوء الذين يضخِّمون من حجم عمائمهم، ويوسِّعون من أكمامهم حتى يبدون في هيئة المعلمين، ويتأبَّطون عددًا من كتب الأصول أينما ذهبوا بهدف اصطياد العطايا.
الأحد ٧ أكتوبر
طلب علماء الديوان من بونابرته إصدار فرمان بصرف ٢٧٠٠ بارة لهم شهريًّا بحُكم العادة، ويتضمن الالتماس أسماء ثلاثة وعشرين شيخًا.
٣
الإثنين ١٥ أكتوبر
ألصق رجال الدَّرَك مناشير بمفارق الطرق وأبواب المساجد تتضمن مقررات جديدة على الأملاك والعقارات، والوكائل والخانات والحمَّامات والمعاصر والسيارج والحوانيت. كما قطعوا رواتب الأوقاف الخيرية لمستحقيها من الفقراء؛ فاستعظم الناس ذلك.
الأحد ٢١ أكتوبر
حضر جعفر من الخارج مضطربًا، وخرج إليه أستاذي وبقية الخدم والأولاد. قال إن الناس في حالة هياج، وقد حضر السيد بدر المقدسي في جماعة من حشرات الحسينيَّة، وزُعْر الحارات البرانية، وهاجموا بعض المخافر الفرنساويَّة، وقتلوا جنودها، ثم تجمعوا بالجامع الأزهر وهم يصيحون: نصر الله دين الإسلام!
أمرني الشيخ بالخروج لاستطلاع الأحوال. ولم يغادر المنزل لانتشار مشاعر العداء ضد أعضاء الديوان.
توقَّفتُ بباب وكالة إينال بحثًا عن بوَّابها. تطلَّعتُ في أرجاء الفناء الذي تحيط به حواصل يتم تأجيرها لتُخزَّن بها البضائع، وفوقها وحدات السكن وغرفة مخصَّصة لإقامة التجار العابرين الآتين من بلاد بعيدة. كان هناك زحام من التجار والسماسرة والدلالين والصيارفة والقَبَّانيين. ولمحت البوَّاب النوبي فناديت عليه. كان يتحدث مع بعض التجار فلم يعبأ بي. لم يكن يأخذ في الشهر غير أربعين بارة، لكنه كان يتكسب كثيرًا من التجار والسماسرة.
التفتَ نحوي أخيرًا وتقدَّم مني. سألته عن الأخبار. قال إن الجنرال ديبوي حاكم القاهرة مرَّ في الصباح بخُط الصنادقية في طائفة من فُرسانه، وذهب إلى بيت القاضي التركي إبراهيم أدهم أفندي، فوجد زحامًا أمامه والناس تقذفه بالطوب والحجارة؛ فخاف وخرج من بين القصرين، فتبِعَتْه العامَّة وبادروا إليه وضربوه وقتلوه. وقُتِلَ الكثير من فُرسانه.
عند ذلك الحال خرجت العامة عن الحد، فهجموا على حارة الجوَّانية، ونهبوا دُور النصارى الشوام والأروام وما جاورهم من بيوت المسلمين. وكذلك خان الملايات عند باب حارة الروم. وفيه شتى البضائع وودائع الغائبين.
تركته وسرت في اتجاه بين القصرين. وعند عَطْفة المناخلية وجدتُ الناس قد هدمت مصاطب الحوانيت، وجعلوا أحجارها متاريس، ووقف دون كل متراس جمْع عظيم.
تجولت بينهم، وعند متراس الشوائين حيث تجمع مغاربة الفحامين وجدت جماعة من جند الفرنساويَّة. وعندما بدءوا يبندقون على المتراس أسرعت بالعودة، ووصفت للشيخ بدقة ما رأيته، فقام بتسجيله. وجاء جعفر قائلًا إن الفرنساويَّة نصبوا المدافع عند تلال البرقية والقلعة.
عند العصر ضربوا بالمدافع والبُنبات على البيوت والحارات، وتعمَّدوا بالخصوص جامع الأزهر، وما جاوره من أماكن كسوق الغورية، والفحامين، والصنادقية. وتتابع الرمي من القلعة. وسمعنا دويًّا قريبًا وتبين أن بنبة نزلت على المسكن المجاور، فهدمت في مرورها حيطان الدور.
ثم جاءنا الخبر أن بعض المشايخ ذهب إلى بونابرته ليمنع عساكره من الرمي ويكفون عن القتال على أن يكفَّ المسلمون أيضًا. فأمر برفع الرمي، وخرجوا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك، وتسامع الناس بذلك فتسابقوا لبعض بالبشارة واطمأنت القلوب.
وبعد هجعة من الليل استيقظنا على نباح الكلاب ودقٍّ على الباب. ووجدنا صاحب الحمَّام المجاور عاريًا كما ولدته أمه. أدخلناه وأعطاه أستاذي بعض الملابس. قال إن الفرنساويَّة دخلوا المدينة كالسيل، ومروا في الأزقَّة والشوارع الخالية، وهدموا ما وجدوه من المتاريس. وإنه كان بالجامع الأزهر عندما دخلوه بخيولهم، وتفرقوا بصَحْنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخِزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف على الأرض وداسوها، وتغوَّطوا وبالوا وتمخطوا، وشربوا الخمر، وكسروا أوانيه وألقوها بصَحْنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عرَّوه من ثيابه وأخرجوه.
الثلاثاء ٢٣ أكتوبر
خرجت في الصباح أستطلع الأخبار. انطلقت من الناحية المؤدية إلى الجامع الأزهر. رأيت عسكرهم مصطفًّا بباب الجامع المعروف بباب المزينين. فكل من حضر للصلاة يراهم فيكر راجعًا.
رجعتُ أدراجي وغادرتُ الحارة من الناحية الأخرى. ووجدتهم منتشرين في السوق وقد وقفوا صفوفًا. ورأيتهم يفتشون أحد المارة ويأخذون ما معه.
تخللت الأزقَّة الجانبية حتى جامع الغوري، ورأيت جماعة منهم يرفعون القتلى والمطروحين من الإفرنج والمسلمين، ويزيلون أحجار المتاريس ويضعونها في ناحية لتصير طرق المرور خالية.
وشهدت برطلمين في موكب يجر خلفه رجالًا موثوقين بالحبال، وأعوانه يضربونهم بالسياط.
عند عودتي وجدت أن الجبرتي ذهب مع رَكْب من المشايخ إلى بيت بونابرته. وقال عند رجوعه إنهم خاطبوا القائد الفَرنسي في العفو وإعطاء الأمان؛ فطالبهم بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام، فترجَّوه في إخراج العسكر من الأزهر، فأجابهم لذلك السؤال.
وقال إنهم طلبوا الشيخ سليمان الجوسقي، شيخ طائفة العُميان، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البراوي، وحبسوهم ببيت البكري. ولم يجدوا السيد بدر المقدسي.
الأربعاء ٢٤ أكتوبر
زارنا عصر اليوم عمر القلقجي كبير المغاربة بالفحامين. وطلب مني أستاذي أن أحضر اللقاء وأنتبه لما يدور من حديث ليسجله بعد ذلك. كان المغربي أبيض البشرة وله لُثغة خفيفة مع حرف الراء. وقال لأستاذي: إن شباب المغاربة اشتركوا في مهاجمة الفرنساويَّة. والآن يخشى الجميع مغبَّة هذا العمل. وإنه يفكر في طلب مقابلة ساري عسكر ليرجوه العفو كما فعل تجار الغورية الذين تعهدوا بالمسئولية عن أية فتنة ضد الفرنساويَّة.
أبدى أستاذي ترحيبه بالفكرة قائلًا: إن من قاموا بالفتنة لم يفكروا في عواقب الأمور ولم يدركوا أنهم في القبضة مأسورون. وعاب عليهم أنهم هاجموا ممتلكات الأعيان ودمَّروا الأجهزة العلمية ببيوت الفرنساويَّة.
الجمعة ٢٦ أكتوبر
ذهبتُ إلى باب سعادة مع عبد الظاهر لنتأكد من خبر المغاربة، وكان قد شاع أن عمر القلقجي جمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة، وعرضهم على ساري عسكر فاختار منهم الشباب وأولي القوة، وأعطاهم سلاحًا وآلات حرب، ورتبهم عسكرًا ورئيسهم عمر المذكور.
وقفنا أمام داره. وطالعنا من فُرجة الباب صفًّا من المغاربة يحملون بأيديهم البنادق وأمامهم عسكري فَرنسي يعلِّمهم. فيشير إليهم بألفاظ بلغتهم كأن يقول: «مردبوش»، فيرفعون البنادق قابضين بأكفِّهم على أسافلها، ثم يقول: «مرش»، فيمشون صفوفًا إلى غير ذلك.
ولم يلبثوا أن اتجهوا إلى باب الدار فابتعدنا. وخرجوا وأمامهم الطبل الشامي على عادة المغاربة. تعرَّفتُ على أحدهم فسألتُه: أين يذهبون؟ قال: إلى جهة بحري لقَمْع الفتنة.
الإثنين ٥ نوفمبر
جاءني حنا في الصباح الباكر ملهوفًا، قال إن جماعة من عسكر الفرنسيس حضروا إلى بيت البكري نصف الليل، وطلبوا المشايخ المحبوسين هناك فعرَّوهم من ثيابهم وصعِدوا بهم إلى القلعة. وفي الصباح أخرجوهم وقتلوهم بالبنادق، وألقَوهم من السور خلف القلعة. وبلغ عددهم ثمانين وبينهم نساء. وكان بينهم الشيخ إسماعيل البراوي، والشيخ الإمام عبد الوهاب الشبراوي الشافعي، والشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العُميان.
وكان الأخير معروفًا بجبروته، وجمع أموالًا عظيمة وعقارات، فكان يشتري غلال المستحقين المتأخرة بأقل الأسعار، ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين، ويطالبهم بها كيلًا وعينًا، ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العُميان، فلا يجد بُدًّا من الدفع. وكان له أعوان يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والسمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك، ويبيعها في سني الغلوات بأقصى القيمة، ويطحن منها على طواحينه دقيقًا، ويبيع خلاصته في حارة اليهود، ويعجن بنُخالته خُبز الفقراء العُميان، يتقوَّتون به مع ما يجمعونه من الشِّحاذة. ومَن مات منهم ورثه الشيخ.
ولم يكن أحد يقدر على معارضته. واتَّفقَ أن الشيخ الحفني أغضبه، فأرسل إليه من أحضره موثوقًا مكشوف الرأس، مضروبًا بالنعالات على دماغه وقفاه من بيته إلى بيت الشيخ بالموسكي بين ملأ العالم.
سألتُ أستاذي عما حمَل رجلًا بهذه المكانة على الانضمام إلى الزُّعْر والحرافيش. أطرق برأسه وقال: معك حق، فلم يكن ينقصه شيء: يلبس الملابس والفراوي، ويركب البغال وأتباعه محدقة به، يتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات، ويشتري السراري البيض والحبش والسود.
جذب أستاذي طرَف لحيته وأضاف: التفاخر والتكبر هو ما حمله على معارضة الفرنسيس.
الأحد ١١ نوفمبر
استمرت حوادث الاعتداءات على الفرنساويَّة في القليوبية والجيزة والبحيرة ودمياط والمنصورة. وأحرق الفرنساويَّة القرى التي تسببت في هذه الاعتداءات. أمَّا في المدينة فقد قلعوا أبواب الدروب والحارات الصغيرة غير النافذة وكسروها، ورفعوا أخشابها على العربات إلى حيث أعمالهم بالنواحي والجهات، وباعوا بعضها حطبًا للوقود، وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وخرجت جنودهم لقمع الفتنة في السويس بعد أن استولَوا على جِمال السقَّائين، فشحَّ الماء، وبلغت القِربة عشر بارات.
واليوم ألصقوا أوراقًا بالأسواق والشوارع بها كلام على لسان المشايخ، سجَّلتُ منه العبارات التالية: «… نعرِّف أهل مصر المحروسة من طرَف الجعيدية، وأشرار الناس، حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساويَّة بعدما كانوا أصحابًا وأحبابًا … وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية؛ لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين، ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة. إن الله سبحانه وتعالى يؤتي مُلْكه من يشاء، ويحكم ما يريد. ونصيحتنا لكم ألَّا تُلقوا بأيديكم إلى التهلُكة، واشتغِلوا بأسباب معايشكم وأمور دينكم، وادفعوا الخراج الذي عليكم، والدين النصيحة والسلام.»
الخميس ١٥ نوفمبر
اكتشفتُ أن أستاذي أوجز الحديث في أوراقه عن المشايخ المقتولين بالقلعة ولم يذكر أسماءهم.
الأحد ١٨ نوفمبر
عند عودتي من الخارج اليوم وأنا أرتعش من البرد القارص لم أتمكن من فتح باب غرفتي بالمفتاح. ناديتُ على جعفر ففشِل هو أيضًا في فتْحه.
أحضرنا القفَّال فرطَّب المِفتاح بلُعابه وهزَّه كي يحرك الأسنان التي تقفله. لم تنجح المحاولة فانتزع القُفلَ الخشبيَّ بالكماشة وركَّب قُفلًا جديدًا.
أغلقتُ باب حجرتي بعد انصرافه. كنت أترك أوراقي دائمًا تحت وسادتي مرتَّبة حسب التاريخ. استخرجتها فوجدت صفحاتها مختلطة. كنت مرتابًا في أن جعفر يُفتِّش حاجيَّاتي. لا يعرف القراءة لكن ربما أخذ الأوراق إلى الشيخ. وربما كان مَن فتَّش غرفتي هو خليل أو الشيخ نفسه.
اقتربتُ من الحائط وشببت على أصابع قدمي، أزلتُ الأتربة من شقٍّ بين الأحجار، طويت الأوراق ودسستها في الشق. لن يتمكن جعفر من بلوغها بسبب قِصَر قامته. لكن الشيخ قد يطولها. ثم إن الشق لا يتسع للمزيد من الأوراق.
استعدتُها ووقفتُ أُجيل بصري في الغرفة. لم يكن هناك ما يسمح بالغرض. وقع بصري على الصندوق الخشبي الذي يضم أغراضي والكسوة التي يصرفها لي الشيخ. انحنيت فوقه وقلبته. كانت هناك مسافة مقدار ثلاثة قراريط بين قاعه والأرض، وكانت المسافة تتسع لأوراقي. أوشكت أن أضعها ثم فكرت في عمليات الكنس والمسح، فربما حرك الخدم الصندوق من مكانه أو دلقوا ماء في الأرض.
خرجت إلى الحَوْش. لم تكن هناك بادرة على وجود أحد. فتشت في أركان الإسطبل حتى عثرت على أربعة مسامير. التقطت حجرًا من ركن الحَوْش وعدت إلى غرفتي. أغلقت بابها. قلبت الصندوق ودققت مسمارين في كل جانب على مسافة قيراط من الأرض، ثم دسست الأوراق بين المسامير وقاع الصندوق. وهززته حتى تأكدت من ثبات الخبيئة، ثم أعدته إلى مكانه.
بالليل وأنا على أُهْبة النوم تخيلت أن الأوراق تراكمت بحيث صارت كتابًا يحمل اسمي.
الجمعة ٣٠ نوفمبر
ذهبت مع أستاذي قبل العصر إلى الأزبكيَّة حيث تجمع الناس والكثير من الإفرنج. وكان الفرنساويَّة قد أعلنوا عن تطيير مركب تسير في الهواء بحكمة مصنوعة، ويجلس فيها أنفار من الناس، ويسافرون في الهواء إلى البلاد البعيدة لكشف الأخبار، وإرسال المراسلات.
شهِدنا قماشًا على عمود قائم، وهو ملوَّن أحمر وأبيض وأزرق على مثل دائرة الغربال، وفي وسطه مِسْرجة بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان، وتلك المِسْرَجة مصلوبة بسلوك من حديد منها إلى الدائرة، وهي مشدودة ببَكَر وأحبال، وأطراف الأحبال بأيدي أناس قائمين بأسطحة البيوت القريبة منها.
وبعد نحو ساعة أوقدوا الفتيلة؛ فصعِد دخانها إلى القماش وملأه، فانتفخ وصار مثل الكرة التي ارتفعت عن الأرض، فقطعوا تلك الحبال فصعِدَت إلى الجو مع الهواء، ومشت هُنَيهة لطيفة، ثم سقطت طارتها بالفتيلة، وسقط أيضًا ذلك القماش.
فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها، ولم يتبين صحة ما قالوه. وقال أستاذي في سخرية: إنها مثل الطيارة التي يعملها الفرَّاشون بالمواسم والأفراح.
السبت أول ديسمبر
أرسلني أستاذي لأعاين التعديلات التي أدخلَها الفرنساويَّة على شوارع المدينة. وجدت أنهم أحدثوا طريقًا جديدة فيما بين باب الحديد وباب العدوي حيث معامل الفواخير، وردموا جسرًا ممتدًّا ممهَّدًا مستطيلًا يبتدئ من الحد المذكور، وينتهي إلى جهة المذبح خارج الحسينيَّة، وأزالوا ما يتخلل بين ذلك من الأبنية والغيطان والأشجار والتلول، ومدوا طريقًا من الأزبكيَّة إلى جهة قبة النصر المعروفة جهة العادلية على خط مستقيم.
كان العمل ما زال جاريًا في بعض الأماكن. ولاحظت أنهم يستعينون في الأشغال وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ، السهلة التناول. كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة، ويداها خشبيتان ممتدَّتان من خلف، يملؤها الفاعل ترابًا أو طينًا أو أحجارًا بحيث تسع مقدار خمسة غلقان، ثم يقبض بيديه على اليدين، ويدفعها أمامه فتجري على عجلتها بأدنى مساعدة إلى محل العمل، فيميلها بإحدى يديه ويُفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشقة.
تحدثتُ مع الفَعَلة فقالوا إنهم لا يعملون بالسُّخرة بل يأخذون أجرتهم المعتادة، ويصرفونهم من بعد الظهيرة.
مضيتُ إلى الأزبكيَّة ووجدت أنهم هدموا الأماكن المقابلة لبيت ساري عسكر حتى جعلوها رَحْبة متسعة، وردموا مكانها بالأتربة الممهدة على خط معتدل من الجهتين مبتدئ من حد بيته إلى قنطرة المغربي الواقعة بين باب الخرق وباب الشعرية. وصار جسرًا عظيمًا ممتدًّا ممهَّدًا مستويًا على خط مستقيم من الأزبكيَّة إلى بولاق، وينقسم بقرب بولاق قسمين: قسم إلى طريق أبي العلا، وقسم يذهب إلى جهة التبانجة وساحل النيل، وحفروا في جانبي ذلك الجسر من أوله إلى منتهاه خندقين، وغرسوا بجانبيه أشجارًا وسيسبانًا.
ولاحظتُ أن بعض الإفرنج يسيرون على أقدامهم نحو جهة غيط النوبي القريبة فتبِعتُهم، ورأيتُهم يتوقَّفون أمام قصر أحد البكوات فيُبرزون أوراقًا مخصوصة أو يدفعون نقودًا ويدخلون. كانت للقصر حديقة واسعة من أشجار البرتقال والليمون والأشجار المعطرة علقت فوقها القناديل، وانبعثت منها موسيقى تعزفها فرقة عسكرية.
تتابع وصول الضباط والقادة ومعهم نساؤهم وجواريهم الشركسيات والجورجيات والزنجيات. وعدد من الحواة والمغنيات والراقصات من أبناء البلد. كما وفد أيضًا كبار النصارى والشوام والأروام.
وقفتُ أتأمَّلهم متمنيًا لو كنت برفقتهم. وأخيرًا انصرفت.
٤
الأحد ٢ ديسمبر
اصطحبني أستاذي إلى سُوَيْقة السباعين، يسار جهة الموسكي، ومنها إلى حارة الناصريَّة، وقبل أن نصل إلى شارع الكومي انحرفنا في الدرب الجديد. ترجَّلنا عن ركائبنا أمام البيت الذي أفرده الفرنساويَّة لأهل المعرفة، والعلوم الرياضية، والكتبة، والحُسَّاب، وهو في الأصل بيت قاسم بك الذي كان الآن يقاتلهم في الصعيد.
ربطنا البغلة والحمار بجوار ركائبَ عديدة، فقد كان هناك عدد من المشايخ من أعضاء الديوان. رأيت الشيخ الشرقاوي بملابسه الفخمة ولحيته الكبيرة البيضاء المشقوقة وأنفه الطويل وعِمامته الدائرية الهائلة. والشيخ المهدي بعمة مماثلة أصغر حجمًا ولحية صغيرة يغلب عليها اللون الأسود. والشيخ البكري بعمامته السوداء الدائرية. والفيومي الذي لفَّ رأسه بشال من الكشمير الأبيض ذي حافة مزركشة.
رحَّب بنا الفرنساويَّة وصحبونا إلى الداخل. وقال لنا المدير فورييه: إن لجنة العلوم والفنون تضم ١٥١ عضوًا يسكنون ويعملون في حجرات القصر والبيوت المجاورة له.
ولَجنا بناء رائعًا، ثم قاعة هائلة عالية السقف تحفل جدرانها بخزائن الكتب الخشبية. ثم خرجنا إلى بستان به بركة ومزارع وسواقٍ ونافورات وطُرُق ممهَّدة للمشاة تحف بجانبيها التكاعيب وكراسي للجلوس وكنيفات لقضاء الحاجة. وكانت الحديقة تتألف من طبقات يعلو بعضها بعضًا، وتصعد المياه إلى أعلاها عن طريق أنابيبَ خاصة، وعند كلِّ مصبٍّ لهذه المياه مكان للجلوس. وقال لي أستاذي: إن قاسم بك كان قد أباح للناس التنزُّه في رياضها وسمَّاها «حديقة الصَّفْصاف والآس لمن يريد الحظ والائتناس».
ووجدنا أن الفرنساويَّة أحدثوا حديقة للحيوان وأخرى للطيور، وخصَّصوا جانبًا من الأرض للتجارب الزراعية، وجانبًا آخر لمرصد ومطبعة ومجموعة آثار، وورشة تُصنع بها أجهزة جراحية وبراجل، وعدسات تلسكوبية وميكروسكوبية، وأدوات رسم ومساحة، وأصباغ للطباعة، وشفرات سيوف وقبعات.
دخلنا المرصد وقدمونا إلى توت الفَلَكي وتلامذته. وشاهدنا الآلات الفَلَكية الغريبة المُتقَنة الصنعة، وآلات الارتفاعات العجيبة التركيب الغالية الثمن، وبها نظارات وثقوب ينفُذ النظر منها إلى المرئي، وإذا انحلَّ تركيبها وضعت في ظرف صغير. وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وأرصادها، وأنواع الساعات الغالية الثمن التي تسير بثواني الدقائق وغير ذلك.
انتقلنا إلى بيت حسن كاشف جركس، اليوناني الأصل، الذي شيَّده وزخرفه وصرف عليه أموالًا عظيمة من مظالم العباد. وقد أفردوه لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، وفيه آلات تقاطير عجيبة، وآلات لاستخراج وتقاطير المياه، والأملاح المستخرجة من الأعشاب والنباتات، وحول الجدران قوارير وأوانٍ من الزجاج البِلَّوْري المختلف الأشكال والهيئات على الرفوف، وبداخلها أنواع المستخرجات.
وبدءوا يعرضون علينا أعاجيبهم، فأخذ أحدهم زجاجة فيها بعض المياه فصبَّ منها شيئًا في كأس، ثم صبَّ عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماءان وصعِد منهما دخان ملوَّن حتى انقطع وجفَّ ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، ثم فعل كذلك بمياه أخرى، فجمَّد حجرًا أزرق، وبثالثة فجمَّد حجرًا أحمر ياقوتيًّا.
وأخذ آخر شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف؛ فخرج له صوت هائل كصوت البُنب انزعجنا منه فضحكوا منا.
وأداروا زجاجة بفَلْكةٍ مستديرة؛ فتولَّد من حركتها شرر يطير، ويظهر له صوت وطقطقة. وإذا لمس شخص الزجاجة الدائرة ارتجَّ بدنه وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجَّة سريعة، ومن لمس هذا اللامس أو شيئًا من ثيابه أو شيئًا متصلًا به، حصل له ذلك.
هزَّ أستاذي رأسه قائلًا: كلها أمور غريبة، ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا.
سأله فورييه: ماذا قلت؟
ترجمتُ له ما قاله أستاذي. تطلع إليَّ طويلًا، ثم قال: أنت تعرف الفَرنسية؟
قلت: قليلًا.
قال: نحن في حاجة إلى شبَّان من أمثالك يعرفون اللغات. ما رأيك في أن تأتيَنا كل يوم للمعاونة في تنظيم الكتب العربية بالمكتبة، ونخصص لك أجرًا على ذلك. عندنا واحد اسمه إبراهيم الصباغ لكنه مريض.
تطلَّعتُ إلى أستاذي فتفكَّر قليلًا، ثم قال: لا بأس.
قال: غدًا إذن تبدأ.
انتقلنا إلى بيت إبراهيم كَتْخُدا السناري وهو نوبي من أهالي دنقلة، كان بوَّابًا بالمنصورة، ثم اتصل بالأمير مصطفى بك وتعلَّم اللغة التركية، ثم اتصل بالأمير مراد بك وتقرب منه، وأصبح من أعيان القاهرة. وخصص الفرنساويَّة البيت للمصورين ومنهم أريجو الذي يُصوِّر الآدميين تصويرًا يظن من يراه أنه بارز في الفراغ مجسَّم حتى إنه صوَّر المشايخ كلَّ واحدٍ على حِدة في دائرة. وعرَفنا أن كبيرهم دينون في الصعيد.
ورأينا واحدًا منهمكًا في تصوير الحيوانات والحشرات، وثالثًا يصور الأسماك والحيتان بأنواعها وأسمائها. ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم، فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم، فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى ولو بقي زمنًا طويلًا.
في طريق العودة أبدى أستاذي تعجُّبه مما رأيناه. وقال: إن العمل في المكتبة فرصة لتجويد لغتي. ثم أضاف وهو ينظر إليَّ بإمعان: وأيضًا لمعرفة أخبارهم.
قلت: وماذا بشأن دروسي معك؟
قال: ربما وجدنا وقتًا في المساء. وفي كل حال يمكن تأجيلها حتى تنقشع هذه الغمة.
الإثنين ٣ ديسمبر
أذِن لي أستاذي بأن آخذ الحمار حتى الناصريَّة. كان الجو باردًا فأعطاني شالًا من الكشمير وضعتُه حول رأسي وصدري. وعندما وصلتُ أمام قصر قاسم ربطتُ حماري إلى سور البيت. استقبلوني ببشاشة. واقتادني أحدهم إلى قاعة امتلأت جدرانها بخزائن الكتب، وامتدت وسطها تختاة عريضة مستطيلة حولها كراسي منصوبة موازية يجلس عليها أناس منهمكون في العمل. كان السقف مرتفعًا ومؤلَّفًا من زخارفَ خشبيَّة جميلة. وكان الجو دافئًا؛ فقد حرقوا أخشابًا في مدفأة حجرية بطرَف القاعة.
أعطاني دفترًا لأسجِّل الكتب العربية، وأراني كيف أفعل. وطلب مني أن أجلس حيث أشاء. وأشار إلى طرَف القاعة حيث فسحة صغيرة تعلو شبرًا عن الأرض وبها زوجان من المناضد المتقابلة. اخترت واحدة وانصرفت إلى تفقُّد محتويات الخزائن. كان أغلبها بالفَرنسية. وبها جملة كبيرة مطبوع بها أنواع التصاوير، وكرات البلاد والأقاليم والبحار والأهرامات والحيوانات والطيور والنباتات، وتواريخ القدماء، وسير الأمم، وقصص الأنبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم، وحوادث أممهم.
من جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي ﷺ، ومصوِّرون به صورته الشريفة وهو قائم على قدميه ناظر إلى السماء، وبيده اليمنى السيف، وفي اليسرى الكتاب، وحوله الصحابة بأيديهم السيوف. وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين، وفي ثالثة صورة المعراج والبُرَاق وهو ( ﷺ) راكب عليه من صخرة بيت المقدس، وفي غيرها صورة بيت المقدس، والحرم المكي والمدني، وكذلك صورة الأئمة، وبقية الخلفاء والسلاطين، وصورة إسلامبول، وما بها من المساجد العظام كآيا صوفية، وجامع السلطان محمد.
ووجدتُ كثيرًا من الكتب الإسلامية مترجَمة بلغتهم، مثل كتاب «الشفاء» للقاضي عياض العالم المغربي، و«البُردة» للبوصيري. وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفها واشتقاقاتها بحيث يسهُل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت، وكتب في علوم الطب والتشريح، والهندسيات، وجر الأثقال.
لم يكن هناك عدد كبير من أصحاب المكان. لكني لاحظت كثيرًا من الزوَّار يدخلون ويجلسون حول التختاة، فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء من الكتب، فيُحضرها له الخازن، فيتصفحون ويراجعون ويكتبون. وكان بينهم عساكر وبعض أولاد البلد الشوام الذين يعرفون اللغات. ورأيت أحد عساكرهم منهمكًا في حفظ آيات من القرآن الكريم.
الثلاثاء ٤ ديسمبر
ذهبت اليوم إلى المجمع مبكرًا. جلست إلى منضدتي. وألفيتُ فتاة رائعة الحسن تجلس إلى المنضدة المقابلة. كانت ذات بشَرة حليبية وشفتين متطابقتين وأسنان رائعة، ولها عينان زرقاوان بأهداب طويلة، ورأس يكلله شعر ذهبي بديع. كانت ترتدي ثوبًا رماديًّا، ويحيط بعنقها وشاح من الصوف غطَّى صدرها. ابتسمت لي. وعرَفتُ فيها الشقراء التي رأيتها في الشارع تمرح مع أصدقائها فوق الحمير.
فتحتُ الدفتر وكتبت في صَدْر الصفحة الأولى «بسم الله الرحمن الرحيم». حدَّدتُ الخِزانة التي سأبدأ منها. واقترب مني شابٌّ منهم أكبر مني سنًّا. سألني في غضب بلغتهم: ماذا تفعل هنا؟ لم أحِرْ جوابًا، فأشار بيده أن أترك مقعدي. نهضتُ واقفًا وتناولت دفتري وتطلعت حولي حائرًا. أومأت الفتاة إلى المنضدة المجاورة لها قائلة: تعالَ هنا. واحتل هو مكاني.
جلست إلى المنضدة التي عيَّنتها لي، وكان فوقها محبرة وريشة وقلم من البوص. لم يكن بيني وبينها غير شبرين. سألتني عما إذا كنت أبحث عن شيء، فأجبتها بلغتها بأني أعمل هنا. قالت إن لغتي جيدة. قلت لها إني تعلمتها عند تاجر فرنسي، وأراجعها في الكتب بين الحين والآخر لكني أفتقد إلى المران. وذكرت لها اسمي، فقالت إن اسمها سيتويين — أي المواطنة — بولين. كانوا يلقبون أنفسهم بالمواطن والمواطنة على عكس أيام عملي عند التاجر الفَرنسي الذي كنا نخاطبه بالمسيو أي السيد. ورويت لها كيف تعلمت القراءة والكتابة، وحفظت القرآن في كُتَّاب قريتي، ثم مات أهلي في الطاعون؛ فجئت من الصعيد وجاورت في الجامع الأزهر. وشرحت لها معنى المجاورة حيث التغذية مضمونة من خلال التوزيع اليومي لحوالي قنطارين من الخبز، بالإضافة إلى الغاز الضروري لإنارة المصابيح، وفي كل شهر يوزعون علينا عطايا للمصاريف. وحاولت أن أرسم لها صورة لجو التدريس والجلَبة التي يصنعها سوريون وفُرس وأكراد ونوبيُّون وهم يناقشون الأحكام والجبر والتأويل والفلسفة، لكن اللغة خانتني. وقلت لها إني ترددت على دروس الجبرتي قبل أن يلحقني بمنزله لأواصل الدراسة على يديه وأُصبح تلميذًا له.
سألتني عن مصير هذه الدراسة، فقلت لها إن الدارس يصبح عالمًا بعد عشر سنوات، ويتولى التدريس، لكن الغالبية تنصرف بعد سنتين أو ثلاث.
صمتت متأملة ثم عادت إلى عملها. نهضتُ واقفًا ومضيتُ إلى خِزانة الكتب العربية. فتحتُها وحملتُ بعض كتبها إلى مِنضدتي وجلستُ أتصفَّحها. كان بعضها في النحو والهِجاء باللغتين العربية والفَرنسية. ومنها كتاب عن سقوط القسطنطينية، وكتيِّب يضمُّ أسماءَ مديريات القطر المصري بالعربية. ثم كتاب عن مرض الجدري، وآخر عن مرض الرمد بالعربية والإيطالية. وثالث يضم آيات قرآنية في لغتهم.
لمحت الشاب الذي أخذ مكاني يتابعني والتعبير الغاضب لا يفارق وجهه. همست لي الفتاة دون أن ترفع عينيها عن دفتر كبير أمامها: لا تبال بجاستون فهو هكذا دائمًا. بدأت أعمل ولاحظت أنه لا يكاد يرفع بصره عنها.
الأربعاء ٥ ديسمبر
كان نومي أمس قلقًا. وتخللت صورة الشقراء أحلامي. استمعت لأذان الفجر: «سبحان الله هادي العباد، سبحان الواحد الأحد، سبحان الملك المعبود، المقصود والموجود. سبحانك يا حي، سبحانك يا دايم». ثم أغفلتُ قليلًا وأخيرًا نهضت وصليت. وانطلقت مسرعًا إلى المكتبة.
وجدتهما خلف منضدتيهما. وجَّهتُ إليهما تحية الصباح بلغتهما. ردَّ عليَّ جاستون بهمهمة غير مفهومة، أما هي فرفعت إليَّ وجهًا باسمًا وهي تقول: بونجور. وجلست إلى المنضدة المجاورة.
ولَج القاعة كهلٌ في الخمسين حيَّاها، وقال شيئًا لجاستون ثم انصرف. سألتني: هل تعرف من هذا؟ إنه مونج وهو عالم عبقري، هو الذي أشرفَ على تطيير المنطاد. قلت: المنطاد الفاشل؟ قطَّبَت حاجبيها وقالت: إنه عبقري في العلوم الرياضية، وكان مساعدًا للافوازيه، هل سمعت عنه؟ هززت رأسي نفيًا، قالت إنه عالم كبير في الكيمياء والفيزياء، واكتشف بمعاونة مونج تركيب الماء من غازين هما الأكسجين والهيدروجين. وأوحت لي لهجتها أنه اكتشاف هام.
ظهر عند باب القاعة رجل رث الثياب ذو رأس مستدير وشعر أشعث. سأل بصوت عالٍ عن مونج فردت عليه. وقالت لي إنه يُدعى برتولليه. سألت هازئًا: عبقري آخر؟ لم تنتبه إلى سخريتي، وقالت إنه طبيب وكيميائي، وله مؤلفات في تحضير الألوان والأصباغ. وقالت إن الاثنين لا يفترقان، حتى إنهما يسميان معًا مونجبرتولليه.
عرفتني أيضًا على كبير المترجمين فنتور وهو أكبر رجال الحملة سنًّا. هنأني على لغتي، وقال إني يمكن أن أصبح مترجمًا جيدًا لو اعتنيتُ بدراستها. قلت إن الآجرومية صعبة وخاصة تصريف الأفعال. علَّقَت هي أنها يمكن أن تساعدني مقابل أن أعلِّمها العربية.
رحَّبتُ بالأمر. وسألَتني بعد انصراف فنتور: هل أنت مملوك أو تركي أو فلاح؟
عجبتُ للسؤال الذي لم يخطر على بالي من قبل. فكرت لحظة، ثم قلت: مصري.
قالت: سألقبك إذن بالمصري.
سألتني أين أسكن فقلت لها. أشارت إلى الطابَق الأعلى قائلة إنها تسكن هنا مع زوجها. شعرت بالضيق. سألتها عن عمله، فقالت إنه ضابط في الجيش. أضافت بعد قليل أنها ابنة لكونتيسة أُعدمت خلال الثورة منذ ست سنوات؛ فاضطرت لأن تكسب عيشها بالعمل، واشتغلت بائعة قبعات، ثم تعرفت بالضابط وأحبته وتزوَّجا. أضافت وفي عينيها نظرة حالمة: ارتديت نقابًا شفَّافًا، واستقللنا مركبة مغطاة بالورود البيضاء.
حكت لي ضاحكةً كيف جاءت مصر؛ فعندما انضم زوجها إلى الحملة أرادت مرافقته، لكن بونابرته منع سفر الزوجات والعشيقات، فتنكرت في زي رجل، ارتدت حذاءً عسكريًّا وسراويل وصدرية ومعطفًا، وأخفت شعرها الطويل تحت القَلَنْسوة العسكرية المثلثة الشكل واستقلت السفينة مع زوجها من طولون.
قالت: لا أنسى كيف وقف بونابرته بضفيرته القصيرة وخصلات شعره الجانبية المنسدلة على كتفيه. خطب في الجنود المبحرين إلى مصر واعدًا كلًّا منهم بستة أفدنة. كانت لعيونه اللامعة تأثير السحر على العسكر.
سألتها عنه، فقالت بشيء من الافتخار إنه ضابط مدفعية، نال رتبة الجنرال وعمره ٢٤ سنة لاستيلائه على مدينة طولون من الإنجليز. وبعد ذلك بثلاث سنوات أنقذ الجمهورية من ثورة الغوغاء، وقضى عليهم بلا رحمة؛ وكافأته الحكومة بإعطائه قيادة الجيوش الفَرنسية في إيطاليا، فجعلته انتصاراته بطلًا قوميًّا.
كنت قادرًا على متابعة لغتها. ولم أرفع عيني عن شفتيها.
سألتها: هل التقيتِ به وجهًا لوجه؟
التمعت عيناها، وقالت: ليس بعد.
قلت: يبدو أنه عبقري آخر.
لم تعبأ بسخريتي وقالت بحماس: أنت لا تعرف الأسئلة التي يوجهها للعلماء: هل في الإمكان زرع الكروم في مصر؟ وكم حبة يثمر القمح فيها؟ وكم في فرنسا؟ وهل في الإمكان حفْر الآبار في الصحراء؟ هل الأرض هي الكوكب الوحيد المسكون؟ وكم عمرها؟ هل دعوى تفسير الأحلام صحيحة؟
روت كيف فوجئتْ بمنظر الإسكندرية: شوارع قذرة، غير مرصوفة، مقفرة من الشجر، ثم عدد كبير من الحلاقين، وعدد كبير من الكلاب الضالة، وهو نفس ما رأيناه في القاهرة.
لاحظَت علامات الضيق على وجهي، فقالت بسرعة: تعرف أجمل شيء رأيته في الإسكندرية؟ عمود السواري ومسلة كليوبترا التي نجحت بدهائها وجمالها في إيقاع أنطونيو في حبائلها وتزوجته، وجلست على عرش من الذهب.
لم يفلح حديثها عن كليوبترا في إزالة غضبي من طريقة كلامها عن مصر. فانكببتُ على عملي. وقامت هي بعد قليل فغادرت القاعة، وعادت حاملة كوبًا من الشوكولاتة قدمته إليَّ.
شكرتها وشربته، ووجدته لذيذًا. كانت تواقة للكلام، فلم تلبث أن استرسلت في الحديث عن رحلة الجيش من الإسكندرية إلى القاهرة: الجراية الوحيدة للجميع لم تتعدَّ البقسماط الجاف. وعانينا من العطش، وكوت الرمال أقدامنا. مئات جُنوا وقتلوا أنفسهم بالرَّصاص. كان البعض يُحتضرون ظمأً ويتوسلون لشربة ماء. ومات عند الآبار من الاختناق أو تحت الأقدام ثلاثون جنديًّا. ثم تحسنت الأحوال عندما اقتربنا من القاهرة؛ فقد اكتشفنا الشمام، لكن الكثيرين أصيبوا بالإسهال من أكله. وعندما رفضت قرية إمدادنا بالطعام ذبحنا ٩٠٠ رجل وامرأة وطفل، وأحرقنا القرية ليكونوا عبرة للشعب الهمجي.
هذه المرة أدركت خطأها على الفور؛ فوضعت يدها فوق يدي معتذرة. ثم استطردت: كان مشهد المماليك المقاتلين في إنبابة خلابًا؛ كانوا يرتدون ملابس فخمة ويحملون معهم ممتلكاتهم. ووجد زوجي في عِمامة أحدهم بعد مصرعه خمسمائة قطعة ذهبية.
وقالت إن بعض الجنود وقعوا أسرى لدى البدو، ثم تحدثوا بعد إطلاق سراحهم عما تعرضوا له من معاملة رهيبة واعتداء على شرفهم. وضحكت قائلة: إنهم تقبلوا هذه الاعتداءات فيما بعد على أنها من الأخطار التي يتعرَّض لها المحاربون في بلاد الشرق. لكن البعض فضلوا أن يُقتلوا على أن يتعرَّضوا لهذه المهانة.
وقالت إن بونابرته انتقد هذا الإسراف في الفضيلة، وقال لأسير منخرط في البكاء: علام تبكي؟ أهذا كل ما تثير حوله الضجَّة أيها الغبي؟
سألتها عن معيشتها، فقالت إنها تعاني من الذباب والبعوض والعرق، وتهرش طول الليل، ثم تنهض في الصباح عليلة كئيبة عاجزة عن الحركة.
عند الظهر رأيت زوجها لأول مرة؛ فقد جاء وصحبها إلى مقر إقامتهما في الطابَق الأعلى. كان وسيمًا ممشوق القامة. ولم تعد بعدها.
الخميس ٦ ديسمبر
أعطتني عودًا من الخشب يبرُز منه عمود رفيع من الرَّصاص. قالت إنه من اختراع كونتيه أحد علماء الحملة. سألتها: عبقري آخر؟ قالت: إن في استطاعته أن يصنع من أبسط المواد ما تدعو إليه الضرورة من أدوات.
أصبحت الكتابة ميسرة بالقلم الجديد، ولم تعد بي حاجة لاستخدام المحبرة أو الرمال للتجفيف. وعندما انتصف النهار أحضرت كتابًا لتعليم اللغة عنوانه «تطبيقات في العربية الفصحى مختارة من القرآن لينتفع بها دارسو العربية.» قربت مقعدي منها لنقرأ سويًّا. وهبَّت عليَّ رائحة عرق شديدة. وبدا لي أن ملابسها لم تُغسل منذ مدة طويلة. بدأت أقرأ معها الآيات وترجمتها. كنت أهتزُّ في مقعدي يمنة ويسرة فتعجَّبَت. قلت لها: إننا نقرأ هكذا في الأزهر. أقنعتني بعدم الاهتزاز ووجدتُ صعوبة في ذلك. ثم أحضرت الصحيفة الفَرنسية التي يُصدرونها كلَّ أسبوع واسمها كوريير دي ليجيبت.
تصفَّحنا العدد الأول الذي صدر منذ أربعة شهور. كان يشتمل على مقال خاص بالمولد النبوي، وأخبار الجيش وحوادث القاهرة وأهم الأخبار المحلية كأنباء الاحتفالات والأعياد وحفلات الموسيقى والرقص في دار غيط النوبي التي أسموها بالتيفولي على اسم مكان مثله في باريس. وكانت به أيضًا أخبار الديوان ونداءاته بالهدوء، وبعض النوادر والقصص القصيرة.
قرأنا سويًّا حكاية طريفة عن رجل نوبي أراد ريجو أن يرسم له صورة. وعندما شرع في تلوين الرأس والصدر هبَّ النوبيُّ مفزوعًا يطلب من المصوِّر أن يعيد إليه رأسه وصدره. ورفض آخَر أن يجلس للتصوير لأنه اعتقد أن أجزاء الجسم المصورة لا تلبث أن تتجمد ويموت أصحابها.
الجمعة ٧ ديسمبر
فوجئت اليوم بأنها قد حركت منضدتي بحيث أصبحت لِصْق منضدتها. كان الجو دافئًا فألقت الوشاح الذي يغطي صدرها جانبًا. وكشف رداؤها الواطئ الصدر عن مَنْبِت نهدَيها. وانبعث منها عطر لطيف.
كنت قد أعددت لها ورقة بالألفاظ العربية المستخدمة في الحياة اليومية وما يقابلها من الفَرنسية فتدارسناها ثم قرأنا معًا الإعلانات المنشورة في صحيفة الكوريير دي ليجيبت. وعندما انحنت فوق الصحيفة رأيت ثدييها الصغيرين المكوَّرين فاشتعلت النار في جسدي، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم.
-
في نهاية الشارع الفينيسي، في بيت المواطن الطيب فولمار يوجد مصنع للمشروبات والخمور بجميع أنواعها والطافيا وغيرها من السلع الأوروبية الطراز.
-
المواطنان فور ونازو وشركاؤهما يصنعون جميع أنواع المشروبات في ميدان بركة الفيل قرب المستشفى بأسعار معتدلة.
-
حمَّامات فرنسية خلف ميدان بركة الفيل.
-
تبغ فَرنسي من جميع الأنواع مصنوع في بيت حسن كاشف في شارع بتي توار أمام المطعم الميلاني.
-
حانوت القبعات الفَرنسية يُحيط المواطنين علمًا بأنه أنشأ مصنعًا للقبعات خلف مكتب البريد.
-
كوتشينة جميلة تباع في مطبعة الجيش.
تركتني بعد الظهر وبقيتُ حتى بعد الغروب لأحضر إحدى الأمسيات غير الرسمية التي يجتمع فيها علماء المعهد ليتبادلوا الحديث عن أعمالهم.
جلسنا بقاعة استقبال كبيرة في حرملك القصر. كان بعضهم يرتدي سترات ذات ياقة عالية تكاد تُخفي نصف الوجه، والبعض الآخر في ثياب مهملة. ورأيت كفاريللي الذي يسميه العامة بأبي خشبة بسبب ساقه الخشبية، وكان طويلًا مهيبًا غزا الشيب شعر رأسه.
جاءت بولين مرتدية ثوبًا مقصبًا وجلست إلى جواري. أبديت إعجابي بالثوب، فقالت إن الباريسيات يفضلن الآن الموسلين الشفاف، وقد أقلعن عن القماش المقصب الثقيل رغم قيمته لأنه لا يتفتت بسبب كثرة الخيوط الذهبية على عكس الموسلين الذي لا يصمد طويلًا للاستعمال.
ومالت عليَّ هامسة: تصور أن زوجة المواطن تاليين وهي مركيزة سابقة ترتدي ملابس شفافة دون أي قميص تحتي، فيمكنك أن ترى كل شيء. تحب ذلك؟ وأضافت دون أن تنتظر إجابتي: ترتدي أيضًا جوارب بلون البشَرة. يشترك زوجها مع بونابرته في أن زوجتيهما كانتا خليلتين لعضو الإدارة بارا. لم أستوعب تمامًا حديثها.
افتتح مونج الاجتماع بنتائج إحصاء سكان القاهرة، فقال إن عددهم ٣٠٠٠٠٠، وقال: يمكن توطين بضعة آلاف من الفَرنسيين في مصر ليزرعوا الأرض ويتاجروا في بضائعها. وعندئذ يغدو هذا البلد أجمل مستعمراتنا وأفضلها موقعًا. وقال إن مهمة اللجنة العلمية هي إنجاح هذا الهدف.
لاحظت أن كثيرين من أعضاء اللجنة العلمية لا سيما الشبَّان لا يشاركون رئيسهم حماسته. تحدَّث أيضًا عن مشروع لشقِّ قناة بين البحرين الأحمر والمتوسط.
ذكر آخر أن طواحين القمح ضعيفة ودقيقها غير ناعم، ولا تقوم بفصل الرَّدة عن الدقيق؛ لذا يكاد يكون من المستحيل أن تأكل في مصر خبزًا كخبز باريس.
انصرفت قبل أن ينتهيَ الاجتماع. ومررت في طريق عودتي بسوق الدلالين حيث تباع الملابس القديمة.
الأحد ٩ ديسمبر
اليوم عطلتي الأسبوعية من المعهد. قضيته في دراسة اللغة. لا أحتمل يومًا لا أراها فيه.
صليت في مسجد ستي زينب ثم خرجت عند العصر. مررت بحانوت خراط في مبتدأ الأشرفية. كنت دائمًا أتوقف عنده لأرقب براعته في تحريك الآلة القاطعة بإبهام قدمه اليمنى على الشيء المراد تشكيله بينما يحرك قوسًا بيده اليمنى. فوجئت به واقفًا خلف منصة تحمل شتى أنواع الأطعمة والمقليات.
قال عندما أبديت استغرابي: أكثر الصنائع كسدت لانعدام طلابها. ولم يعد يروج غير الأكل.
استفسرت عن ابنه الذي يعاونه. قال إنه اشترى حمارًا ويعمل مُكاريًا. وهو يتكسَّب جيدًا؛ فالكثير من الفَرنسيين يدفع أجرة كبيرة ويظل طول النهار فوق ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجريَ به مسرعًا في الشارع. وطبعًا يجري ابنه خلفه، ويعود آخر اليوم مقطوع النفس.
فكَّرت في شراء هدية لبولين فاتجهت إلى وكالة العجاتية حيث تباع قلادات المرجان. ثم عدلت عن ذلك إلى شراء شال من واردات أوروبا في خان الخليلي، ثم قدرت أن الأفضل والأرخص أن يكون من الصناعة المحلية. ذهبت من بين القصرين إلى سوق أمير الجيوش برأس حارة برجوان حيث يوجد الرفَّاءون والحيَّاكون. اشتريت شالًا من صناعة المحلة الكبيرة، ثم مضيت إلى مقهانا المعتاد عند قنطرة الموسكي.
كان ممتلئًا بروَّاده من الزُّعْر والسريحة والمُكارين. واحتل الشاعر دِكَّته المعهودة. ووجدت عبد الظاهر في انتظاري. تحدثنا عن كساد غالب البضائع وغلوها، وانقطاع الأخبار من الخارج، ووقوف الإنجليز في البحر، وشدة حجزهم على الصادر والوارد، حتى غلت أسعار جميع الأصناف المجلوبة من البحر الرومي.
انضم إلينا حنا وكان معه كتيب فَرنسي به ما يدعى بإعلان حقوق الإنسان الذي أصدره الفرنساويَّة في مستهل ثورتهم. ترجم لنا معجبًا مادة عن حق الإنسان في الحرية والملكية والأمن ومقاومة الاضطهاد. حكيت لهما عن عملي الجديد. وطلب مني حنا أن أتوسط له في العمل معي. تخيلته يتحدث بطلاقة مع بولين فهو يعرف اللغة أحسن مني. ووعدته بغير حماس.
سألناه عن زينب، فقال إنه لا يكاد يراها، وإنها تخرج كل يوم بصحبة امرأة فَرنسية. وأحيانًا يرافقها واحد من قادتهم.
تركَنا بعد قليل فقال عبد الظاهر: إن أسافل النصارى من القِبْط والشوام والأروام واليهود يركبون الخيول ويتقلَّدون بالسيوف، ويتجاهرون بفاحش القول، ويستذلون المسلمين.
الإثنين ١٠ ديسمبر
قدَّمتُ إليها الشال الحريري فشكرتني ووضعته حول عنقها. وأعطتني قطعة حلوى فرنسية عبارة عن حبة كرز مغلفة بالشوكولاتة. ولم يرفع جاستون عينيه عنا.
كان معها العدد الجديد من صحيفة ليكاد إجبيبسيان التي يُصدرها المعهد على هيئة كرَّاس صغير. قرأنا معًا مذكرة لمونج حول ظاهرة السراب. فأثناء الزحف من الإسكندرية شاهد الجنود جزرًا مرتعشة ومنعكسة في بحيرة تأخذ في التراجع بقدْر تقدُّم المرء نحوها.
وذكر مونج تفسيرًا لهذه الظاهرة؛ فضوء الشمس في الهاجرة يزيد من سخونة الرمل، فيتمدَّد الهواء القريب مباشرة من الأرض ويصبح أقل كثافة من طبقات الهواء الأعلى، وهنا تنعكس عليه أشعة الضوء القادمة من أجزاء السماء المنخفضة والقريبة من الأفق كما في المرآة، وينتج عن ذلك أثر مزدوج فهو يجعل الأفق يبدو أقرب من جهة صور مباشرة لقرى ولنخلات توجد بعيدًا، في ذات الوقت الذي يقلبها فيه مُكسِبًا إياها صورة المياه التي ليست غير حد السماء المعكوس.
لم أستوعب تمامًا الشرح ونقلته في ورقة لأريه لأستاذي لعله يكون أكثر قدرة على الفهم.
الثلاثاء ١١ ديسمبر
ذهب أستاذي إلى منزل الشيخ النابلسي الذي يجتمع به أعيان التجار والعلماء لقراءة الكتب ومناقشة مؤلفيها. وقال إن بونابرته اشتكى للمعلم جرجس الجوهري من قلة حماسة الأقباط للفرنساوية على عكس مشايخ المسلمين الذين يأتون له كل يوم ويكشفون له عن كنوز المماليك.
الأربعاء ١٢ ديسمبر
منذ وصلتُ وعيني على الباب. جاءت أخيرًا وجلست بجواري. شممت رائحة الصابون تنبعث منها. شرعت أسجل الكتب وكل حواسي موجَّهة نحوها. ثم سمعت جاستون يترنَّم بموسيقى حماسية أعجبتني. قالت لي إنه نشيد الثورة المعروف بالمارسيلييز، وردَّدتُ كلماته بصوت خافت:
طلبَت مني أن أكرِّر الكلمات حتى حفظتها.
جمع جاستون أوراقه وغادر القاعة دون أن يوجه إلينا كلمة. وقالت لي إن المواطن فورييه مسرور من عملي، وقرر أن أستمر فيه عند عودة إبراهيم الصباغ.
قرأت معها بعض الأمثال من كتاب الدمنهوري. وضحكت لواحد يقول «التزوج فرَحُ شهر وغمُّ دهر وكسر ظهر». وقالت: تمامًا. وبعد قليل اقترحت أن أصعد معها إلى غرفتها لتُسمعني النشيد على آلة موسيقية. غادرنا مقعدَينا واتجهنا إلى باب القاعة الداخلي. عندما وصلناه التفتَت خلفها واكتسحت القاعة ببصرها ثم ارتقت الدَّرَج. صعدت خلفها وأنا أتحاشى النظر إلى مؤخرتها الدقيقة.
ولَجنا مسكنًا صغيرًا من غرفتين متصلتين، في إحداهما بيانو كبير، أزالت غطاءه وجرت بأصابعها فوق مفاتيحه. قالت إنها حصلت عليه من أحد أولاد البلد الإفرنج. ثم جلست على مقعد أمامه ووقفت إلى جوارها. عزفت موسيقى النشيد. ثم تناولت دفترًا من فوق الآلة وفتحته على صفحة مليئة بلغة غريبة أخذت تقرأ منها وهي تعزف بعض القِطَع الموسيقية التي لم أستسغها.
سألتُها عما في الدفتر، فقالت إنه اللحن مكتوبًا، فالنغمات تتحول إلى علامات وإشارات.
تعجبت قائلًا: كيف يمكن كتابة الموسيقى؟
قالت: سأريك. غنِّ لي شيئًا من موسيقاكم.
غنيت لها:
ترجمت لها المعنى فاحمرت وجنتاها.
جعلتني أغنيها عِدَّة مرات وهي تنصت في اهتمام، وتخط علامات على ورقة، ثم ردَّدت اللحن وأنا مذهول.
قالت: أغنية أخرى.
غنيت:
سجلت اللحن على الورقة، وقالت: أنا لا أطيق موسيقاكم، إنها مجرد أنغام غليظة ورفيعة ذات ضوضاء منفِّرة.
غضبتُ، فنهضَت واقتربَت مني حتى وقفت أمامي مباشرة. قالت: أنا آسفة. كنت أمزح معك.
رفعت يدها إلى وجهي وتحسست خدي بأناملها وهي تتطلع إلى عيني.
تجمدت في مكاني عاجزًا عن أي حركة. ظللنا هكذا برهة، ثم انكسفت واستدارت مبتعدة قائلة: هيا بنا نعود.
هبطنا وجلس كل منا إلى منضدته. انهمكَت متجهمة في العمل وتجاهلتني تمامًا.
الخميس ١٣ ديسمبر
وجدت اليوم أن منضدتي قد عادت إلى مكانها الأصلي بعيدًا عن منضدتها. واستقر كوم من الكتب الفَرنسية أمامها. سألتها عن درس اليوم. قالت إنها مشغولة.
خاطبها جاستون متحدثًا عن المعارك الناشبة مع الفرنساويَّة في جرجا. وقال: إن رجلًا مغربيًّا بمكة دعا إلى الجهاد ضد الفرنساويَّة في مصر، فاجتمع نحو الستمائة من المجاهدين، وركبوا البحر إلى القصير، ثم انضم إليهم جملة من أهل الصعيد وبعض أتراك ومغاربة.
نقلت هذه الأخبار إلى أستاذي. وقضيت الوقت في غرفتي. ولم أجد رغبة في مراجعة اللغة. وبعد الغروب ذهب أستاذي عند الشيخ السادات الذي دعا بونابرت إلى العشاء بمناسبة عيد مولد السيدة زينب. وعند عودته روى لي ساخرًا ما وقع من حديث، فقد قال بونابرته إن العرب رعوا الفنون والعلوم في زمن الخلفاء، لكنهم اليوم في جهل عميق، ولم يبقَ لهم شيء من معارف أسلافهم؛ فردَّ السادات بأنه قد بقي لهم القرآن الذي يحوي جميع المعارف، فتساءل ساري عسكر ما إذا كان القرآن يبين طريقة سبك المدافع، فأجاب المشايخ بجسارة: نعم.
أمضيت الليلة عاجزًا عن النوم. استرجعت ما وقع بيني وبين بولين عدة مرات وأنا أتعجب لجفائها.
الجمعة ١٤ ديسمبر
عاد الشاب إبراهيم الصباغ بعد أنْ أبَلَّ من مرضه. كان نحيفًا في سني ويبدو عليلًا. عرَّفتني عليه بولين. تطلَّع إلى منضدتي وفهمت أني أجلس في مكانه. قالت له بولين: اتركه بجواري فنحن ندرس اللغات، وأشارت إلى المنضدة المجاورة لجاستون فجلس إليها.
اتفقنا على تقسيم العمل بيننا. وعرَفت منه أنه حفيد الوزير السابق لضاهر العمر وكان كاثوليكيًّا يونانيًّا. وأن كفاريللي احتضنه ويعلمه اللغة الفَرنسية والجغرافيا والرسم.
السبت ١٥ ديسمبر
حضرت المناقشات المسائية في الحرملك على أمل أن أراها، لكنها لم تأتِ. وكان كفاريللي موجودًا بخشبته وبرفقته إبراهيم الصباغ.
ألقى أحدهم بيانًا عن وضع الأرض الزراعية. وقال إن تنظيف قنوات الري والإصلاح من شأن التربة بزراعة الأشجار المعمَّرة التي تقي أوراقها من لهيب الشمس سيجعل مصر من جديد مخزنًا لغلال أوروبا كما كانت يومًا للإمبراطورية الرومانية.
سأله واحد عن حكاية الالتزام، قال: إن الملتزمين هم الذين يحوزون الأراضي، ويحصل الفلاح على حقِّ زرع قطعة من الأرض بالشراء، فإذا مات كان على وريثه أن يعيد شراءها من جديد. ويدفع الفلاحون للملتزمين أيضًا رسومًا سنوية تقدر بثلاثين مليونًا من الفرنكات كل عام، ومن هذه الملايين يدفع الملتزمون ستة ملايين ضرائب محلية، ومثلها للسلطان، ومثلها لشيوخ البلد الذين هم وكلاء للملتزمين، و٨ ملايين للجباة الأقباط، و٤ ملايين يجمعها حكام الأقاليم عينًا مثل الجمال والخيول، كما يدفع الفلاحون ٩ ملايين لقبائل البدو كي لا يُغيروا عليهم. وفي النهاية لا يتبقى للفلاح شيء.
علَّق كفاريللي بأنه لا بُدَّ من إصلاحٍ عامٍّ في ملكية الأرض الزراعية يجعل الفلاحين مُلَّاكًا حقيقيين، وتتحسن أحوال مليونَي ونصف فلاح من تعداد مصر البالغ ٣ ملايين. فيعترفون بجميل فرنسا.
عارضه كثيرون، وقال أحدهم: إن منح الأرض للفلاحين الذين يشغلونها سيجعل من المستحيل توزيعها على ضباط الجيش الفرنساوي أو الموالين لهم. تفرع الحديث إلى آراء كفاريللي الغريبة؛ فقد ذكر أن العمل في رأيه هو المصدر الوحيد للملكية. وقال: إن القوانين التي تقدس الملكية تقدِّس الاغتصاب والسرقة. واقترح تقسيم المجتمع إلى مُلاك في الحاضر ومُلاك في المستقبل فهؤلاء يكونون مستأجرين لأملاك أولئك لفترة ٢٠ عامًا، يشتغلون فيها لفائدة الملاك، ثم يصبحون بدورهم مُلَّاكًا ويتخذون لهم مستأجرين.
الجمعة ١٤ ديسمبر
رويتُ لحنا حكايتي مع بولين، اندهش ونظر إليَّ في حسد. حكيتُ له ما حدث في غرفتها ثم تصرفها بعد ذلك. سألته عن رأيه في سلوكها. تناقشنا طويلًا وقال إنها خليعة. ونصحني بأن أطلب منها تعليمي العزف على البيانو. وعندما نصعد إلى غرفتها أحتضنها وأقبِّلها. وقال: إن الإفرنجيات عمومًا يحببن التقبيل وله تأثير السحر عليهن.
عند انصرافنا توقَّفنا نتفرَّج على غازية في الطريق ترقص. ومعها رجلان وامرأة يعزفون على بعض الآلات الموسيقية. كانت تحرك قدميها ونصفها الأعلى حركات سريعة، ولم تلبث تعبيرات وجهها وهيئة جسمها أن عبَّرت عن التوتر والشجن، ثم سرت في جسدها كله رجفة المتعة. واعتراها وهنٌ مصحوب بالخجل سرعان ما تلاشى شيئًا فشيئًا.
السبت ١٥ ديسمبر
قضيت بعض الوقت في تصفُّح مخطوطة قبطية جميلة رُسمت بالألوان وزُخرفت بالذهب بعناية فائقة. وقالت لي بولين إن زوجها مقيم في المعسكر؛ شجَّعَني هذا أن أطلب منها تعليمي العزف على البيانو. تطلعت نحو إبراهيم وجاستون، ثم قالت: ليس اليوم.
انصرف الاثنان عند الظهر فدعتني فجأة إلى الصعود معها. كان قلبي يدقُّ بعنف وأنا أتذكر نصائح حنا. لم تسنح لي فرصة تطبيقها. فبمجرد دخولنا مسكنها التفتت إليَّ واحتضنتني، ثم وضعت شفتيها على شفتي. وفجأة حدث شيء غريب، فقد أدخلت لسانها في فمي.
لم أدرِ ما جرى بعد ذلك، فقد وجدنا أنفسنا فوق أريكة مجاورة وأنا فوقها وعضوي داخلها. احتضنَتني في قوة وفجأة جاء ظهري فتشبَّثَت بي وهي تُردِّد لاهثة: انتظر. ثم انفصلت عني، وجفَّفت مائي بطرَف ثوبها. وأحسستُ أنها مستاءة.
أزاحت عمامتي وعلقت على رأسي الحليقة قائلة: شعرك ناعم وجميل، لماذا تحلقه؟ لو أرسلته يكون شكلك أجمل.
قلت: أعوذ بالله. تريدين أن أصبح مثل المخنثين!
فكَّت جدائل شعرها الطويل فتحسست خصلاته التي تدلت فوق كتفيها حتى خَصْرها، وشممت رائحة الصابون تنبعث منه، قالت إنها تجد صعوبة في تنظيمه في خُصلات متموِّجة. وتستخدم لذلك عاكصًا من الورق، وإنها تفكِّر في قصه حسب الموضة الجديدة إلى خصلات قصيرة تنسدل فوق الجبهة.
نهضت واقفة وأخذتني من يدي إلى الغرفة الداخلية، كان فِراشها وسط الحجرة عبارة عن سَجَّادة مبسوطة على ألواح خشبية تحيط بها أربع مخدات فخمة، وأعلى ذلك غطاء من الحرير أو الموسلين. وحوَّلت عيني بسرعة عن الفِراش.
تناولت حُقًّا صغيرًا فوق منضدة بجوار الفِراش. رفعت غطاءه فرأيت مسحوقًا أحمر، قالت: إنه روج لتحمير الخدين لكني لا أستخدمه. هل تعرف أن سيدات البلاط الملكي في فرنسا كُنَّ يستعملن لزينة وجوههن ١٣ ظلًّا مختلفًا واحدًا فوق الآخر؟ أنا أكتفي بكريم اسمه ندى السوسن، أدهن به وجهي قبل النوم. وعند الخروج أبلل إصبعي الصغير وأمرُّ به على حاجبيَّ ورموشي حتى تلمع.
كانت تتحدث كالأطفال. أحطتها بذراعيَّ فدفنت رأسها في عنقي، كانت أقصر مني قليلًا. قبلتها في عنقها فرفعت رأسها ووضعت لسانها في فمي.
غنيت لها:
شرحت لها معاني الكلمات وكيف أن الدكة الألفية هي حزام مطرَّز بألف لون.
جذبتها إلى الفراش. وفي هذه المرة خلعت ملابسي حتى صرت عاريًا وساعدتها على خلع تنورتها وقميصها الداخلي. وبدت نحيلة للغاية. تأملت مبهورًا جسدها العاجي، ثم تحسست نهدَيها، فقالت إنهما صغيران، وإنها عندما كانت في الثانية عشرة كانت تضع عند الخروج أربعة مناديل تحت العباءة يمينًا ويسارًا مكان الثديَين.
نصحتها أن تفعل مثل بناتنا، فهن يضعن لبابة الخبز الساخن بين النهدين للتعجيل بنموهما.
قالت: لكني لم أعد صغيرة.
قلت: عندي علاج آخر.
التقطتُ ثديها بفمي وأخذت أمتصُّه وأجذبه إلى الخارج. ثم فعلتُ المثل بالثدي الآخر، انتفخَت حلمتاها وبدأت تتنهَّد. أردتُ أن أثنيَ ساقَيها إلى الخلف لكنها رفضت وباعدت بينهما، ثم ولَجتُها برفق.
قالت: تعرف ماذا تفعل كي لا أحمل؟ أومأتُ برأسي فهمسَت: لا تتعجل.
جززتُ على أسناني محاولًا السيطرة على نفسي. وعندما فقدتُ السيطرة غادرتها، وأفرغت مائي فوق بطنها. سمعتها تصرخ، ثم بدا لي أنها غابت عن الوعي.
تطلعت إليها مصعوقًا، ثم تلفتُّ حولي بحثًا عن قُلة ماء. وإذا بها تمسك بيدي باسمة، ثم ترفعها إلى فمها وتقبِّلها.
اعتدلَت على ظهرها وتنهَّدت في رضًا، ثم وضعت يدها على بطنها وبلَّلَت أصابعها من مائي ثم دعكَت ثديَيها، وقالت في خبث: هذا أفضل لنمو الثديين.
استلقيت إلى جوارها واحتضنتها. أفلتت من أحضاني، وقالت: لا بُدَّ أن ننزل الآن قبل أن يأتيَ أحد.
سألتها عن السبب في النظرات النارية التي يرسلها جاستون نحونا، ضحكت وقالت وهي تغادر الفراش: لقد حاول مغازلتي لكني لم أستجب له فهو ثقيل الظل.
ارتديت ملابسي ووضعت عمامتي فوق رأسي. قلت لها إن الغد هو الأحد وقد صرت أكره هذا اليوم لأني لا أراها فيه.
السبت ١٥ ديسمبر مساء
ذهبت إلى بيت حنا ورويت له كل ما حدث، وكيف أغمي عليها. فقال: جاء ظهرها. وقال: إن المرأة لا يأتي ظهرها إلا إذا أحبَّت الرجل. وقال: إن الرجل الفَرنسي مُخنَّث، ونساءهم يفضلن الرجال الأقوياء من الأقوام الشرقية.
الأحد ١٦ ديسمبر
عكفت على مراجعة دروس اللغة في حماس، وتدفأت بشراب الحبهان والقرفة.
الإثنين ١٧ ديسمبر
كانت اليوم باسمة كثيرة الحركة، قدرت أنها سعيدة بما حدث بيننا، وشعرت بالزهو. حكت لي منفعلة أنها ذهبت إلى التيفولي مع زوجها، وكان بونابرته موجودًا فراح يحدِّق فيها طول الوقت، ثم طلبها للرقص معه، وأثناء الرقص سألها عما تقرأ، ثم ذكر أنه يقرأ بحماس قصة لكاتب ألماني مجهول تدعى آلام فرتر، وهي عن شاب يقتل نفسه بالرَّصاص لأن الفتاة التي أحبها تزوجت أقرب أصدقائه.
تشاغلت بالعبث في الأوراق التي دونت لها فيها التعبيرات العربية الشائعة، ثم استطردت: عندما حان وقت الانصراف أشار بونابرته لزوجها أن يقترب، وقال له: أيها المواطن، فرنسا في حاجة إليك، غدًا ستنطلق إلى الإسكندرية لتبحر إلى فرنسا، وتبقى في باريس عشرة أيام. سأسلمك أوراقًا سريَّة موجهة لحكومة الإدارة وتوجيهات لن تطلع عليها إلا وأنت في عُرض البحر، وستُمنح مبلغًا ماليًّا قدره ثلاثة آلاف فرنك لنفقاتك.
سألتها: سافر؟
قالت: سيسافر غدًا. سيأخذ أول مركبة بريد إلى رشيد.
كان الفرنساويَّة قد استحدثوا نظام المركبات التي تنقل البريد والمسافرين من وإلى القاهرة.
فكرت في الفرص التي ستسنح بذلك للقائها. ثم شعرت بانقباض لم أعرف سببه.
الثلاثاء ١٨ ديسمبر
لم تظهر اليوم في القاعة. قال جاستون: إنها مشغولة بسفر زوجها.
الأربعاء ١٩ ديسمبر
وجدتها عندما وصلت. قالت إن زوجها سافر بالأمس. كانت تبدو متوترة وغير قادرة على التركيز. ولم نواصل درسنا. وعندما اقترحت عليها الصعود إلى مسكنها تأسفَت لأنها مشغولة بالاستعداد لحفل عشاء سيحضره بونابرته.
قال إبراهيم: إن الفرنسيس عملوا كرنتيلة بجزيرة بولاق، وبنوا هناك بناء يحجزون به القادمين من السفر أيامًا معدودة لتأكيد خلوهم من الأمراض. وذكر أنهم يتحدثون عن انتشار الأمراض الجلدية والزهرية بينهم، وقد أعادوا لويس شقيق بونابرته إلى فرنسا لأنه أصيب بمرض الزهري.
الخميس ٢٠ ديسمبر
هبطت من مسكنها قرب الظهر. وقالت إنها نامت في ساعة متأخرة بالأمس. سألتها عن حفل العشاء. فأجابتني بإيجاز وتشاغلت بالعمل. انتظرت أن تدعوَني للصعود إلى مسكنها فلم تفعل.
الجمعة ٢١ ديسمبر
لم تظهر اليوم.
قال أستاذي في المساء إنهم رتبوا الديوان على تنظيم جديد، وعينوا له ستين نفرًا جعلوا لهم شهرية وأسمَوه الديوان الديمومي. واختاروا منهم أربعة عشر نفرًا هم الذين يحضرون دائمًا، ويقال لهم الديوان الخصوصي.
عدَّ على أصابعه وأنا مثله: الأربعة عشر هم من المشايخ: الشرقاوي، والمهدي، والصاوي، والبكري، والفيومي. ومن التجار: المحروقي، وأحمد محرم. ومن النصارى القِبط: لطف الله المصري. ومن الشوام: يوسف فرحات، وميخائيل كحيل، ورواحة الإنجليزي، وبودني، وموسى كافر الفرنساوي. ومعهم وكلاء ومباشرون من الفرنسيس، ومترجمون.
حبست من ذكرهم فوجدتهم ثلاثة عشر. سألته: ومن هو الرابع عشر؟ لم يجب وتشاغل بالقراءة. هل يمكن أن يكون هو المقصود؟ ولماذا لم يذكر ذلك؟ هل يشعر بالكسوف من وجوده في الديوان؟
أراني طومارًا كبيرًا على شكل رسالة من بونابرته فيها كثير من التمويهات على العقول مثل قوله: «العاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله وإرادته وقضائه … إن القرآن العظيم صرَّح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل، وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل، وكلام الله في كتابه صِدق وحق … أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم إلهي لا يُرد …»
السبت ٢٢ ديسمبر
لم تظهر اليوم.
انتظرت حضورها ساعة زمان ثم نفِدَ صبري. سألت جاستون عنها فابتسم ابتسامة غريبة، وقال: لا أظن أنها ستأتي بعد اليوم. استفسرت عما يقصد، قال إنها انتقلت إلى بيت مستقل في الأزبكيَّة. أكد لي إبراهيم الصباغ الخبر مضيفًا: هؤلاء الفرنساويَّة لهم أمور غريبة بشأن النساء. لم أفهم ماذا يقصد.
الأحد ٢٣ ديسمبر
تجولت في الأزبكيَّة على أمل أن أصادفها. ووقفت مدة في الميدان بجوار قصر ساري عسكر دون جدوى إلى أن بدأ أعوان برطلمين يشكون في أمري، وطلب مني رئيسهم الانصراف.
أنتقل بين غرفتي والحَوْش وأنا عاجز عن فعل أي شيء.
الإثنين ٢٤ ديسمبر
لم تأتِ. وقال جاستون إنها تركت العمل معنا.
لم يأتِ إبراهيم الصباغ أيضًا. وعرَفتُ من جاستون أنه سافر في صحبة كفاريللي إلى السويس مع ساري عسكر بونابارته. ذكرت الخبر لأستاذي في المساء، فقال إنهم أخذوا معهم السيد أحمد المحروقي وإبراهيم أفندي كاتب البهار، وبعض المديرين والمهندسين والمصوِّرين، وجرجس الجوهري، وألطون أبو طاقية وغيرهم.
الثلاثاء ٢٥ ديسمبر
أنقل عيني طول الوقت بين منضدتها الخالية ومدخل القاعة. أشم رائحتها طول الوقت.
الأربعاء ٢٦ ديسمبر
فوجئت بها في الصباح جالسةً إلى منضدتها تتحدث مع جاستون. كان يقول: إن العلماء أثبتوا أن مياه النيل صحية ومغذية، وتساعد على إدرار البول والعرق. قالت إنها سمعت أنها تساعد على سرعة تكاثر الحيوانات. ضحك جاستون وقال: ربما هذا هو السبب في ارتفاع معدل الولادة بين أولاد البلد.
سألتها إن كانت ستعود إلى عملها معنا. أجابت بالنفي وقالت إنها جاءت لتأخذ باقي حاجيَّاتها.
صعدت إلى مسكنها القديم. وعندما هبطت ساعدتها في حمل أغراضها إلى مركبة بجوادين في الخارج. قالت لي قبل أن تستقلَّ المركبة: يمكنك أن تزورني في بيتي الجديد غدًا، طلبت صفته، فقالت: إنه إلى جوار مقر بونابرته، وبينهما بيت من طابَقين.
عندما عدت وجدت جاستون مع صديق له، وكانا يضحكان. وفهمت أنهما يتحدثان عن بولين. ونظر جاستون إليَّ قائلًا: لم تحلم أبدًا بسُكْنى القصور وركوب المركبات.
قلت في غضب: كيف؟ لقد وُلدَت في قصر.
قال ساخرًا: هي التي قالت لك ذلك؟
قلت: نعم، أبواها من النبلاء الذين أُعدموا تحت المقصلة.
انفجر ضاحكًا هو وصديقه. قال: كذبت عليك؛ أمها طاهية، وهي ابنة غير شرعية لا تعرف لها أبًا.
لا أصدقه.
الخميس ٢٧ ديسمبر
ذهبت عند الغروب إلى ساحة الأزبكيَّة. وقابلت في الطريق عسكرهم يحيطون بطاحون، وفهمت أنهم يأخذون من كل طاحون فرسًا. وقال لي صاحب الطاحون إنهم يستعدُّون للسفر إلى الشام.
درتُ في الميدان بحماري. كانت هناك حديقة كبيرة بجوار بيت ساري عسكر، وقبله بيت بطابَقين، وبجواره قصر صغير أمامه جندي فرنسي. توقَّفتُ أمامه وترجَّلت عن حماري. أفصحت له عن غرضي فأفسح لي جانبًا.
طرقت الباب ففتح لي خادم أسود، وبدا أنه كان يتوقعني فقد تناول مني مِقْود حماري في صمت. مضيت في ممشى الحديقة حتى الباب الداخلي ودققت عليه، فتحت لي امرأة شامية سافرة من بنات البلد ذات عيون سوداء واسعة وبشَرة بيضاء وأنف طويل أقنى. وقادتني إلى مجلس بالطابَق الأرضي. تركت حذائي عند الباب. وسرت فوق سَجادة حتى أريكة.
ولَجَت بولين القاعة بعد قليل في غِلالة شرقية تصل إلى الأرض وقَلَنْسوة تغطي رأسها.
نهضت واقفًا وترددت في الاندفاع إليها وتقبيلها. اقتربت مني وقبَّلتني في خدي، ثم أشارت لي أن أجلس. كنت ألتهمها بعيني ولا أصدق أنها أمامي أخيرًا.
خلعت قَلَنْسوتها فوجدت أنها قصت شعرها حتى أسفل عنقها، وقالت: ما رأيك في شعري؟
أبديت استيائي، فقالت: نابليون يحبه هكذا.
كانت أول مرة أسمعها تتحدث عن ساري عسكر باسمه الأول.
قلت بحِدَّة: وكيف عرَفت؟
– هل تذكر يوم سفر زوجي؟ لقد دُعيت في المساء أنا وبعض الإفرنجيات وزوجات القادة إلى حفل عشاء عند بونابرته. كانت حفلة شائقة. وتحدث فيها عن مشروعاته. قال: إن الحرب الهجومية تساعد الاقتصاد، وإن واجبنا المقدس أن نزرع أفكار الحرية والإخاء والمساواة في أرجاء العالم. وإذا تطلَّب الأمر فسنفعل ذلك بالمدافع.
صمتت وبدت تسترجع شيئًا، ثم استطردت: كان يجب أن تسمعه عندما يتكلم، قال: إنه من النوع الذي يمكنه أن يبنيَ الدول ويقودها. وإنه أحد الرجال الذين يصنعون التاريخ.
كنت أستمع إليها وأنا أتمزق. استطردت: كان يحملق فيَّ طول الوقت، كان لعينيه مثل كلامه تأثير السحر عليَّ. وقال لي إنه يُفضِّلني في شَعر قصير.
سكتت ثم ابتسمت وأضافت بخبث: لن تحب بقية القصة.
انقبض قلبي. ولم تنتظر حتى أطلبها.
قالت: عندما قُدِّمَت القهوة أراق الضابط الجالس إلى جواري قدَحًا على ثوبي، ثم صعِد بي إلى حجرة بجوار الحمَّام لأنظفه. وكنت ما زلت أدعكه حين أقبل نابليون. وبقينا في الغرفة عدة ساعات قبل أن نعود إلى الضيوف.
سألتها: وماذا حدث خلال تلك الساعات؟
نظرت إليَّ عابثة، وقالت: ماذا تعتقد؟
شيء في تعبير وجهي جعلها تسترسل بسرعة: حكى لي عن قصة قصيرة كتبها وهو في التاسعة عشرة من عمره عن نبي يُدعى حكيم أصيب بالعمى في معركة مع رجال الخليفة، فغطى وجهه بقناع ليُخفيَ عاهته، وزعم للناس أنه لو نزع هذا القناع لغشي سنا نوره بصر مَن يتطلع إليه. ثم حمل أتباعه على حفر بئر عميقة يقع فيها أعداؤه حين يهاجمونه، فلما حفروه دعاهم إلى وليمة دسَّ لهم فيها السمَّ جميعًا وجرَّ جثثهم إلى البئر، ثم أشعل نارًا عظيمة وألقى بنفسه فيها.
– هذا كل ما جرى في عدة ساعات؟
لم تجب.
قلت: ماذا سيقول زوجك؟
قالت: ألا تعرف أنه مسافر؟
– وإذا عرَف عندما يعود؟
– هو يحبني. ثم أضافت بعد هُنيهة تفكير: وأنا أيضًا أحبه.
نهضت واقفًا قائلًا: أنتِ بطالة ومخلوعة.
رفعَت يدها وصفعتني.
وضعتُ يدي على خدي مكان الصفعة، ثم تقدمت من باب القاعة. شرعت أرتدي حذائي فلحقت بي واحتضنتني. وجذبتني إلى الأريكة وقبَّلتني في فمي. ثم تركتني لتُغلق الباب بالمزلاج. وخلعت الغِلالة فبدت عارية؛ لم أملك نفسي وجعلت أتحسس جسمها بجنون.
ولَجتُها بعنف وتحركت فوقها بغضب. قالت فجأة بصوت ضعيف: ليش توجعني؟
قالتها بالعربية وباللهجة الشامية. قلت لها إني أحبها ولا أريد أن يلمسها رجل غيري.
قالت: حتى زوجي؟
أغرقتني بالقبلات بعد أن جاء ظهرانا. وبقينا مدة في أحضان بعضنا.
شعرت بيدها فوق فخذي، ورفعت رأسها وانحنت فوقي تتأمل عضوي. قالت وهي تتحسسه: لم أعرف أن المختون يكون جميلًا بهذا الشكل.
أثارتني مداعباتها فاعتليتها من جديد.
سألتها: متى أراكِ ثانية؟
قالت: إن إعداد المنزل وفَرْشه يستغرق معظم وقتها، وإنها ستأتي إلى المعهد عندما يصبح لديها وقت.
الجمعة ٢ يناير
طول اليوم أفكر فيما قالته لي وما جرى بيننا. وكيف لم أستطع مقاومتها. وخالجني شيء من الزهو بأن بونابرته مهتم بالمرأة التي أحبها وتحبني. أحاول التماس الأعذار لها، فزوجها ليس هنا. ثم من يستطيع أن يرفض طلبًا لساري عسكر؟
الجمعة ٤ يناير
وقع اليوم حادث غريب؛ فقد اشتكى جاستون من ضياع أحد دفاتره. وفتش منضدته ثم سألني عنه. قلت: إني لم أره. لم يصدقني وأصرَّ على تفتيش منضدتي والخِزانة خلفي، ثم فتش منضدة بولين، ولم يعثر على الدفتر.
الأحد ٦ يناير
وجدت نفسي أتجه إلى منزلها بعد الغروب. انزويت في زاوية بين دكَّانَين على الناحية الأخرى بحيث أتمكن من رؤية مدخل المنزل. وقفت طويلًا لا أجسُر على الاقتراب وأنا أرتجف من البرد. وفجأة رأيت جاستون آتيًا من ناحية بيت بونابرته. تنحى له الحارس فدخل. ومر وقت طويل. كنت أتمزق، وخُيِّل لي أنه سيقضي الليلة معها، ثم خرج بعد قليل. وانطفأت الأضواء. وعندما ساد الظلام انصرفت وأنا أبكي.
الإثنين ٧ يناير
في الصباح أخذ جاستون يتطلع إليَّ بنظرة غريبة. وفي العصر ذهبت على قدمي مرة أخرى إلى الأزبكيَّة. رأيتها تغادر المنزل وتستقل إحدى مركبات ساري عسكر الفاخرة. عدت أدراجي وتوقفت عند المقهى. لم يكن عبد الظاهر أو حنا موجودَين. جلست فوق أريكة طويلة بلا مساند مفروشة بالحُصُر إلى جوار رجل معمَّم يدخن نارَجيلة بمبسم من الرخام الشفاف. شربت قهوة في فنجان صغير من الخزف مستورد من ألمانيا وُضع في صَحْن صغير من النُّحاس. استمعت إلى الآلاتية يغنون:
دفعت بارة ونصف ثمنًا للقهوة وانصرفت وأنا أغالب دموعي.
الثلاثاء ٨ يناير
كنا نستعد للانصراف من المعهد عندما فوجئنا بزوج بولين يدخل مندفعًا، تحلقنا حوله. وذكر لنا أنه لم يذهب إلى فرنسا، وأنه وقع في أسْر الإنجليز بمجرد إبحاره من الإسكندرية فأعادوه إليها، ثم أفرجوا عنه، وأراد القائد الفَرنسي استبقاءه بالمدينة بحُجج واهية إلا أنه أصرَّ على السفر إلى القاهرة لينضم إلى زوجته. سألنا عنها فبهِتنا، ولم نحرْ جوابًا. ثم قال له جاستون: إنها انتقلت للسُّكْنى في الأزبكيَّة في البيت الملاصق لقصر ساري عسكر. ظهرت عليه البغتة، ثم ركب حصانه وانصرف.
مطر شديد.
الأربعاء ٩ يناير
عاد إبراهيم الصباغ أول أمس مع ساري عسكر. وقال لي: إن بونابرته في مدة إقامته بالسويس صار يركب ويتأمَّل في النواحي وجهات ساحل البحر والبر ليلًا ونهارًا، وكان معه من الأدم ثلاثة طيور دجاج محمرة ملفوفة في ورق، وليس معه طبَّاخ ولا فرَّاش ولا فرش ولا خيمة، وكل شخص من عسكره معه رغيف كبير مرشوق في طرَف حربته يتزود منه، ويشرب من وعاء من صفيح معلق في عنقه.
وقال: إن الفرنساويَّة يتحدثون عن عمل قناة بين البحرين تساعد التجارة، وتجعل مصر مستودعًا للبضائع القادمة من أوروبا وآسيا، ولن تُضطر السفن الفرنساويَّة للمرور عن طريق جبل طارق أو اتخاذ الملف الهائل حول رأس الرجاء الصالح.
الخميس ١٠ يناير
سمع الصباغ من كفاريللي أن بولين اشتكت لبونابرته من زوجها، وأنه يعاملها بوحشية بعد أن بلغته الشائعات بشأنها. وقد طلبت الطلاق فوافق بونابرته على الفور بصفته القاضي.
الجمعة ١١ يناير
أقاوم التفكير فيها. أغالب فكرة الذهاب إلى الأزبكيَّة. وأنتظر مجيئها. برد شديد والأرض مغطاة بطبقة رقيقة من الصقيع الأبيض.
السبت ١٢ يناير
قال الصباغ: إن بونابرته أقام أمس حفل عشاء ترأسته بولين. وأثناء تناول الطعام جاء ذكر نبأ الطاعون فهوَّن من شأنه، ثم ذكر أن طبيبًا في الإسكندرية رفض علاج جرحى مخالطين للمرضى؛ فأصدر أمرًا بمعاقبته بأن يلبس ثياب النساء ويُوضع على حمار ويُسحب في الشوارع. وعقَّبت بولين على ذلك بأنها ترفض اعتبار ارتداء ثياب النساء دليلًا على الجبن، وأعلنت أنها على استعداد لمبارزة بونابرته.
بعد الظهر نادى القبطان الفرنساوي الساكن بالمشهد الحسيني بفتح الحوانيت والأسواق لأجل مولد سيدنا الحسين. وأوعد من أغلق حانوته بتسميره وتغريمه عشرة ريالات فرانسة.
وعرَفت من أستاذي أن هذا المولد ابتدعه من سنوات مباشر وقف المشهد. وكان قد اعتراه مرض الحب الإفرنجي، فنذر على نفسه هذا المولد إن شفاه الله تعالى، فحصلت له بعض إفاقة فابتدأ به، وأوقد في المسجد والقبة قناديل وبعض شموع، ورتب فقهاء يقرءون القرآن بالنهار، وبالليل «دلائل الخيرات» للجزولي. وانضم إليهم أهل البدع فمنهم من يتحلق ويذكر الجلالة، وينشد القصائد والموَّالات، ومنهم من يقول أبياتًا من «بُردة» البوصيري.
ذهبت في المساء إلى المسجد مع عبد الظاهر. كان هناك خلق كثير وافترش البعض الطريق يقرءون القرآن ويتناولون الأطعمة.
خلعنا أحذيتنا وولَجنا المسجد. وقفنا تحت القبة الشريفة أمام الضريح الشريف الذي تعلوه مقصورة من النُّحاس الأصفر وفوق الضريح تابوت من الآبنوس المُطعَّم بالصَّدف والفِضَّة مكسوٌّ بالحرير الأحمر المزركش. تفرجنا على العيسوية وهم جماعة من المغاربة. وكانوا يقفون قبالة بعضهم صفين ويقولون كلامًا معوجًّا منغمًا بلغتهم وهم يضربون على الطبول والدفوف ضربًا شديدًا ثم يضعون أكتافهم في أكتاف بعض، لا يخرج واحد عن الآخر، ويلتوون وينتصبون ويرتفعون وينخفضون ويضربون الأرض بأرجلهم، كل ذلك مع الحركة العنيفة والقوة الزائدة.
صار بالمسجد دويٌّ عظيم من هؤلاء ومن غيرهم من جمع العوام والسوقة من أهل الحرف السافلة الذين تجمَّعوا للحديث واللغط والأضاحيك والتلفُّت إلى حسان الغلمان والسعي خلفهم. وطاف الباعة بالمأكولات وخلفهم سقاة الماء فامتلأت ساحة المسجد بقشور اللب والمكسرات وبقايا المأكولات.
غادرنا المسجد ووقفنا نتفرج على رجل يلعب بالعرائس. جاء وقوفنا خلف المسرح الخشبي الصغير. ورأينا الرجل منحنيًا على فتحات صغيرة في ستارة أمامه يرى منها المتفرجين دون أن يروه. وكان يمرر العرائس عن طريق فتحات أخرى فيجعلها تؤدي الحركات التي يريدها بخيوط يحركها، ويغير صوته بأداة صغيرة يضعها في فمه فيجعله بالغ الرقة مصحوبًا بأنغام الناي، وأخذَت العرائس تتشاجر والمتفرجون يضحكون.
الأحد ١٣ يناير
زارنا الشيخ حسن العطار صديق أستاذي في المساء. كان يصغره بعشر سنوات لكن تربط بينهما علاقة حميمة. وقال: إن الناس تتحدث عن ذهاب عساكر إلى العريش استعدادًا لسفر بونابرته جهة الشام. وقال: إن هذه الحملة ستكون مهلكته. وتلا علينا آخر قصائده وبها هذان البيتين:
تحدثا عن ظهور الطاعون. وقال الشيخ حسن إنه يبدأ بحِمْية مرتفعة يعقبها ألم في الرأس، ثم يظهر ورم في حجم البيضة في خن الورك أو الإبط، وهنا يكون على المرء السلام.
قال أستاذي: الطاعون ظهر في الجيش من شهر. وأعلمونا في الديوان بعدم ذكره. وإنه ليس إلا حِمْية تنتقل بسهولة من شخص إلى آخر.
قال العطار إنه سمع من بعض الفرنساويَّة أن بونابرته أصدر أوامره بأن يغسل الجنود أيديهم وأرجلهم ووجوههم كل يوم.
سأله أستاذي عما يفعل معهم، قال: أعلمهم اللغة العربية وأتعلم منهم، فهم بارعون في البحث والتنقيب العلمي والأدبي. إن من تأمل في علمائنا السابقين يجد أنهم كانوا على اطِّلاع واسع على مختلف العلوم وكتبها حتى كتب المخالفين في العقائد والفروع. أما نحن فقصارى أمرنا هو النقل عن القدماء دون أن نخترع شيئًا من عندنا. وإذا ورد علينا سؤال في علم الكلام لا نجده فيها تخلصنا بأن هذا كلام الفلاسفة. كما أننا لا ننتبه إلى قيمة كتب العلوم الطبيعية والأصول الهندسية.
الثلاثاء ١٥ يناير
أحاول إقصاءها من فكري، وفي الوقت نفسه أتلهف على مجيئها. لزقوا أوراقًا على الجدران بأنهم سيُطيرون طيارة مثل التي طيَّروها من قبل وفسدت.
الأربعاء ١٦ يناير
خرجنا من المجمع وقت الظهر، وذهبنا إلى الأزبكيَّة حيث اجتمعت الناس. تابعنا الطيارة وهي تطير وتصعد إلى أعلى حتى وصلت فوق التلال المحيطة بباب البرقية، وهنا سقطت.
عدت إلى البيت مباشرة ورويت ما حصل لأستاذي، فقال: لو ساعدتها الريح، وغابت عن الأعين لتمت الحيلة، وقالوا إنها سافرت إلى البلاد البعيدة.
الخميس ١٧ يناير
لاحظت أن أستاذي يذهب في الصباح الباكر كل يوم إلى الديوان. سألته عما يفعلون، فقال إنهم يأتون إلى قصر بونابرته فيُستقبلون بالتجلة، ويقدم لهم الشربات والقهوة. ثم يقبل ساري عسكر فيجلس وسطهم على الأريكة، ويناقش القرآن، ويطلب تفسير الآيات الهامة، ويبدي إعجابه بالرسول. ويشكو لهم من المواعظ العدائية التي يلقيها الأئمة في المساجد.
ضحك، ثم قال: مرة طلب من الأزهر أن يُصدر فتوى تأمر الناس بأن يحلفوا له يمين الطاعة.
سألته: ووافق الشيوخ؟
– الشرقاوي طالبه بأن يعتنق الإسلام، فقال إن اعتناقه للإسلام هو وجيشه دونه عقبتان؛ مسألة الختان وتحريم الخمر. وتناقش الشيوخ طويلًا، ثم طلبوا مهلة للتفكير في الأمر.
الجمعة ١٨ يناير
سمعت في الجامع أن النبي ﷺ ظهر لبونابرته، وطلب منه أن يجهر بإيمانه بأركان الدين لأنه دين الله. وأنه ردَّ ملتمسًا مهلة سنة يُعِدُّ فيها الجيش لذلك فمنحها له النبي.
السبت ١٩ يناير
طلبوا جملة من الهُجْن، ثم رسموا على الأهالي عِدَّة كبيرة من الحمير، وكذلك من البغال؛ فاختفى غالب أصحاب الحمير، وخاف الناس على حميرهم، فامتنع خروج السقَّائين الذين ينقلون عليها الماء بالقرب، والسقائين الذين ينقلون الماء فوق الجمال، والبراسمية الذين يحملون البرسيم فوق ظهور جمالهم.
السبت ٢٦ يناير
قتلوا بالقلعة نحو التسعين نفرًا، وغالبهم من المماليك الذين وجدوهم هاربين في البلاد، والذين عسَّ عليهم الخبيث برطلمين وأعوانه ووجدوهم مختفين في البيوت.
عاد الجبرتي من اجتماع الديوان، وقال: إنهم يستعدون للسفر إلى الشام لمقاتلة صاحب عكا. ما رأيك في أن تذهب معهم؟
قلت مصعوقًا: وماذا سأفعل؟ أنا لا دراية لي بفنون الحرب.
قال: أنت لن تحارب. ستساعدهم في أمور الترجمة واللغة، وترسل لي بأخبارهم.
فكرت في بولين، هل ستذهب هي الأخرى؟
قال أستاذي في حسم: لقد قدمت لهم اسمك.
الجمعة أول فبراير
استدعاني أستاذي لمجلس العقد. ووجدته مُتجهِّمًا منشغلًا بأوراقه. رفع إليَّ عينيه وقال: ساكتة حامل.
وقع عليَّ الخبر كالصاعقة. ولم يكن قد خطر ببالي أنها قد تحمل من اتصالي بها. ثم فكرت أنها ربما حملت من شخص آخر. وربما من الجبرتي نفسه، فمَن يعلم!
سألني: هل تعرف من جامَعها؟
هززت رأسي نفيًا دون أن أنطق.
قال: فكِّر جيدًا فالمسألة خطيرة، وهي ترفض أن تتكلم.
كنت أعرف مدى الخطورة؛ فإذا لم يثبت أنها حملت من غير أستاذي وقع هو في القبضة؛ لأنه سيصبح الأب، والنتيجة أنها ستصبح مستولدة، ولا يجوز بيعها، ويصبح الطفل حرًّا وله الحق في أن يشارك في الإرث. والمضحك في الأمر أن أم الجبرتي نفسه كانت واحدة من سراري أبيه.
أقسمت له أني لا أعرف شيئًا عن الأمر. تنهَّد في ضيق وسمح لي بالانصراف.
السبت ٢ فبراير
حسمت أمري وقررت الذَّهاب إليها لوداعها قبل سفري. أدخلني الحرَّاس عندما خاطبتهم باللغة قائلًا: إني أحمل إليها رسالة من المجمع. فتحت لي خادمتها الشامية. عرفتني وقادتني إلى قاعة الاستقبال في الطابَق الأرضي، ثم اختفت بعد أن أغلقت الباب خلفها. وبعد قليل فُتح الباب ودخل جندي فرنساوي يرتدي سترة ذات شرائط مذهَّبة وبنطلونًا ضيقًا لصيقًا بالجلد ويضع فوق رأسه قَلَنْسوة من ذوات الريش. مرت لحظة قبل أن أتعرف عليها.
تقدمت منها واحتضنتها. تحسست خدي بأصابعها، ثم دفعتني عنها في رفق وهي تتلفَّت نحو الباب. تطلعت إلى عينيها الزرقاوين البهيتين.
قلت لها إني افتقدتها وأفكِّر فيها طول الوقت. ضحكت وكشفت عن أسنانها الرائعة. قادتني إلى أريكة وجلست بجواري مفرجة ساقيها وواضعة ساعديها بينهما.
أشرت إلى ملابسها وقلت: هل أنت ذاهبة مع الجيش إلى الشام؟
قالت: لا. ثم بعد تردُّد أضافت: نابليون يحب أن يراني في هذه الملابس.
شعرت كأنها طعنتني بسكين. قلت: كنت مارًّا بالصدفة من أيام فرأيت جاستون يدخل عندك.
قالت: كان يسألني عن دفتر ضائع.
– عندما عدت بعد ساعتين زمان صادفته خارجًا. هل استغرق السؤال كلَّ هذا الوقت؟
قطَّبت حاجبيها: ماذا تقصد؟
أجبت بصوت ضعيف: لا شيء.
نهضت واقفة وقالت: يجب أن تنصرف الآن فقد حان موعد ذَهابي إلى نابليون.
قلت: وإذا طلبت منك ألا تذهبي؟
ضحكَتْ.
قلت: لو ذهبت سيتوقف كل شيء بيننا.
قالت: أنت حر.
خطت نحو الباب. نهضت واقفًا واقتربت منها. أردت أن أحتضنها لكنها دفعتني عنها. أحطتها بذراعي في قوة ومددت يدي إلى دكة بنطلونها. جذبتها بعنف حتى أوشك القماش أن يتمزق. ولعلها خشت من ذلك إذ قالت فجأة: بيان.
خلعت البنطلون وتمدَّدت غاضبة فوق الأريكة، ارتميت فوقها. استسلمت دون حماس، وقالت لي بعد أن انتهيت: تعرف؟ أنت ما زلت صغيرًا.
ارتدت البنطلون من جديد. وعندما خرجت وجدت مزيدًا من الحرس الفرنساوي ينتظر عند الباب.
الأحد ٣ فبراير
ركب حسن أغا محرم المحتسب بالأبهة الكاملة لإثبات هلال رمضان، وسار أمامه مشايخ الحرف بطبولهم وزمورهم. شقَّ القاهرة كالمعتاد، ومرَّ على قائمقام وأمير الحج وساري عسكر بونابرته، ثم رجع إلى بيت القاضي في بين القصرين، حيث كان الناس متجمعين وأنا بينهم. وأثبتوا هلال رمضان، ثم ركب من هناك بالموكب وأمامه المشاعل الكثيرة والطبول والزمور والمناداة بالصوم، وخلفه عِدَّة خيَّالة فرنساوية عارية رءوسهم، وشعورهم مرخية على أقفيتهم بشكل بشع.
الإثنين ٤ فبراير
اليوم أول أيام الشهر الكريم. بالأمس تناولت السحور مع أستاذي وخليل. وفي الصباح استيقظت متأخرًا فلم أذهب إلى المجمع. صليت الظهر وقضيت اليوم مع كتاب تعليم اللغة الفَرنسية. ولأن رمضان هذا العام جاء في الشتاء فإن اليوم انقضى بسرعة. وعند المغرب أفطرت مع أستاذي. وخرج لاجتماع الديوان. ثم غادرت المنزل بعد صلاة العشاء. ووجدت الدكاكين مفتوحة. والناس تسير بالفوانيس ذاهبة إلى المساجد أو لزيارة أحبابها والتسلي بالنقول، أو للسهر في القهاوي على أصوات رواة الحكايات. وكانت المساجد مضاءة خارجها بالقناديل.
التقيت مع حنا وعبد الظاهر في المقهى، وكان حنا يرتدي عِمامة سوداء. سألته متعجبًا: ماذا حدث؟
قال: ألم تسمع بالطومان الفَرنسي؟ لقد منعنا من لبس الشيلان الملونة والعمائم البيضاء، وأمر بأن يعود النصارى إلى عادتهم في رمضان، فلا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يشربون الدخان ولا شيء من ذلك بمرأًى من المسلمين.
قلت: يحاولون استجلاب خواطر الرعية أثناء السفر إلى الشام.
قال عبد الظاهر إنه شاهد موكبًا متجهًا إلى العادلية وفيه القاضي، ومصطفى كَتْخُدا الباشا، وأربعة من المعممين هم: الفيومي، والصاوي، والعريشي، والدواخلي.
سألت: لم يأخذوا الشيخ البكري إذن؟
قال حنا: اعتذر عن الذَّهاب لأنه لا يستطيع مغادرة المدينة. تعرفان لماذا؟ بسبب هيلانة.
كنا نعرف بأمر النزاع الدموي بينه وبين أغا الإنكشارية على غلام جميل من المماليك سُمي بهيلانة.
قال: حكم المدير الفَرنسي بوسليج بأن يحتفظ البكري بالغلام مقابل عقار قيم يتنازل عنه للأغا.
استمعنا إلى منشد يحكي قصة عنترة بن شداد بمصاحبة ربابة. ولعبت مع حنا دَورًا من الشِّطْرنج، ثم لعبنا ثلاثتنا الضامة فوق قطعة قماش خيطت بها مربعات ملونة من الجوخ. وبقينا نتسامر حتى اقترب موعد السحور فتفرقنا.
عدت إلى البيت فتسحرت مع أستاذي. حدثني عن اجتماع الديوان، فقال: إن بونابرته حضره، وأعلن أنه مسافر إلى الشام ويعود بعد شهر.
سكتَ لحظة طويلة ثم أضاف: وأظن أنه سيعود سريعًا ومهزومًا؛ فلن يستطيع الانتصار على الجزار. ثم أن جيشه ليس في أحسن حال. لقد اضطُر إلى رهن محاصيل الصعيد قبل حصادها ليدفع رواتب الجنود المتأخرة.
سألته عن الجزار، قال: إنه شيخ في الستين أو السبعين، وُلِدَ في البوسنة، والتحق بالبحرية التركية، ثم باع نفسه إلى تاجر رقيق في أسواق الآستانة. فحمله إلى القاهرة حيث اشتراه علي بك الكبير، وساعده في التخلص من أعدائه من المماليك، واستحق لقب الجزار لوحشيته. ثم تشاجر معه بعد سنوات ورحل إلى الشام حيث احتمى بأمير الدروز. ثم انقلب عليه وسرقه. وأخيرًا ظفر من السلطان العثماني بولاية عكا.
الثلاثاء ٥ فبراير
حضرت زيارة الشيخ الطوالبي لأستاذي. كان يملك مطبخًا لتكرير السكر في باب زويلة ينتج العسل الأسود، والسكر الخام، والسكر المكرر في أقماع كبيرة، والملبس. وأراد أن يتعاقد مع أستاذي على زراعة قصب السكر هذا الشهر على أن يتسلمه بعد الحصاد في شهر نوفمبر القادم.
أبدى أستاذي عدم حماسه بسبب الأحوال، وبسبب الامتيازات التي أعطاها الفرنساويَّة لتجارهم. وقال: الإنجليز يقفون بالبحر ويمنعون الصادر، فماذا ستفعل بالمنتج؟
قال الشيخ: هذا بالضبط ما يجعل إنتاج السكر مربحًا لأن السوق الداخلية تطلب السكر الخام، ولا حاجة بي إلى تكريره.
وطلب أستاذي مهلة للتفكير.
الأربعاء ٦ فبراير
اكتشفنا اختفاء ساكتة في الصباح، وقضينا اليوم كله في البحث عنها دون جدوى.
٥
الخميس ٧ فبراير
لم أذهب إلى المجمع، وقضيت اليوم في الاستعداد للسفر. وكان أستاذي قد نصحني بأخذ ملابس ثقيلة للاحتماء من البرد. كما صرح لي بأن آخذ حمارًا معي.
وضعت الملابس في كيس من القماش، ومعها بضعة أرغفة من الخبز. وأعدَّ لي الخدم لِفافة من جبن الصعيد الحار. وأضفت محبرة وقلمين من البوص.
سألت أستاذي عن الصيام، فقال: إن استطعت إلى ذلك سبيلًا، وإلا فإنك على سفر وحرب، ويجوز شرعًا أن تُفطر.
ليست هناك أخبار عن ساكتة.
الأحد ١٠ فبراير
في الصباح الباكر ربطت الكيس في فرشتي، وحملتهما إلى ظهر حماري. ركبت وانطلقت إلى بين القصرين، ثم قطعت الشارع الأعظم حتى نهايته. كانت الطريق مزدحمة على غير العادة بالمسافرين من جنود وأولاد بلد من أرباب الصنائع كالحدادين والنجارين.
اتجهت إلى العادلية حيث تجمَّعت عساكر الفرنساويَّة. ولحق بنا ساري عسكر ومعه عدد كبير من القادة. وكان هناك أيضًا عِدَّة من المدنيين من مترجمين وخدم وجمَّالين، وجماعة من التجار، والوجاقليَّة، ونصارى القِبْط والشوام.
تجولت بحماري وسط الجموع، ولمحت نفرًا من علماء الفرنساويَّة بينهم مونج وبرتولليه وكبير المترجمين فنتور. وكانت هناك جِمال كثيرة محملة بالمؤن من ذخيرة ودقيق وعليق وبقسماط ومياه.
لاحظت أن جنود الفرنساويَّة يرتدون ثيابًا خفيفة لا تلائم البرد والمطر، وتتألف من قمصان وسراويل وسترات من الكتان. ومعهم أحمال كثيرة حتى الأسرَّة والفُرُش والحصير، ومحفات لنساء القادة والجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوهن من بيوت الأمراء، وقد تزيَّا أكثرهن بزيِّ النساء الإفرنجيات.
وشاهدت فرقة من الجمال يقودها فرنساويَّة يرتدون الجلباب العربي، ويضعون العِمامة فوق رءوسهم، سألت عنهم أحد الجنود فقال: ألم تسمع بعد؟ بونابرته سيُختَن ويضع العِمامة ويتبع دين محمد. وضحك فأدركت أنه كان يمزح.
أمر القادة بالتحرك نحو الصالحية. وكنت في فريق المقدمة بينما بقي ساري عسكر خلفنا.
الإثنين ١١ فبراير
لم نتوقف في الصالحية وإنما واصلنا السير حتى القرين وبلبيس. وزعوا علينا جراية اليوم وهي نصف رطل من الخبز ونصف أوقية من زيت الزيتون للفرد. كنت عازمًا على الصيام فاحتفظت بنصيبي حتى يحين موعد الإفطار.
قُرْب قطية تعرضت قافلة إعاشة لهجوم جماعة من العُرْبان استولَوا عليها بعد أن صرعوا ثلاثة رجال.
سرنا نحو العريش التي تبعُد تِسْع ساعات. كانت الرمال حارقة. ولم نلبث أن افتقدنا المياه. وبدأ توزيع القِرَب الباقية بالتساوي؛ فحصل كل نفر على بضع قطرات. وابتلعت نصيبي كاسرًا صيامي. وانقضَّ أحد الجنود على القِربة الأخيرة ليرتويَ قبل غيره.
بعد ساعات بدأ الجنود يتساقطون من الإعياء. ورقدوا بلا حَراك إلى أن ساد الظلام فاستأنفنا الزحف. ولم يلبث الحظ أن واتانا إذ بلغنا خزَّانًا للمياه. وعندما فرغ حفرنا تحته، ونجحنا في استخراج بعض المياه.
أشرفنا على العريش مع شروق الشمس. طالعتنا غابة نخيل قرب البحر. وبدا أن المكان لا يضم غير مجموعة أكواخ عتيقة يحرسها نفر قليل من جند الأتراك. أطلقنا المدافع عليها. ثم تقدَّمنا من البيوت، وهنا انهال علينا وابل من الطلقات.
دخلنا البلدة بعد معارك طاحنة استمرت طول اليوم. ولأول مرة أشهد بشاعة الحرب؛ فقد قتل الفرنساويَّة الأهالي بالسناكي.
لم يكن بالبلدة أقوات فبدأنا نتضور جوعًا. وقتل الجنود الجمال والخيول وأكلوها. أكلت معهم بعد أن كسرت صيامي مرة أخرى.
أفردوا لي مكانًا في خيمة المترجمين. وخفتُ على حماري فربطته إلى فرشي. وكان معي قبطي ومالطي وعراقي واثنان من الشوام. ولم أتمكن من كتابة شيء بسبب انعدام الضوء.
الثلاثاء ١٢ فبراير
كتبت أحداث الأيام الماضية في الصباح. واستدعاني قبطان. قال: اسمي الكابيتان هوية وأنت … وقرأ اسمي من ورقة أمامه.
قلت: نعم.
قال: ستساعدني في إعداد تقاريري. سأريك.
جلست إلى جواره فوق صندوق من الخشب وأراني أوراقه. وجدته يقوم بعمل بيانات عن أسماء القادة وسلاح كل فرقة وعدد قواتها ومدافعها. وتجلت مهمتي في مراجعة أسماء المصريين والشوام ومهنهم.
عند الظهر انضمت إلينا قوات أخرى بقيادة القائد كليبر، وحاصر الفرنساويَّة قلعة العريش، وهي بناء منيع مربع من الحجر تقوم الأبراج المثمنة على جانبيه، وحوله أسوار مرتفعة، وأمامه معسكر كبير من مماليك إبراهيم بك، والعرب، والترك، والمغاربة، والألبانيين الذين أرسلهم الجزار.
الأربعاء ١٣ فبراير
تركت حماري موثوقًا إلى عمود الخيمة. ذهبت إلى خيمة الكابيتان ووجدته أمامها يصرخ في الجنود. تبينت أن جواده اختفى. واعترف الجنود أنهم أكلوه؛ فوبخهم فقالوا إن الجواد كان خبيثًا. عندما عدت إلى خيمتي وجدت حماري قد اختفى هو الآخر. بحثت عنه طول اليوم بلا جدوى.
أثناء عودتي إلى الخيمة لمحت امرأة سوداء تتبادل الضحك مع جندي فرنساوي. شعرت أن هيئتها مألوفة. ولم ألبث أن تعرفت فيها على ساكتة بعينها.
أعتقد أنها عرفتني لكن لم تُبْدِ شيئًا من ذلك، وأحاطت الفرنساوي بذراعها.
الجمعة ١٥ فبراير
شنَّ الفرنساويَّة ليلة أمس هجومًا مباغتًا على جنود المعسكر التركي الذين لا يقاتلون عادة بين الغروب والفجر، فدخلوا المعسكر بعد منتصف الليل دون أن يلحظهم أحد حتى بلغوا قلبه، وقتلوا الرجال النيام بالسناكي.
أضاف هوية ملحقًا عن القتلى والجرحى وأسباب الوفاة. ثلاثة فرنساوية مقابل ٥٠٠ قتيل، و٩٠٠ أسير من الأعداء. استبشعت عدد القتلى، فقال: إن المصريين والعرب متوحشون. وإن الله أرسل بونابرته لمعاقبتهم.
الإثنين ١٨ فبراير
وصل بونابرته أمس وكان معه عدد من القادة بينهم كفاريللي أبو خشبة وبرفقته إبراهيم الصباغ. ووصلت فرقة أخرى اليوم بعد أن عبرت الصحراء، وخلال العبور انتحر عِدَّة جنود بإطلاق النار على رءوسهم. بدأت المفاوضات مع قائد القلعة التركي إبراهيم أغا دون نتيجة.
لم ينضم الصباغ إلى خيمة المترجمين، وإنما بات في خيمة كفاريللي.
الثلاثاء ١٩ فبراير
أمر ساري عسكر بإطلاق ستار كبير من نيران المدافع التي كونت دائرة حول القلعة. أخطأت كثير من القذائف المرمى، وسقطت بين الفرنساويَّة فقتلت ثلاثة رجال. وفي المساء فُتِحَت ثغرة صغيرة في الأسوار، وتسلل رجال الخنادق إلى أحد الأبراج. بلغت خسائر الفرنساويَّة ٣٨٠ رجلًا.
قال لي الصباغ: إن بونابرته لو استولى على عكا سيرتدي عِمامة ويكسو الجنود بالسراويل التركية الفضفاضة. وينصِّب نفسه إمبراطورًا على الشرق. وقال أيضًا إنه تحدَّث عن مشروع إقامة دولة لليهود في فِلَسطين.
الأربعاء ٢٠ فبراير
استؤنف إطلاق المدافع في الصباح، وعند الظهر ذهب رسول إلى القلعة يحمل راية الهدنة ويدعو حاكمها للتسليم. وتم الاتفاق على أن يحتفظ أفراد الحامية بسلاحهم ومتاعهم دون الخيل، ويسيرون في الصحراء إلى بغداد. وكانوا حوالي ٩٠٠ رجل. وبمجرد خروجهم من القلعة أحاط بهم الفرنساويَّة وأجبروهم على الانضمام إلى جيشهم.
ساد الحبور معسكرنا؛ فقد احتوت القلعة على مؤن وفيرة. وخصصت بها غرفة لمُحتضَري الطاعون. وأرسلت الأعلام التركية التي استولى عليها الفرنساويَّة إلى القاهرة لعرضها في الأزهر.
الأحد ٢٤ فبراير
أشرفنا اليوم على غزة. كان مرآها بهجة للعين إذ غطت جنباتها أشجار زيتون هائلة. وتم الاستيلاء عليها دون مقاومة. وجدنا حواصل مشحونة بالذخائر من بقسماط وشعير وكمية من البارود، واثني عشر مدفعًا، وحاصلًا كبيرًا مملوءًا بالخيام الكثيرة وآخر بالبُنبات.
أعمل الجنود النهب والسلب في المدينة. ووُزع على كلِّ فرد ٥٠٠ جرام من البقسماط وقطعة من لحم الخيل.
الخميس ٢٨ فبراير
غادرنا غزة. وسقطت الأمطار بشدة فخضنا حتى الركب في المياه والطين. وفتك البرد بالجمال.
الجمعة أول مارس
دخلنا الرملة فوجدنا أن مسلميها قد هربوا، وبقي مسيحيُّوها ليرحبوا بنا. التجأ جميع النساء إلى ديرين. كُنَّ بيضَ البشرة لكنه بياض تشوبه صفرة، ولا يعبأن كثيرًا بحجب وجوههن.
عثرنا على كميات من المؤن خلَّفها رجال إبراهيم بك.
قال لي الكابيتان: لا شكَّ أن عظام أجدادنا المدفونين في الأراضي المقدسة تشعر بالسعادة لوصولنا إلى هذه البلاد. أدركت أنه يشير إلى حملات الصليبيين.
الأحد ٣ مارس
واصلنا الزحف في الصباح. وصلنا أمام يافا على الساحل عند الظهر. تقع على قمة تل من أشجار البرتقال والليمون واللوز، وفي منتصفه سور تقوم على جناحيه الأبراج.
استدعاني الكابيتان إلى خيمته، وقال: عليك أن تُعلِمني بما تسمعه من أحاديث بين الشوام والمصريين. ماذا يقولون؟
قلت: لا شيء ذو أهمية. يحكون نوادر شهر رمضان وأخبار المعارك.
ذكرت له تعليق الجندي الفَرنسي عن تختين بونابرته وإسلامه؛ فقطَّب حاجبيه. أضفت: يقول الجنود أيضًا عن علماء الفرنساويَّة إنهم حمير والبغال هم أنصاف العلماء. قال: لا شأن لك بالجنرال أو الفرنساويَّة. أريد منك المصريين والشوام.
الخميس ٧ مارس
تمت الاستعدادات للهجوم على المدينة. وبعد أن رفضت الحامية التسليم واحتجزت الرسول، بدأ الهجوم الساعة الثانية بعد الظهر. وأحدث رجال الخنادق ثغرة في سور المدينة، وبعد ساعات سقطت المدينة، واستسلمت حاميتها لكن الجنود أعملوا السيف في حوالي ٢٠٠٠ منهم.
راح الفرنساويَّة يقتلون كالمجانين طَوال المساء والليل كله دون تفرقة بين المسلمين والمسيحيين، والرجال والنساء. وبقيت في المعسكر خوفًا من أن يتعرَّض لي أحد منهم. وفي آخر الليل أيقظني صوت الصباغ يناديني. خرجت إليه، فقال إنه لا يستطيع النوم بعد كل ما شاهده في البلدة، وإن الفرنساويَّة تحوَّلوا إلى وحوش يطعنون الشيوخ والفتيات، ويهتكون أعراض البنات وهن لا يزلن في أحضان أمهاتهن. وإن صرخات الاسترحام تُضاعِف هِياجهم.
الجمعة ٨ مارس
اليوم عيد الفطر، واجتمع المسلمون لصلاة العيد في العراء. أتساءل عما إذا كان يُقدَّر لي أن أرى بولين مرة أخرى؟
عدت بعد الصلاة إلى خيمة الكابيتان، فوجدته قد سجل أعداد قتلى الأمس ﺑ ٤٤١٠ قتيلًا. ولعله لمح شيئًا في وجهي، فقال لي: إنها الحرب يا صغيري.
قُرب الظهر أرسل بونابرته اثنين من ياورانه — أحدهما ابن زوجته، وكلاهما حَدَثان — إلى قلعة يافا. فناداهما الترك من نوافذ القلعة، وصاحوا بأنهم على استعداد للتسليم إذا وُعِدُوا بألا يُعامَلوا كما عومل بقية أهل يافا؛ فوعدهم الشابَّان بأنهم لن يُقتلوا، فخرجوا وسلَّموا سلاحهم.
وحكى لي إبراهيم الصباغ في المساء أن بونابرته عندما رأى ياورانه يعودان مع بضعة آلاف من الأسرى اصفرَّ وجهه، وقال ساخطًا: ماذا سأفعل بهم؟ ثم أمر بإعدامهم.
السبت ٩ مارس
انهمك الفرنساويَّة صباحًا في فصل المغاربة عن بقية الأسرى، وجمعوا الآخرين أمام خيمة نابليون، ومنعوا عنهم الطعام. وقادوا المغاربة إلى شاطئ البحر. وتبِعتُهم من بعيد فرأيتهم يصفُّونهم عند الماء، ثم تقدمت كتيبتان منهم وبدأتا في إطلاق النار عليهم.
جرى البعض في محاولة للفرار فنادى عليهم الفرنساويَّة قائلين إن بونابرته عفا عنهم فعادوا. وفور اقترابهم أطلقوا عليهم النيران. وألقى بعضهم نفسه في الماء وحاول الهرب سباحةً فاصطادهم الجنود على مهل. فاصطبغ ماء البحر بدمائهم وانتشرت جثثهم فوق سطحه.
الأحد ١٠ مارس
صرفني الكابيتان قرب الظهيرة بعد أن سجلنا ما استولَوا عليه من بقسماط (٤٠٠٠٠٠ جراية) والأرز (٢٠٠٠ قنطار)، فذهبت إلى حيث جُمِع بقية الأسرى أمام خيمة ساري عسكر. ونادَوا على المصريين منهم فأوقفوهم جانبًا.
ثم اقتادوا الأسرى الأتراك ناحية البحر. أسرعتُ خلفهم إذ توقعت إعدامهم. صفوهم أمامهم. وحسبت أعدادهم فوجدتهم ١٢٠٠ تركي. وكان بينهم أطفال تشبَّثوا بآبائهم. وأخذ الجميع يُرتِّلون القرآن والشهادة. وبدأ إطلاق النار عليهم. ثم أقبل أحد القادة جريًا وأوقف إطلاق النيران فظننت أنهم عفوا عنهم. لكني سمعته يأمر جنوده بالاقتصاد في استعمال الذخيرة، فأعملوا فيهم الطعن بالسناكي.
ورأيت الأحياء من الأسرى يكوِّمون جثث قتلاهم ليجعلوا منها متاريس في وجه الطاعنين لكن محاولاتهم باءت بالفشل.
عدتُ إلى خيمتي شاعرًا بالغثيان، وأفرغت ما أكلته في الصباح. وفي المساء ذهبت إلى خيمة كفاريللي ووجدت الصباغ جالسًا أمامها. جلست بجواره. سألته عن مصير الأسرى المصريين. قال: إن ساري عسكر طلبهم إليه وعاتبهم على خروجهم من مصر، وأمر بإعطائهم ملابس وإنزالهم في مركب إلى دمياط، وكان من بينهم السيد عمر أفندي نقيب الأشراف، وجماعة من أفندية الروزنامة الفارِّين.
الإثنين ١١ مارس
سجل هوية ٢١ حالة من الحِمْية دخلت مستشفى دير الروم الأرثوذكس. سألته إذا كان الطاعون هو السبب. نفى ذلك مستشهدًا بكلام الأطباء. لكنه أكَّد لي أهمية الاستحمام اليومي والاعتناء بالنظافة. وقال: إن بونابرته زار المستشفى مع ضباط أركان حربه، وتجوَّل في أرجائها، وتكلم مع بعض الجنود المرضى. وفي عنبر مزدحم ساعد على حمل جثة بشعة لجندي اتسخَت سُترته المُمزَّقة من تفجُّرِ دُمَّل مُتقيِّح ضخم. وأضاف: لو كان الطاعون حقيقيًّا لأصيب الجنرال بالعدوى. وسمعته يهمس لنفسه وهو يهزُّ رأسه إعجابًا: كم هو عظيم!
الثلاثاء ١٢ مارس
لاحظت أن المترجم المالطي يتحرك في خمول ويترنَّح. ثم بدأ يهذي وأصابته الحِمْية، واشتكى من صداع عنيف. كشف القميص عن بطنه فظهرت بقع داكنة فوق جلده. ورأيت عقدة منتفخة في رقبته. لمستها بيدي فأطلق صرخة ألم فظيع.
الأربعاء ١٣ مارس
نقلوه إلى المستشفى ورفضوا أن نزوره. وعرفت أن الدمامل ظهرت عليه.
الخميس ١٤ مارس
صدر الأمر بالتحرك. واحتل الفرنساويَّة حيفا بعد أن جلا عنها الجزار.
بحثت عن خيمة كفاريللي، وجدت مدخلها مفتوحًا، ولم يكن أبو خشبة بها، ورأيت الصباغ نائمًا في الركن. ولاحظت أن الخيمة بها فرشة واحدة هي التي ينام عليها. ابتعدت ثم عدت في المساء. ناديت عليه فخرج إليَّ. جلسنا بجوار الخيمة. جمع بعض الأعشاب وأشعل النار. ثم وضع كنكة قرفة فوقها. تحدثنا عن الطاعون، فقال إن كثيرين ماتوا به وبعضهم انتحر. وإن الفرنساويَّة يُخْفون هذه الأخبار حتى لا يتفشَّى الذعر بين الجنود.
كنت أعرف أنه يستمد أخباره من القائد الفرنساوي. قلت له: إني أعتقد أن الله أرسل الطاعون على الفرنساويَّة جزاءً وِفاقًا على ما اقترفوه في يافا. لم يعلق وانشغل في إفراغ القرفة في كوبين.
حوَّلت الحديث إلى المجمع وسألته عن جاستون وطبيعة عَلاقته ببولين. قال: إن جاستون كان يحاول التودُّد إليها لكنها صدَّته. وامتدحها قائلًا: إنها جادة في عملها. ثم قال: إنها أصبحت الخليلة الرسمية لبونابرته بعد طلاقها. وإنه سمع الجنود يذكرونها باسم كليوبترا، وأحيانًا يدعونها مدام جنرال.
قلت: الناس دائمًا تتقوَّل بالباطل على النساء.
الأحد ١٧ مارس
ظهرت بارجتان إنجليزيتان أمام عكا، وقال الصباغ: إنهما استولتا على ستٍّ من ناقلات الأسطول الفرنساوي وصلت من دمياط بمدافع الحصار.
الإثنين ١٨ مارس
اتخذنا مواقعنا أمام عكا. بدت لي حصونها متداعية. لكن جانبًا كبيرًا منها كان يواجه البحر حيث تقف البوارج الإنجليزية. أمَّا ناحية البر فتبرز أسوارها ذات الشرفات في زاوية. وعلى جوانبها أبراج. وبجوار السور بناء مربع هو قلعة الجزار.
انشغل الجنود والمهندسون في إقامة عُدة الحصار، وحفْر الخنادق من المعسكر في اتجاه الأسوار لوقاية المهاجمين من نيران العدو. وكان كفاريللي يوجههم وهو يمشي بساقه الخشبية دون مُعين، ويركب الفرس ويرمحه في يسر.
الثلاثاء ١٩ مارس
لم أنَمْ أمس؛ فقد أصابتني حِمْية شديدة. ورقدت مرعوبًا وأنا أسمع صوت البدو طَوال الليل يقلدِّون صيحة الثعلب. في الصباح ظهر خُرَاج تحت إبطي الأيمن، طلبت طبيبًا فقالوا: إنه أصيب بالمرض. ونصحني الأجزجي بأن أتقيَّأ وأحاول إفراز العَرَق قدر الإمكان وأتدفأ.
الأربعاء ٢٠ مارس
تحسنت اليوم قليلًا.
الخميس ٢١ مارس
صرت قادرًا على الحركة، تمشيت قليلًا بجوار الخيم. ولاحظت أن المعسكر صار مثل السوق يبيع الأهالي في جنباته الأنبذة والتين وكعك القمح والعنب والزُّبْد، كل ذلك بأسعار فاحشة. وكان هناك كثير من النساء البطالات.
وراقبت عددًا من الجنود يزحفون في الخنادق، ويقتربون في حذر من الأسوار والأبراج ليضعوا تحتها الألغام بينما ينهال عليهم المدافعون بالبُنبات.
وقال لي الصباغ: إن كليبر سخِر من الخنادق قائلًا: إنها ربما تناسب الجنرال القصير لكن لا تصل إلى بطنه هو العملاق.
الجمعة ٢٢ مارس
استعدَّ الفرنساويَّة للهجوم. أطلقوا المدافع بشدة على نقطة من السور لإحداث ثغرة. ثم بدأ الهجوم الفعلي فوزَّعوا نصيبًا موفورًا من النبيذ يزيد على التعيين العادي. وانطلقت أول موجة من المهاجمين وهم رماة البُنبات خلال الخنادق. وحاولوا تسلُّق الأنقاض المتساقطة من الثغرة. أمَّا العدو فأطلق كلَّ ما عنده من نيران بنادق وبُنبات وأحجار. وتلقَّوا بالسيوف كل من نفَذ من الثغرة.
سقطت أرواح كثيرة. لكن الفرنساويَّة كرَّروا الهجوم بلا نتيجة. صادفت ساكتة منحنيةً فوق جندي فرنساوي مُلقًى على الأرض، كانت تبكي. ولم أعرف إذا كان الجندي جريحًا أو مصابًا بالطاعون. فضَّلت الابتعاد.
الإثنين ٢٥ مارس
وصلت مركبة بريد من القاهرة. وجلسنا أنا والصباغ إلى أحد سائقيها وهو عجوز مالطي. سألناه عن أحوال القاهرة، فقال: إن تشويش الطاعون ماشٍ في البلد، وإن الفرنساويَّة ألصقوا أوراقًا مبصومة بالأسواق بعمل كرنتيلة عند الشك في إصابة شخص. ويلزم شيخ الحارة أو السوق الذي فيه ذلك أن يخبر حالًا القبطان الفرنساوي حاكم ذلك الخط. ومن يتهاون في ذلك يكون قصاصه الموت. كما حذَّروا من مخالطة النساء المشهورات.
وقال المالطي: إن عددًا كبيرًا من شبَّان المماليك يحيَون في سرية في القاهرة في بيوت المشايخ، ويهددون بالتشويش وإثارة الفتن. وأمر الديوان بأن يحمل كل فرد من الرعية أوراقًا تثبت شخصيته.
الثلاثاء ٢٦ مارس
أراني الصباغ نَص رسالة ترجمها إلى اللغة العربية موجهة إلى الديوان في القاهرة. وتعجَّبنا لما بها من تمويه؛ فقد جاء بها: «ونخبركم أيضًا أن الجنرال يونوت انتصر على أربعة آلاف مقاتل حضروا من الشام خيالة ومشاة، فقابلهم بثلاثمائة عسكري مشاة من عسكرنا (…) وأوقع منهم نحو ستمائة نفْس ما بين مقتول ومجروح، وأخذ منهم خمسة بيارق وهذا أمر عجيب، لم يقع نظيره في الحروب أن ثلاثمائة نفس تهزم نحو أربعة آلاف نفس، فعلمنا أن النصرة من عند الله لا بالقلة ولا بالكثرة.»
الأربعاء ٢٧ مارس
ناداني الصباغ في الصباح، فاستأذنت من هوية وخرجت إليه. قال إنه عثر بين الرسائل التي ترجمها على رسالة وُضعت بطريق الخطأ في الظاهر، وكانت موجَّهة من بونابرته إلى بولين. وقرأ عليَّ ترجمتها: «لا أُمضي ساعة دون أن أفكِّر فيك … ألف قبلة على عينيك، وعلى شفتيك، وعلى لسانك، وعلى الغابة الذهبية الصغيرة …»
لم يعد ثمة شك.
الخميس ٢٨ مارس
بدأ قصف القلعة في الفجر. وبعد ساعتين كان قد سقط أربعون مدفعيًّا فرنساويًّا بين قتيل وجريح بنيران الترك. لكنهم أحدثوا ثغرة عالية فأمر بونابرته بتسلُّقها على السلالم. وأعمل المدافعون فيهم القتل، ثم بدأ الفَرنسيُّون يهربون.
نحَّيت بولين عن فكري تمامًا.
الأحد ٣١ مارس
نجح الفرنساويَّة في وضع لغم تحت البرج الكبير رغم نيران المدافع المنهالة من القلعة.
الإثنين أول أبريل
هجوم آخر فشِلَ، ووقع الفرنساويَّة المهاجمون بين قتيل وجريح.
استمرَّ حفْر الخنادق ووضْع الألغام. وكانت الأمطار قد كفَّت وبدأت رياح الخماسين. وتزايد الطاعون.
شاهدتُ زوجة الجنرال فردييه عِدَّة مرات في صحبة كليبر. هل هي خليلته؟ وتذكرت بولين على الفور. فكَّرت ما إذا كان ابتعادنا عن بعض قد يُشعل عاطفتها نحوي.
الثلاثاء ٩ أبريل
تهشَّمت ذراع كفاريللي من قذيفة مدفع تركي؛ فبتروا الذراع، ثم أصيب بحِمْية شديدة. الصباغ في غاية الانزعاج.
الإثنين ١٥ أبريل
سجل هوية ٤٢١ حالة طاعون، مات منهم ٥٧ وشُفيَ ١٣٧.
الثلاثاء ١٦ أبريل
قرر بونابرته الذَّهاب إلى الجنوب لنجدة كليبر. ذهب الصباغ معه.
الأربعاء ١٧ أبريل
عادوا اليوم في المساء، ووجدوا كفاريللي محمومًا. كما أصيب مونج بالزُّحار وراح يهذي من الحِمْية؛ فأمر بونابرته بنقله إلى خيمته.
ووصف لي الصباغ أحداث الرحلة القصيرة، فقال: إنهم قوبلوا بفرح عظيم من الأهالي المسيحيين في الناصرة. ونجح بونابرته وقواته في إنقاذ كليبر. وغداة الانتصار دقَّت أجراس الكنائس.
وحضر الصباغ مع ساري عسكر والجنود الفرنساويَّة قدَّاسًا في الكنيسة، وقال إنها ربما تكون المرة الأولى للفرنساوية منذ ستة أعوام؛ لأن الثورة أغلقت الكنائس واتبعت دين العقل. بعد القدَّاس حدثت واقعة لطيفة. إذ ذكر رئيس الدير أن قاعة الكنيسة كانت غرفة نوم العذراء، وأنه حين أتى الملاك جبرائيل ليبشِّرها بحظها المجيد لمَس بعَقِبه عمودًا من الرخام الأسود بجوار المذبح فانكسر، وشرع الفرنساويَّة يضحكون لولا أن بونابرته التفتَ إليهم بنظرة صارمة.
وخلال ذلك كان الفرنساويَّة يحرقون قرية ومدينة جنين في إقليم نابلس.
السبت ٢٠ أبريل
وصلت مدفعية حصار جديدة ومعها زنابيل البقسماط والأرز والشعير، وأكثر من ألفي قربة ماء كِبار.
الأربعاء ٢٤ أبريل
بدأ هجوم جديد في التاسعة صباحًا بتفجير لغم تحت البرج الكبير. وهاجم رماة البُنبات الثغرة ببسالة، لكن المدافعين ردوهم وأسقطوا عليهم برميلين من البارود؛ فاختنق جميع الرجال من الانفجار، وجرى البعض وقد أحرقت النار نصفهم.
الخميس ٢٥ أبريل
هجوم جديد لقيَ نفس المصير.
كان بين الجرحى فتى عمره ١٦ سنة يحبه المواطن فافييه المهندس المدني باللجنة العلمية، فذهب إليه في الخندق وحمله على كتفيه عائدًا به، وسبَّل له جفنيه بعد قليل. ثم أصابه ما يشبه الجنون فانفجر في بونابرته، وأصغى إليه هذا في صمت ثم انسحب من أمامه.
الجمعة ٢٦ أبريل
عانى كفاريللي سكرات الموت، ولزِم الصباغ جانبه، ثم نام ومات بالليل. وخرج الصباغ من الخيمة يولول فأخذته جانبًا وجعلت أواسيه. قال لي إنه قبل أن يموت طلب أن يقرأ عليه أحد مقدمة فولتير لكتاب مونتسكييه «روح القوانين». وذكر لي أن كفاريللي كان قد وعده بأن يأخذه معه إلى فرنسا.
انضم الصباغ إلى خيمة المترجمين. وأحضروا له فرشة.
السبت ٢٧ أبريل
رآني الصباغ في الصباح أكتب فسألني عما أفعل. قلت له: إني أدوِّن الأيام.
الأحد ٢٨ أبريل
طلب مني أن يُلقيَ نظرة على ما أكتب، فأعطيته بعض الأوراق. قرأها بإمعان. وعندما غادر الخيمة لففت أوراقي في قطعة قماش وحفرت لها مكانًا في طرَف الخيمة بحيث تكون خارجها بينما أستطيع الوصول إليها من الداخل. وضعتُها وأهَلْتُ عليها الرمال.
الثلاثاء ٣٠ أبريل
وصل جزء من مدفعية الحصار. علمنا من أحد الجمَّالين أن مغربيًّا في دمنهور زعم أنه المهدي وأنه رسول من عند الله، ويمتلك القدرة على استخلاص الذهب من أي شيء، وعلى شلِّ البُنبات التي تُلقى عليه وعلى أنصاره وإبقائها عالقة في الهواء. وقد انضم إليه آلاف الفلاحين، وهاجم حامية دمنهور من خمسة أيام.
وذكر جمَّال آخر أن محمد بك الألفي نجح في الالتفاف حول القاهرة إلى شرق الدلتا.
الأربعاء أول مايو
شنَّ الفرنساويَّة هجومًا فاشلًا اليوم.
الخميس ٢ مايو
سألني الكابيتان عما أكتب كل صباح، وطلب مني أن يطَّلع على أوراقي. ذهبت إلى خيمتي. وعندما أزلت الرمال عن الحفرة لم أجدها. قلبت أركان الخيمة بحثًا وفتَّشت فرشة إبراهيم الصباغ دون جدوى. لم أهتمَّ بفُقدان الأوراق لأن ذاكرتي قوية تحفظ المكتوب، وأستطيع إعادة كتابتها بالحرف. لكني كنت قلقًا بشأن من استولى عليها.
الجمعة ٣ مايو
هجوم جديد بالليل أخفق هو الآخر.
الثلاثاء ٧ مايو
أمس شنُّوا هجومًا فاشلًا. وفي التاسعة من صباح اليوم تمكنوا من إرساء قدمهم فوق البرج. انتابتني شهوة مفاجئة لطبق من الفول المدمس والفلفل الأخضر والخس. لا يساوي أكثر من بارة في القاهرة، لكن أين نحن منه؟
لم يسأل هوية عن أوراقي، فهل حصل عليها؟
الأربعاء ٨ مايو
استؤنف القتال في الصباح على الأسوار وعلى الساحل الذي أنزل فيه الإنجليز بحارتهم. ولما هبط الظلام كان البرج في قبضة الفرنساويَّة، ونفَذ إلى الداخل عدد منهم بينما طوَّق الترك البقية بمساعدة الإنجليز. وكفَّ الفرنساويَّة هجومهم بعد ٢٥ ساعة من القتال المتواصل.
الجمعة ١٠ مايو
هجوم جديد أراد بونابرته أن يتقدَّمه فمنعه قادته. ألقى الرجال أنفسهم في الثغرة كالمجانين فوق جثث زملائهم فهلك نصف الجيش.
في المساء وصلت مركبة البريد، وعلِمنا من قائدها أن الفرنساويَّة شنُّوا هجومًا مهولًا على دمنهور، وأباحوا المدينة للنهب والقتل، ثم خوزقوا ١٥٠٠ من سكانها.
السبت ١١ مايو
أخيرًا اعترف الفرنساويَّة بالهزيمة، وعلِمتُ مِن هوية أن بونابرته قرَّر التقهقر بعد أن هلك ثلث الجيش.
ورأيت بونابرته يخطو ببطء مُطرِقَ الرأس ويداه معقودتان خلف ظهره. وقادته خلفه. شعرت بالشماتة فيه وتمنَّيت أن تصيبه بُنبة.
الإثنين ١٣ مايو
عيد النحر. مرَّ كأنه لم يحدث.
الأربعاء ١٥ مايو
حسب أوامر بونابرته قام هوية بتقسيم جميع المرضى والجرحى البالغ عددهم ٢٣٠٠٠ إلى فئات ثلاث: القادرين على السير، والقادرين على الركوب، والمحمولين فوق نقَّالات. وتقرَّر أن يتجه جميعهم إلى يافا حيث يتم نقل أبلغ المصابين إلى دمياط بالسفن.
الخميس ١٦ مايو
كنت مع هوية في خيمته عندما جاء الخبر بوفاة العجوز فينتور كبير المترجمين. حزِن هوية كثيرًا، وقال: إنها خسارة كبيرة، فقد كان يعرف العربي والتركي والطلياني والرومي. مات بأعراض الطاعون، لكن هوية سجل وفاته بالزُّحار حسب الأوامر. حلَّ محلَّه تلميذه الشاب جوبير.
قال لي الصباغ: إن جنديًّا مصابًا بالطاعون توسَّل إلى زميل له أن يُنهيَ حياته ففَعَل.
الجمعة ١٧ مايو
ترجم الصباغ رسالة موجهة من بونابرته إلى الديوان بالقاهرة. جاء بها: «نخبركم عن سفري من بر الشام إلى مصر، فإني بغاية العجلة بحضوري لطرَفكم. نسافر بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه، ونصل عندكم بعد خمسة عشر يومًا، وجايب معي جملة محابيس بكثرة، وبيارق، ومحقت سراية الجزار وسور عكا، وبالقنبر هدمت البلد، ما أبقيتُ فيها حجرًا على حجر، وجميع سكانها انهزموا من البلد إلى طريق البحر، والجزار مجروح، ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر، وجرحه يبلغ لخطر الموت … وإني بغاية الشوق إلى مشاهدتكم، لأني بشوف أنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم، لكن جملة فلاتية دائرون بالفتنة، لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي، كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس، وفنتور مات من تشويش. هذا الرجل صعب علينا جدًّا والسلام.»
السبت ١٨ مايو
اصطف الجنود حسب الأوامر، وتلا عليهم أحد القادة رسالة من بونابرته جاء فيها: «إنكم عبرتم الصحراء التي تفصِل أفريقيا عن آسيا بسرعة تفوق سرعة أي جيش من العرب. وقضيتم على الجيش الذي كان زاحفًا على مصر … والآن .. وبعد أن هدمنا حصون غزة ويافا وحيفا وعكا سنعود إلى مصر، وأنا مضطر للعودة إليها لأن هذا هو الفصل الذي نتوقع فيه إنزال قوات معادية هناك … إن مزيدًا من الشدائد والأخطار يواجهنا … وستجدون فيها فرصًا جديدة للمجد …»
لاحظت أن الرجال الذين وُجِّه إليهم هذا الكلام يبتسمون في سخرية. كانوا يعرفون أن عكا لم تهدم، وأن الجيش التركي لم يقضِ عليه، وأن الحصار تم رفعه لأنهم هُزموا، وأن نصفهم قُتلوا في سبيل مغامرة فاشلة.
الإثنين ٢٠ مايو
قام العدو بهجوم مضاد دام طول اليوم، وظل الترك يُلقون بأنفسهم في خنادقنا. وبعد هبوط الظلام بدأ الرحيل.
سارت القيادة مسبوقة بجميع البيارق المستولى عليها. وعندما ولَجنا أول قرية نشروها وصدحت الموسيقى. وكنت أنا وبقية المترجمين خلفهم مباشرة على أقدامنا.
كانت وسائل النقل تكاد تكون معدومة. وتعيَّن على الجنود أن يحملوا الجرحى والمرضى الذين قَدَّر هوية عددهم ﺑ ١٢٠٠ واحد. فضلًا عن أربعين قطعة من المدفعية.
وسار بونابرته على الأقدام وترك مركبته لمونج وبرتولليه وكوستا الناقهين، وأخذوا معهم رجلَين مصابَين بالطاعون، وزوجة جندي تُرضِع طفلًا. ولم يُصب أحد بالعدوى.
بلغنا حيفا في منتصف الليل. وأشرفنا على نحو مائة مريض وجريح وسط ميدان فسيح. وملأ المساكين الجو بصراخهم. وكان بعضهم يمزقون أربطتهم ويتمرغون في التراب. جمدنا لهذا المنظر فتوقَّفنا وعُيِّن لكل كتيبة رجال لحمل الجرحى والمرضى بين أذرعتهم إلى طنطورة، ثم استأنفنا السير.
في طنطورة وجدنا على الساحل ٧٠٠ من الجرحى ومرضى الطاعون، ولم تكن هناك سفينة واحدة لنقلهم. وتطلَّب الأمر دفن مزيد من المدافع والذخيرة وإحراقها لتوفير الخيل لنقل الجرحى والمرضى. وفي أثناء القيام بهذه المهمة انفجر صندوق ذخيرة فقتل وشوَّه عددًا من الواقفين. رأيت رجالًا مبتوري الأطراف يلقيهم حاملوهم فوق النقَّالات. ورأيت مجروحين ومرضى بالطاعون يتركون في الحقول.
وكان يضيء لنا الطريق في سيرنا المشاعل التي يحرق بها الفرنساويَّة القرى والدساكر والمحاصيل الغنية. وعلى الجانبين رقد الموتى. وسمعت أحدهم يصرخ: إنني جريح فقط ولست مصابًا بالطاعون. لكن أحدًا لم يصدِّقه.
الجمعة ٢٤ مايو
وصلنا يافا عند العصر.
ذاع أن بونابرته رفض عرضًا من الإنجليز بنقل الجنود إلى الإسكندرية. وتفشَّى الغضب بين الجنود. وسمعت أحدهم يتساءل ساخرًا عن الفدادين الستة التي وعدهم بها بونابرته في طولون.
الثلاثاء ٢٨ مايو
أنهى الفرنساويَّة احتلالهم ليافا بألعاب نارية، ثم استأنفوا زحفهم. وكنت أسير إلى جوار الصباغ، قال لي إن بونابرته بعث برسالة إلى حكومته في باريس تحدَّث فيها عن انتصاراته، وكيف أن الطاعون اجتاح عكا، ولو دخل جنوده قلعتها لَجلبوا معهم إلى المعسكر جراثيم المرض الخبيث. ولهذا قرر الانسحاب.
وتلفَّت حوله ثم قال لي بصوت خافت: إنه أمَر بتسميم من بقيَ في مستشفى يافا من مرضى الطاعون، وكانوا زهاء الخمسين مريضًا. ورفض الدكتور ديجنيت تنفيذ الأمر؛ فحصل بونابرته على المخدِّر من الطبيب التركي الحاج مصطفى، وقام رواييه كبير الأجزجية بإعطائه للمرضى.
الأربعاء ٢٩ مايو
سقط على الطريق موتى من الإعياء أو الجراح الخفيفة. ورأيت جنديًّا ينحني على جسد أحدهم ويقطع حزام نقوده. وتوسَّل إليه المريض أن يترك له الفرنكات الاثني عشر التي في حزامه، فربما أعطاها لأعرابي ينقذ حياته. لكن الجندي حمَل الزُّنَّار ومضى.
الخميس ٣٠ مايو
وصل الجيش إلى غزة أمس. وفي الصباح واصلنا الزحف.
السبت أول يونيو
بلغنا العريش بعد مسيرة يومين متتاليَين في الصحراء من الشروق إلى الغروب.
انهمك هوية في تَعداد الباقين من رجال الجيش. لا أظنهم سيزيدون على نصف العدد الأصلي.
مساء الإثنين ٣ يونيو
بعد مسيرة تسع ساعات دخلنا القطية التي بدأ منها الزحف على الشام. ابتهج الجنود ما عدا البعض.
في الصالحية أصدر بونابرته أوامرَ مُشدَّدة ضد المهيجين في الجيش، وطلب من قائد كل كتيبة أن يُعِدَّ قائمة بأسمائهم فإذا ثبت على المهيج أنه مذنب أُعدِم بالرَّصاص دون محاكمة.
كما أمر بترك بعض المرضى في البلدة.
الأربعاء ٥ يونيو
توقَّف السَّيْر فترة قصيرة قبل الغروب، فلمَّا أمرهم كليبر بالمواصلة لم يُبدوا حَراكًا. فكرَّر الأمر لكنَّ أحدًا لم يتحرَّك. وانهال سيل من الشتائم على رءوس القادة.
أسرع ياور صوب العصاة فوجَّهوا إليه سناكيهم، وعاد الياور جريًا إلى كليبر. فقال القائد: اتركهم وشأنهم. دعهم يُنفِّسون عن غيظهم، لنمضِ وسيتبعوننا، وهذا ما حدث.
رأيت جماعة تنفصل عن الرَّكْب وتمضي ببعض المرضى فوق الجمال إلى جهة غير معلومة.
السبت ١٥ يونيو
هبَّت علينا عاصفة ترابية شديدة وعانينا حرًّا هائلًا. وصلنا القاهرة في حالة مُزْرية. كان الجرحى والمرضى والجنود بدون ملابس ودون مهمَّات، ويعانون من الزُّحار والطاعون.
وصلنا العادلية. وترك الجيش عددًا كبيرًا من المرضى والجرحى بها. ثم واصلنا السير. وأخذت بولين تُلحُّ على فكري.
دخلنا المدينة من باب النصر، ومضينا في طريق مفروش بسَعَف النخل. وحمل كل جندي سَعَفة مُثبَّتة في قبعته. ونصب بونابرته قامته فوق جواده واضعًا يده في خاصرته. وصحِبنا أعضاء الديوان والحامية الفرنساويَّة إلى ميدان الأزبكيَّة على أنغام الموسيقى. وحضر الحكام والقلقات بمواكب وطبول وزمور ونوبات تركية وطبول شامية، ونشرت الغنائم من بيارق العدو واكتظَّت الشوارع بجموع كثيرة. كنت أسير إلى جوار هوية، فقال لي بمرارة: إن الأهالي توَّاقون لمعرفة عدد من بقيَ منَّا على قيد الحياة.
بلغنا الأزبكيَّة في نحو خمس ساعات من النهار.
اتجهت مباشرة إلى البيت فاستقبلني جعفر وبقية الخدم في حرارة. ولم أجد الشيخ الجبرتي الذي كان من جملة مستقبلي بونابرته. ذهبت إلى الحمَّام العمومي ثم أكلت. وكانوا قد أعدُّوا طبيخًا ولحمًا، بامية وباذنجان ثم بطيخ. وعرفت أن سعره بلغ خمس بارات للبطيخة بعد أن كانت بثلاث. وعاد أستاذي بعد قليل. فرحَّب بي ودمَعت عيناه. ثم اتخذنا أماكننا في مجلس العقد. وانضم إلينا خليل عند عودته من وكالة بولاق.
رويت له كلَّ ما صدف لي من وقائع. وكان قد أخرج ريشته ومحبرته وأوراقه. ولاحظت أنه لم يدوِّن إلا القليل مما رويته له. وبدا لي مهمومًا بدرجة على غير العادة وهو ينشُّ الذباب بمِذبَّة من ذيل الجياد.
عندما انفردت بنفسي في غرفتي تأكَّدت من وجود أوراقي في قاع الصندوق.
الأحد ١٦ يونيو
نمت لأول مرَّة أمس نومًا عميقًا مطمئنًّا وأنا لا أصدق بعودتي سالمًا. واستيقظت قرب الظهر. لم يخرج أستاذي إلى درسه بالجامع الأزهر وقضينا العصر في الحديث. وأراني ورقة طبعها الفرنساويَّة أثناء وجودنا في الشام وضحكنا سويًّا على عبارة بها تقول: «إننا نُلِزم الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا الأدب والإنصاف، ويتركوا الكذب والخراف؛ فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس المعتبرين.»
وقال: إن محمد بك الألفي مرَّ من خلف الجبل، وذهب إلى عرب الجزيرة ومعه من جماعته نحو المائة، والتفَّ عليه الكثير من الغُزِّ والمماليك المشرَّدين بتلك النواحي، وقدم له العُرْبان التقادم والكلف، فأرسل له الفرنسيس عِدَّة مِن العسكر.
كما وقع مراد بك مع الفرنساويَّة في الصعيد، وقتل مقدار ثلاثمائة فرنساوي.
انضم إلينا خليل متسائلًا عن حقيقة الخبر باعتناق القائد منو للإسلام، وهل فعل هذا عن إيمان أو ليتزوج من ابنة صاحب حمَّام في رشيد؟ قال أستاذي: إنه يمارس شعائر دينه الجديد بتدقيق. قال خليل: لا بُدَّ أنها شابة مغرية ولعبت بعقل رجل في سن كبيرة. قال أستاذي: إنه يعتقد أن الأمر من حسن السياسة.
وأَذِنَ لي أستاذي في الاطلاع على أوراقه لأعرف ما فاتني من وقائع. وقرأت ما كتبه في ٤ يونيو مع انتهاء العام الهجري عما فاته من وقائع في حينها، وهو ما يفعله في نهاية كل عام. ووجدته قد سجَّل حادثة محمد كُرَيم بعد وقوعها بتسعة أشهر قائلًا: ومات الوجيه الأمثل السيد محمد كُرَيم مقتولًا بيد الفَرنسيين.
قرأت أيضًا أن شيوخ الأزهر طلعوا بفتوى أن الختان نافلة وليس ضرورة لمن يعتنق الإسلام، أمَّا الخمر فإن المسلم قد يشربها لكنه لن يستمتع بمباهج الجنة، وبوُسْع الفَرنسيين أن يشربوا ويدخلوا الجنة على أن يتصدَّقوا بخُمس دخلهم.
بمجرد عودتي إلى غرفتي انهمكت في تسجيل وقائع أيام غزوة الشام.
الإثنين ١٧ يونيو
قادتني قدماي إلى الأزبكيَّة. ووجدت أنه قد تجمَّع بميدانها الجاف أرباب الملاهي والبهلويون وطوائف الملاعبين والحواة والقرَّادين والنساء الراقصات والخلابيص، ونصبوا أراجيح مثل أيام الأعياد والمواسم. وعندما أقبل الليل عمِلوا شنكًا وحراقات ومدافع وصواريخ.
وقفت برهة أتفرَّج على عرض الثعابين، وكيف ترقص على حركات الناي فترفع رءوسها وصدورها.
وكان بيت بولين غارقًا في الظلام بينما كان قَصْر بونابرته شعلة من الأضواء. وعندما عدت إلى البيت وجدت عبد الظاهر في انتظاري، فخرجنا من جديد وذهبنا إلى بيت حنا.
عرَفنا منه أن الشيخ البكري أهدى لبونابرته حصانًا عربيًّا أسود مُسرَجًا بالذهب والأحجار الكريمة واللؤلؤ، ومعه مملوك لرعاية الحصان يُدعَى رستم. وقال إن الهدية ثمينة لأن البكري كان مشغوفًا برستم شغفًا غير طبيعي. كما أهداه المعلم جرجس الجوهري المتحكم على المكوس جملين تكسوهما الكساوي الثمينة.
سألته عن زينب فهزَّ رأسه في أسف، وقال: إنه لم يعُدْ يُفكِّر فيها.
٦
الثلاثاء ١٨ يونيو
استقبلني جاستون على غير العادة بالتَّرحاب. وأمطرني بالأسئلة عن الغزوة وما جرى فيها، وعندما حدثته عن ضحايا الطاعون والجرحى والقتلى أظهر عدم التصديق. سألني عن الجزار وهل صحيح أننا قتلناه ودمَّرنا قلعته فذكرت له الحقيقة. تغيَّر وجهه. وعندما حدثته مستنكرًا عن إعطاء الأفيون للجرحى والمطعونين في يافا، قال: أكان يجب تركهم حتى يذبحهم العرب والترك؟
سألته عن بولين فقال في جفاء: إنها جاءت عِدَّة أيام ثم انقطعت عن المجيء، وإنها في الغالب لا تغادر بيتها خوفًا من الطاعون.
انضم إلينا الصباغ واستفسر من جاستون عن صحة إسلام القائد منو وزواجه. فأكَّد له صحته. وقال: إن زوجته قريبة لشهبندر التجار المحروقي، وإن شقيقها علي يتباهى بالجوكار الفَرنسي فأسماه العامة الأفيسيال علي.
سأل الصباغ: هل ختنوه؟
ضحك جاستون وقال: حصل على إعفاء من الختان.
الأربعاء ١٩ يونيو
أشار جاستون إلى المشاق التي يعانيها القائد ديزه في الصعيد وهو يقاتل مراد بك. وكيف أن الرمد انتشر بين رجاله.
ذهبت إلى ورشة كونتيه العجيبة، وحصلت منه على قلم رَصاص جديد.
عندما عدت سألني جاستون عما إذا كنت أعرف شيئًا عن تفريخ الكتاكيت. أجبت بالنفي. قال إنه سمع عن بساطة العملية ومكاسبها الوفيرة.
الخميس ٢٠ يونيو
قال جاستون إنه زار بالأمس معملًا لتفريخ البيض في جهة ستي زينب. وقال: ليس هناك أبسط من تصميم بناء هذه المعامل إذ يتكون الواحد من عدد من الخلايا الصغيرة موزَّعة على طابَقين بينهما لوح خشبي يكسوه الآجر. ويخصص الطابَق السفلي لوضع البيض بينما توضع النار فوق أرض الطابَق العلوي. وعند مدخل المعمل مقرٌّ لسُكْنى العامل الرئيسي ومساعده اللذين يظلان طول الوقت في المعمل مدة الوقت الذي تستغرقه عملية التفريخ. وتستخدم حجرة أخرى لإشعال الوقود من أقراص الجلة من بعير الجمال والقش المهروس. وهناك حجرة ثالثة مخصَّصة لاستقبال الكتاكيت بعد إفراخها بعدة ساعات.
تمالكت نفسي من الضحك وانصرفت إلى عملي.
الجمعة ٢١ يونيو
عاد جاستون اليوم إلى حديث الكتاكيت. قال: إن العملية كلها لا تستغرق وقتًا طويلًا. تبدأ في شهر مارس وتستمر لمدة شهرين فقط أو حتى اكتمال ثلاث حضنات تشمل كل واحدة من ثلاث آلاف إلى أربع آلاف بيضة. ويدخل العامل المختص الحجرات السفلية مرتين أو ثلاثًا لتقليب البيض وتغيير أماكنه، وإبعاده عن المناطق الأشد حرارة وهذا هو عمله الرئيسي. وهنا المعجزة؛ فالمصريون لا يعرفون الترمومتر، ويحتاج البيض إلى درجة حرارة ثابتة هي ٢٣ حسب الترمومتر؛ لهذا يعتمدون على حساسية خاصة توارثوها من الكهنة في مصر القديمة.
كنت مدهوشًا من هذه المعلومات، وسألته: لكن كيف يحصل المعمل على البيض؟
ابتسم فخورًا بمعرفته: ما إن يفتح معمل حتى يحمل إليه سكان المناطق المجاورة كل ما لديهم من بيض، ويسجلون أسماءهم وبعد انتهاء عملية التفريخ يُردُّ إليهم خمسون كتكوتًا مقابل كل مائة بيضة قدَّموها. وتباع مائة كتكوت حديثة التفريخ ﺑ ٨٠ بارة في المتوسط؛ أي أدنى قليلًا من ثلاثة فرنكات فَرنسية. المكسب ضخم.
– أليس لديكم في فرنسا مثل هذه المعامل؟
قال: للأسف لا، فقد فشِلَت المحاولات في هذا المجال. أنا أفكِّر في إنشاء معمل هنا في مصر.
السبت ٢٢ يونيو
وفَد على المكتبة فرنساوي نحيل مهوش الشعر. وقدَّمه جاستون إلينا باسم بارسيفال وصناعته كتابة الشعر. وقال: إن بونابرته غاضب منه لأنه رفض تولِّي رئاسة صحيفة لي كورييه.
علَّق الشاب قائلًا: السبب الحقيقي لغضبه أني لم أكتب قصيدة واحدة للثناء عليه. حاولت ولكني لم أتمكن.
قال جاستون مداعبًا: هل هجَرك شيطان الشعر؟
قال: أبدًا. بل إني أكتب الآن ملحمة أُشيد فيها باستيلاء قلب الأسد على عكا.
قال الصباغ: سيتضاعف غضبه منك، فمعنى ذلك أنك تعرِّض بفشله في الاستيلاء عليها.
هزَّ بارسيفال كتفه في غير مبالاة.
تحدثا عن الزجاج المصري، ونصحه جاستون بشراء الكريستال النمساوي من الموسكي. ثم انتقل الحديث إلى الحريم والجواري. وقال جاستون: المرأة عندنا سافرة وتدير شئونها بنفسها. فقال بارسيفال: أنت نسيت أنه منذ سنوات قليلة كانت تلبس حزام العفة، وكان للإقطاعي حق الليلة الأولى لمن تتزوج من فتيات أرضه، وهو حق كرَّسته الكنيسة.
الإثنين ٢٤ يونيو
كتب أعضاء الديوان الخصوصي أوراقًا وطبعوها وألصقوها بالأسواق. وأراني أستاذي نسخة منها فنقلت بعض أسطرها في أوراقي: «وقد حضر إلى محروسة مصر المحمية، أمير الجيوش الفرنساويَّة، حضرة بونابرته محب الملة المحمدية … لأجل أنه وعدنا برجوعه إلينا بعد أربعة أشهر، والوعد عند الحر دَين … وأخبر أهل الديوان من خاصٍّ وعامٍّ أنه يحب دين الإسلام، ويعظم النبي عليه الصلاة والسلام، ويحترم القرآن، ويقرأ منه كل يوم بإتقان … وعرفنا أن مراده أن يبنيَ لنا مسجدًا عظيمًا بمصر لا نظير له في الأقطار، وأنه يدخل في دين النبي المختار عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.»
الأربعاء ٢٦ يونيو
زارتنا بولين فجأة اليوم. كانت ترتدي ثوبًا جديدًا ملوَّنًا من قماش خفيف ناعم كشف مساحة عريضة من صدرها. واختفى شعرها أسفل قَلَنْسوة.
شعرتُ باضطراب شديد. تشاغلتُ بعملي بينما جلسَت هي إلى منضدتها بجواري.
رحب بها جاستون وسألها عما إذا كانت ستعود إلى العمل معنا.
هزَّت رأسها نفيًا، وقالت: كنت في نزهة بالروضة وأردت أن أهنِّئ أبطالنا بالعودة سالمين.
نظرت إليَّ وهي تقول ذلك، فاستجمعتُ مداركي وقلت لها: نحن لم نرفع سلاحًا.
قالت: شاركتم في المعركة على أي حال.
غيرَّت الموضوع وسألَت: هل سمعتم عن زواج منو؟
أجبنا بالإيجاب. وقال جاستون: لا بدَّ أنها شابة مغرية لعبت بعقل الكهل.
قالت بولين: بالعكس. كان عندنا من يومين وعرفنا أنه لم يرها قطُّ قبل العُرْس. ثم تبيَّن أنها لم تكن على ما زُيِّن له من شباب وجمال وثراء.
ساد الصمت بيننا وفكرت في عبارة «كان عندنا من يومين.» وقامت فدارت بخزائن الكتب وانتقت اعترافات جان جاك روسو وكتابَين آخرَين. وطلبت من جاستون أن يسجِّل ما أخذته عنده ووعدت بإعادته في القريب. وعندما همَّت بالانصراف ودون أن أتمكن من لجم لساني سألتها عن البيانو وهل تعزف عليه.
نظرت إليَّ في عيني وقالت: قليلًا.
ورافقها جاستون حتى الخارج.
الإثنين ٨ يوليو
حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف سابقًا من دمياط إلى مصر، وتوجَّه مع الشيخ المهدي لمقابلة ساري عسكر فبَشَّ له ووعده بخير، وردَّ إليه بعض تعلقاته. ثم ذهب إلى داره، والناس تغدو وتروح إليه على العادة.
الخميس ١١ يوليو
بقيت في المجمع حتى الغروب لأستمع إلى المصور دينون الذي عاد من الصعيد. رأيت أمامي كهلًا نشيطًا ذا شخصية آسرة. وكان يحمل معه مجموعة من الأوراق الكبيرة الملفوفة مثل الخرائط.
جلست بالقرب منه وفي يدي ورقة وقلم رَصاص لأسجل حديثه. قال إنه تطوَّع منذ تسعة أشهر في جيش القائد ديزه الذاهب إلى الصعيد. وأسماه الأهالي بجيش المعلم يعقوب لأن ديزه أخذ معه كبير الأقباط ليسلك له الأمور ويعرِّفه على المخبوءات. وقال إنه كان يسكن أغلب الوقت مع الجنرال بليار وكان ذلك أشقَّ ما في المغامرة.
تصاعدت الضحكات. مضى يقول: وبالرغم من ذلك لم يفتر حماسي. كنت قد حصلت على ورق وأقلام رَصاص من عند صديقنا كونتيه، فأخذت أرسُم الناس والمعابد وكل شيء. وعندما تنفد أقلام الرَّصاص كنا نصهر رَصاص البنادق ونصنع منه الأقلام. وقبل أن أصل جرجا أصابني الرمد والتصقت جفون عيني. ومع ذلك واصلت الرسم.
توقف ليرتشف من كوب ماء، ثم قال: هكذا وجدت نفسي ذات صباح واقفًا مروعًا أمام معابد طيبة. ولم يكن هذا شعوري وحدي؛ فقد وقف الجنود في طوابيرهم وأدَّوا التحية العسكرية على قرْع الطبول وعزْف الموسيقى كما لو كان احتلال آثار هذه العاصمة هو الهدف من فتح مصر. رسمت كل شيء وأظن أني أول من يفعل هذا في العصر الحديث.
تناول بعض اللفائف ثم تطلَّع حوله. وأشار لي أن أساعده. فتقدَّمت منه وساعدته في بسط إحداها، وأمسك هو بطرَف وأنا بالطرَف الآخر.
استأنف الحديث: هذه صورة معبد دندرة. ما رأيته فيه أذهلني وقلت لنفسي: لا يهم الآن ما يحدث لي فيكفيني ما رأيته.
سعل ثم استطرد: كانت مشاعري متناقضة. فعندما رأيت الأهرامات لأول مرة شعرت بالخوف، وتساءلت عن نظام الحكم الاستبدادي الذي أنتجها، والشعب الراضخ الذي بناها. في وادي الملوك ودندرة داهمني شيء آخر. اكتشفت أن المصريين لم يستعيروا شيئًا من غيرهم ولم يضيفوا زخرفًا واحدًا دخيلًا. ولا حشوًا واحدًا. فأبنية المعابد تتسم ببساطة ونظام آسرَين سموا بهما إلى الذروة.
أغلق لِفافة الرسم وفتح واحدة أخرى لجزيرة وسط النيل.
قال: احتلال أسوان بدأ نزهة. ولم يمضِ علينا بها يومان حتى انتشرت دكاكين الخيَّاطين والحَذَّائين والحلَّاقين الفَرنسيين والمطاعم. وزرت مع بليار جزيرة الفنتين. وعندما أردنا أن نتقدم إلى جزيرة فيلة تجمَّع أهاليها وعلت صيحاتهم وراحت النسوة تولول. عندئذ اقتحم بليار الجزيرة بالقوة ورأيت النساء يغرقن الأطفال الذين لا يستطيعون حملهم، ويشوهن بناتهن حمايةً لهن من الاغتصاب. ورأيت فتاة في السابعة في حالة تشنُّج، واكتشفنا أنها خيطت بطريقة منعتها من التبول.
تحركت بعض المقاعد وشعرت أن البعض لم يكن مرتاحًا لهذا الحديث. وأدرك هو ذلك فغيَّر كلامه.
قال: عشية رأس السنة وصلت القافلة السنوية من الجنوب. ألفان من الجمال تحمل سِنَّ الفيل وتبرَ الذهب والتمرَ الهنديَّ والعبيدَ الزنوج. هل تعرفون كم سعر العبد الأسود؟ بندقية إذا كان امرأة واثنتين إذا كان رجلًا. كانت فرصة لأعرف هل توجد حقًّا مدينة تُسمى تمبكتو! لكن من سألتهم لزموا الصمت. وعلى كلٍّ فقد خرجتُ من هذه التجربة بأن هناك سوقًا هائلة لبضائعنا في أفريقيا.
انتهى حديثه فسأله أحد الجالسين عن الغنائم، وكيفية توزيعها. قال: عندما هاجمنا القافلة القادمة من دارفور استولينا على ٨٩٧ جملًا. وتم توزيع الغنائم على أساس ١٢ نصيبًا لقائد الهجوم، و٦ أنصبة لمساعده، ونصيب لكل ضابط صفٍّ وخيَّال. وبعض الجنود حصلوا على ما قيمته ١٥ ألفًا أو ٢٠ ألف فرنك ذهبي.
عندما همَّ بالانصراف سألته إذا كان يمكنني أن أشاهد بقية رسوماته؛ فرحَّب ودعاني لزيارته في بيت المصورين.
الإثنين ١٥ يوليو
تناقل الناس إشاعة عجيبة أكدَّ لي أستاذي صحتها، وهي أن مراد بك وزوجته نفيسة تبادلا الإشارات بالمشاعل من قمة الهرم وسطح قصرها بالقاهرة. معنى هذا أنه صار قريبًا منا.
الثلاثاء ١٦ يوليو
وصلت لبعض الناس أخبار ومكاتيب من الإسكندرية بأنه وردت مراكب فيها عسكر عثمانية إلى أبي قير.
الأربعاء ١٧ يوليو
ذهبت إلى دينون في مرسمه. أراني رسومات بقلم الرصاص للناس والمعابد. يعرف كثيرًا من التاريخ القديم. عندما عدت إلى بيت أستاذي صعِدت إلى مجلس العقد، وبحثت عن كتاب «تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين» للشيخ عبد الله الشرقاوي، وكنت قد قرأته مع أستاذي. قلبت الصفحات الأولى منه وقرأت أن أعمار الفراعنة كانت تمتدُّ مئات السنين، وأن أقصرهم عمرًا عاش مائتَي سنة وأطولهم عمرًا عاش ستمائة سنة. وأن فرعون موسى كان قصيرًا، طوله عِدَّة أشبار، وطول لحيته سبعة. وقيل كان طوله ذراعًا واحدة، وإن هذا الفرعون عاش على عرش مصر خمسة قرون.
السبت ٢٠ يوليو
قال لي جاستون إن أعضاءَ المجمع استمعوا إلى خطاب من المواطن لانكريه يعلن فيه اكتشافَ نقوشٍ في رشيد محفورةٍ بإزميل في كتلة ضخمة من البازلت، مكتوبةٍ بالحروف اليونانية والهيروغليفية وخطٍّ ثالث مجهول. وكان جاستون منفعلًا كما لو كانوا قد اكتشفوا حاصلًا من الذهب. ولم أفهم السبب.
الأحد ٢١ يوليو
شاع أن الترك ضربوا قلعة أبي قير، وقاتلوا من بها من الفرنساويَّة وملكوها. وكثر اللغط بين الناس، وأظهروا البِشر، وتجاهروا بلعن النصارى.
وأرسلني أستاذي في المساء إلى كوم الشيخ سلامة للتحقق مما وقع بهذه المنطقة المجاورة للأزبكية. ذهبت إلى حنا في حارة النصارى وانتقلنا إلى مكان الواقعة. وعلمنا من السكان أن بعض المسلمين بحارة البرابرة تشاجروا مع بعض نصارى الشوام، فقال المسلم للنصراني: «إن شاء الله تعالى بعد أربعة أيام نُشتفَى منكم.» فذهب ذلك النصراني إلى الفرنسيس مع عصبة من جنسه وأخبروهم بالقصة. وكان أن جمع الحكام مشايخ الأخطاط والحارات وحبسوهم.
طَوال الوقت كان حنا صامتًا مهمومًا. وسألني في قلق قبل أن نفترق: هل تظن أن الترك يعودون؟ وأجبت بأني لا أعرف.
الإثنين ٢٢ يوليو
أراني أستاذي مكاتبة من بونابرته إلى محفل الديوان بشأن سفره للمحاربة مع العسكر التركي في أبي قير. وجاء بها أن سفن الترك تضمُّ عددًا كبيرًا من أهل موسكو «الذين كراهتهم ظاهرة لكل من كان يوحِّد الله، وعداوتهم واضحة لمن كان يعبد الله ويؤمن برسول الله، فهم يكرهون الإسلام، ولا يحترمون القرآن، وهم نظرًا لكفرهم في معتقدهم يجعلون الآلهة ثلاثة، وأن الله ثالث تلك الثلاثة، تعالى الله عن الشركاء، ولكن عن قريب يظهر لهم أن الثلاثة لا تعطي القوة، وأن كثرة الآلهة لا تنفع، بل إنه باطل، لأن الله تعالى هو الواحد الذي يعطي النصرة لمن يوحِّده هو الرحمن الرحيم … وقد سبق في علمه القديم وقضائه العظيم أنه أعطاني هذا الإقليم، وقدر وحكم بحضوري عندكم إلى مصر، لأجل تغييري الأمور الفاسدة وأنواع الظلم، وتبديل ذلك بالعدل والراحة.»
الثلاثاء ٢٣ يوليو
عند عودتي من المجمع سمعت من بوَّاب وكالة إينال النوبي أن المسلمين وعسكر العثمانيين ومن معهم ملكوا الإسكندرية في ثالث ساعة من يوم السبت. أبلغت أستاذي فأمرني بالتحقُّق من المصدر.
عدت إلى الوكالة فعرفت أن هناك مكتوبًا بذلك وصل إلى تاجر منسوجات في سوق الوراقين. ذهبت إليه فنفى ذلك وقال إنه سمع أن مكتوبًا وصل إلى تاجر في سوق العطارين قرب خان الخليلي. ذهبت إليه هو الآخر وقال نفس الكلام. طفت ذلك المساء بعدد من التجار دون أن أتحقَّق من وصول المكتوب.
عند عودتي وجدت أستاذي قد صعِد إلى المقعد الذي يُطلُّ على الفناء من فوق سطح البيت التماسًا لنسمة من الهواء. ذكرت له حصيلة تَجوالي، فقال: إن الأمر نكتة لا أصل لها ولا صحة. ثم أضاف: سبحان الله علام الغيوب.
الأربعاء ٢٤ يوليو
أُشيع ليلة أمس أن الفرنساويَّة تحاربوا مع العساكر الواردين على أبي قير، وظهروا عليهم وقتلوا الكثير منهم، ونهبوهم وملكوا منهم القلعة، وأخذوا مصطفى باشا أسيرًا، وكذلك عثمان خجا وغيرهما.
تأكَّد الخبر في الصباح عندما ضربوا مدافع كثيرة من قلعة الجبل وباقي القلاع المحيطة، وبعد الغروب عمِلوا حراقة بالأزبكيَّة من نفوط وبارود وصواريخ تصعد في الهواء. ومررت من أمام بيت بولين فوجدته مظلمًا. فهل ذهبت مع ساري عسكر إلى الإسكندرية؟
الخميس ٢٥ يوليو
شاع أن الفرنساويَّة جعلوا المعلم يعقوب ساري عسكر القِبْط وأنه جمع شبَّان القِبْط، وجلب بعضهم من أقصى الصعيد وصيَّرهم عسكره وعزوته، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسوَّرها بسور عظيم.
الجمعة ٢٦ يوليو
سألني دينون عن غزوة الشام، فحكيت له ما مرَّ بي من أحداث. لم يصدِّق ما حدث في يافا فحلفت له بالله العظيم. سهَمَ كثيرًا ثم قال: نحن الذين تفاخرنا بأننا أكثر عدلًا من المماليك ارتكبنا كثيرًا من المظالم. هل تعرف أني شاركت في قمع ثورة القاهرة؟ كنت أومن بأننا سنعيد الحضارة إلى هذا البلد وتعوضنا كمستعمرة جديدة عما تكبَّدناه من خسائر على يد الإنجليز في العالم الجديد. لكننا لم نفعل شيئًا حتى الآن سوى سفك الدماء وجمع الضرائب. هل تعرف مَن هم الضحايا الحقيقيون؟ الفلاحون. في أسيوط وضعهم مراد بك حاجزًا بينه وبيننا ثم انطلق هاربًا في الصَّحْراء، بينما ذبحنا نحو ألف منهم. وفي بني سويف قتلنا ألفين من الفلاحين المسلحين. وطلب المماليك ضرائب من الفلاحين كما فعلنا نحن أيضًا. وكان ديزه مضطرًّا للاستيلاء على الماشية والجمال والخيل ليلحق بمراد.
أخذ يعبث بقلم رَصاص وكانت أصابعه مستقيمة ورشيقة: أتينا إلى مصر لنحقق الرفاهية لأهلها. فإذا نحن نستعمل سقوف بيوتهم وأدواتهم ومحاريثهم وقودًا للطهي. قدورهم تُكسر، وقمحهم يؤكل، ودجاجهم وحمامهم يُشوى. ثم أكرهناهم على دفْع الضريبة مضاعَفة، فإذا أذعنوا للتهديد وجاءوا ليدفعوا كان رجالنا يخطئونهم أحيانًا بسبب كثرة عددهم وما يحملون من عصي فيحسبونهم جماعة من الرجال المسلَّحين ويُطلقون عليهم النار.
ابتسم في حزن: صحيح أنهم لو ظلوا في قريتهم ودفعوا الميري لَوفَّروا على أنفسهم مشقة الرحلة إلى الصَّحْراء، وتمتَّعوا بمشاهدة طعامهم يؤكل بطريقة منظَّمة، وتلقَّوا نصيبًا منه واحتفظوا بأجزاء من دوابِّهم، وباعوا بيضهم للجنود، واغتُصِب منهم عدد أقل. لكن هذا كان يعُدُّه المماليك جريمةَ تعاونٍ معنا، فإذا عادوا بعد رحيلنا انتقموا منهم ولم يتركوا لهم فرشًا ولا حصانًا ولا جملًا.
الأحد ٢٨ يوليو
ألقى فورييه عالم الرياضيات محاضرة في المساء عن حملة الشام. وشرَدتُ مستعيدًا كلَّ ما عشته من أحداث. ثم تنبهت لقوله إن التاريخ المفصَّل لحملة الشام يستطيع أن يقدِّم الكثير من الملامح التي لم يسبِق لأحد أن سمع بمثلها عن الشرف والقيم الفرنساويَّة.
الأحد ٤ أغسطس
قال خليل إنهم قبضوا على الحاج مصطفى البشتيلي الزيات من أعيان أهالي بولاق، وحبسوه ببيت قائمقام. والسبب في ذلك أن جماعة من جيرانه وشَوا عنه بأن بداخل بعض حواصله عِدَّة قدور مملوءة بالبارود، فكبسوا على الحواصل فوجدوا بها ذلك.
امتلأت الأسواق بالزعفران والحِنَّاء والبلح كالعادة في هذا الوقت من العام.
الأحد ١١ أغسطس
شاع أمس أن ساري عسكر الفرنساويَّة قد عاد من أبي قير منتصرًا. فذهبت عند خروجي من المجمع إلى الأزبكيَّة لتحقُّق الخبر على جليته. وشاهدت مجموعة كبيرة من أسرى الترك الذين أحضرهم معه واقفين وسط أرض البركة. مررت من أمام بيت بولين فوجدت فيه حركة والحراس يدخلون ويخرجون.
عند الغروب غادر أستاذي البيت لينضم إلى المشايخ والأعيان الذاهبين إلى بونابرته للسلام عليه. وذكر لي عند عودته أن القائد كليبر تقدَّم من بونابرته وقال له على مسمع من الجميع: أيها الجنرال اسمح لي أن أقبِّلك، أنت عظيم مثل الدنيا.
وبعد ذلك قال بونابرته للمشايخ على لسان الترجمان: إن ساري عسكر يقول لكم إنه لمَّا سافر إلى الشام كانت حالتكم طيبة في غيابه، وأمَّا في هذه المرة فليس كذلك، لأنكم كنتم تظنون أن الفرنسيس لا يرجعون بل يموتون عن آخرهم، فكنتم فرحانين ومستبشرين، وكنتم تعارضون الأغا في أحكامه، وأن المهدي والصاوي ليسا «بونو».
الثلاثاء ١٣ أغسطس
عُمل المولد النبوي بالأزبكيَّة، ودعا الشيخ خليل البكري ساري عسكر الكبير مع جماعة من أعيانهم، وتعشَّوا عنده. وضربوا مدافع، وعمِلوا حراقة وصواريخ، ونادَوا في ذلك اليوم بالزينة وفتْح الأسواق والدكاكين ليلًا، وإسراج القناديل. وتجمَّع الدراويش في الميادين، وجلسوا في حلقات مربعي السيقان وهم يتمتمون بالأدعية، ويتمايلون برءوسهم يمينًا ثم يسارًا بحركة مستمرة فتهتز الأجراس الصغيرة المعلَّقة في ملابسهم.
الخميس ١٥ أغسطس
يتحدث الناس عن سفر بونابرته إلى جهة بحري. ونفى جاستون علمه بشيء في هذا الشأن. وقال لي أستاذي: إنهم استفسروا عن صحة الخبر في الديوان، فقيل لهم: إن ساري عسكر في المنوفية في ضيافة حاكمها. ولاحظت أنهم ألبسوا جندهم زيًّا جديدًا يتألَّف من ثوب قصير دون ثنيات، وبنطلون ذي لِفافات تحتية، وقبعة من جلد الماعز المدبوغ تنثني فوق الأذنين ولها واقية وجه وخصلة خيوط من الصوف في جزئها الأعلى.
الجمعة ١٦ أغسطس
ذهبت عند الغروب إلى الأزبكيَّة. ووجدت بيت بولين منارًا وفيه حركة وأمامه الحراس. لم تسافر إذن مع ساري عسكر.
الثلاثاء ٢٠ أغسطس
فتشوا بيت زوجة رضوان كاشف إحدى نساء المماليك الباقيات في مصر، ووجدوا فيه ملابس لهم وأسلحة.
لا أحد يعرف شيئًا عن مكان بونابرته. يراودني خاطر أن أزورها. لكن ماذا لو دخل علينا فجأة؟
الإثنين ٢٦ أغسطس
نودي بوفاء النيل المبارك على العادة، وخرج النصارى البلديين من القِبط والشوام والأروام، وذهبوا إلى بولاق ومصر العتيقة والروضة، وأكثروا المراكب ونزلوا فيها، وصحبتهم الآلات والمغاني، وخرجوا في تلك الليلة عن الحشمة.
الجمعة ٣٠ أغسطس
استُدعي أستاذي لمقابلة قائمقام دوجا مع بقية مشايخ الديوان والرؤساء. وتلا عليهم خطابًا من ساري عسكر أرسله من الإسكندرية وفيه: «إنه سافر يوم الجمعة المنصرم إلى بلاد الفرنساويَّة لأجل راحة أهل مصر، وتسليك البحر، فيغيب نحو ثلاثة أشهر، وأن المولى على أهل مصر وعلى رياسة الفرنساويَّة جميعًا كليبر ساري عسكر دمياط.»
وقال أستاذي إنه تحير في كيفية سفر بونابرته ونزوله البحر مع وجود مراكب الإنجليز ووقوفهم بالثغر. كنت أنصت إليه ساهمًا أفكر في بولين وهل أخذها معه.
ذهبت في المساء إلى الأزبكيَّة. بيتها مظلم ولا حركة به، لكن الحرس أمامه.
السبت ٣١ أغسطس
قال خليل عند عودته من بولاق إن ساري عسكر الجديد قدم من دمياط في الصباح؛ فضربوا لقدومه المدافع، وتلقَّاه كبار الفرنساويَّة وأصاغرهم، ثم سار إلى الأزبكيَّة عبر الطريق الجديد الذي مهَّده الفرنساويَّة من بولاق. وكان أمامه نحو الخمسمائة قوَّاس وبأيديهم النبابيت، وهم يأمرون الناس بالقيام والوقوف على الأقدام لمروره، وكان صحبته عدة كثيرة من خيَّالة الإفرنج وبأيديهم السيوف المسلولة، والوالي والأغا وبرطلمين بمواكبهم، وكذلك القلقات والوجاقليَّة، ورؤساء الديوان من الفقهاء. وقال إنه تابعهم حتى استقر في بيت الألفي الذي سكن به بونابرته.
ذهب أستاذي في المساء مع أكابر البلد من المشايخ والأعيان لمقابلة ساري عسكر الجديد للسلام عليه. فلم يخرج لهم ووُعدوا إلى الغد.
الأحد أول سبتمبر
قررت الذَّهاب إليها. اشتريت لها معجونًا للسمنة من حارة العطَّارين يتألف من خليط من حب العزيز وجذور الخميرة. لم أجد ركوبة في الإسطبل. وفكرت في المشي، ثم خفت أن أتعفَّر بالتراب والعرق. اكتريت حمارًا حتى الميدان. وصلت عند الغروب. وأعطيت المُكاري الذي جرى خلفي وفي يده قضيب صغير تتدلَّى منه الجلاجل تسع بارات. كان هناك حارس واحد من جنودهم. لم يهتم بأمري وتركني أدخل. قطعت ممشى الحديقة في سرعة. طرقت الباب الداخلي وقلبي ينتفض في صدري.
فتحت لي المرأة الشامية وعرفتني. لكنها طلبت مني أن أنتظر حتى تُخبر سيدتها. أغلقت الباب ومضى بعض الوقت كأنه دهر.
انفرج الباب أخيرًا وقادتني المرأة في صمت إلى قاعة المجلس بالطابَق الأرضي. جلست فوق أريكة. وكان البيانو بجواري. ولَجت بولين القاعة بعد قليل في غِلالة شرقية تصل إلى الأرض. وقد لفَّت شعرها بفوطة.
نهضت واقفًا وكدت أندفع نحوها، لكني تجمَّدت في مكاني. أشارت لي أن أجلس قائلة: كنت أتوقع مجيئك.
جلسَت بجواري فوق الطَّرَف الآخر للأريكة، وقالت إنها استحمَّت لتوِّها. وأضافت: في فرنسا لم أكن أستحم سوى مرة واحدة في الشهر. وأغلب الناس يستحمون مرات قليلة في السنة. لكن عرق الصيف في مصر غيَّر عاداتي، ومع ذلك أتساءل أحيانًا عن جدوى الاستحمام طالما أعرق طول الوقت.
أحضرت لي المرأة الشامية شراب التمر هندي، وأحضرت لبولين نرجيلة تُمْباك.
لمحت مسحة من الحزن على وجهها. وبدأت تنفث أنفاس الدخان في عصبية.
قدَّمت إليها هديتي فضحكت، وقالت إنها مبسوطة هكذا وإن نساء البلاط كُنَّ يحلمن بقوام مثلها.
ثم أضافت: أنتم يا مصريين تحبون اللحم الوفير.
قلت إني توقَّعت رحيلها مع بونابرته. قالت إنها لم تعلم برحيله إلا في اللحظة الأخيرة.
أطرقت نحو الأرض وعبثت بيدها بقماش ردائها، ثم استطردت: كان لا بُدَّ أن أتوقع ذلك عندما حضرت مركبة في منتصف الليل تُقلُّ مونج وبرتولليه وبارسيفال. وانضموا إليه في الحديقة حيث كان يتمشَّى مع دينون، وكنت في طرقة أخرى. ثم ناداني وربَّت على خدي قائلًا إنه مسافر الآن وسيعود بعد شهرين أو ثلاثة. ثم ركب إلى بولاق ومنها أخذ سفينة إلى رشيد.
ضحكت فجأة وقالت: هل تعلم ماذا قال كليبر لرفاقه عندما علم برحيل بونابرته؟ قال: أيها الأصدقاء إن هذا الخول تركنا وسراويله مملوءة خِراء، وسنعود إلى أوروبا وندعكها في وجهه.
ذكرت لها ما سمعته من أستاذي عن إشادة كليبر ببونابرته في الديوان.
هزَّت رأسها قائلة إنه يقول عنه إنه انتهازي عاجز عن تنظيم أي شيء ومستهتر. ويحتاج إلى مورد شهري لا يقل عن عشرة آلاف جندي.
انحنت لتسوِّي نار النارَجيلة فانفرج رداؤها عن صدرها. ولمحتُ جانبًا من ثديها الصغير. اشتعلت النار في جسدي، ورفعَت هي عينيها إليَّ مبتسمة في خبث.
نهضت واقفًا فهبطت عيناها إلى محاشمي أسفل خَصْري. تقدَّمت منها ثم ركعت أمامها، وأحطت ساقيها بساعدي ورفعت إليها عينين ضارعتين.
تأمَّلتني برهةً في استغراق، ثم دفعتني بقدمها في رفق فوقعت على ظهري.
مدَّت يدها وتحسَّست خدي، ثم همسَت: اقفل الباب.
وقفت دون أن أهتم إذا رأت حالتي، وأسرعت إلى الباب فأحكمت رتاجه، ثم عدت إليها.
ركعت أمامها من جديد. خلعَت قدمها من الخُف ومَدَّتها أمامي. وتأملت بياضها اللامع. قالت: الخادمة دعكت قدمي بقطعة من الطوب الأملس، انظر. وأدارت قدمها في الضوء. تناولت قدميها فقبلتُهما. ثم رفعت رداءها إلى أعلى كاشفًا ساقيها. كانتا عاريتين. انحنيت فوقهما ووزعت القُبلات عليهما بجنون. ألقت القصبة من يدها وتراجعت إلى الخلف وقد أغمضت عينيها.
شعرت بيديها تُزيح عمامتي ثم تخللت أصابعها شعري. وجذبت رأسي إلى أعلى حتى ركبيتها، ثم فرجت ساقيها ورأيت أنها لا ترتدي شيئًا تحت الغِلالة.
ضغطت على رأسي دافعة إياها بين فخذيها. لم أدرِ ماذا تريد. وجاءتني رائحتها قوية نفَّاذة فأبعدت رأسي ونهضت واقفًا.
خلعت عنها الرداء واعتليتها. كانت تنهج. وقالت لي: أوحشتني كثيرًا. جاء ظهرانا بسرعة، لكني ظللت فوقها ولم نلبث أن جئنا مرة أخرى.
اعتدلت جالسة وهي تتنهَّد في ارتياح، وتبسط ذراعيها كأنها تتمطَّع. ثم قبَّلتني عِدَّة مرات في فمي. أردت أن أجذبها لتستلقيَ لكنها ضحكت وقالت: يكفي هذا الليلة.
سألتها: متى أراكِ إذن؟
قالت: الأحد القادم.
قلت مستنكرًا: بعد أسبوع؟
قالت إن لديها كثيرًا من الواجبات لأنها تُعنى بالجرحى من جنود الفرنساويَّة.
الإثنين ٢ سبتمبر
حنا ساخط. طلب ساري عسكر الجديد من نصارى القِبط مائة وخمسين ألف ريال فرانسة، فشرعوا في تحصيلها. وطلبوا من أسرته الدفع.
الأحد ٨ سبتمبر
وجدتها شاحبة وقالت إنها مريضة. ثم أوضحت أنه المرض الشهري. عزفت موسيقى قالت إنها لموسيقارٍ ألماني يُدعى هايدن. وعندما شعرت أني لم أستسغها عزفت مقطوعة لطيفة لواحد آخر نمساوي اسمه موتسارت.
سألتني عن بيت الجبرتي وأبدت اهتمامًا عندما قلت إنه يسجل الأحداث والوقائع وإني أفعل مثله. سألتني عما نكتبه عن الفرنساويَّة. اعتقدت أنها تنظر لي الآن نظرة جديدة.
سألتها بدوري عما إذا كانت قد أحبت بونابرته، تهربت من إجابة مباشرة. قلت: هل أحبك هو؟
قالت: إنه يعتقد أن الحب يضر بالفرد والمجتمع.
سحبت نفسًا من قصبة النارَجيلة، وقالت: لقد اعترف لي أنه ظل خجولًا طول عمره أمام النساء. وقبل مجيئه مصر بسنتين قرر الزواج، وأوشك أن يتزوج واحدة في عمر جَدَّته هي مدموازيل دي مونتانسييه، وعمرها ستون سنة، ثم اهتم بمدام برمون وعمرها أربعون سنة. كان يبحث عن واحدة ثرية. وأخيرًا تزوج جوزفين التي تكبره بست سنوات. قال لي إني أول واحدة أصغر منه يحبها.
– هل هو …؟ لم أكمل فقد كنت أريد أن أسالها عما إذا كان قويًّا في الفِراش. ولم أعرف كيف أصوغ سؤالي. وفهِمَته هي في الحال، فضحكت وقالت: إنه متعجِّل دائمًا. فهو يعمل كثيرًا ولا يوجد لديه وقت كافٍ لشيء آخر.
– هل ختنوه فعلًا كما شاع؟
قالت: لأ.
كان هناك سؤال آخر يراودني لكني تردَّدت. ونظرت إليَّ بعينيها الزرقاوين باسمةً، ثم قالت: أنت أكبر منه حجمًا.
الأحد ١٥ سبتمبر
ذهبت إليها اليوم حسب اتفاقنا لكني لم أجدها.
الإثنين ١٦ سبتمبر
لم أتمكن من النوم.
الثلاثاء ١٧ سبتمبر
عند عودتي من المجمع عرَفت أن شيخ الحارة ومعه عسكري فرنساوي وامرأة شامية دخلوا البيت، وفتشوا عن الحوائج ليتأكدوا من نشرها. ولم يكن أستاذي موجودًا ولا جعفر موجودًا، فرفضت زوجة أستاذي دخولهم معتقدة أنهم يريدون الاطلاع على الأماكن والأمتعة، ثم سمحت لهم. وأكَّد أستاذي أنه لم يكن شيء سوى التخوف من العفونة والوباء.
الأربعاء ١٨ سبتمبر
وجدتها هذه المرة. وجرى بيننا كالسابق.
لم يكن جعفر بالبيت عند عودتي. ولاحظت أني لم أره منذ يومين. سألت عنه فقالوا إنه ربما يشتري السكر من السكرية.
الخميس ١٩ سبتمبر
وقع اليوم شيء غريب. كنت في فِراشي بعد العشاء عندما سمعت حركة في الحَوْش. فتحت باب غرفتي فرأيت جعفر عند الباب الخارجي يحمل قنديلًا. وكان الباب مفتوحًا وما لبث أن ظهر في مدخله رجل ضخم يلتحف بعباءة سوداء أوشكت أن تغطيَ وجهه. تنحَّى جعفر عن الباب وأغلقه بإحكام، ثم تقدَّم في الحَوْش والرجل الغامض خلفه. اتجه جعفر إلى الباب الداخلي. وعندما بلغه طرقه بطريقة معينة. وانفتح الباب كاشفًا عن أستاذي عبد الرحمن بنفسه. احتضن الزائر ثم اختفوا جميعًا في الداخل.
شعرت أنهما لا يريدان أن يراهما أحد فتراجعت إلى الداخل، وجلست في الظلام موارِبًا الباب وأنا أتساءل عن كنه الشخص الغامض. كانت ملابسه ثمينة ويبدو من الحكام.
مرَّ وقت من الليل دون أن أبارح مكاني، ثم سمعت صريرًا. اقتربت من الباب الموارَب، رأيت جعفر أمام الباب الداخلي وقد رفع القنديل إلى أعلى كي يتبيَّن الزائر موضع قدميه. وأوشك هذا أن يتعثر فانزاحت العباءة عن وجهه. بدرت مني آهة دهشة كتمتها في الحال. كان الزائر الغامض هو محمد بك الألفي بنفسه.
رجعت إلى فرشتي وأنا أفكر في جرأته وهو مطلوب من الفرنساويَّة. وهل جعفر هو الذي أحضره من مخبئه؟ وما معنى هذه الزيارة؟ هل أستاذي موالس مع المماليك ويعُدُّون لأمر؟
الجمعة ٢٠ سبتمبر
نودي بعمل مولد السيد علي المدفون بجامع الشرايبي، وأمروا الناس بإشعال قناديل بالأزقَّة في تلك الجهات، وأذنوا لهم بالذَّهاب والمجيء ليلًا ونهارًا من غير حرج.
وعرَفت من أستاذي قصة هذا السيد، فقد كان من البُلهاء يمشي بالأسواق عُريانًا مكشوفَ الرأس والسوأتين، وله أخ صاحبُ دهاءٍ ومكرٍ لمَّا رأى من ميل الناس لأخيه، واعتقادهم فيه، كما هي عادة أهل مصر في أمثاله، حجر عليه ومنعه من الخروج من البيت وألبسه ثيابًا، وأظهر للناس أنه صار من أقطاب الصوفية وله كرامات، وأنه يطلِّع على خطرات القلوب والمغيبات، وينطق بما في النفوس؛ فأقبل الرجال والنساء على زيارته والتبرُّك به، وسماع ألفاظه والإنصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم، وأقبلوا عليه بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شيء، وخصوصًا من نساء الأمراء والأكابر، وراج حال أخيه واتسعت أمواله، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والفراغ والراحة حتى صار مثل البو العظيم، فلم يزل على ذلك إلى أن مات من ست سنوات، فدفنه أخوه بجانب هذا المسجد، وعملوا عليه مقصورة ومقامًا وواظب عنده بالمقرئين والمدَّاحين وأرباب الأشاير والمنشدين، يذكرون كراماته ويتصارخون ويمرِّغون وجوههم على شباكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به، ويضعونه في أعبابهم وجيوبهم.
الإثنين ٧ أكتوبر
نقص ماء النيل بعد عيد الصليب، وكان من أول زيادته قاصرًا عن العادة وزيادته شحيحة؛ فضجَّ الناس وانكبُّوا على شراء الغلة، وطلب باعة الغلة الزيادة في السعر.
الثلاثاء ٨ أكتوبر
جمع الفرنساويَّة كلَّ من كان له مدخل في تجارة الغِلال وزجروهم وخوَّفوهم، وقالوا لهم: «هذه الغلة الموجودة الآن إنما هي زراعة العام الماضي، وأمَّا هذا العام فلا تخرج زراعته إلا في العام المقبل.» فانزجروا وباعوا بالسعر الحاضر، وقد كاد يقع الغلاء العظيم لولا ألطاف الله.
الخميس ١٠ أكتوبر
عزفت لي اليوم مقطوعة قصيرة قالت إنها لموسيقار جديد اسمه بتهوفن. حاولت تعليمي لكني لم أكن في تركيز، وكانت عيناي تلتهمان صدرها. وأخيرًا حدث ما لا بُدَّ منه.
الخميس ١٧ أكتوبر
سرت أقاويل بأن مراسلات وقعت بين مراد بك في معسكره في الفيوم والفرنساويَّة، وتم الاتفاق بينهم على الهدنة، واصطلح معهم على شروط، منها تقليده إمارة الصعيد تحت حكمهم.
سألت أستاذي في المساء عن الأمر، فقال إنه لا يستبعد ذلك.
السبت ٢٦ أكتوبر
رقص إبراهيم الصباغ اليوم في المجمع من الفرح؛ فقد وافق ساري عسكر كليبر على إرساله لفرنسا ليستكمل تعليمه وذلك باقتراح من فورييه ومونج وبرتولليه.
الأحد ٣ نوفمبر
فاجأتني اليوم عندما دخلت عليَّ مرتدية ملابس العوالم. ثوب مفتوح يتيح رؤية العنق كاملًا، والشعر مضفور بشرائط تتخلله، والرأس تغطِّيه عِمامة، والخَصْر يطوِّقه حزام عريض. كان الرداء أحمر اللون يكشف ذراعيها وكتفيها وصدرها. وتخللته رقعة شفَّافة فوق بطنها. وكان الجزء الأسفل منه مشقوقًا من الجانبين يكشف عن ساقيها وفخذيها.
بدت لي ساحرة جنيَّة. وبدأت تهزُّ وسطها مثل العوالم وهي تشوِّح بيديها. ثم رفعتهما إلى أعلى حتى رأيت الزغب الأصفر في إبطيها. سقط حزام خَصْرها فانشغلت بربطه ودارت أمامي عدة مرات، ثم ركعت بين ساقي قائلة: ما رأيك؟ هل أصلح راقصة؟
جذبت رأسها وانحنيت على شفتيها بفمي، لكنها أبعدتني عنها ورفعت جلبابي، ثم دفنت رأسها بين ساقيَّ.
ابتعدت عنها فلم يحدث لي هذا من قبل، لكنها طوَّقتني بيديها تحت خصري وجذبتني نحوها.
تأمَّلتُها مذهولًا ورأسها يرتفع وينخفض. ثم رفعت عينيها إلى عينيَّ عندما بدأت أفقد نفسي.
دفعتها عني وحملتها إلى الأريكة. دخلتها وعندما أوشكت أن أقذف أخرجت نفسي لأنتهيَ على بطنها. رفعت ساقيها وأحاطت خصري بهما وهي تقول: لا، لأ، ابقَ.
عندما انتهينا سألتها لماذا لم تحترس هذه المرة؟ قالت في أسًى: يبدو أني لا أحمل، جربت مع زوجي ومع نابليون الذي كان يريد ولدًا بلا فائدة.
الجمعة ٨ نوفمبر
عندما عدت من المجمع وجدت عبد الظاهر ينتظرني في مدخل الحارة. قال إنه يريدني في أمر هام، دعوته للدخول فأبى قائلًا إنه يفضِّل أن نتحدث في الخارج.
قادني صامتًا عبر عدد من الدروب والأزقَّة. الأرض موحلة من أمطار أول أمس. ولاحظت أنه يتصرَّف بطريقة غريبة إذ يتطلَّع خلفه بين الحين والآخر كأنما يخشى أن يكون أحد في أثرنا. ثم طلب مني أن أحلف على المصحف بألَّا أذكر لأحدٍ شيئًا مما سيقوله لي. حلفت مستغربًا. قال: إن جند الفرنساويَّة صاروا ملولين متذمِّرين، وبعضهم يريد العودة إلى بلده. وإن هناك بعض المخلصين الذين يريدون مساعدتهم لتتخلص البلاد منهم، ومن هؤلاء أمير من المماليك يتحمل النفقات.
سألته عن شأني بذلك. قال إنهم يحتاجون إلى من يعرف اللغة ليتفاهم مع الهاربين لحين خروجهم من المدينة. لجمَت الدهشة لساني. وأكَّد لي عبد الظاهر أني لن أتعرَّض لأيِّ خطر. كل ما سأفعله هو أن أصحب أحدهم من البيت الذي يختفي فيه حتى إخراجه من المدينة.
الإثنين ١١ نوفمبر
تأكدت من جاستون من الكلمات الفَرنسية التي يمكن أن يُطَمئن الواحد بها شخصًا مرعوبًا.
الأربعاء ١٣ نوفمبر
امتطيت حماري عند الغروب، وخرجت إلى بين القصرين ثم مضيت فيه حتى بوابة المتولي، وانحرفت جنوبًا حتى باب الخرق. عبرت الباب دون أن يستوقفني أحد من الحرسيَّة، وهناك انتظرت وقلبي يخفق في صدري متمنيًا أن تفشل الخطة.
أخيرًا ظهر عبد الظاهر على قدميه فأردفته خلفي وسرنا قليلًا في منطقة من البيوت القديمة المسوَّرة حيث يندُر المارَّة وتكثر الكلاب الشرسة. وتوقَّفنا أمام باب بيت يبدو كالمهجور، كانت واجهته مبنية من الحجر الفص النحيت بها بابا حانوتَين مُغلقَين. هبط عبد الظاهر وتطلَّع حوله وعندما اطمأنَّ إلى أننا لم نلفت انتباه أحد اقترب من الباب ودقَّ عليه بيده مرَّة ثم أردف دقتين. وأضاف دقتين أُخريَين.
فُتح الباب بعد لحظات. دخلت بحماري خلف عبد الظاهر إلى حَوْش كبير. استقبلنا شيخ جليل المنظر رحَّب بنا، ثم قادنا خلف عبد الظاهر إلى باب مربع دخلنا منه، وولَجنا قاعةً وجدنا الفرنساويَّ بها.
كان متوسط القامة يرتدي جلبابًا، ويضع على رأسه عِمامة أظهرت خصلات صفراء من شعره. تداولنا في أمر مظهره واستقرَّ رأينا على أن يرتديَ ثياب امرأة ويلتحف بعباءة سوداء تغطِّيه، ولا تكشف إلا عن جانب من شعره الأشقر.
شرحت له المطلوب وساعدناه على التدثُّر بالعباءة. ثم أردفته خلفي. ودعت عبد الظاهر والشيخ واتجهت غربًا في عابدين مرورًا ببيوت بعض البكوات المهجورة. هبت عليَّ رائحة السلخانات والمدابغ. وعندما وصلت باب اللوق طلبت منه بصوت خافت أن يلزم الصمت تمامًا ولا يفوه بحرف.
استوقفني حرسية الباب فكدت أقع من طولي. سألني أحدهم وهو يرفع قنديلًا فوق رأسي: أين تذهب؟ قلت إن زوجتي مريضة وأنا ذاهب بها إلى طبيب رومي في غيط العدة. قال: من أين جئت؟ ذكرت له الحقيقة. قال: كان بإمكانك أن تذهب مباشرة من باب زويلة. قلت إني ظننت أن هذا الطريق أقرب.
كنت أشعر بصدر الفرنساوي يخفق في ظهري. رفع العسكري القنديل فوق رأس رفيقي، لكنه لم يتبيَّن شيئًا سوى خصلة الشعر الأصفر. وخُيِّل لي أنه سيطلب رؤية وجهه، لكنه أنزل القنديل وأشار لي بالمرور.
شعرت برفيقي يرتعش فطمأنته إلى أننا بخير، ولن يتعرَّض لنا أحد. انحرفت ناحية الشمال في اتجاه غيط العدة خوفًا من أن يحاول العسكري التأكد من اتجاه سيري. وبعد أن ابتعدت بما فيه الكفاية غيرت طريقي صوب باب اللوق. لم يستوقفنا أحد فاستأنفنا طريقنا يسارًا حتى الشيخ ريحان. وأخيرًا وصلنا شاطئ النيل قرب قصر العيني بجوار جسر المراكب. توقَّفت هناك وهبطت عن الحمار وساعدت السيدة التي ترافقني على النزول، ثم اقتربنا من الشاطئ.
تلفتُّ حولي ووجدت المنطقة هادئة ولا يبدو شيء في الظلام سوى بعض القناديل من المراكب الراسية. وقفنا ننتظر حسب تعليمات عبد الظاهر.
مضى بعض الوقت دون أن يظهر أحد، وفجأة انبثق أمامنا شبح أسود. كدت أبول على نفسي وقد ظننته عِفريتًا. سألني عن الفرنساوي، أشرت إلى المرأة، فسألها إذا كانت جاهزة لركوب القارب. أجبت عنها بالإيجاب وشرحت للفرنساوي الأمر. ساعدته على الترجُّل. وربطت حماري إلى شجرة وساعدته على هبوط الشاطئ وركوب القارب الصغير، ثم ودعتهما وانصرفت وأنا أتنهَّد في ارتياح.
عندما وصلت باب اللوق سألني الحرسي عن زوجتي. قلت: إن حالتها استلزمت بقاءها عند الطبيب، وإني سأعود إليها في الصباح. وسمح لي بالمرور.
الأحد ١٧ نوفمبر
ذهبت إلى بيتها فوجدتها منفعلة وساخطة. قالت: إن بونابرته تم تعيينه قنصلًا بعد أن حاصر مجلس الشيوخ وخدعهم بمساعدة أخيه لوسيان رئيس المجلس. أرتني في الكوريير خبر تهنئة الديوان لبونابرته بتعيينه قنصلًا، وتضمَّنت التهنئة مطالبة بالاتحاد مع الأمة الفَرنسيَّة وقَّعها أعضاء الديوان بمن فيهم الجبرتي.
لم أفهم سبب انفعالها وسألتها عن ذلك، فقالت: معنى هذا أنه لن يعود إلى مصر.
كنت قد تجاهلت أمر عَلاقتها بنابليون ظنًّا مني أنها نسته بين أحضاني. وها هي تنتظر عودته بفروغ صبر.
جذبتها إلى الأريكة فمانعت، وعندما رأتني مُصرًّا استسلمت. لكنها لم تكن متجاوبة معي كعهدها.
الخميس ٢١ نوفمبر
اتخذ ساري عسكر كليبر قرارًا بإعداد مجلد يضم الأبحاث التي كتبها العلماء عن البلاد. وكان العلماء يرفضون تبادل بحوثهم فيما بينهم، ويحيون في حذر متواصل من بعضهم البعض.
قال لي عبد الظاهر عندما التقينا: إن الفرنساوي وصل سالمًا إلى رشيد، واستقلَّ مركبًا من الإسكندرية.
الثلاثاء ٢٦ نوفمبر
أفردوا غرفة في نهاية قاعة المكتبة لرسامي الخرائط. وكانوا يخرجون في الصباح، ثم يعودون بالخرائط الكبيرة وينهمكون في الرسم.
الخميس ٢٨ نوفمبر
كثرت الأقوال بوصول الوزير التركي الأعظم يوسف باشا إلى الديار الشامية، وأنهم حاصروا قلعة العريش بمن فيها من عسكر الفرنساويَّة.
الخميس ٥ ديسمبر
أسرَّ إليَّ أستاذي أن الفرنساويَّة أرسلوا إلى كبير الإنجليز الواقف ببحر الإسكندرية ليتوسط بينهم وبين العثمانيين.
الجمعة ٦ ديسمبر
قال أستاذي إن فرمانًا ورد من حضرة الوزير التركي يوسف باشا قبل وصوله لجهة العريش موجَّهًا إلى جمهور الفرنساويَّة باستدعاء رجُلَين من رؤسائهم وعقلائهم، ليتشاور معهم ويتَّفق معهم على أمرٍ يكون فيه المصلحة للفريقين، فوجهوا إليه من طرَفهم بوسليج رئيس الكُتَّاب، وديزه ساري عسكر الصعيد، فنزلوا في البحر على دمياط.
الإثنين ٩ ديسمبر
أصبتُ بسعال وحِمْية فلزِمتُ الفراش. وساءت حالتي، وعرض أستاذي أن يُحضر طبيبًا من البيمارستان المنصوري المجاور فرفضت. واستدعى جعفر المزين لكن أستاذي رفض الاستماع إليه، وحكى لنا عن إسماعيل أفندي الروزمانجي الذي أصيب بوجع في عينيه فاقترح عليه المزين أن يتكحَّل. وأعطاه ورقة من الكحل لكنه أخطأ فأعطاه ورقة بها سليماني أبيض مثل الكحل وعندما وضعه أصيب بالعمى ومات.
زارني عبد الظاهر طالبًا مساعدتي في نقلِ هارب آخر. لم أكن قادرًا على الحركة فاقترحت عليه أن يستعين بحنا. تردَّد قليلًا ثم وافق وذهب إليه.
الثلاثاء ١٠ ديسمبر
ذكر جعفر أمر شيخ السمنودي الذي حاز شهرة كبيرة في الروحانيات وتحريك الجمادات ومخاطبة الجن. وقال إن الوحي هبط عليه، وإنه صعِد إلى السماء ليلةَ السابع والعشرين من رجب وصلَّى بالملائكة ركعتين، وأعطاه جبريل ورقة بأنه نبي مرسَل.
الجمعة ١٣ ديسمبر
لا أخبار من عبد الظاهر أو حنا. أشعر بتحسن. سأذهب غدًا إلى المجمع. أستاذي يصرُّ على أن أبقى في البيت يومَين آخرَين.
الإثنين ١٦ ديسمبر
وجدتها منفعلة وقالت لي إن كليبر وافق على رحيلها إلى فرنسا. ووقع عليَّ هذا النبأ كالصاعقة.
قلت: لم تذكري شيئًا عن ذلك. أنتِ التي طلبتِ العودة؟
قالت: طبعًا. هل تظن أني أترك نابليون يستمتع بما وصل إليه من مَجدٍ وحده؟
قلت بلهجة ضارعة: وماذا عنا؟
داعبت ذقني بأناملها وقالت: ستنساني بسرعة.
قلت: لن يحدث.
قبَّلتني في فمي فجذبتها إلى حِضني وقاومتني.
بدأت دموعي تسيل على خدي؛ فربَّتت عليَّ وقالت: ماذا تنتظر أن يحدث لنا؟
قلت: نتزوج.
انفجرت ضاحكة: نابليون عرض عليَّ الزواج. وقال إنه ينوي الطلاق من زوجته جوزفين بعد أن علِم من ياوره أن لها عشيقًا، وأنهما أثرياء ثراءً فاحشًا من عقود الجيش الفاسدة. وقد وعدني بالزواج كي أنجب له طفلًا شرعيًّا بعد أن عجزت جوزفين عن ذلك.
قلت بائسًا: وهل صدَّقتِه؟
قالت: طبعًا. كان يشكو من نفقاتها ومن عدم إخلاصها. لا أعرف ما الذي جعله يتزوجها، فهي تكبره في العمر. وكانت خليلةً للقنصل بارا، ومعروفة بكثرة عشَّاقها ونفقاتها حتى كان يقال إنها تسدد فواتيرها من صندوق تحت سرَّتها.
رددت: لكني أحبك ومستعد أن أتزوجك.
قالت: وأقيم معك في غرفتك بحَوْش الجبرتي؟
قلت: نقيم هنا في المجمع.
قالت: هل تظن أن الفرنساويَّة سيرحِّبون بالأمر؟ كن عاقلًا وقبِّلني قُبلة الوداع.
جذبتني إلى الأريكة. استلقت فانحنيت فوقها، وأخذت أقبِّلها في جنون.
الثلاثاء ١٧ ديسمبر
امتطيت الحمار عند المغرب وذهبت إلى بيت حنا. قالت لي أمه إنه لم يأتِ إلى البيت منذ أسبوع ولا تعرف أين هو. وربما يكون ذهب إلى دير أبو سيفين في مصر عتيقة. هممت بالانصراف ثم خطر لي خاطر. سألتها: ألم يسأل عنه أحد؟ أجابت بالنفي.
انطلقت إلى مصر عتيقة. وقرب النيل نزلت منحدرًا إلى الدير. طرقت بابًا صغيرًا مصفحًا بالحديد. فتح لي البوَّاب وفي يده مصباح زيتي. سرنا في زقاق ضيق على جانبه أزقة أخرى مثله حتى باب صغير آخر يؤدي إلى غُرَف الدير.
التقانا قسيس يرتدي قَبَاءً من الجوخ شُدَّ فوق وسطه بحبل، وعلى رأسه طاقية سوداء مستديرة، وفي قدميه نعل مشدود إلى أصابعه بسيور من الجلد. أكدَّ لي أن حنا لم يأتِ منذ عِدَّة أسابيع.
مضيت إلى بيت عبد الظاهر قرب قناطر السباع. تركت حماري بعيدًا عن الحَوْش الذي يسكن به. واقتربت منه وأنا أتطلع حولي في إمعان. خشيت أن يكونوا قد توصَّلوا إليه ووضعوا عينًا عليه.
لم أرَ ما يدلُّ على وجود أحد؛ فتجرأتُ وولَجتُ الحَوْش واقتربتُ من الكوخ الذي يُقيم به وناديت عليه. ردت أمُّه النداء وخاطبَتني من خلف الباب: مين؟
قلت لها اسمي فرحبت بي في حزن. سألتها عن ابنها، فقالت: إن الحكام أخذوه منذ أيام. قلت: ماذا قالوا عن السبب؟ قالت: فهمت أنهم مسكوه مع فرنساوي هارب. وكانوا يسألونه عن شركائه. سألتها بصوت مرتجف: هل قال لهم؟ قالت بزهو: أنت لا تعرف عبد الظاهر. لا يمكن أن يشيَ بصديق. ثم تغيَّر صوتها وقالت: هذا ما أخشاه. فسيضربونه وربما قتلوه. بدأت تنتحب فأخذت أحاول طمأنتها، قلت: إن الفرنساويَّة لا يقتلون بغير تحقيق ومحاكمة. ثم وعدتها أن أبحث عنه وأُبلغها بمصيره.
الأربعاء ١٨ ديسمبر
قال لي جاستون إنهم تحققوا من سقوط العريش في يد عساكر العثمانيين. كان يعبث بأوراق أمامه. ثم تناول فنجان قهوة وارتشف منه بصوت مسموع متلذِّذًا. قال: اكتشفوا أيضًا شبكة مصرية لتهريب الجنود الفرنساويَّة.
تجمَّد الدم في عروقي وتأمَّلني الصباغ في فضول.
سألته: ومن يديرها؟
قال: المماليك.
قلت بصوت متحشرج: وكيف اكتشفوها؟
قال: جاءتهم أخبار بمحاولة تهريب جندي وعرَفوا مكان اختبائه فهاجموه.
– هل قبضوا على أحد؟
– لا أعرف.
الخميس ١٩ ديسمبر
اليوم مغادرتها. مشاعري متناقضة فأنا حزين لفراقها، وفي الوقت نفسه أشعر بشيء من الارتياح.
ذهبت في المساء إلى بيت حنا. لم يعد بعد.
الجمعة ٢٠ ديسمبر
طلب مني فورييه أن أخرج مع رسامي الخرائط لأن مترجمهم مريض. قدَّمني إلى جومار كبيرهم. خرجنا فوق الخيول بصحبة كاتب قبطي وثلاثة من المرشدين. اتجهنا إلى جامع ابن طولون في قلعة الكبش. توقَّفنا وترجَّلنا وتركنا الخيول مع الخدم. وشرع جومار يدوِّن أسماء الأزقَّة والدروب فوق خريطة كبيرة ثم يسجل ملاحظاته في كراسة معلومات. وكان القِبْطي يسجل الأسماء باللغة العربية.
الثلاثاء ٢٤ ديسمبر
وقعت أمس مفاجأة غريبة؛ ففي المساء شعرت بالزهق فغادرت البيت، وتمشيت حتى قنطرة الموسكي، ثم عبرتها وأكملت الطريق حتى العتبة وأنا أتفرَّج على المتاجر. ولاحظت أن البضائع الأوروبية شحيحة.
اخترقتُ منطقة الرويعي حتى أشرفتُ على باب الحديد حيث تتجمَّع المصابغ وورش النجارة وفابريقات الخل ومعاصر الزيوت والمغازل والمناسج ومتاجر الحبوب. قادتني قدماي إلى الأزبكيَّة وبيت بولين ووجدته مظلمًا. فعدتُ إلى العتبة. وعند مدخل الدرب الواسع لمحت شخصًا يهرول. كان في هيئته ما هو مألوف. ولم ألبث أن تعرَّفت فيه على حنا. أوشكت أن أناديَه ثم تراجعت واقتفيت أثره من بعيد.
بلغ الجامع الأحمر وأنا من خلفه، ورأيته يتجه مباشرة إلى سور القلعة التي بناها المعلم يعقوب. وكانت به أبراج وطيقان للمدافع وبنادق الرَّصاص، وباب كبير تُحيط به عمدان عظام، ووقف عنده عدد من الرجال حليقي اللحى في زيٍّ مشابهٍ لعسكر الفرنساويَّة، مميزين عنهم بقَلَنْسوات عليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساويَّة.
اقترب حنا من الباب فسمحوا له بالدخول. ووقفتُ حائرًا ومستغربًا. وإذا بجماعة من أربعة رجال تخرج وتحيط بي، ثم تدفعني نحو الباب. شلَّت المفاجأة تفكيري فلم أصرخ أو أقاوم. دخلت معهم وأُغلق الباب خلفي. ووجدت حنا في انتظاري. وشعرت أن له مكانة متميزة بين الحرسية.
قال: أهلًا ومرحبًا.
قلت: طريقة غريبة في الترحيب.
قال: لماذا كنت تتبعني؟
قلت: أنا أبحث عنك من يوم الفرنساوي الهارب. وقال لي أهلك إنك مختفٍ. وعندما رأيتك أردت أن أكلمك لكنك كنت تهرول ولم أتمكن من اللَّحاق بك.
قال: في كل الأحوال وجودك لازم. وكنت أنوي أنا نفسي زيارتك. تعالَ.
رآني متردِّدًا فأردف: لا تخَفْ. لن يصيبك أذًى.
قادني عبْر قاعات مفروشة بالحُصُر والسَّجَّاد والأرائك وعلى جوانبها المساند. وكانت الدار الكبيرة أشبه بدار الحاكم يتحرك بها المئات. ويبدو على بعضهم أنهم من أصحاب الحاجيَّات، ويتعامل معهم عشرات من الكُتَّاب من أعوان المعلم.
قدَّم لنا الخدم الماء المثلج الممزوج برائحة الزهور، ثم الشربات والقهوة. ثم جاءوا بسِماطٍ كبيرٍ صُفَّت على جانبيه ثلاثة أنواع من الكعك والفطير.
لاحظت وجود حاشية كبيرة من الخدم والحجَّاب والخادمات والجواري الحبشيات والسودانيات. وكُنَّ منقَّبات يلبسن الملابس البيضاء تقليدًا للمسلمين.
رآني أتطلع مستغربًا إلى الرجال الذين تزيَّوا بهيئة الجنود الفرنساويَّة.
ابتسم وقال: إنهم من الجيش القِبْطي. وأنا به برتبة ليفتنانت.
قلت: أنت جندي عند الفرنساويَّة؟
قال: اسمع. مصر محرومة من جيش وطني للأمة كلها بدلًا من الجيوش المتناحرة للمماليك. ومعلمنا يعقوب كوَّن النواة لهذا الجيش من فرقة قِبْطية درَّبها ضبَّاط الحملة.
قلت: أنت إذن أوقعت بعبد الظاهر.
قال: لم يكن الأمر بهذا الشكل. لقد ذهبنا سويًّا إلى بيت في غيط العدة يختبئ به العسكري الفرنساوي. ولحظت على الفور امتلاء المكان حول البيت بعيون برطلمين؛ فأصررت على الانصراف وتركت عبد الظاهر يدخل البيت وحده. وعلمت بعد ذلك أن أعوان برطلمين هاجموا البيت وقبضوا على من فيه.
لم أقتنع بالقصة وبدا ذلك على وجهي.
قال وهو ينهض واقفًا: صدِّقني هذا ما حدث. تعالَ معي.
ولَجنا قاعة كبيرة امتلأت بالجالسين. ورأيت بينهم قِبْطًا وشوامًا وأجانبَ ويهودًا وضباطًا كبارًا من الفرنساويَّة. ودُهشت عندما رأيت بعض الشيوخ المسلمين. وكانوا متوجهين باهتمامهم إلى رجل قوي البنية عظيم القامة يجلس في صدر المكان. أدركت أنه لا بُدَّ أن يكون المعلم يعقوب. كان في مستهل العَقد الخامس، يرتدي جُبَّة قطنية سوداء، وتحيط به مهابة لا تخطئها العين. ورأيت شيخًا مسلمًا يقترب منه وينحني مقبِّلًا يده، فعانقه المعلم بحرارة. ثم دخل أحد كبار الفرنساويَّة فنهض الجميع وقوفًا وهُرع المعلم مرحِّبًا بضيفه، وتعانق الرجلان عناقًا حارًّا، وأمسك المعلم بيده وطاف به القاعة مقدِّمًا له الحضور، ثم اختفيا في حجرة جانبية.
تركني حنا واقفًا بعض الوقت. ثم عاد فرحًا وقال: معلمنا القديس يعقوب يريد أن يراك.
قادني إلى حجرة بالطابَق العلوي. جلسنا ننتظر وبعد قليل دخل المعلم يعقوب فقمت لتحيته. صافحني قائلًا: عرَفت أنك صعيدي مثلي. أنا من ملوي.
قلت: وأنا من أسيوط.
قال وهو يجلس في مقعد ويدعونا للجلوس: أهلها ذوو شجاعة وجراءة.
قلت: ولا يخونون بلادهم.
تبسَّم وقال: حدثني حنا عنك. اسمع. أنا لم أخُنْ بلادي. ولم أفعل مثل المشايخ الذين يذهبون متمسِّحين إلى بونابرته كل صباح. لقد انضممت إلى الفَرنسيين بدافع رغبة وطنية لتخفيف معاناة أبناء وطني. هل يرضيك أن تظل مصر في يد الأجانب الأجلاف من أتراك ومماليك؟ لا بُدَّ من الخلاص منهم كي تستقل مصر وتنتقل بأكملها إلى أيدي المصريين من أقباط ومسلمين.
قلت: لكننا وقعنا في أيدي الفَرنسيين وهم لن يتركونا أبدًا.
قال: إن أية حكومة مهما كانت تعتبر أفضل لمصر من حكومة الأتراك.
صمت لحظة ثم قال: أنا ما زلت أتطلع للاستعانة بالدول الأوروبيَّة لعمل الخير لبلادنا.
غيَّر فجأة مجرى الحديث وحدثني عن المكتبة التي أعمل بها وعما بها من كتب. واكتشفت أنه يقرأ كثيرًا باللغات. ثم أثنى على حنا واصفًا إياه بأنه من «رجالنا المخلصين». وأخيرًا نهض واقفًا وقال: أنا أحب الحديث معك. لكن كما رأيت هناك كثيرون ينتظرونني. ربما دبر لنا حنا لقاءً آخر.
صافحني وانصرف. وقادني حنا إلى الخارج. تبِعته صامتًا فلم أجِدْ ما أقوله، فهي أول مرة أسمع فيها حديثًا عن استقلال مصر.
الأربعاء ٢٥ ديسمبر
رويتُ لأستاذي كيفية مقابلتي مع حنا ودخولي قلعة المعلم يعقوب، فقال: كيف احتملت زفارة أبدانهم. قلت إني لم أشمَّ أيَّ زفارة. ورويت له ما قاله المعلم يعقوب عن المشايخ، فبهِتَ ولم يُعلِّق بكلمة. وعندما ذكرتُ له حديث المعلم عن استقلال مصر أشاح بيده غاضبًا: هذا ما حاوله وفشِل فيه علي بك الكبير. فالدول العظمى لا تريد ذلك.
الجمعة ٢٧ ديسمبر
لم يُشِرْ أستاذي في طياراته إلى حديث المعلم يعقوب.
السبت ٢٨ ديسمبر
تبسَّط معي جاستون في الحديث بطريقة أثارت دهشتي. وبدأ بذكر صعوبة عمَل عَلاقة بالمصريات. وحكى لي عن مغامرة له عندما كان بدمياط. وكان يسكن في شارع يؤدي إلى المسجد الرئيسي للمدينة. ويقف يرقُب النساء وهن في طريقهن إلى المسجد. ولفت نظره واحدة ممشوقة القوام يبدو عليها الثراء، شعر أنها ترمقه بعينيها كلما مرَّت. وذات يوم تَشجَّع وحيَّاها بالتحية العسكرية فإذا بها تضع يدها اليمنى على قلبها.
وفي المساء جاءته خادمة لها فَرنسية من مارسيليا اختطفها بعض القراصنة من قرابة ٢٠ سنة وباعها لأحد بكوات مصر فجعلها وصيفة لنسائه. قالت إن سيدتها عمرها ١٩ سنة، وكانت زوجة لأحد البكوات الذين قُتلوا في معركة إنبابة، فهربت من القاهرة وجاءت إلى دمياط لاجئة إلى تاجر تركي ثري اتخذها زوجة وهو يُكِنُّ لها كلَّ احترام. وأعطته الخادمة رسالة باللغة الفَرنسية من سيدتها تعترف له فيها بالحب، وتطلب منه أن يأتيَ عند التاجر.
قال جاستون: أنت تعرف أن الفَرنسي مقدامٌ في الحب كما في الحرب؛ فذهبت فورًا إلى المتجر لشراء بعض الأقمشة ووجدت المرأة تجلس بالقرب من صاحبه. ولم يكن يكسو وجهها سوى وشاح كبير يشفُّ عما وراءه بقدر يسمح بتمييز الملامح. وانتهزت فرصة انهماك التاجر في البحث عن أحد أثواب القماش فرفعت حجابها قليلًا لأرى وجهًا رائع الجمال. أرسلت لها قُبلة بيدي واشتريت بعض القماش، وبعد يومين عدت بحُجَّة شراء بضاعة جديدة. وإذا بالتاجر يطلب مني أن ألقنَّ المرأة بعض دروس الحساب والنحو الفَرنسي ليعهَد إليها بحساباته ومراسلاته مع التجار الفَرنسيين. طبعًا وافقت بكل سرور. وقادني إلى غرفة ملحقة بدكَّانه وأحضر لي زوجته الفاتنة لأبدأ معها الدرس الأول.
شعرت بعدم الارتياح عندما بدأ قصة دروس اللغة.
استأنف حديثه: لا يمكن أن تتصور مشاعري عندما رأيتها وجهًا لوجه. لم نتفوَّه بغير كلمات متقطِّعة، فقد كان كلانا في غير وعيه. وعلَّمتُها بعض مبادئ الترقيم والجمع. وحكت لي قصتها، فقد وُلدت في تيفليس بجورجيا وباعها سيد القرية على عادة البلاد لتاجر أرمني حملها إلى إستامبول فلم يشترِها أحد لأنها نحيلة ولا تزال في الرابعة عشرة من عمرها. فأحضرها إلى القاهرة واشتراها المملوك الذي مات في معركة إنبابة. وقالت إنها لم تحبه لأنه كان قاسيًا. وطلبت مني أن آخذها معي إلى فرنسا.
بدا الصباغ مفتونًا بالقصة، وتعلَّقت عيناه بشفتَي جاستون عندما استطرد: كنا نأخذ الدرس ونختلس القبلات والمداعبات. ثم نقلوني من دمياط إلى أبي قير ومنها إلى القاهرة. وعرَفت فيما بعد أن الأهالي قتلوها.
فكرت طويلًا في قصة جاستون ومراميه من حكايتها.
السبت ٤ يناير ١٨٠٠
قرب الظهر سمعنا ضجَّة عند باب المجمع. وأسرعنا أنا وجاستون إلى الخارج فرأينا مركبة بريد، وترجلت منها بولين. كانت ترتدي ملابس ثقيلة وفوق رأسها قَلَنْسوة صوفية تغطي أذنيها. رحَّبنا بها وساعدناها في نقل صندوق أمتعتها إلى الداخل.
جلست إلى منضدتها السابقة وقالت إنها مرت بوقت عصيب. فعندما وصلت إلى الإسكندرية لتستقلَّ السفينة «أمريكا» إلى فرنسا كان معها بقية حاشية نابليون. وعرَف الجنود بسفرها فثاروا لأنهم يريدون الرحيل هم أيضًا. ودعا بعضهم إلى الاستسلام إلى الإنجليز. وبعد أن أبحرت السفينة اعترضتها سفينة بريطانية. وأعاد الإنجليز المجموعة كلها إلى الإسكندرية. وأمر حاكم المدينة بإعادتها إلى القاهرة.
سألتها: وماذا ستفعلين الآن؟
قالت: لقد وافق ساري عسكر على أن أعود إلى عملي هنا حتى تسنح فرصة جديدة للسفر.
– وأين ستسكنين؟
ابتسمت في وهن قائلة: هنا طبعًا.
كان يبدو عليها الإرهاق والحزن. وقاومت رغبة جارفة في احتضانها. ثم صعِدَت إلى الغرفة المخصَّصة لها.
الإثنين ٦ يناير
قربت منضدتي منها كالسابق للدراسة. نظرات جاستون علينا طول الوقت بابتسامة غامضة. رائحتها المميزة تثيرني. تلصق ساقها بفخذي. انتظرت حتى انصرف جاستون والصباغ فصعدت معها إلى غرفتها. خلعت رداءها وأعطتني ظهرها العاري. تحسَّست مؤخرتها فقالت: إن نابليون مغرم بالمؤخرات الصغيرة.
الجمعة ١٧ يناير
وجدتُها اليوم فرحانة. قالت لي: إن رسولَي الفرنساويَّة إلى الترك في العريش قد عادا. وشاع أنهما اتفقا على الصلح مع الترك على أن يُخليَ الفرنساويَّة الديار المصرية. وقالت: أخيرًا سأعود إلى فرنسا.
السبت ١٨ يناير
جمع دوجا قائمقام ساري عسكر أهل الديوان، وبينهم أستاذي وقرأ عليهم الطومار المتضمِّن لعقد الصلح وشروطه.
وخلاصة الطومار أن الجيش الفرنساوي يلزمه أن ينتحيَ بالأسلحة والعزال بالأمتعة إلى الإسكندرية ورشيد وأبي قير لأجل أن ينتقل بالمراكب إلى فرنسا في ظرف ثلاثة أشهر، وتُسلَّم البلاد إلى الباب العالي. وخلال ذلك يقدم إلى الجيش الفرنساوي ما يحتاجه من المعاش اليومي من القمح واللحم والأرز والشعير والتبن، ومن المصاريف الأخرى.
الناس فرحون مستبشرون بعقد الصلح وتنحِّي الفرنساويَّة. التجار يوزِّعون الشربات على المارة.
الإثنين ٢٠ يناير
لم يحضر الصباغ اليوم. انتهزنا فرصة انشغال جاستون فتبادلنا قُبلات لذيذة. وضعت يدها على ساقي وتحسَّست فخذي. مددت يدي إلى ساقها وأزحت ثوبها وعيني على جاستون. تحسَّست سمَّانتها وعندما وصلت أسفل ركبتها ضغطت على أصابعي بقوة فمنعتها من الحركة واضطررت إلى سحب يدي. بقي جاستون إلى ما بعد موعد الانصراف؛ فلم نستطع الصعود إلى غرفتها.
الأحد ٢٦ يناير
اليوم بداية شهر رمضان الكريم. عاد جعفر من السوق قبل الإفطار منفعلًا. وقال إنه لمح ساكتة، وكانت محجبة لكنه تعرَّف عليها من بشَرتها السوداء وقامتها المنتصبة ومشيتها. وعندما أراد أن يستوقفها اختفت في الزحام. وقال إن النساء اللاتي درن مع الفرنساويَّة تحجبن وتنقَّبن عندما شاع أمر مجيء العثمانيين.
الثلاثاء ٢٨ يناير
رياح قوية وزوبعة ترابية. أظلمت السماء وتلا ذلك أمطار غزيرة. ذهبنا أنا وأستاذي إلى جامع الأزهر لنؤديَ صلاة التراويح. ووجدنا زحامًا عند المدخل، وعلمنا أن العثمانيَّة وصلوا وأن أغا من رجالهم دخل من باب النصر في موكب. أسرعنا بالعودة وأخذ كلٌّ منا رَكوبته وخرجنا من جديد. وكانت الشوارع مزدحمة بالناس لمشاهدة الأغا والفرجة عليه. لحقنا موكبه في بين القصرين. وركب الناس على مصاطب الدكاكين والسقائف، وارتفعت أصواتهم، وانطلقت النساء بالزغاريد من الطيقان، ومشينا خلفه بالمشاعل والفوانيس حتى وصل إلى بيت حسن أغا بسويقة اللالا، فنزل هناك.
الأربعاء ٢٩ يناير
عمِل الأغا ديوانًا في الصباح وجمع العلماء وأعيان الناس وكِبار النصارى من الأقباط والشوام، فذهب أستاذي فيمن ذهبوا. وعند عودته قال لي متفكهًا: إن الأغا أبرز لهم فرمانًا من الوزير بأنه أغات الجمارك أي المكوس بمصر وبولاق ومصر القديمة، وأنه يحتكر على جميع الواردات من أصناف الأقوات، فيشتريها بالثمن الذي يسعِّره هو بمعرفة المحتسب ويودعه في المخازن.
وأبرز فرمانًا آخر قرئ بالمجلس، مضمونه أن السيد أحمد المحروقي كبير التجار مُلزَم بتحصيل الثلاثة آلاف كيس المعينة لترحيل الفرنساويَّة.
قال أستاذي: دُهينا من أول أحكامهم بهاتين الداهيتين، فأول قادم منهم هو أمير المكوسات ومحكر الأقوات، وأول مطلوبهم مصادرة الناس، وأخْذ المال منهم وتغريمهم.
الخميس ٣٠ يناير
طول الوقت أستغفر الله العظيم. تحاول إغوائي فأقول إني صائم.
الجمعة ٣١ يناير
أخذ السيد أحمد المحروقي في تحصيل المال المطلوب من التجار وأهل الأسواق والحرف. وشرعوا في تحكير الأقوات، فغلت أسعارها وضاقت مؤن الناس. ومع ذلك كان كل من توجه عليه مقدار من ذلك المال اجتهد في تحصيله، وأخرجه عن طيب قلب وانشراح خاطر، وبادر بالدفع من غير تأخير لعلمه أن ذلك لترحيل الفرنساويَّة، ويقول سنة مباركة ويوم سعيد بذَهاب الكلاب الكفرة. كل ذلك بمشاهدة الفرنسيس ومسمعهم. وسار الهمج وفقهاء المكاتب بجماعات من الأطفال وهم يجهرون: «الله ينصر السلطان، ويهلك فرط الرمان»، ونحو ذلك. وعندما سمع أستاذي بذلك استنكره، وقال إنهم لا يفكرون في عواقب الأمور.
السبت أول فبراير
قال جعفر إن الفرنساويَّة يبيعون أمتعتهم، وما فضل عن سلاحهم ودوابهم. واقترح عليَّ أستاذي أن نشتريَ إحدى دوابهم فطلب مني أن أستفسر عن ذلك في المجمع.
الثلاثاء ٤ فبراير
تدرَّج العثمانيون في دخول مصر، وصار في كل يوم يدخل منهم جماعة بعد جماعة، ففرِح الناس كعادتهم بالقادمين، وظنوا فيهم الخير، وصاروا يتلقَّونهم ويسلمون عليهم ويباركون لقدومهم، والنساء يلقلقن بألسنتهن من الطيقان. ووصلت مراكب من جهة بحري، وفيها البضائع الرومية والياميش من البندق والجوز والزبيب والتين والزيتون الرومي. وظهر أثر ذلك في طعام الإفطار عندنا.
الجمعة ٧ فبراير
جاءنا الشيخ صاحب الحمَّام المجاور واشتكى لأستاذي من أن العثمانيَّة يجلسون على باب الحمَّام ويفرضون عليه شراكتهم. وقال إنهم يفعلون ذلك مع أصحاب الحرف والصناعات مثل القهوجية، والحمامية، والخياطين، والمزينين وغيرهم.
السبت ٨ فبراير
ذهب أستاذي مع جمع من العامة وأصحاب الحرف إلى مصطفى باشا قائمقام، وشكَوا إليه ما يفعله العثمانيَّة، فلم يلتفت.
الأحد ٩ فبراير
بلغ أستاذي أن قاضيًا قال إن الأملاك والعقارات صارت كلها ملكًا للسلطان فيحتاج أربابها أن يشتروها من الميري؛ فانزعج انزعاجًا شديدًا وخرج إلى الديوان يستعلم عن الأمر.
الإثنين ١٠ فبراير
تفرَّجت على الخرائط التي أعدها الفرنساويَّة. تأمَّلت في اندهاش تفاصيل المدينة التي لم أكن أعرفها. يقابل المرء إذا كان قادمًا من الشمال وقبل أن يبلغ القاهرة مدينة بولاق الصغيرة، أمَّا إذا قدم من الجنوب فهو يلاقي مدينة مصر القديمة. ويقسم الخليج المدينة قسمين غير متساويين بقناة من أسفل مقياس جزيرة الروضة.
وبالمدينة ثلاثة شوارع طولية: واحد من باب السيدة إلى باب الحسينيَّة، والثاني بمحاذاة شاطئ الخليج الأيمن من قناطر السباع إلى باب الشعرية، والثالث هو الشارع الأعظم من جامع ابن طولون إلى باب النصر.
وهناك خمسة شوارع عرضية، ثلاثة منها تصل بين النيل والقلعة وآخر من ميدان الأزبكيَّة حتى مقابر قايتباي.
ويخرج الخليج من النيل جنوبيَّ قصر العيني عند السبع سواقي، ثم يسير إلى الشمال الشرقي للمدينة مارًّا غربيَّ بركة الفيل، ثم غربيَّ درب الجماميز وغربيَّ باب الخرق فيخترق سور القاهرة عند باب الشعرية، ثم يسير خارج المدينة إلى قرب جامع الظاهر بيبرس، ثم يسير بين المزارع إلى ناحية الأميرية.
الجمعة ١٤ فبراير
قال جعفر إن العسكر العثمانيَّة رتبوا على أرباب الحوانيت دراهم كل يوم، ويأخذون الخبز ويشربون القهوة في القهاوي، ويحتكرون ما يريدون من الأصناف، ويلاقشون النساء بالأسواق أو يبدلون الدنانير الزيوف بالدراهم الفِضَّة قهرًا. ويدخلون القرى بورقة مكتوبة بالتركية مدعين أنهم جاءوا لرفع الظلم عنهم، ويطلبون حق الطريق مبلغًا عظيمًا.
السبت ١٥ فبراير
عند عودتي من المجمع رأيت عسكريًّا عثمانيًّا جالسًا أمام وكالة إينال. وفكرت أنه سيظل جالسًا إلى موعد الإفطار ليقدم إليه صاحب الوكالة الطعام. وبعد أن دخلت وصليت العصر سمعت ضجَّة عظيمة في الخارج. غادرت البيت ووجدت العسكري يقف في منتصف الحارة ويصرخ، وسمعته يقول إن كيسه قد ضاع منه، ويتهم صاحب الوكالة والعاملين بها بسرقته. ولاطفه هؤلاء ثم أعطَوه كيسًا بدل الذي ضاع منه فانصرف. وقال لي صاحب الوكالة: إن هذه هي طريقتهم في الاحتيال على أصحاب الحوانيت.
الأحد ١٦ فبراير
مررت بالخراط الذي تحول إلى بيع الأكلات. ووجدت لديه حشدًا من الناس يغلب عليهم الحزن. عرَفت أن الأمر يتعلق بابنه الذي اشتغل مُكاريًا، فقد ركب أحد العثمانيين حماره قهرًا وذهب إلى الخلاء والولد يجري كعادة المُكارية، وهناك قتله ثم عاد إلى سوق الحمير فباع الحمار.
الثلاثاء ١٨ فبراير
أمَر الوزير التركي أمراء المماليك بتغيير زيهم إلى زي العثمانيَّة؛ فلبس أرباب الأقلام والأفندية والقلقات القواويق الخضر وضيقوا أكمامهم. وجلب أستاذي خياطًا ليصنع له ذلك.
الخميس ٢٠ فبراير
سمعت زعيقًا عاليًا بعد صلاة العشاء. وتبينت صوت أستاذي. واستغربت فنادرًا ما يفعل. وقفت في الحَوْش أنصت. ولم أتبين سبب زعيقه الذي كان يصلني من الباب الداخلي. ثم لمحت خليل يتسلل متجهًا إلى باب الدار. لحقت به وسألته عن الأمر. قال إن أباه علِم بأن الست بدرية ستزورنا الليلة لتخطب أخته حنان إلى عسكري عثماني. وإن الشيخ قال إننا لا نصاهر عساكر العثمانيَّة. وإن النساء البطالات هنَّ الذين يتزوجن منهم.
السبت ٢٢ فبراير
نسمع كل يوم عن حضور غالب المصريين الفارين من مصر وقت مجيء الفرنساويَّة إليها من الأغوات والوجاقليَّة والأفندية والكتبة.
قال لي أستاذي إن الوزير التركي وصل بلبيس وصحبته الأمراء المصرية، وأرسلوا إلى مراد بك ومن معه بالحضور، فأجاب بالاعتذار لأنه في الصعيد، فلم يقبلوا عذره، وأكدوا عليه بالحضور.
سألته: هل حضر؟
قال إنه استأذن الفرنساويَّة سرًّا فأذنوا له في المقابلة.
– وماذا عن إبراهيم بك؟
خبط كفًّا بكف وقال: لا يتَّعظون. عادوا إلى عادتهم القديمة.
عرَفت منه أن إبراهيم بك أرسل إلى السيد أحمد المحروقي يطلب كساوي وثيابًا وطرابيش وسراويل للمماليك ولخاصة نفسه، فأرسل إليه مطلوبه، وأخرج لهم الخيام والتراتيب، وجروا على عادتهم في التغالي، ولازمت الخدم والفراشين الغدو والرواح إلى خيم ساداتهم وهم راكبون البغال والرهوانات والحمير الفارهة، وفي حجورهم تعابي الثياب والبقج المزركشة بالذهب والفِضَّة، وكذلك الخدم الذين يحملون الخوانات وطبالي الأطبخة والأطعمة وعليها الأغطية الحرير والوشي الملوَّن.
الأربعاء ٢٦ فبراير
العيد. لم أذهب إلى المجمع.
الجمعة ٢٨ فبراير
وجدتها تقرأ قصة «العَلاقات الخطرة» لشاردر لو دي لاكلوس عن الحياة الأرستقراطية الفاسدة قبل الثورة. وحدثتني عن حفلات الرقص في البلاط، وكيف تربط المرأة مروحة إلى رسغها بحبل ذهبي، وترتدي رداء من التافتاه الخضراء المطرَّزة بالفِضَّة. وتلمع الماسات حول عنقها، ويتغطَّى شعرها بمسحوق أبيض لامع. أمَّا الرجال فشعورهم المستعارة مغطاة بالبودرة البيضاء هم أيضًا، وستراتهم مُذهَّبة أو مفضضة، وسراويلهم ضيقة مُغطَّاة بالجواهر.
كان جاستون يبتسم في سخرية طول الوقت.
السبت أول مارس
طلبت مني أن تطَّلع على الأوراق التي أدونها. قلت: لأي شيء؟ قالت: مجرد الفضول. وعدتها بإحضار بعضها.
حكى جاستون قصة سمعها عن رجل ضرب امرأته بقسوة حتى سال دمها، فلجأت إلى الحاكم الفَرنسي. وقال الرجل إنه أراد أن يستردَّ أملاكه التي انتزعها منه المماليك لكن أهل امرأته رفضوا، فضربها ليحقق عدالة القوانين الفَرنسية، فقال له الحاكم إنه حسب القوانين الفرنساويَّة لا يستطيع الإنسان أن يحصل على حقوقه بنفسه، وإن للمرأة نفس الحقوق التي للرجل، ودمها ليس أقل قيمة من دمه. وأمر بضربه ٢٥ عصًا. استغربت موقفهم من المرأة.
الإثنين ٣ مارس
وقع ما تحسَّبه أستاذي؛ فقد تشاجرت جماعة من عسكر العثمانيَّة مع جماعة من عسكر الفرنساويَّة، فقُتل بينهم شخص فرنساوي، ووقعت في الناس زعجة وكرشة، وأغلقوا الحوانيت، وعمل العثمانيَّة متاريس وتترسوا بها بناحية الجمالية وما والاها، ووقعت مناوشة قُتِلَ فيها أشخاص قليلة من الفريقين.
الثلاثاء ٤ مارس
توسَّط كبراء العسكر بين الفريقين فأزال العثمانيَّة المتاريس وبحث مصطفى باشا عمن أثار الفتنة، وهم ستة أنفار فقتلهم، وأرسل جثثهم إلى ساري عسكر الفرنساويَّة، فلم يطبْ خاطره بذلك، وطلب انسحاب العثمانيَّة إلى معسكرهم حتى تنقضيَ الأيام المشروطة، وإذا دخل منهم أحد إلى المدينة يكون بدون سلاح. فأذعن مصطفى باشا لطلبه.
وأرسلني أستاذي للتحقق من الأمر فذهبت إلى باب النصر. رأيت جماعة من الفرنساويَّة واقفين خارج الباب، فإذا أراد أحد من العسكر أو من أعيان العثمانيَّة الدخول إلى المدينة يتوقَّف عندهم وينزع ما عليه من السلاح، ويدخل وصحبته شخص أو شخصان موكلان به يمشيان أمامه حتى يقضي شغله ويرجع، فإذا وصل إلى الفرنساويَّة الملازمين خارج البلد أعطَوه سلاحه فيلبسه ويمضي.
الأربعاء ٥ مارس
تأخَّر جاستون في الانصراف. وانتظرناه على أحرِّ من الجمر ونحن نتظاهر بالدراسة. قرأنا مقتطفات من بول وفرجيني وهي قصة حب بين حدثين تنتهي نهاية فاجعة. وقرأت لها بعضًا من أنيس الجليس. وأخيرًا انصرف جاستون فصِعدت معها إلى غرفتها وأغلقنا الباب ثم اندفعنا في أحضان بعضنا البعض.
السبت ٨ مارس
لم أجد بولين في مكانها المعتاد وانتظرت في قلق. وأخيرًا رأيتها تدخل من الباب الخارجي. كانت منفعلة ولم تجلس غير دقيقة واحدة قائلة: إن هناك جماعة من أعيان الفرنساويَّة سيسافرون إلى فرنسا في الغد وفيهم دوجا قائمقام، وديزه ساري عسكر الصعيد، وبوسليج رئيس الكُتَّاب ومدير الحدود، وإنها توسلت إلى ساري عسكر كليبر أن يسمح لها بالسفر معهم فوافق.
نزل عليَّ الخبر كالصاعقة. طلبت مني أن أساعدها في حزْم حقائبها، فصعِدتُ معها إلى غرفتها وأنا مشدوه.
كانت الغرفة في حالة فوضى وحاجيَّاتها متناثرة في كل مكان. وبدأنا نجمع الحاجيَّات ونضعها في حقائب. ورأيت أشياء كثيرة لم ألمحها من قبل في حجرتها، وأدركت أنها جمعتها في الأيام القليلة الماضية. كان هناك كوم من الأقمشة الموسلين والأوشحة والتافتاه وأقمشة قطنية وكتانية. وكانت هناك أكياس تمر حنة وبلح وحبهان وكركم وأفيون وحنة حمراء وبن وسن فيل وقرفة. وقالت إنها ستبيع كل ذلك لتنفق على نفسها في الأيام الأولى من وصولها.
انتهينا عند المغرب من إعداد كل شيء، فطلبت مني أن أنتظر حتى تغتسل. وجاءت في ردائها المعهود وقد لفَّت شعرها بالفوطة. ثم أحضرت زجاجة من النبيذ، وأصرت على أن أشرب معها. كان الشراب حُلْوًا بعَث الدفء في أوصالي وجعلني مرحًا وحيًّا ثم حزينًا. لاحظت تغيُّري فقالت: أنت حزين لذَهابي؟
قلت: طبعًا.
قالت: ربما أعود وربما تأتي أنت إلى فرنسا.
– وكيف أجدك؟
– لا أعرف أين سأكون. سأكتب لك عندما أستقر.
أوشكت أن أتوسل إليها أن تأخذني معها لكني لم أفعل. وكنت غاضبًا فاستأذنت في الذَّهاب.
قالت: ألن تقبِّلني؟
قرَّبَت وجهها مني فقبَّلتُها في فمها وإذا بها تحتضنني. وتعلقت يداي بها وكلبشت في جسمها.
دفعتني حتى وقعت على الأرض، ثم ركبت فوقي وأزاحت ردائي. قاومت لأني لم أتصور ماذا ستفعل. وإذا بها تعتليني وجعلت تتحرك فوقي في جنون.
جاء ظهرانا فاحتضنتني بقوة. ثم نهضنا. قبَّلتها مرة أخرى. ثم انصرفت.
الإثنين ١٠ مارس
قال جاستون إن الجماعة توجَّهوا أول أمس إلى الإسكندرية بمتاعهم وأثقالهم، وعندما نزلوا إلى البحر يريدون السفر إلى بلادهم تعرَّض لهم الإنجليز يريدون معاكستهم ومنعوهم من السفر. انتعش أملي في عودتها.
الجمعة ١٤ مارس
وصل الأمراء المصرية، وجيش نصوح باشا وجملة من العساكر العثمانيَّة إلى ناحية المطرية، ونصبوا خيامهم ووطاقهم هناك.
قال أستاذي: إن الفرنساويَّة طلبوا ثمانية أيام آجلة زيادة على أيام المهلة المتفق عليها لخروجهم من مصر فأجيبوا إلى ذلك.
الإثنين ١٧ مارس
سمح الإنجليز لبولين وجماعتها بالسفر.
الثلاثاء ١٨ مارس
غادرت المجمع عند الظهر ومضيت فوق حماري إلى شاطئ النيل عند مصر القديمة حسب تعليمات أستاذي. ووجدت أن الفرنساويَّة نصبوا وطاقهم بساحل البحر. ورأيته ممتدًّا في اتجاه شبرا.
وعند عودتي وجدت عرباتهم تنقُل المدافع والجُلل وآلات الحرب. ولم أتبين وجهتهم، ولا عرفها من سألتهم من الناس. واستمر ذلك بالليل.
الخميس ٢٠ مارس
خرجت جموع الفرنساويَّة إلى ظاهر المدينة جهة قبة النصر، وانتشروا في تلك النواحي، ولم يبقَ بداخل المدينة منهم إلا القليل وغلب على ظن الناس أنهم برزوا للرحيل.
الجمعة ٢١ مارس
دوَّت المدافع في الصباح وكثر اللغط والقيل والقال، وهاج الناس ورمحوا إلى أطراف البلد، وشاع أنهم قتلوا أشخاصًا من الفرنساويَّة صادفوهم. صلينا على عجل ودعا الإمام بذَهاب دولة الفرنسيس.
وعرفنا أن كليبر ركب قبل طلوع الفجر بعساكره وصحبتهم المدافع وآلات الحرب. وتوجه إلى جهة المطرية، فضربوا على العثمانيَّة، فلم يسع نصوح باشا إلا الجلاء والفرار، وترك الترك خيامهم ووطاقهم، فنهبها الفرنساويَّة وسمروا أفواه المدافع وتركوها.
وأرسلني أستاذي إلى باب النصر فوجدت عامة أهل البلد والأوباش قد تجمعوا على التلول خارجه، وبأيدي الكثير منهم النبابيت والعصيِّ، والقليل معهم السلاح.
وعندما دخل وقت العصر وصل جمع عظيم وخلفهم إبراهيم بك، ثم نصوح باشا ومعه عدة وافرة من عساكرهم، وصحبتهم السيد عمر نقيب الأشراف، والسيد أحمد المحروقي، وحسن بك الجداوي، وعثمان بك الأشقر، وإبراهيم السناري كَتْخُدا مراد بك، وصحبتهم مماليكهم وأتباعهم، فدخلوا من باب النصر وباب الفتوح، ومروا على الجمالية وأنا خلفهم حتى وصلوا إلى وكالة ذي الفقار فنزلوا هناك، وبعد قليل خرج نصوح باشا للعامة المتجمهرين وقال لهم: «اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم.»
فصاحوا وهاجوا، ورفعوا أصواتهم، ومروا مسرعين يقتلون من يصادفونه من نصارى القِبط والشوام وغيرهم، فذهبت طائفة إلى حارات النصارى وبيوتهم التي بناحية بين الصورين، وباب الشعرية، وجهة الموسكي، فسِرت خلفهم وأنا أفكِّر في مصير حنا وأهله. ورأيتهم يكبسون الدور ويتسورون عليها ويقتلون من يصادفونه من الرجال والنساء والصبيان، وينهبون ويأسرون. وصارت النصارى تقاتل وترمي بالبندق والقرابين من طبقات الدور على المجتمعين بالأزقَّة من العامة والعسكر، وهؤلاء يرمون من أسفل.
لم أجسُر على الذهاب إلى بيت حنا، وعدت إلى أستاذي فرويت له الأخبار؛ فصار يضرب كفًّا بكفٍّ ويدعو باللطف من الله.
فلما أظلم الليل أطلق الفرنساويَّة المدافع والبُنب على البلد من القلاع، وولوا الضرب بالخصوص على خط الجمالية، وجاءنا الشيخ حسن العطار قائلًا إن الكبراء والرؤساء عزموا على الخروج من البلد في تلك الليلة لعجزهم عن المقاومة، وعدم آلات الحرب وعزة الأقوات.
دعاه أستاذي إلى التروِّي وخرجنا جميعًا إلى الجمالية فوجدناها غصَّت هي وما والاها من الأخطاط بازدحام الناس الذين يريدون الخروج من المدينة، وركب بعضهم بعضًا، وازدحمت تلك النواحي بالحمير والبغال والخيول والهُجْن والجِمال المحمَّلة بالأثقال.
وتسامع أهل خان الخليلي من الألاضيش، وبعض مغاربة الفحَّامين والغورية ذلك فجاءوا للجمالية، وشنعوا على من يريد الخروج وعضدهم طائفة عساكر الينكجرية، وعمدوا إلى خيول الأمراء فحبسوها ببيت القاضي والوكائل وأغلقوا باب النصر، وبات في تلك الليلة معظم الناس على مصاطب الحوانيت، وبعض الأعيان في بيوت أصحابهم بالجمالية، وفي أزقة الحارات أيضًا. أما نحن فقد عدنا إلى الدار وأقام معنا الشيخ حسن تلك الليلة.
السبت ٢٢ مارس
ذهبت إلى المجمع رغم انعدام الأمن في الطرقات، ووجدته مغلقًا وعليه حرسية شديدة. ورفضوا أن يسمحوا لي بالدخول.
ومشيت بعد الظهر حتى الموسكي أستطلع الأحوال. وذهبت إلى بيت حنا ففتحوا لي بعد مدة، وقالوا إنه اختفى ولا يعرفون له مكانًا. التقيت موكبًا يتقدمه ناصف باشا، وصحبته الأمراء المصرية على أقدامهم، ومعه آلاف من أهل مصر. وكانوا يجرون أمامهم ثلاثة مدافع. مشيت خلفهم إلى الأزبكيَّة، وكانت البركة جافة فعبروها وضربوا على بيت الألفي، فردَّ عليهم الفرنساويَّة المرابطون هناك، واستمرَّ الضرب بين الفريقين إلى آخر النهار. وتطوعت مع آخرين للمرور على حوانيت العطارين وجمع المثقلات التي يزنون بها البضائع من حديد وأحجار لاستعمالها عوضًا عن الجلل للمدافع.
وصادفت جماعة قابضة على نصراني فمشيت خلفهم إلى الجمالية حيث أسلموه لعثمان كَتْخُدا بوكالة ذي الفقار، وأخذوا عليه البقشيش. وكان هناك البعض الذين قتلوا فرنساويًّا وأحضروا رأسه لأجل البقشيش.
الأحد ٢٣ مارس
علمنا أن محمد بك الألفي قد حضر وتمترس بناحية السويقة عند درب عبد الحق قرب العتبة، وصحبته طوائفه ومماليكه وأشخاص من العثمانيَّة.
أما مراد بك فإنه بمجرد ما عاين هجوم الفرنسيس على الباشا والأمراء بالمطرية، ركب من ساعته هو ومن معهم ومروا من سفح الجبل وذهب إلى ناحية دير الطين وراء كنائس مصر القديمة، ينتظر ما يحصل من الأمور. وقال أستاذي وهو يشتكي من آلام الأسنان إن مراد مستمر على صلحه مع الفرنساويَّة.
الإثنين ٢٤ مارس
جاء استدعاء إلى الخراط المجاور من عثمان كَتْخُدا فذهبت معه إلى بيت قائد أغا بخط الخرنفش بالشارع الأعظم. ووجدته قد أحضر صناع الأسلحة والعربجية والحدادين والسباكين والنجارين لإنشاء مدافع وبُنبات، وإصلاح المدافع التي وجدوها في بعض البيوت. وأحضروا لهم ما يحتاجون إليه من الأخشاب وفروع الأشجار والحديد من المساجد. وصار هذا كله يصنع ببيت القاضي والخان الذي بجانبه والرَّحْبة التي من جهة المشهد الحسيني.
الثلاثاء ٢٥ مارس
قضينا اليوم أنا وجعفر جائلين بمختلف الأنحاء لنأتيَ لأستاذي بالأخبار. ووجدنا أن بكوات المماليك والعامة قد توزعوا على الجهات المختلفة فجلس عثمان بك الأشقر عند متاريس باب اللوق، وناحية المدابغ، وعثمان بك طبل عند متاريس المحجر، ومحمد بك المبدول عند الشيخ ريحان، ومحمد كاشف أيوب عند الناصريَّة، ومصطفى بك الكبير بقناطر السباع، وسليمان كاشف المحمودي عند سوق السلاح، وأولاد القرافة وزُعْر الحسينيَّة والعطوف عند باب النصر وباب الحديد، وجماعة خان الخليلي والجمالية عند باب البرقية، وناصف باشا، وإبراهيم بك وجماعاتهما، وعسكر من الينكجرية والأرنؤد والدلاة وغيرهم جهة الأزبكيَّة ناحية باب الهواء، والرَّحبة الواسعة التي عند جامع أزبك، والعتبة الزرقاء.
وكانت المناداة في كل مكان بالعربي والتركي على الناس بالجهاد والمحافظة على المتاريس.
وفي المساء عاد خليل من بولاق قائلًا إنها قامت على ساق واحدة، وتحزم الحاج مصطفى البشتيلي وأمثاله وهيَّجوا العامة، وهيَّئوا عصيَّهم وأسلحتهم، وذهبوا إلى وطاق الفرنسيس الذي تركوه بساحل البحر وعنده حرسية منهم، فقتلوا من أدركوه منهم، ونهبوا جميع ما فيه من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد، وفتحوا مخازن الغِلال والودائع التي للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حوالي البلد ومتاريس، واستعدوا للحرب والجهاد، واستطالوا على من كان ساكنًا ببولاق من نصارى القِبط والشوام فأوقعوا بهم بعض النهب.
وأما الفرنساويَّة فإنهم تحصَّنوا بالقلاع المحيطة بالبلد وببيت الألفي، وما والاه من البيوت الخاصة بهم، وبيوت القِبط المجاورين لهم.
وشاع أن الوزير ارتحل ورجع إلى الشام.
وباشر السيد أحمد المحروقي وباقي التجار ومساتير الناس الكُلَف والنفقات والمآكل والمشارب، وكذلك جميع أهل مصر كل إنسان سمح بنفسه وبجميع ما يملكه، وأعان بعضهم بعضًا، وأتى أهل الأرياف القريبة بالميرة والاحتياجات من السمن والجبن واللبن والغلة والتبن فيبيعونه على أهل مصر، ثم يرجعون إلى بلادهم.
الأربعاء ٢٦ مارس
سمعنا عن رجل مغربي يقال إنه الذي كان يحارب الفرنسيس بجهة البحيرة سابقًا، وقد التفَّ عليه طائفة من المغاربة البلدية، وجماعة من الحجازية، فكان يتجسس على البيوت التي بها الفرنسيس والنصارى، فيكبس عليهم ومعه جمع من العوام والعسكر، فيقتلون من يجدونه منهم، وينهبون الدار ويسحبون النساء ويسلبون ما عليهن من الحلي والثياب، ومنهم من قطع رأس البنية الصغيرة طمعًا فيما على رأسها وشعرها من الذهب.
الخميس ٢٧ مارس
كنت مرابطًا في الجمالية عندما جاءت مجموعة من عسكر العثمانيَّة وأوباش العامة يجرون الشيخ خليل البكري مع أولاده وحريمه وهو ماشٍ على أقدامه ورأسه مكشوفة، وحصلت له إهانة بالغة وسمع من العامة كلامًا مؤلمًا وشتمًا. وأركبوه حمارًا على وضع مقلوب وعلقوا في عنقه أجراسًا والناس تبصق عليه وترمي عليه الأقذار، واتهموه بأنه يوالي الفرنسيس ويرسل إليهم الأطعمة. لم أتبين ابنته لأن النساء كن مستورات بالكلية. فلما مثلوه بين يدي عثمان كَتْخُدا هاله ذلك، واغتم غمًّا شديدًا ووعده بخير وطيب خاطره، وأخذه سيدي أحمد بن محمود محرم التاجر مع حريمه إلى داره وأكرمهم وكساهم، وأقاموا عنده.
الجمعة ٢٨ مارس
أحاطت العساكر الفرنساويَّة بالمدينة وبولاق، ومنعوا الداخل من الدخول والخارج من الخروج. وانعدمت الأقوات، وغلت أسعار المبيعات، وعزت المأكولات، وارتفع وجود الخبز من الأسواق، وامتنع الطوَّافون به على الأطباق، وصارت العساكر الذين مع الناس بالبلد يخطفون ما يجدونه بأيدي الناس من المآكل والمشارب، وغلا سعر الماء المأخوذ من الآبار أو الأسبلة حتى بلغ سعر القربة نيفًا وستين بارة، وأما البحر فلا يكاد يصل إليه أحد، وهلكت البهائم من الجوع لعدم وجود العلف من التبن والفول والشعير والدريس، بحيث صار يُنادى على الحمار أو البغل المعدود الذي قيمته ثلاثون ريالًا بريال واحد أو بمائة بارة وأقل، ولا يوجد من يشتريه، وتكفَّل التجار ومساتير الناس والأعيان بكُلَف العساكر المقيمين بالمتاريس المجاورة لهم.
السبت ٢٩ مارس
طلب أكابر القِبْط مثل: جرجس الجوهري وفلتيوس وملطي، الأمان من المتكلمين من المسلمين لكونهم انحصروا في دُورهم وخافوا على نهب دُورهم إذا خرجوا فارِّين، فأرسلوا إليهم الأمان، فحضروا وقابلوا الباشا والكَتْخُدا والأمراء، وأعانوهم بالمال واللوازم.
أما يعقوب فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي، واستعدَّ استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصَّن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى، فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معهم.
وكان إسماعيل كاشف تحصَّن ببيت أحمد أغا شويكار الذي كان الفرنساويَّة جعلوا به لغمًا بالبارود المدفون، فاشتعل ذلك اللغم، ورفع ما فوقه من الأبنية والناس وطاروا في الهواء، واحترقوا عن آخرهم، وفيهم إسماعيل كاشف المذكور، وانهدم جميع ما هناك من الدور والمباني العظيمة والقصور المطلة على البركة، واحترقت جميع البيوت التي من عند بين المفارق بقرب جامع عثمان كَتْخُدا إلى رصيف الخشاب، والخطة المعروفة بالساكت بأجمعها إلى الرَّحْبة المقابلة لبيت الألفي سكن ساري عسكر الفرنساويَّة، وكذلك خطة الفوالة بأسرها، وكذلك خطة الرويعي، وما في ضمنها من البيوت إلى حد حارة النصارى، وصارت كلها تلالًا وخرائب.
وعندما سمع أستاذي بالأمر قال: تلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.
الأحد ٣٠ مارس
أرسلوا إلى مراد بك يطلبونه للحضور أو يرسل الأمراء والأجناد التي عنده، فأرسل يعتذر عن الحضور، ويقول: اقبلوا نصحي، واطلبوا الصلح مع الفرنساويَّة واخرجوا سالمين.
فلما بلغتهم تلك الرسالة حنق حسن بك الجداوي، وعثمان بك الأشقر وغيرهم وسفَّهوا رأيه، وقالوا: كيف يصح الأمر، وقد دخلنا إلى البلد وملكناها، فكيف نخرج منها طائعين؟ هذا مما لا يكون أبدًا.
وعلق الجبرتي بأن مراد بك سبب خراب البلد.
الإثنين ٣١ مارس
استمر ضرب المدافع والقنابر والبنادق والنيران ليلًا ونهارًا، حتى كان الناس لا يهنأ لهم نوم ولا راحة ولا جلوس لحظة من الزمن، ومُقامهم دائمًا أبدًا بالأزقَّة والأسواق، وصارت مؤنة غالب الناس الأرز يطبخونه بالعسل وباللبن، ويبيعون ذلك في طشوت وأوانٍ بالأسواق.
وفي كل ساعة تهجم العساكر الفرنساويَّة على جهة من الجهات ويحاربون الذين بها، ويملكون منهم بعض المتاريس؛ فيصيحون على بعضهم بالمناداة، ويتسامع الناس فيقولون: عليكم بالجهة الفلانية، الحقوا إخوانكم المسلمين. فيرمحون إلى تلك الخطة والمتاريس حتى يُجلوهم عنها، وينتقلون إلى غيرها، فيفعلون كذلك. وكان المتحمل لغالب هذه المدافعات حسن بك الجداوي، فإنه كان عندما يبلغه زحف الفرنساويَّة على جهة من الجهات يبادر هو ومن معه بالذَّهاب لنصرة تلك الجهة.
هذا والأغا والوالي يكررون المناداة، وكذلك المشايخ والفقهاء، والسيد أحمد المحروقي والسيد عمر النقيب يمرون كل وقت ويأمرون الناس بالقتال، ويحرضونهم على الجهاد، وكذلك بعض العثمانيَّة يطوفون مع أتباع الشرطة، وينادون باللغة التركية مثل ذلك.
الأربعاء ٢ أبريل
عم الشغب أنحاء المدينة، وتسلل بعض الرعاع ومعهم أسلحة وكرات نار إلى قلب سوق النصارى، ثم دخلوا إلى درب الجنينة وأغلقوا البوابة الكبيرة، ووضعوا خلفها أحجارًا كثيرة. وعندما بلغت الأخبار يعقوب اندفع وخلفه أعوانه واتجهوا إلى معاصر الزيت السيرج في الجهة الشرقية من داره وفتحوا أبوابها فخرج مئات من فحول الجاموس والبقر تجمعت أمام بوابة درب الجنينة. وأمر جنوده برشق أجسامها بأسنة الرماح، فاندفعت فحول الجاموس والبقر نحو البوابة تزحزح أحجارها الثقيلة وتفتحها. عندئذٍ هجم الجنود على الرعاع وقبضوا عليهم.
وتناوب جنود القِبْط الصعود بأسلحتهم النارية إلى الأبراج لصدِّ هجمات الرعاع.
الجمعة ٤ أبريل
استمر الهجوم على القِبط أمس واليوم إلى أن أجبر الرعاع في النهاية على التقهقر. وشاع أن الفرنساويَّة عينوا قوة مخصوصة منهم لحماية يعقوب والدفاع عنه.
قال أستاذي: إن هناك محاولات للصلح يقوم بها من قبل الفرنساويَّة عثمان بك البرديسي تارة، ومصطفى كاشف رستم تارة أخرى، والاثنان من أتباع مراد بك. وإن الفَرنسيين يطلبون خروج العساكر العثمانيَّة من مصر، وهدَّدوا بحرقها وهدمها إذا لم يتمَّ هذا.
السبت ٥ أبريل
نصب الفرنساويَّة في وسط البركة فسطاطًا لطيفًا، وأقاموا عليه علمًا، وأبطلوا الرمي تلك الليلة، وأرسلوا رسولًا من قبلهم إلى الباشا والكَتْخُدا والأمراء يطلبون المشايخ يتكلمون معهم، فأرسلوا الشرقاوي، والمهدي، والسرسي، والفيومي وغيرهم، وذهب أستاذي فيمن ذهبوا.
وعند عودته قال إن ساري عسكر خاطبهم على لسان الترجمان بما حاصله أنه قد أمن أهل مصر أمانًا شافيًا، وأن الباشا والكَتْخُدا ومن معهما من العساكر العثمانيَّة يخرجون من المدينة إلى معسكرهم. وأعلمهم أن الصلح قد تم بينه وبين مراد بك على أن يحكم الصعيد باسم فرنسا. وأن مراد بك أشار عليه بحرق القاهرة إذا لم ينصاعوا لأمره.
وعندما سأل ساري عسكر عن أسباب الفتنة، قالوا له إن ما حدث من فعل الوزير التركي وكَتْخُدا الدولة، وإبراهيم بك ومن معهم، وإنهم هم الذين أثاروا الفتنة، وهيَّجوا الرعايا، ومنُّوا الناس الأماني الكاذبة، والعامة لا عقول لهم. وبعد كلام طويل قال ساري عسكر: إذا رضوا ومنعوا الحرب اجتمعنا معكم وإياهم وعقدنا صُلحًا، ولا نطالبكم بشيء، والذي قُتل منا في نظير الذي قُتل منكم.
الأحد ٦ أبريل
عندما سمع الإنكشارية والناس بهذا الكلام قاموا عليهم وسبوهم وشتموهم، وضربوا الشرقاوي والسرسي، ورمَوا عمائمهم، وأسمعوهم قبيح الكلام، وصاروا يقولون: هؤلاء المشايخ ارتدوا وعملوا فرنسيس، وأنهم أخذوا منهم دراهم.
وكان السادات ببيت الصاوي، فتحير واحتال بأن خرج وأمامه شخص ينادي بقوله: الزموا المتاريس، ليقي بذلك نفسه من العامة.
وتشدد في ذلك الرجل المغربي، ونادى من عند نفسه: الصلح منقوض، وعليكم بالجهاد. وقال للعامة: لولا أن الكفرة الملاعين تبيَّن لهم الغلب والعجز ما طلبوا المصالحة والموادعة، وأن بارودهم وذخيرتهم فرغت.
وعندما علم أستاذي بذلك قال: هذا منه افتئات وفضول ودخول فيما لا يعني، حيث كان في البلد الباشا والكَتْخُدا والأمراء المصرية، فما قدر هذا الأهوج حتى ينقض صلحًا أو يُبرِمه؟
لم أُخفِ إعجابي بجسارته، فقال أستاذي إن غرضه هو في دوام الفتنة، فبها يتوصل لما يريده من النهب والسلب، وتكفَّل الناس له بالمأكل والمشرب.
الإثنين ٧ أبريل
أرسل الفرنساويَّة واحدًا منهم يصيح: «أمان، أمان، سوا، سوا»، وبيده ورقة من ساري عسكر، فأنزلوه من فوق فرسه وقتلوه.
السبت ١٢ أبريل
احتلَّ الفرنساويَّة الفجالة.
الأربعاء ١٦ أبريل
غيَّمت السماء وأرعدت وأمطرت مطرًا غزيرًا، وتوحَّلت جميع السكك والطرقات؛ فاشتغل الناس بتجفيف المياه والأوحال، ولطخت الأمراء والعساكر بسراويلهم ومراكبهم بالطين.
وهجم الفرنساويَّة على مصر من كل ناحية، ولم يبالوا بالأمطار وعملوا فتائل مُغمسة بالزيت والقطران. وكان معظم كبستهم من ناحية باب الحديد، وكوم أبي الريش، وجهة بركة الرطلي، وقنطرة الحاجب، وجهة الحسينيَّة والرميلة، فكانوا يرمون المدافع والبُنبات من قلعة جامع الظاهر، وقلعة قنطرة الليمون، ويهجمون أيضًا وأمامهم المدافع وطائفة خلفهم يرمون بالبندق المتتابع، وطائفة بأيديهم الفتائل المشتعلة بالنيران يلهبون بها السقائف وأبواب الحوانيت وشبابيك الدور.
الجمعة ١٨ أبريل
هجم الفرنساويَّة اليوم على بولاق من ناحية البحر ومن ناحية بوابة أبي العلا. وقاتل أهل بولاق جهدهم، ورمَوا بأنفسهم في النيران حتى غلب الفرنسيس عليهم وحصروهم من كل جهة، وقتلوا منهم بالحرق والقتل، وسلكوا بولاق، وفعلوا بأهلها ما يشيب من هوله النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقَّة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة.
ثم أحاطوا بالبلد، ومنعوا من يخرج منها، واستولوا على الخانات والوكائل والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخوندات والصبيان والبنات، ومخازن الغلال والسكر، والكتان والقطن والأرز والأدهان والأصناف العطرية، والذي وجدوه منعكفًا في داره ولم يقاتل ولم يجدوا عنده سلاحًا، نهبوا متاعه وعرَّوه من ثيابه، ومضَوا وتركوه حيًّا.
السبت ١٩ أبريل
اختفى البشتيلي فدلوا عليه وقبضوا عليه؛ فحبسوه هو ومن معه ببيت ساري عسكر، وضيقوا عليهم حتى منعوهم البول، وفي اليوم الثالث أطلقوهم وجمعوا عصبة البشتيلي من العامة وسلموه لهم، وأمروهم أن يطوفوا به البلد ثم يقتلوه بأيديهم لدعواهم أنه هو الذي كان يحرك الفتنة ويمنع الصلح، ففعلوا ذلك وقتلوه بالنبابيت، وألزم أهل بولاق بغرامة مائتي ألف ريال.
الثلاثاء ٢٢ أبريل
ضاق خناق الناس من استمرار الانزعاج والحريق والسهر، وعدم القوت حتى هلكت الناس وخصوصًا الفقراء والدواب، وضاقوا أيضًا بعسكر العثمانلي، وخطْفِهم ما يجدونه معهم حتى تمنَّوا زوالهم ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها.
والفرنساويَّة في كل يوم يزحفون إلى قدام، والمسلمون إلى وراء، فخذلوا من ناحية باب الحديد، وناحية كوم أبي الريش، وهم يُحرقون بالفتائل والنيران الموقدة، وكان شاهين أغا هناك عند المتاريس فأصابته جراح فقام من مكانه، ورجع القَهقرى، فعند رجوعه رجع الناس يدوسون بعضهم البعض، ووقعت الهزيمة، وملك الفرنساويَّة كوم أبي الريش.
وأثناء ذلك كان البرديسي ومصطفى كاشف والأشقر يسعون في أمر الصلح إلى أن تمموه على كف الحرب، وأن الفرنساويَّة يمهلون العثمانيَّة والأمراء ثلاثة أيام حتى يقضوا أشغالهم، ويذهبون حيث أتوا، وجعلوا الخليج حدًّا بين الفريقين لا يتعدَّاه أحد منهم، وأبطلوا الحرب، وأخمدوا النيران. وأخذ العثمانيَّة والأمراء والعسكر في أُهْبة الرحيل وقضاء أشغالهم، وزودهم الفرنساويَّة وأعطوهم دراهم وجمالًا وغير ذلك.
لكن العامة هاجت وهموا بقتل عثمان كَتْخُدا؛ فأغلق دونهم باب الخان، وركب المغربي إلى الحسينيَّة، وطلب محاربة الفرنسيس، فحضر أهل الحسينيَّة إلى عثمان كَتْخُدا يستأذنونه في ذلك، فأمر بالكف عن القتال.
ومرَّ المحروقي بسوق الخشب، وقدامه المناداة بأن لا صلح وبلزوم المتاريس، فمنعه نزلة أمين، ثم فتح باب الوكالة وخرج منها عسكر بالعصيِّ هاجوا في العامة، ففرُّوا وسكن الحال.
السبت ٢٦ أبريل
خرج العثمانيَّة وعساكرهم وإبراهيم بك وأمراؤه ومماليكه، والألفي وأجناده، ومعهم السيد عمر مكرم النقيب، والسيد أحمد المحروقي وكثيرون من أهل مصر إلى الصالحية، وكذلك حسن بك الجداوي وأجناده.
ودخل الفرنساويَّة إلى المدينة. وطاف المشايخ والأعيان عصر ذلك اليوم بالأسواق منادين بالاطمئنان والأمان.
الأحد ٢٧ أبريل
ركبت المشايخ والوجاقليَّة وذهبوا إلى خارج باب النصر، وخرج معهم النصارى القِبط والشوام وغيرهم، فلما تكامل حضور الجميع رتبوا موكبًا وساروا ودخلوا من باب النصر وقدامهم جماعة من القواسة يأمرون الناس بالقيام، وبعض فرنساويَّة راكبين خيلًا وبأيديهم سيوف مسلولة، ينهرون الناس ويأمرونهم بالوقوف على أقدامهم، فاستمرت الناس وقوفًا من ابتداء سير الموكب إلى انتهائه، إلى أن قدم ساري عسكر الفرنساويَّة، وخلف ظهره عثمان بك البرديسي، وعثمان بك الأشقر.
ولما انقضى أمر الموكب نادى الفرنساويَّة بالزينة، وأعطَوا البكري بيت عثمان كاشف كَتْخُدا الحج، فسكن به، وشرع في تنظيمه وفرشه، ولبسوه في ذلك اليوم فروة سمور، فقاموا من عنده فرحين مطمئنين مستبشرين.
الإثنين ٢٨ أبريل
قال أستاذي إن الغبار انكشف عن تعسة المسلمين، وخيبة أمل الذاهبين والمتخلفين، وما جرى من الغارة التي استمرت سبعة وثلاثين يومًا إلا الخراب والسُّخام والهباب.
يحيرني أستاذي في تعليقاته فمرة يسخط على الفرنسيس، وتارة أخرى على العامة والمهيِّجين الذين ورطوا البلد في الفتنة.
الخميس أول مايو
دعا مراد بك كليبر للزيارة فذهب إلى داره في جزيرة الذهب حيث مدَّ لهم أسمطة عظيمة، وسلمهم ما جمعه الترك من أغنام وخيول وميرة وكان شيئًا كثيرًا، فولوه إمارة الصعيد من جرجا إلى إسنا.
الجمعة ٢ مايو
ذهبت اليوم إلى المجمع. اشتكى الصباغ من الضرائب التي فرضوها، فقال جاستون إن الذين يشتكون هم من القلة المتمسكة بالمال. ونقل عن كليبر قوله بأنه لا بُدَّ من عصر مصر كالليمونة لإنشاء مستعمرة دائمة فيها.
عند الخروج من المجمع رآني شاب من أولاد البلد كان مارًّا فبصق في الأرض.
السبت ٣ مايو
ذهب أستاذي بعد صلاة الظهر إلى بيت ساري عسكر مع بقية المشايخ، وظل غائبًا إلى ساعة متأخرة من الليل. وبقيتُ ساهرًا في انتظاره. وحكى لي عند عودته طرَفًا مما تم. قال إن المشايخ كانوا في أفخر ثيابهم، ولا بُدَّ أن كُلًّا منهم طمِع وظنَّ أن ساري عسكر يقلده في هذا اليوم أجلَّ المناصب، أو ربما يكون في الديوان الخصوصي.
وقال: إنهم فرشوا سجاجيدهم أولًا في الديوان الخارج ثم أُهملوا حصة طويلة، لم يؤذن لهم، ولم يخاطبهم أحد، ثم فتح باب المجلس الداخل وطلبوا إلى الدخول فيه فدخلوا، وفرشوا سجاجيدهم مرة أخرى وجلسوا حصة مثل الأولى.
وأخيرًا خرج إليهم ساري عسكر وصحبته الترجمان وجماعة من أعيانهم، فوُضع له كرسي في وسط المجلس وجلس عليه، ووقف الترجمان وأصحابه حوالَيه، واصطفَّ الوجاقليَّة والحكام من ناحية، وأعيان النصارى والتجار من ناحية أخرى. وكلم ساري عسكر الترجمان كلامًا طويلًا بلغتهم حتى فرغ، فالتفتَ الترجمان إلى الجماعة وشرع يفسر لهم مقالة ساري عسكر، فقال إنه يطلب منكم عشرة آلاف ألف. فقالوا له: نحن ما قمنا مع العثمانلي إلا عن أمركم لأنكم عرَفتمونا أننا صرنا في حُكْم العثمانلي من ثاني شهر رمضان، وأن البلاد والأموال صارت له وخصوصًا وهو سلطاننا القديم وسلطان المسلمين، وما شعرنا إلا بحدوث هذا الحادث بينكم وبينهم على حين غفلة، ووجدنا أنفسنا في وسطهم، فلم يمكننا التخلُّف عنهم.
فردَّ عليهم الترجمان بقول ساري عسكر: ولأي شيء لم تمنعوا الرعية عما فعلوه من قيامهم ومحاربتهم لنا؟
فقالوا: لا يمكننا ذلك خصوصًا وقد تقوَّوا علينا بغيرنا، وسمعتم ما فعلوه معنا من ضربنا وبهدلتنا عندما أشرنا عليهم بالصلح وترك القتال.
فقال لهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم، ولا يخرج من يدكم تسكين الفتنة ولا غير ذلك، فما فائدة رياستكم؟ وإيش يكون نفعكم؟ وحينئذ لا يأتينا منكم إلا الضرر، لأنكم إذا حضر أخصامنا كنتم وإياهم علينا، وإذا ذهبوا رجعتم إلينا معتذرين فكان جزاؤكم أن نفعل معكم كما فعلنا مع أهل بولاق من قتلكم عن آخركم، وحرْق بلدكم، وسبْي حريمكم وأولادكم.
اصفرَّت الوجوه وشحبت، وواصل الترجمان: لكن حيث إننا أعطيناكم الأمان فلا ننقض أماننا ولا نقتلكم، وإنما نأخذ منكم الأموال، فالمطلوب منكم عشرة آلاف ألف فرنك فرنساوي تدبرون رأيكم فيه، وتوزعونه على أهل البلد. ثم طلب أن يبقى منهم خمسة عشر شخصًا رهينة حتى يتم دفع المبلغ.
وقام من فوره ودخل مع أصحابه إلى داخل، وأغلق بينه وبينهم الباب، ووقفت الحرسية على الباب الآخر يمنعون من يخرج من الجالسين، فبهِت الجماعة، وامتُقعت وجوههم، ونظروا إلى بعضهم البعض، وتحيرت أفكارهم.
ضحك أستاذي وقال: بقينا في حيرة إلى قريب المغرب حتى بال أكثرهم على ثيابه، وبعضهم شرشر ببوله من شباك المكان، هذا والنصارى والمهدي يتشاورون في تقسيم ذلك وتوزيعه وتدبيره وترتيبه في قوائم، حتى وزَّعوها على الملتزمين وأصحاب الحرف، حتى على الحواة والقردتية، المحبظين البهلوانات، والتجار، وأهل الغورية، وخان الخليلي، والصاغة، والنَّحَّاسين، والدلالين، والقَبَّانية، وقضاة المحاكم وغيرهم. كلُّ طائفة مبلغ له صورة مثل: ثلاثين ألف فرانسة، وأربعين ألفًا، وكذلك بياعو التُّنباك والدخان والصابون، والخردجية، والعطارون، والزياتون، والشواءون، والجزارون، والمزيِّنون، وجميع الصنائع والحرف، وعملوا على الأملاك والعقار والدور أجرة سنة كاملة. وحبسوا الصاوي وفتوح ابن الجوهري ببيت قائمقام، واختصوا الشيخ السادات بغرامة كبيرة. ثم إنهم وكلوا بالفردة العامة وجمع المال يعقوب القِبْطي وتكفَّل بذلك، وانفضَّ المجلس على ذلك.
وطلب أستاذي من خليل أن يُعِدَّ كشفًا بما في الوكالة من مال وغير ذلك ليدفع المقرر عليه.
الأحد ٤ مايو
لم أذهب إلى المجمع. وذكرت لأستاذي حادثة البصق وإني مكسوف من الذَّهاب إلى هناك بعد ما فعله الفرنساويَّة. فصمت طويلًا ثم قال: كما تشاء.
الإثنين ٥ مايو
جاءنا الشيخ حسن العطار ليودِّع أستاذي بسبب أنه قرر هجرة المدينة إلى أسيوط. وعرفنا منه أنهم حبسوا الشيخ السادات في القلعة حتى يدفع نصيبه من الغرامة. ثم طلب إنزاله إلى داره ليسعى في بيع متاعه فأنزلوه إلى داره، فأحضر ما وجده من الدراهم، فكانت تسعة آلاف ريال معاملة، عنها ستة آلاف ريال فرانسة، ثم قوموا ما وجدوه من المصاغ والفضيات والفراوي والملابس وغير ذلك بأبخس الثمن، فبلغ ذلك خمسة عشر ألف فرانسة، فبلغ المدفوع بالنقدية والمقومات واحدًا وعشرين ألف فرانسة.
ولازمه العسكر لا يتركونه يطلع إلى حريمه، ولا إلى غيره، وبعد أن فرغوا من الموجودات جاسوا خلال الدار يفتشون ويحفِرون الأرض على الخبايا حتى فتحوا الكنيفات، ونزلوا فيها، فلم يجدوا شيئًا، ثم نقلوه إلى بيت قائمقام ماشيًا، وصاروا يضربونه خمسة عشر عصًا في الصباح، ومثلها في الليل وحبسوا زوجته معه، فكانوا يضربونه بحضرتها وهي تبكي وتصيح، وذلك زيادة في الإنكاء.
ثم إن المشايخ وهم: الشرقاوي، والفيومي، والمهدي، ومحمد الأمير، وزين الفقار كَتْخُدا تشفَّعوا في نقلها من عنده، فنقلوها إلى بيت الفيومي، وبقي الشيخ على حاله.
وعلق أستاذي بأن هذه آخر مسايرة الفرنساويَّة.
وقال: المسكين كان الداخلون عليه يُقبِّلون يده أو طرَف ثوبه، وعندما ينصرفون يطلب الطست والإبريق ويغسل يديه بالصابون. ومنحه العثمانيون خمسين كيسًا لتوسيع داره، ثم خمسين أخرى عندما لم تكتمل العمارة. ثم أولَوه نِظارة المشهد النفيسي والسيدة زينب وبقية الأضرحة ذات الإيراد الكبير فاشترى الجواري والعبيد والمماليك والحبوش والخصيان، وتعاظم وترفع عن لبس التاج وصار يلبس قاووقًا لعِمامة خضراء تشبُّهًا بكبار الأمراء.
الثلاثاء ٢٠ مايو
أمروا بجمع البغال، وأخذوا بغلة أستاذي، ومنعوا المسلمين ركوبها مطلقًا سوى خمسة أنفار من المسلمين وهم: الشرقاوي، والمهدي، والفيومي، والأمير، وابن محرم، والنصارى المترجمون.
الأربعاء ٢٨ مايو
مضى عيد النحر، ولم يشعر به أحد. واشتكى أستاذي من فراغ الدراهم واحتاج إلى القرض فلم يجد من يُقرضه. فلزمه بيع بعض المتاح فلم يوجد مَن يشتري، فلزمه أن يبيع المصاغات والفضيات، فقومت بأبخس الأثمان.
٧
الأحد أول يونيو
واعدني أحد التجار في الجامع الأزهر ليعطيَني كتابًا في الطب كي أنسخه له. واتفقنا أن نلتقيَ في الجامع بعد صلاة الجمعة الماضية. لكنه لم يظهر. واليوم لاقيته في الجامع فاعتذر لي بأنه أعطى الكتاب إلى شابٍّ حلبيٍّ في رواق الشاميين يتعيَّش من نسخ الكتب. ومضيت معه إلى الرواق. لاقينا الشاب ويُدعى سليمان. كان نحيل الجسم، مستطيل الوجه، شاحب اللون، ذا عينين غائرتين بهما نظرة ساهمة.
جلسنا معه وشرع يتكلم عن الجهاد في سبيل الله. وهاجم تبذُّلَ الفرنساويَّة وانتشار الحانات. وقال: إذا ضاعت مصر ضاع الحجاز، وانقطع السبيل إلى بيت الله وضريح رسوله.
تأثرت بكلام الشاب وعزمت على معاودة لقائه.
الثلاثاء ٣ يونيو
ذهبت إلى رواق الشاميين بعد صلاة العشاء ووجدت سليمان مع اثنين من أصدقائه. حدثني عن نفسه، قال إنه قرَّر من زمن التجرُّد لدراسة التصوف والتاريخ بالجامع الأزهر، وقضى به ثلاث سنوات، ولمَّا دخَل الفَرنسيون عزم على قتل بونابرته ثم جبن فغادر مصر إلى القدس. وقال إنه يحلم بالاستشهاد في سبيل الله. وإنه سمع من أحد الأولياء أن الله يبعث على رأس كل مائة سنةٍ من يجدِّد دين الأمة، ويُعيد للإسلام جِدَّته ونضارته.
الجمعة ٦ يونيو
ذهبت مع أستاذي إلى صلاة الجمعة بالأزهر. وقال لي: إن الفرنساويَّة صاروا في مركز منيع، وإنهم يعتقدون بالبقاء إلى الأبد في مصر.
تخلفت بعد الصلاة مع سليمان، وقال لي: إن الملائكة يستعدُّون للقائه في الجنة.
السبت ١٤ يونيو
ظهرت عساكر الفرنساويَّة فجأة في الشوارع وعند الأبواب، واحتاطوا بالبلد، ووقعت هوجة عظيمة في الناس، وكرشة وشدة انزعاج، وأكثرهم لا يدري حقيقة الحال.
السبت ١٤ يونيو مساء
تبين أن ساري عسكر كليبر كان يسير مع كبير المهندسين داخل البستان الذي بداره بالأزبكيَّة، فدخل عليه شخص وقصده، فأشار إليه بالرجوع، وقال له: «مافيش» وكرَّرها، فلم يرجع، وأوهمه أن له حاجة وهو مضطر في قضائها، وعندما دنا منه مدَّ إليه يده اليسرى كأنه يريد تقبيل يده، فمدَّ إليه كليبر يده، فقبض عليه وضربه بخنجر كان أعدَّه في يده اليمنى أربع ضربات متوالية شقَّت بطنه وسقط إلى الأرض صارخًا، فصاح رفيقه المهندس، فسمع العسكر الذين خارج الباب صرخة المهندس، فدخلوا مسرعين، فوجدوا كليبر مطروحًا وبه بعض الرمق، ولم يجدوا القاتل فانزعجوا، وضربوا طبلهم وخرجوا مسرعين، وجروا من كل ناحية يفتِّشون عن القاتل.
ولم يزالوا يفتشون عليه حتى وجدوه منزويًا في البستان المجاور لبيت ساري عسكر بجانب حائط منهدم، فقبضوا عليه وسألوه عن اسمه وعمره وبلده، فوجدوه الحلبي المسمَّى سليمان وذكر لهم أسماء أصدقائه.
ثم إنهم أمروا بإحضار الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ أحمد العريشي القاضي، وأعلموهم بذلك وعوَّقوهم إلى نصف الليل، وألزموهم بإحضار الجماعة الذين ذكرهم القاتل، فركبوا وصحبتهم الأغا، وحضروا إلى الأزهر، وطلبوا الجماعة فوجدوا ثلاثة منهم، ولم يجدوا الرابع، فأخذهم الأغا وحبسهم ببيت قائمقام بالأزبكيَّة.
عندما علمت من أستاذي بهذه الأنباء استولى عليَّ الخوف. هل ذكر لهم سليمان اسمي؟
الأحد ١٥ يونيو
لا أنام الليل في انتظار أن يطلبوني.
الإثنين ١٦ يونيو
رتبوا صورة محاكمة لسليمان وزملائه على طريقتهم في دعاوى القصاص.
وحكموا بقتل الثلاثة أنفار المذكورين مع القاتل، وألفوا في شأن ذلك أوراقًا، ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها، وطبعوا منها نسخًا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساويَّة، والتركية، والعربية، أحضرها أستاذي إلى الدار.
قرأتها في تدقيق. ووجدت أن سليمان أنكر في البداية أنه كان في جنينة ساري عسكر أو أنه قتله، فضربوه لحد أنه طلب العفو ووعد أنه يُقرُّ بالصحيح؛ فارتقع عنه الضرب، وصار يحكي من أول وجديد.
سئل: لأي سبب حضر من غزة؟ فجاوب: لأجل أن يقتل ساري عسكر.
سئل: من الذي أرسله لأجل أن يفعل هذا الأمر؟ فجاوب: أنه حين رجع عساكر العثمانلي من مصر إلى بر الشام، أرسلوا إلى حلب بطلب شخص يكون قادرًا على قتل ساري عسكر العام الفرنساوي، وأنهم يعطونه دراهم، ولأجل ذلك هو تقدَّم وعرض روحه لهذا. وذكر أنه في مصر شاف السيد محمد الغزي، والسيد أحمد الوالي، والشيخ عبد الله الغزي، والسيد عبد القادر الغزي، في الجامع المذكور، وبلغهم على مراده، فأشاروا عليه أن يرجع عن ذلك.
وبعد فحص الثلاثة مشايخ المتهمين — وهم من غزة — أفتى القضاة أن سليمان الحلبي تُحرق يده اليمين، وبعده يتخوزق ويبقى على الخازوق لحين تأكل دَوْمتَه الطيور.
ثم أفتَوا بموت عبد القادر الغزي، وأيضًا أفتوا على محمد الغزي، وعبد الله الغزي، وأحمد الوالي؛ أن تُقطع رءوسهم وتوضع في نبابيت وجسمهم يُحرق بالنار، ويكون ذلك قدام سليمان الحلبي قبل أن يجريَ فيه شيء.
شعرت بالارتياح لأنه لم يأتِ ذكري في الأمر. لكني استهولت الأحكام وصارحت أستاذي بذلك.
خالفني الرأي وقال إن سليمان رجل آفاقي أهوج. وإن الفرنساويَّة الذين يحكمون العقل، ولا يتديَّنون بدين، لم يُعجِّلوا بقتله بعد أن عثروا عليه، ووجدوا معه آلة القتل مُضمَّخة بدم ساري عسكرهم، بل رتبوا حكومة ومحاكمة، وأحضروا القاتل وكرَّروا عليه السؤال والاستفهام، مرة بالقول ومرة بالعقوبة، ثم أحضروا من أخبر عنهم، وسألوهم على انفرادهم ومجتمعين، ثم نفَّذوا الحكومة فيهم بما اقتضاه التحكيم، بخلاف ما رأيناه من أفعال أوباش العساكر الذين يدعون الإسلام، ويزعمون أنهم مجاهدون، وقتلهم الأنفس وتجاريهم على هدم البنية الإنسانية بمجرَّد شهواتهم الحيوانية.
الثلاثاء ١٧ يونيو
نصبوا ساري عسكر جديدًا هو عبد الله جاك منو، ثم نادَوا في المدينة بالكنس والرش.
الأربعاء ١٨ يونيو
اجتمع عساكرهم وأكابرهم وطائفة عينها القِبْط والشوام، وخرجوا بموكب وقد وضعوا كليبر في صندوق رَصاص فوق عربة، وعليه برنيطته وسيفه والخنجر الذي قُتل به وهو مغموس بدمه. وضربوا طبولهم بغير الطريقة المعتادة، وعلى الطبول خِرَق سود، والعسكر بأيديهم البنادق، وهي منكسة إلى أسفل، وكل شخص منهم معصب ذراعه بخِرْقة حرير سوداء، ولبسوا ذلك الصندوق بالقطيفة السوداء، وضربوا عند خروج الجنازة مدافع وبنادق كثيرة.
وكنت مع الجموع أمام بيت الأزبكيَّة عندما خرجوا بالجِنازة على باب الخرق إلى درب الجماميز إلى جهة الناصريَّة، فلما وصلوا إلى تل العقارب حيث القلعة التي بنَوها هناك، ضربوا عِدَّة مدافع، وكانوا أحضروا سليمان الحلبي والثلاثة المذكورين، فبدءوا بقطع رءوس الغزاوية، ثم حرقوا يد سليمان اليمنى ووضعوه على الخازوق المرتفع.
انتابني غثيان وأوشكت على القيء. ثم سرت مع الجِنازة إلى أن وصلوا باب قصر العيني، فرفعوا ذلك الصندوق، ووضعوه على علوة من التراب بوسط تخشيبة صنعوها وأعدوها لذلك.
الخميس ١٩ يونيو
لم أنم أمس. هاجمتني الكوابيس، ورأيت نفسي أكثر من مرة مربوطًا إلى جوار سليمان فوق الخازوق.
الجمعة ٢٠ يونيو
حضر ساري عسكر عبد الله جاك منو، وقائمقام، والأغا، وطافوا بالجامع الأزهر، وأرادوا حفْرَ أماكنَ للتفتيش عن السلاح ونحو ذلك، ثم ذهبوا فشرع المجاورون في نقل أمتعتهم منه، ونقْل كتبهم وإخلاء الأروقة.
ثم إن الشيخ الشرقاوي، والمهدي، والصاوي توجَّهوا في عصريتها عند كبير الفرنسيس منو، واستأذنوه في قفل الجامع وتسميره، وقصد المشايخ من ذلك منع الرِّيبة بالكلية، فإن للأزهر سَعة لا يمكن الإحاطة بمن يدخله، فربما دس العدو من يبيت به، فأذِن كبير الفرنسيس بذلك لما فيه من موافقة غرضه باطنًا، فلما أصبحوا قفلوه وسمَّروا أبوابه من سائر الجهات.
اغتم أستاذي لأنه كان ينتفع من التدريس في رواق الجبرتية رغم قلة عدد طلابه. ويتلقى ١٥٠ رغيفًا في اليوم.
الأحد ٢٢ يونيو
يزورني طيف بولين وسليمان الحلبي في المنام.
الثلاثاء ٢٤ يونيو
قرَّروا فردةً أخرى وقدرها أربعة ملايين، وقدر المليون مائة وستة وثمانون ألف فرانسة، فقرَّروا على العقار والدور مائتي ألف فرانسة، وعلى الملتزمين مائة وستين ألفًا، وعلى التجار مائتي ألف، وعلى أرباب الحرف المستورين ستين ألفًا، وقسموا البلدة لثماني أخطاط، وجعلوا على كل خطة منها خمسة وعشرين ألف ريال، ووكلوا بقبض ذلك مشايخ الحارات.
السبت ١٩ يوليو
أفرجوا عن الشيخ السادات، ونزل إلى بيته بعد أن أوفى ما تقرر عليه، واستولوا على حصصه وأقطاعه، وقطعوا مرتباته، وشرطوا عليه عدم الاجتماع بالناس، وألا يركب بدون إذن منهم، ويقتصد في أموره ومعاشه ويقلل أتباعه.
الأربعاء ٢٣ يوليو
تطاولت الفرنساويَّة وأعوانهم وأنصارهم من نصارى البلد الأقباط والشوام والأروام على المسلمين بالإهانة، حتى صاروا يأمرونهم بالقيام عند مرورهم، ثم شدَّدوا في ذلك حتى كان إذا مر بعض عظمائهم بالشارع ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه، رجعت إليه الأعوان وقبضوا عليه، وأصعدوه إلى الحبس بالقلعة وضربوه، واستمر عِدَّة أيام في الاعتقال.
الجمعة ٢٢ أغسطس
اشتد أمر المطالبة بالمال، وعُين لذلك رجل نصراني قبطي يسمى شكر الله، فيدخل إلى دار أيِّ شخص كان لطلب المال، وصحبته العسكر من الفرنساويَّة والفَعَلة وبأيديهم القِزَم، فيأمرهم بهدم الدار إن لم يدفعوا له المقرَّر.
الجمعة ٢٩ أغسطس
زاد النيل زيادة مُفرِطة لم يُعْهَد مِثلُها حتى انقطعَت الطرقات، وغرِقت البُلدان، وطفَت الماء من بركة الفيل، وسالت إلى حارة الناصريَّة، وسقطت عِدَّة دُور من المُطلَّة على الخليج.
السبت ٦ سبتمبر
شرعوا في هدم أخطاط الحسينيَّة وخارج باب الفتوح، وباب النصر من الحارات والدور، والبيوت المساكن، والمساجد، والحمَّامات، والحوانيت والأضرحة، فكانوا إذا دهموا دارًا لا يمكِّنون أهلها من نقْلِ متاعهم ولا أخْذِ شيءٍ من أنقاض دارهم، فينهبونها ويهدمونها وينقُلون الأنقاض النافعة من الأخشاب إلى حيث عِمارتهم وأبنيتهم، وما بقي من كسارات الخشب يحزمه الفَعَلة حزمًا ويبيعونه على الناس بأغلى الأثمان لعدم حطب الوقود.
واتصل هدم خارج باب النصر بخارج باب الفتوح، وباب القوس إلى باب الحديد، حتى صار ذلك كله خرابًا متصلًا واحدًا. ثم سدُّوا باب الفتوح بالبناء، وكذلك باب البرقية، وباب المحروق، وأنشَئوا عِدَّة قلاع فوق تلال البرقية، ورتبوا فيها العساكر وآلات الحرب والذخيرة، وصهاريج الماء، وذلك من حد باب النصر إلى باب الوزير، وهدموا أعالي المدرسة النظامية ومنارتها، وكانت غايةً من الحسن وجعلوها قلعة.
الجمعة ١٩ سبتمبر
هدموا مدرسة القائبية والجامع المعروف بالسبع سلاطين، وجامع الجركسي بالقرب من مسجد السيدة عائشة، وجامع خوند بسكة الناصريَّة خارج باب البرقية، وسدوا الباب، وعملوا الجامع الناصري الملاصق له قلعة بعد أن هدموا منارته وقبابه، وسدوا أبواب الميدان من ناحية الرميلة، وناحية عرب اليسار.
وخربوا دُور الأزبكيَّة وهدموا خطة قنطرة الموسكي، وما جاورها إلى البوابة المعروفة بالعتبة الزرقاء حيث جامع أزبك، فصار المارُّ يسلك من على القنطرة في رَحْبة متسعة، وينتهي إلى رحبة الجامع الأزبكي.
وتخرب أيضًا جامع الرويعي، وجعلوه خمَّارة، وهدموا جوامع أخرى، وجامع عبد الرحمن كَتْخُدا المقابل لباب الفتوح حتى لم يبقَ به إلا بعض الجدران، وجعلوا جامع أزبك سوقًا لبيع أقلام المكوس.
كما هدموا مصاطب الحوانيت، ورفعوا أحجارها مظهرين أن القصد بذلك توسيع الأزقَّة لمرور العربات الكبيرة التي ينقُلون عليها المتاع، واحتياجات البِناء من الأحجار والجبس والجير وغيره، والمعنى الخفي خوفًا من المتاريس بها عند حدوث الفتن فحصل لأرباب الحوانيت غاية الضيق لذلك، وصاروا يجلسون في داخل فجوات الحوانيت مثل الفيران في الشقوق.
الثلاثاء ٢٣ سبتمبر
قطعوا الأشجار والنخيل من جميع البساتين والجناين الكائنة بمصر وبولاق ومصر القديمة والروضة وجهة قصر العيني. وخارج الحسينيَّة، وبساتين بركة الرطلي لاحتياجات عمل القلاع، وتحصين الأسوار في جميع الجهات، وعمل العجل والعربات والمتاريس ووقود النار، وكذلك المراكب والسفن.
الجمعة ٢٦ سبتمبر
استمرَّ غلوُّ البضائع المجلوبة من البلاد الرومية والشامية والهندية والحجازية والمغرب، فبلغ الرطل من الصابون ثمانين بارة واللوزة الواحدة ببارتين. أمَّا الأشياء البلدية فموجودة وغالبها يُباع رخيصًا مثل السمن وعسل النحل والأرز. ويطوف النصارى بعسل النحل في بلاليص محمَّلة على الحمير وينادون عليه في الأزقَّة بأرخص الأثمان.
الأربعاء أول أكتوبر
قرَّروا على مشايخ البلدان مقرَّرات يقومون بدفعها في كل سنة، أعلى وأوسط وأدنى، فالأعلى: وهو ما كانت بلده ألف فدان فأكثر، خمسمائة ريال، والأوسط: وهي ما كانت خمسمائة فأزيد، ثلاثمائة ريال، والأدنى: مائة وخمسون ريالًا، وجعلوا الشيخ سليمان الفيومي وكيلًا في ذلك.
الإثنين ٢٠ أكتوبر
رتبوا الديوان على نسق غير الأول من تسعة أنفار متعممين لا غير، وليس فيهم قِبطي ولا وجاقلي ولا شامي ولا غير ذلك، وليس فيه خصوصي وعمومي، بل هو ديوان واحد مركَّب من تسعة رؤساء هم: الشيخ الشرقاوي رئيس الديوان، والمهدي كاتب السر، والشيخ الأمير، وأستاذي، والشيخ الصاوي، وكاتبه، والشيخ موسى السرسي، والشيخ خليل البكري، والسيد علي الرشيدي شقيق زوجة ساري عسكر، والشيخ الفيومي، والقاضي الشيخ إسماعيل الزرقاني، وكاتب سلسلة التاريخ السيد إسماعيل الخشاب، والشيخ علي كاتب عربي، وقاسم أفندي كاتب رومي، وترجمان كبير، القس رفائيل، وترجمان صغير، إلياس فخر الشامي، والوكيل الكمثاري فوريه، واختاروا لذلك بيت رشوان بك الذي بحارة عابدين، وعينوا عشر جلسات في كل شهر.
الإثنين ٣ نوفمبر
رتبوا لكل شخص من مشايخ الديوان التسعة أربعة عشر ألف فِضَّة في كل شهر، عن كل يوم أربعمائة بارة، وفي أول جلسة من ذلك اليوم عملت المقارعة لرئيس الديوان، وكاتب السر، فطلعت للشرقاوي والمهدي على عادتهما. وقال أستاذي إن الناس سُرَّت بذلك لظنهم أنه انفتح لهم باب الفرج بهذا الديوان.
الثلاثاء ١٨ نوفمبر
حضر رجل إلى الديوان مستغيثًا لأن عسكر الفرنسيس قبضوا على ولده الزيات؛ وسبب ذلك أن امرأة جاءت إليه لتشتريَ سمنًا، فأنكر أن لديه منه، فقالت له: كأنك تدَّخره حتى تبيعه للعثمانلي، تريد بذلك السخرية، فقال لها: نعم، رغمًا عن أنفك وأنف الفرنسيس. فنقلت عنه مقالته ووصل الأمر إلى قائمقام فأحضره وحبسه.
وفي المساء جاء أبوه إلى الدار متشفعًا بأستاذي، وقال: أخاف أن يقتلوه. فقال له أستاذي: لا، لا يُقتل بمجرد هذا القول، وكن مطمئنًّا فإن الفرنساويَّة لا يظلمون كل هذا الظلم.
الأربعاء ١٩ نوفمبر
جاء الخبر إلى أستاذي بأنهم قتلوا الزيات ومعه أربعة لا يدري أحد ذنبهم. اغتمَّ غمًّا شديدًا ولم أجسُر على مخاطبته.
الخميس ٢٠ نوفمبر
قرَّروا مليونًا على الصنائع والحرف، يدفع منها كل سنة مائة ألف وستة وثمانون ألف ريال فرانسة، ويكون الدفع على ثلاث مرات كل أربعة أشهر، وأشيع أن يعقوب القِبْطي تكفَّل بقبض ذلك من المسلمين.
الإثنين ٢٤ نوفمبر
حضر الوجاقليَّة ومعهم بعض الأعيان والحريم بأرباب الديوان، ويقولون: إنه بلغنا أن الفرنساويَّة يريدون وضع أيديهم على جميع أراضي الالتزام. وطلبوا من مراحم الفرنساويَّة الإفراج عن بعض ما كان بأيديهم ليتعيَّشوا به، وأنهم ورثوا ذلك عن آبائهم وأسلافهم وأسيادهم، وإذا أخذ منهم الالتزام خربت دُورهم، ويصبحون صعاليك ولا يأتمنهم الناس.
الأربعاء ٢٦ نوفمبر
حضر جماعة من الملتزمين إلى الديوان، وقالوا إنهم أرسلوا إلى حصصهم يطالبون الفلاحين بما عليهم من الخراج، فامتنع الفلاحون من الدفع، وأخبروا أن الفرنساويَّة حرجوا عليهم ومنعوهم من دفع المال للملتزمين.
الثلاثاء ٩ ديسمبر
طِيف بامرأتين في شوارع مصر بين يدَي الحاكم، ينادى عليهما: هذا جزاء من يبيع الأحرار، وذلك أنهما باعا امرأة لبعض نصارى الأروام بتسعة ريالات.
الأحد ١٤ ديسمبر
عاد أستاذي من الديوان منشرح الصدر وقال: أجيب الملتزمون بإبقاء التزامهم عليهم.
وكمل المكان الذي أنشَئوه بالأزبكيَّة عند المكان المعروف بباب الهواء، وهو المسمَّى في لغتهم بالكمري، وهو عبارة عن محل يجتمعون به كلَّ عشر ليالٍ ليلةً واحدة، يتفرَّجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلِّي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل، وذلك بلغتهم ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة.
الجمعة ٢ يناير ١٨٠١
ذكروا في الديوان أن ساري عسكر وُلد له مولود من المرأة المسلمة الرشيدية سُمِّي سليمان، فينبغي أن يكتبوا له تهنئة، فكتبوا ذلك في ورقة كبيرة.
الإثنين ٥ يناير
عند خروجي من الدار شاهدت فأرًا مبتلَّ الفروة يحاول الجري فتضطرب أرجله القصيرة. أطلق صرخة قصيرة ودار حول نفسه قبل أن يسقط على ظهره متشنجًا. وانبثق الدَّمُ من أنفه ثم همدت حركته.
الجمعة ٩ يناير
في المساء جاءتنا هدية خل من الفيوم من طرَف الأمير رشوان كاشف، وهو من مماليك مراد بك، وكان له إقطاع بالفيوم. وقال لي أستاذي إنه يحتكر الورد وما يخرج من مائه والخل المتخذ من العنب، ويتَّجر في البضائع بمراده، ويتحكم في الإقليم تحكُّم المُلَّاك في أملاكهم وعبيدهم، وذلك قوة واقتدارًا.
٨
الإثنين ٢٦ يناير
عندما اقتربت من حارتنا شاهدت رجلًا يتخبط في سيره مباعدًا بين ساقيه. انحطَّ جالسًا على الأرض وهو يرفع ذراعيه إلى إبطيه المكشوفين من خروم قميصه. تجمَّع حوله المارَّة واقتربت منه. وسمعت لأنفاسه صفيرًا غريبًا. ثم صرخ وتقيَّأ بتعسر وهو يصيح: أنا عطشان، عطشان. قال أحد الواقفين: إن الرجل مطعون. فأسرعنا بالابتعاد.
الأحد ١٥ فبراير
بدأ أمر الطاعون فانزعج الفرنساويَّة من ذلك وجرَّدوا مجالسهم من الفُرُش وكنسوها وغسلوها، وشرعوا في عمل كرنتيلات. وفي كل يوم يموت من الكائنين منهم بالقلعة الثلاثون والأربعون فينزلون بهم على الأخشاب إلى أن يخرجوا من باب القرافة، فيلقونهم في حُفَر عميقة ويهيلون عليهم التراب.
واشتهر أيضًا أنه وردت عليهم أخبار بوصول مراكب إنجليز جهةَ أبي قير.
الجمعة ٦ مارس
اجتمع أهل الديوان على العادة، وقال الوكيل إن المراكب التي حضرت إلى الإسكندرية، وهي نحو مائة وعشرين مركبًا قد رجعت. فقيل له: وما هذه المراكب؟ قال: فيها طائفة من الإنجليز وصحبتهم جماعة من الأروام، وليس فيها مراكب كِبار إلا قليل.
السبت ٧ مارس
جمعَنا أستاذي في الحَوْش وقال إن الطاعون ماشٍ في البلد وعلينا أن نحترز بالنظافة وتطهير الغُرَف وغسيل الخَضراوات بالخل واستخدام الليمون بكثرة. وقال جعفر إنه سمِع أن مَن أصابه هذا الداء يأخذونه إلى الكرنتيلة عندهم، وينقطع خبره عن أهله لأنهم يدفنونه بثيابه في حفرة ويردمون عليه التراب، وأما داره فلا يدخلها أحد، ولا يخرج منها مدة أربعة أيام، ويحرقون ثيابه التي تختص به، ويقف على بابه حرس، فإن مرَّ أحد ولمس الباب أو الحد المحدود قبضوا عليه وأدخلوه الدار وكرتنوه في الحال. وأن قصدهم أيضًا عمل كرنتيلة على البلد بتمامها. نفى أستاذي ذلك. واقترح جعفر الخروج من مصر إلى الأرياف.
الأحد ٨ مارس
أشيع حضور جيش العثمانيَّة، ووصولهم إلى العريش صحبةَ يوسف باشا الوزير.
الإثنين ٩ مارس
أصعدوا الشيخ السادات إلى القلعة من غير إهانة.
الثلاثاء ١٠ مارس
نادوا في الأسواق بالأمان وعدم الانزعاج من أمر الكرنتيلة، وأن من مات لا تُحرق إلا ثيابه التي على بدنه لا غير.
الأربعاء ١١ مارس
مات محمد أغا مستحفظان من الطاعون فاستقرَّ مكانه عبد العال ليرعى أمر الأمن. وهو من أسافل العامة، وكان أجيرًا لبعض نصارى الشوام بخان الحمزاوي.
الجمعة ١٣ مارس
ورد الخبر للفرنساويَّة بورود مراكب الإنجليز تجاه الإسكندرية، فسافر ساري عسكر منو إلى هناك.
الإثنين ١٦ مارس
تأكدت من إغلاق باب الغرفة وأخرجت الدواة والقلم البوص وعدة أوراق. كتبت: «أيها الفَرنسيُّون الكفرة. انجوا بأنفسكم قبل أن تذوقوا العذاب والموت الزؤام بالطاعون أو بسيف المسلمين. عودوا إلى بلادكم وانكفوا على حالكم واتركونا في حالنا.»
ترجمت ما كتبته إلى اللغة الفَرنسية ولم أتمكن من ترجمة عبارة «الموت الزؤام».
نسخت الترجمة في ست أوراق عزمت على وضعها في أماكن سكن الفرنساويَّة وتجمعاتهم. فكَّرت فورًا في بيت الألفي، ثم استبعدته لأن الحراسة عليه مشدَّدة. وكذلك بيت بولين. أخيرًا قررت اختيار الأسواق التي يغشَونها وعند الأبواب والقناطر.
نويت أن أعلِّق واحدة في ميدان الرميلة، وعند باب الوزير قُرب القلعة، وعند قناطر السباع، وعند المجمع العلمي في الناصريَّة. أما الثلاث الأخريات فقرَّرت أن أعلِّقها في الشمال، واحدة عند باب النصر، وواحدة قرب حارة الإفرنج في الأزبكيَّة، والثالثة عند باب زويلة.
صلَّيت العصر وتسحَّبت خارجًا بعد أن وضعت ورقة في صدري. اتجهت إلى المشهد الحسيني ومضيت في شارع سيدنا الحسين حتى تقاطع السكة الجديدة ثم شارع وكالة التفاح، ومررت بقصر الزمرد حتى وصلت شارع وكالة الصابون المتخصصة في بضائع بلاد الشام. مررت بكنيسة الشوام والمدرسة الفارسيَّة. ثم بمحل شواء لحم مفروم على هيئة كرات صغيرة مغلَّفة بأوراق العنب موضوعة في أسياخ من الخشب. وأشرفت على مئذنة جامع الحاكم بأمر الله، وبعد عدَّة عطف اقتربت من المدرسة الجنبلاطية الملاصقة لباب النصر.
لمحت من مَبعدة بضعة عساكر من أهل البلد ومعهم عسكريان فرنساويَّان متجمعين عند الباب. أبطأت سيري وجعلت أتفرَّج على الدكاكين وأغلبها لتجارة المنسوجات. توقَّفت أمام بائع حمص وترمس واشتريت منه.
كنت أريد أن أعلق الورقة في موضع يسهل على الفَرنسيين رؤيتها منه. فكَّرت في تعليقها على جدار المدرسة الجنبلاطية لكني عدَلتُ عن الفكرة؛ فهي بعيدة عن مرمى رؤيتهم، كما أن التلاميذ يمكن أن ينزعوها.
وقفت في مَدخَل دُكَّان قبورجي يطرز الحرير والجوخ والكشمير بخيط معدِني في إبرة معقوفة. ولمحت طوبة بجوار الحائط فأعددت المسمار في يدي.
تابعت العساكر بركن عيني وهم يتضاحكون دون أن يغيب عنهم تأمُّل المارَّة والتمعُّن فيهم.
ظهر حاوٍ معه صنبور تسيل منه المياه ثم تنقطع فجأةً لتسيل بعد لحظات وذلك حسب أمره. وتجمَّع بعض الصبية وجعلوا يهلِّلون. ولم ينطلِ الأمرُ على الفرنساويَّة فأخذوا يسخرون منه. عندئذ أخرج كأسًا وتحدَّث طويلًا بمداعبات وتهريج، ثم نفخ في قوقعة كبيرة ورفع غطاء الكأس فظهرت بيضة، ثم قلب الكأس ورفع غطاء قاعه فظهر كتكوت. التفَّ العساكر حوله وجعل الفرنساويَّة يمازحونه. وانشغلوا عن الباب. ورأيت في الجدل الدائر فرصتي فانحنيت وتناولت الحجر، وأخرجت الورقة من صدري وعلَّقتها على جدار الباب ودققت المسمار، ثم رميت الطوبة وابتعدت على الفور وقلبي يدقُّ بشدة في صدري.
الثلاثاء ١٧ مارس
مضيت في عكس الاتجاه الذي سرت فيه أمس. ولم تكن المسافة بعيدة بين الصنادقية وباب زويلة. كان الشارع مزدحمًا كعادته بالباعة والمشترين والعابرين، وكثير منهم يعصبون عيونهم التي أكلها الرَّمَد. وكان السقَّاءون يُهرعون بأجراسهم بين الدواب المحمَّلة بالبضائع متجهة إلى الوكالات أو إلى خارج المدينة. وامتدت على الجانبين أكبر الوكالات والحوانيت بواجهاتها المزخرفة بالرخام الملوَّن ومداخلها التي نُقشت عليها أسماء من شيَّدها من السلاطين والأمراء.
واصلت السير في اتجاه باب زويلة. مررتُ بسوق القوافين صُنَّاع الجلود والأحذية. اقتربت من الباب ووقفت بجوار سبيل. وكانت هناك جِمال تفرغ قرب الماء به.
انتابني شعور بالتشاؤم وأنا أقرأ الفاتحة كعادة من يمرُّ بالباب الذي شنق العثمانيون فوقه منذ أكثر من مائتي سنة طومان باي آخر سلاطين المماليك.
حالفني الحظ إذ لم أجد عنده حرسًا، فتناولت طوبة من الأرض وأخرجت ورقةً ومسمارًا من جيبي، وأخذت في دقِّ الورقة وإذا بعسكري يصرخ عليَّ فجريت. وجرى العسكري وعدد من الأشخاص خلفي. رأيت باب دار مفتوحًا فدخلت منه. وحالفني الحظ مرَّة أخرى إذ كانت دارًا نافذة فخرجت من بابها الآخر بينما كانوا ينتظرونني أمامها.
٩
الثلاثاء ٢٤ مارس
أكتب هذا من محبس القلعة. أما كيف وصلت إلى هنا فهذه هي القصة.
في صباح اليوم التالي لواقعة باب زويلة ذهبت إلى حارة الإفرنج جهة الأزبكيَّة، واستطعت أن أدقَّ ورقة في مدخل الحارة دون أن يراني أحد. وفجأة أطلَّ عليَّ بعضُ الروم اليونان من أعلى الدار، فسارعت بالابتعاد لكن أحدهم نزل وأخذ الورقة وصاح عليَّ.
وجدت نفسي في مواجهة عسكري فرنساوي فاتحًا ذراعيه ليحوطني، فأفلتُّ منه وجريت بسرعة. وشاء سوء حظي أن صادفت ثلاثةً من الفرنساويَّة من غير الجنود. حاول أحدهم أن يستوقفني فدفعته بقوة فوقع على الأرض، واندفع الآخران خلفي. ولَجت دربًا مظلمًا خِلْته غير نافذ فتسلقت جدار أحد البيوت وكان خاليًا، فصعِدتُ إلى سطحه ورأيتُ أنهم تبِعوني؛ فتسلَّقت إلى سطح آخر فوق خان. وفككت عمامتي وربطتها في مسمار، ثم تدليت إلى أسفل الخان، وخرجت إلى السوق.
مرقت إلى جهة الغورية، ففوجئت بالناس تعدو خلفي إلى أن وصلت إلى درب بالجمالية غير نافذ، فدخلت وعبرته إلى دار وجدتها مفتوحة وربها واقف على بابها. كنت أسمع صوت الفرنساويَّة يسألان عني، وقال لهم شخص ما: ذهب من هنا. حتى وصلوا إلى ذلك الدرب فدخلوه. ودلَّهم صاحب الدار عليَّ، فلما أحسست بهم نزعت ثيابي وحملتها في يدٍ وتدلَّيت ببئر في الحَوْش، فدخلوا الدار وفتَّشوها وأنا كامن في البئر ثم انصرفوا.
بقيت في البئر بعض الوقت ولما شعرت بالسكون حولي وأن أصحاب المكان قد ابتعدوا خرجت من البئر. ارتديت ملابسي وارتقيت الحائط. لم أرَ أحدًا بالدرب فقفزت إلى أرضه وسقطت بين ذراعَي عبد العال الذي كان متواريًا عن الأنظار في فُرْجة الباب.
أخذني عبد العال إلى بيت أستاذي، وفتشوا غرفتي دون أن يحركوا الصندوق. وصعِدوا إلى الطباق وفتشوا على السلاح حتى قلعوا البلاط. وأبدى أستاذي الغضب مني، ثم اقتادوني إلى القلعة حيث ضربوني بالكرابيج على كفوفي ووجهي ورأسي طالبين أسماء شركائي وأماكن إخفاء الأسلحة. ولما لم يتحصَّلوا مني على شيء أودعوني الحبس.
قضيت الليلة الأولى بمفردي نائمًا فوق الأرض الباردة. ووجدت السلوى في تذكُّر ما جرى بيني وبين بولين، وظلَّ طيفها يلفُّ بمخيَّلتي. وفي الفجر أخذت أرتعش من البرودة؛ فكنت أقفز كالقرد لكي تسريَ الدماء في عروقي.
وفي صباح اليوم التالي أحضروا إليَّ قطعة من الجبن المتخشب ورغيفًا، ثم أرادوا أن يُخلوا مكاني لمحبوس جديد فنقلوني إلى غرفة متسعة وجدت بها عددًا من المحابيس. وكان أغلبهم من المتهومين في الفتنة ضد الفرنساويَّة وبينهم تجار أغنياء، ومجاورون بالأزهر، وبعض المغاربة والشوام.
جاء مكاني إلى جوار حاج من تجار العطَّارين له حكاية غريبة؛ فقد بحثوا عنه بعد الفتنة لكنه اختفى، وأخيرًا كبس عبد العال على منزل أخيه، وقبضوا عليه وعلى من كان معه بالبيت، وحبسوهم ببيت قائمقام، وهم سبعة أنفار بالخادم، وأصعدوهم إلى القلعة وضيَّقوا عليهم، ثم أطلقوا خادمه بعد أن أعطَوه خمسين ريالًا فرانسة، وجعلوا له ألفًا إن دلَّهم عليه. وهذا ما حدث.
واكتشفت مكانًا مخصَّصًا لأسرى العثمانلية ويمنعونهم من الاحتكاك ببقية الحبوس.
وعند الظهر أحضر خَدمُ بعضهم طعامًا وضعوه أمام الجميع فنالني شيء منه. وبعد صلاة العشاء تحدثت مع أحد المحبوسين، وعندما علم أني أعرف الكتابة والقراءة طلب مني أن أكتب رسالة لأسرته يرسلها مع خادم أحد التجار. وأحضر ورقة ومحبرة وقلمًا فكتبت له الخطاب، ثم استأذنتُه في أن أحتفظ بالورق والمحبرة والقلم فأذِن لي. وكنت أودُّ أن أتابع ذِكْر الأحداث في حينها. هكذا سجلت ما حدث لي، ثم طويت الورقة ووضعتها داخل ملابسي. وأخفيت المحبرة والقلم خلف فرشتي. ومن حسن الحظ أن الحرسية وعسكر الفرنساويَّة كانوا مشغولين بالمحابيس الذين يفدون طول الوقت فلم يقوموا بتفتيش الفرشات والأمتعة.
الأربعاء ٢٥ مارس
تسامع البعض بما فعلته للحاج من كتابة الخطاب فعهِدوا إليَّ بأن أكتب لهم الرسائل ودعوني إلى طعامهم مكافأة لي.
الخميس ٢٦ مارس
اليوم بعد الظهر وصل محابيس إلى القلعة. وعرفنا منهم أن العثمانيين بلغوا إلى ناحية غزة، وأن طلائعهم وصلت العريش، وأن الفرنساويَّة طلبوا المشايخ إلى الديوان، وأبلغوهم الخبر وأنه من اللازم تعويق بعض الأعيان، لأن ذلك من قوانين الحروب.
وعرفنا من أحد الحرسية أنهم عوَّقوا أربعة أشخاص من المشايخ وهم: الشيخ الشرقاوي، والشيخ المهدي، والشيخ الصاوي، والشيخ الفيومي، أصعدوهم إلى القلعة في الساعة الرابعة من الليل مكرمين، وأجلسوهم بجامع سارية، وضموا إليهم الشيخ السادات، فاستمر معهم بالمسجد، وأطلقوا لكل شيخ منهم خادمًا يطلع إليه وينزل ليقضيَ له أشغاله وما يحتاج إليه من منزله، والذي يريد من أحبابهم وأصحابهم زيارتهم يأخذ له ورقة بالإذن من قائمقام ويطلع بها.
الجمعة ٢٧ مارس
وقعت اليوم مفاجأة غريبة؛ فقد وصل ثلاثة محابيس قادمين من قلعة الرحمانية وإذا بأحدهم — هو عبد الظاهر — وُضعت فرشته إلى جواري، وقضينا الوقت يحكي كل منا ما مرَّ به. وأكدَّ لي واقعة القبض عليه كما ذكرها حنا، وإن كان قد تشكك في أنه هو الذي أبلغ عن الأمر. وحكيت له ما فعلته من تعليق الأوراق فأثنى عليَّ. ثم حكيت له قصتي مع بولين، فتلا عليَّ مقتطفاتٍ من كتاب «مكايد الناس» للبتانوني الأباصيري تُبيِّن جهل النساء بالشريعة، وأن لديهم شَبَقًا جنسيًّا ولا يعرفون حدودًا، وأنهن ناقصات عقل ويورِّطن الرجال في ارتكاب جريمة الزنا، وأن امرأة كانت وراء مقتل علي بن أبي طالب وولده الحسن أيضًا.
السبت ٢٨ مارس
لاحظت وجود حركة مستمرة داخل القلعة. وفي البداية ظننت أنها بسبب وصول محابيس جدد. لكن الحركة استمرت طول اليوم. واكتشفت أن إحدى القاعات بها طاقة مسوَّرة بالقضبان يمكن الإشراف منها على مدخل القلعة عند باب العزب. ورأيت منها فرنساويَّة ينقُلون متاعهم وصناديقهم وفُرُشهم وذخائرهم إلى الداخل على الجمال والحمير، واستمرَّ ذلك طول الليل.
الأحد ٢٩ مارس
شكا عبد الظاهر من تبرُّج النساء، وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وتداخلهن مع الفرنساويَّة. وقال إن المرأة صارت تمشي بنفسها أو معها بعض أترابها، وأمامها القواسة والخدم، وبأيديهم العصيُّ، يفرِّجون لهن الناس مثل ما يمرُّ الحاكم. أما الجواري السود فذهبن إلى الفرنساويَّة أفواجًا، ودلُّوهم على مخبآت أسيادهن، وخبايا أموالهم ومتاعهم.
الأربعاء أول أبريل
صادقت أحد الحرسية وهو قِبْطي من الصعيد. لا تفارقني بولين لحظة وخاصة ليلًا.
الجمعة ٣ أبريل
قال لي الحارس إنه سمع عن وقوع الحرب بين الفرنساويَّة والإنجليزية في الإسكندرية، وكانت الهزيمة على الفرنساويَّة، وقتل بينهم مقتلة كبيرة، وانحازوا إلى داخل المدينة. كما ورد حسين باشا القبطان التركي بعساكره جهة أبي قير، وطلع عسكره من المركب إلى البر.
وظهرت لوائح ذلك من وجوه عسكر الفرنساويَّة بالقلعة وضِيق خُلُقهم، مع شدة تجلُّدهم وكتمان أمرهم.
الثلاثاء ٧ أبريل
انتهى الورق والحبر. طلبت من صاحبهما إحضار المزيد ففعل، لكن العسكر منعوا دخوله. لجأت إلى الحارس الصعيدي فوعدني بإحضار ذلك خفْية.
الجمعة ١٠ أبريل
وفَّى الحارس بوعده فأحضر لي الحبر والورق بعد الصلاة. واستأنفت الكتابة. نقضي الوقت في ألعاب الشطرنج والكوتشينة والضامة وطاولة النرد. تعلمت لعبة المنقلة التي يلعبها اثنان مع كل منهما لوحة حُفرت فيها ستة ثقوب. ويضع اللاعبان في كل ثقب من هذه الثقوب ست قطع من الحجارة أو الزلط.
الثلاثاء ١٤ أبريل
صنع أحد النجَّارين دُمًى للعبة طاب. توضع ١٩ دمية في الصف الخارجي، ويمسك كل لاعب بأربع من العصيِّ الصغيرة والمسطَّحة سوداء من جانب وبيضاء من الجانب الآخر، وتُلقى هذه العصيُّ على سكين مغروس في الأرض والهدف أن تتقابل الدُّمى.
الخميس ١٦ أبريل
أُشيع أن الإنجليز ومن معهم من العثمانيَّة ملكوا ثغر رشيد وأبراجها، وحاربوا من كان بها من الفرنسيس حتى أجلَوهم عنها ودخلوها.
الإثنين ١٩ أبريل
حبسوا معنا أحد المترجمين الشوام الذين يحضرون اجتماعات الديوان. والتففنا حوله نسأله عن الأخبار، فذكر لنا وقائع آخر اجتماع. قال إن الخازندار الفَرنسي أستوف طلب من المجتمعين التعجيل بجمع النصف مليون المتَّفق عليها لأجل نفقة العسكر. ثم قال لهم إن الفرنساويَّة لا يحبون الكذب، ولم يعهد عليهم، فلازم أن تصدِّقوا كلَّ ما أخبروكم به، فقال بعض الحاضرين: إنما يكذب الحشَّاشون والفرنساويَّة لا يأكلون الحشيش. ثم قال الخازندار: اعلموا أن الفرنساويَّة لا يتركون الديار المصرية ولا يخرجون منها أبدًا، لأنها صارت بلادهم وداخلة في حكمهم، وعلى الفرض والتقدير إذا غلبوا على مصر فإنهم يخرجون إلى الصعيد، ثم يرجعون ثانية.
قال الحاج: إن المترجم ربما كان جاسوسًا أرسلوه ليتجسَّس علينا.
الإثنين ٢٠ أبريل
قال صديقي الحارس: إن الفرنسيس أحاطوا بمنزل حسن أغا لأنه وُجد ببيته غلام فرنساوي مختف أسلم وحلق رأسه. وقال: إن هناك أخبارًا بوصول طاهر باشا الأرنؤدي بجملة من عساكر العثمانلي الأرنؤد إلى أبي زعبل.
الإثنين ٢٧ أبريل
شاع في المحبِس أن مراد بك مات بالطاعون في الوجه القبلي. وكان الفرنساويَّة عندما اصطلحوا معه أعطَوه إمارة الصعيد، ورتبوا لزوجته نفيسة في كل شهر مائة ألف فِضَّة، فنزلوا بالمبلغ إلى النصف أي خمسين ألف بارة.
واكتشفت أن صديقي الحاج علي يعرفه معرفة شخصية. وقال لي إنه أشقر من بلاد القوقاز في الخميس من عمره مربوع القامة ذو وجه شركسي شاحب تحيط به لحية شقراء كَثَّة وعينان ناريَّتان قاسيتان. وقال إنه كان ظالمًا غشومًا مشهورًا مختالًا معجبًا متكبرًا، إلا أنه كان يحب العلماء، ويتأدَّب معهم، ويُنصت لكلامهم، ويميل طبعه إلى الإسلام والمسلمين، ويحب معاشرة النُّدماء والفصحاء والمتكلمين، ويناقل في الشِّطْرنج، ويحب سماع الآلات والأغاني.
وحكى لي قصته، فقد كان من مماليك محمد بك أبي الذهب، أعتقه بعد أن اشتراه بأيام قليلة وأمَّره، وأنعم عليه بالإقطاعات الجليلة، وقدَّمه على أقرانه، وعشقه فشاركه فِراشه، ثم زوَّجه بالست فاطمة أرملة الأمير صالح بك، وسكن داره العظيمة بخط الكبش.
فلما مات محمد بك اتفق رأي الأمراء على إمارة إبراهيم بك، وتزوج مراد أرملة علي بك السيدة نفيسة الجيورجية الجميلة الشهيرة بقوتها وثرائها. وعاش مُترَفًا في الجيزة. وقضى مرَّة ستَّ سنوات دون أن تطأ قدماه القاهرة تاركًا حكمها لإبراهيم بك عاكفًا على لذاته وشهواته، مرة بقصره الذي أنشأه بالروضة، وأخرى بجزيرة الذهب، وأخرى بقصر قايماز جهة العادلية، كل ذلك مع مشاركته لإبراهيم بك في الأحكام، والإبرام، والإيراد.
وصار يتنقل في تلك القصور والبساتين، ويركب للصيد في غالب أوقاته، وعمل له تُرْسخانة عظيمة، وطلب صناع آلات الحرب من المدافع والقَنابر والبُنب والجُلل والمكاحل، واتخذ بها أيضًا معامل البارود خلاف المعامل التي في البلد، وأخذ جميع الحدادين والسباكين والنجارين، فجمع الحديد المجذوب والرَّصاص والفحم والحطب حتى شحَّت جميع هذه الأدوات، وأحضر أناسًا من القليونجية ونصارى الأروام وصُنَّاع المراكب، فأنشَئوا له عِدَّة مراكب حربية وغلايين، وجعلوا بها مدافع وآلات حرب على هيئة مراكب الروم، وجعل عليهم رئيسًا كبيرًا من اليونان، وهو الذي يقال له نقولا، وبقيت آلات الحرب جميعها والبارود بحواصله والجلل والبُنبات حتى أخذ جميعه الفرنسيس.
السبت ٢ مايو
شعرنا بعد الظهر بجلَبة غير عادية في القلعة. وعرفنا أن زوجة ساري عسكر منو تركت بيت الألفي، وصعِدت إلى القلعة برفقة أخيها علي الرشيدي لتكون في مأمن.
الأربعاء ١٣ مايو
شاع في الحبس وصول القادمين من الإنجليز والعثمانيَّة إلى الرحمانية، وتملكهم قلعتها، وما بالقرب منها من الحصون.
الأحد ١٧ مايو
سمعنا جلَبة متواصلة في الخارج. وصعِدتُ فوق كتفَي عبد الظاهر لأنظر من الطاقة، رأيتُ عددًا من الطواحين يجرى إدخالها، وتبعَتها صهاريج مياه وصناديق بارود وكبريت وذخائر وأجولة قمح وغلة، وكذلك الأمتعة والفُرُش والأسِرَّة.
وقال الحارس إنهم يضعون متاريس خارج البلد من الجهة الشرقية والبحرية، ويحفِرون خنادق، وطلبوا الفَعَلة للعمل، فكانوا يقبضون على كلِّ مَن وجدوه ويسوقونهم للعمل، وألقوا الأحجار العظيمة والمراكب ببحر إنبابة لتمنع المراكب من العبور، ومدُّوا المتاريس البحرية من باب الحديد إلى قنطرة الليمون، إلى السبتية، إلى مجرى النيل عند شبرا.
السبت ٢٣ مايو
سمعنا من الحرسية أن العساكر الشرقية وصلت إلى بنها وطحلا بساحل النيل. وأن الفرنساويَّة محصورون بداخل الإسكندرية، والإنجليز ومَن معهم من العساكر يحاربون من خارج، وقد أطلقوا المياه من البحر المالح حتى عمَّت الأراضي المحيطة بالإسكندرية، وأغرقت أطيانًا كثيرة وبلادًا ومزارع.
الإثنين ٢٥ مايو
زارني جعفر بطعام وفاكهة. وقال إن عبد العال جاءهم متنكِّرًا في زي النساء وفتَّش البيت بحثًا عن امرأة اسمها هوى كانت زوجة لبعض الأمراء الكشاف، ثم إنها خرجت عن طورها وتزوَّجت نقولا، وأقامت معه مدة، فلما حدثت هذه الحوادث جمعت ثيابها واحتالت حتى نزلت من القلعة على حمار، ومتاعها محمول على حمار آخر، فنزلت عند بعض العطف، وأعطت المُكارية الأُجْرة وصرفتهم واختفت.
الأحد ٧ يونيو
سمعنا عِدَّة مدافع على بعد وقت الضحوة. وشاع حضور الوزير العثمانلي إلى شلقان، وكذلك وصل عساكر الإنجليز بالناحية الغربية أول الوراريق.
السبت ١٣ يونيو
صعِد إليَّ جعفر بطعام مطبوخ من الخُبازَى وخَضراوات نيِّئة، واعتذر بأن اللحم والسمن والجبن شحُّوا من الأسواق، وأن الفرنساويَّة يجمعون زيت السيرج، وغلا سعر اللحم لقلَّة المواشي والأغنام، فوصل سعر الرطل تسعَ بارات، والسمن خمسًا وثلاثين بارة، والبصل ثمانمائة بارة للقنطار، والرطل الصابون بمائة وستين بارة.
وقال إن أستاذي أراد أن يشرب أنيسون، وأرسل جعفر إلى الأبزارية على العادة يشتري منه بدرهم فلم يجده، وقيل له إنه لا يوجد إلا عند تاجر يبيع الأوقية بثلاث عشرة بارة، فأتى منه بأوقيتين بعد جهد.
سألته عن مدافع الصباح، فقال إن أستاذي ذهب إلى الأزهر وصعِد إلى منارته. وشاهد بالنظارة عساكر الإنجليز بالجهة الغربية وقد وصلوا إلى أول إنبابة، ونصبوا خيامهم.
الثلاثاء ١٦ يونيو
سمعنا نداءً عاليًا في الخارج، وتكرَّر النداء قبل أن نتبيَّن مضمونه، وهو: إن هذا جزاء من ينقُل الأخبار إلى العثملي والإنجليز. ثم علمنا من الحرسية أن عبد العال قتل رجلًا بباب زويلة وُجد معه مكتوب من بعض النساء مُرسَل إلى أزواجهن بمعسكر العثمانلية. وقالوا أيضًا إن هؤلاء وصلوا إلى العادلية، وامتدَّ مضربهم إلى قبلي منية السيرج.
السبت ٢٠ يونيو
زحفت العساكر الشرقية حتى قربوا من قبة النصر، وسكن إبراهيم بك زاوية الشيخ دمرداش، وحضر جماعة من العسكر العثملي، وأشرفوا على الجزارين من حائط المذبح، ورمى الفرنسيس عليهم من القلعة الظاهرية وقلعة نجم الدين والتل.
الأحد ٢١ يونيو
وقعت مضاربة بين الفريقين ببنادق ومدافع من الصباح إلى العصر.
الإثنين ٢٢ يونيو
وقعت مضاربة أيضًا بطول النهار، وقال حرسية الليل: إن نحو خمسة وعشرين نفرًا من عسكر العثمانيَّة دخلوا إلى الحسينيَّة، وجلسوا على مصاطب القهاوي، وأكلوا كعكًا وخبزًا وفولًا مصلوقًا، وشربوا قهوة، ثم انصرفوا إلى مضربهم. أما عساكر البر الغربي فقد وصلوا تحت الجيزة.
الثلاثاء ٢٣ يونيو
بطل الضرب في وقت الزوال. وانتشر الإنجليز إلى قبلي الجيزة، ومنعوا المعادي من تعدية البر الشرقي، فانقطع من الناحية القبلية وصول الغلال والأقوات والبطيخ والعجور والخَضراوات والخيار والسمن والجبن والمواشي فعزَّت الأقوات، وبيعت الدجاجة بأربعين بارة، وامتنع وجود اللحم من الأسواق.
الأربعاء ٢٤ يونيو
اقتحم علينا الحرَّاس الغُرَف فجأة في الصباح ويرأسهم فرنساويَّة، وفتَّشوا الملابس والحاجيَّات. وانهالوا علينا بالكرابيج في غيظ. ولمحت الحارس القِبْطي بينهم لكنه تجاهلني تمامًا. ثم بدءوا في تجريدنا من الألعاب والأوراق والمداد وإعدامها، وتمكنت من إخفاء أوراقي في صدري. ثم هدأ كل شيء بعد الظهر.
الخميس ٢٥ يونيو
أحضر لي الحارس القِبْطي حاجتي من المداد. وقال إن هناك مسالمة ومراسلة بين الفرنساويَّة والداخلين. ولم نسمع صوت المدافع.
الإثنين ٢٩ يونيو
أطلقوا المحبوسين بالقلعة من أسرى العثمانيَّة، وأعطَوا كلَّ شخص مقطع قماش وخمسة عشر قرشًا، وكذلك أفرجوا عن جملة من العُرْبان والفلاحين. وصرت آمل أن يلحقني الإطلاق بدوري.
وفي الليل سُمع صوت مدفع بعد الغروب. وقال الحرسية إنه عند قلعة جامع الظاهر خارج الحسينيَّة.
الثلاثاء ٣٠ يونيو
شهِد بعض الحرسية البيرق العثماني بأعلى قلعة الظاهر والمسلمون على أسوارها فعلموا بتسليمها، وكان ذلك المدفع إشارة إلى ذلك. وأشيع الإفراج عن الرهائن من المشايخ وغيرهم، وباقي المحبوسين.
الأربعاء أول يوليو
أفرجوا عن بقية المسجونين والمشايخ وهم: الشيخ السادات، والشيخ الشرقاوي، والشيخ الأمير، والشيخ محمد المهدي، وحسن أغا المحتسب، وغيرهم.
الخميس ٢ يوليو
أفرجوا عن عبد الظاهر.
الجمعة ٣ يوليو
أطلقوا سراحي وخرجت من باب القلعة جريًا وواصلت الجري حتى وصلت الأزهر. لقيت في الطريق جماعات الجند: الإنكشارية بطراطيرهم المُدلَّاة أطرافُها على ظهورهم وفي مقدِّمتها فوق الجبهة ريشة تنتهي عند أعلاها بشعبتين، والمماليك في زيِّهم المؤلف من القُفْطان المزركَش، والمِنْطَقة العريضة يتدلَّى السيف من جانبها الأيمن، ويبدو الخنجر تحتها من أمام، والعِمامة الملفوفة على طاووق طويل، والأرنائوط بزيِّهم المؤلَّف من القُفْطان الأبيض القصير ويسمونه التنورة، والطرابيش التي تتدلَّى منها أزرار طويلة، والجلد الذي يكسو سيقانهم.
استقبلني خليل وجعفر وبقية الخدم بتَرْحاب. وكان أستاذي في الديوان. أخذت ملابس نظيفة وذهبت إلى الحمَّام، وعند عودتي استقبلني أستاذي وحدَّثني عن اجتماع الديوان، فقال إنهم تكلَّموا في شروط الصُّلْح وهي أن الجيش الفرنساوي يلزم أن يُخلوا القِلاع ومصر، ويتوجَّهون على البر بمتاعهم إلى رشيد، ومنها في مراكب إلى بلادهم، وهذا الرحيل ينبغي أن يشرع به وأقل ما يكون في خمسين يومًا، ويلزم أن يقدم لهم جميع ما يحتاجونه من نفقة ومؤنة وجِمال ومراكب، وعلى رؤساء عساكر الإنجليز وحضرة العثمانلي القيام بنفقة الجميع.
أكلنا ملوخية طازجة ويَخْني وخيارًا، وجاء الخبر بعد الظهر بوصول بعض أكابر الإنجليز وصحبتهم فرنساويَّة، يفرِّجونهم على البلدة والأسواق؛ فجرينا أنا وخليل وجعفر وتابعناهم حتى المشهد الحسيني. وهناك رأينا دخول بعض أكابر العثمانيَّة بينما الفرنساويَّة ينتظرونهم بالباب.
الإثنين ٦ يوليو
جاء رسول لأستاذي يدعوه للاجتماع بالديوان، فقال لي: تعالَ معي.
قلت: أهذا من الفطنة؟ الناس لن تسامح مَن يحضُر اجتماعاته.
قال: هذا آخر الدواوين، ولا بُدَّ أن نحضره. وعليك أن تحفظ جيدًا ما يدور من كلام.
ذهبت برفقته حيث اجتمع المشايخ والتجار، وأستوف الخازندار، والوكيل والترجمان. فلمَّا تكامل حضورهم وفرشوا سجاجيدهم وجلسوا عليها أخرج الوكيل كتابًا مختومًا من ساري عسكر منو ناوله لرئيس الديوان ففضَّه وناوله للترجمان، فقرأه والحاضرون يسمعون.
ثم تحدَّث أستوف الخازندار قائلًا: أُعلمكم أن ما عليَّ أني أكلِّمكم في أسباب خروجنا من الديار المصرية، بل وظيفتي تدبير أمور السياسة فقط، ومجيئي عندكم لأجل أن أعرفكم قدر ما هو من الصعوبة. كل واحد منكم رأى المحبة والأخوة التي كانت موجودة ما بين الفرنساويَّة وما بين أهل الديار المصرية، قد كان الجيش والأهل المذكورون مثل الرعية الواحدة، واسم حضرة بونابرته القنصل الأول في عز الكفالة عندكم وعندنا … هذا الشجاع الأعظم الذي عقله ما له مثيل، كان يستحقُّ أنه يكون حاكمًا عليكم دائمًا. ومن وقت ما التزم بسبب التعب الذي حصل له في بلده أن يتوجه إليه، ما ضاع منكم العشم، أن يترتب في الديار المصرية التدبير الذي كان وعدكم به وقت ما كان عندكم، والعدل الذي كان ممنوعًا عنكم في الأحكام السابقة قد وصل إليكم بواسطته … وهبْ أن يصادف يوم أننا نرجع إلى عندكم لأجل تمام الخير الذي يصدر من حكم الفرنساوي، والذي ما أمكننا تتميمه، فلا تتوهموا يا مشايخ ويا علماء أن فراقنا لم يقع إلا من مدة، وذلك محقق عندي، ولا بُدَّ أن دولتينا يربطون ثانيًا في مدة قريبة المحبة القديمة التي كانت بينهم وبينكم.
وانفضَّ الديوان، وركب المشايخ وخرجوا للسلام على الوزير العثمانلي يوسف باشا الذي يقال له الصدر الأعظم، والسلام على القادمين معه أيضًا من الأمراء المصرية والمحروقي وعمر مكرم.
شعرت بأن أستاذي في قلق لأنه كان يعَضُّ طرَف شاربه. وقال لي: ادعُ ربك أن يستقبلَنا الوزير ولا يأمر بحبسنا؛ فلن يغفروا لمن شارك في الديوان.
وصلنا إلى المضرب فسلَّمنا على إبراهيم بك، وتوجَّه معنا إلى الوزير، فلمَّا وصلنا إلى الصيوان أمروا المشايخ برفع الطيالسة التي على أكتافهم، وتقدَّموا للسلام عليه. وصحَّ ما توقَّعه أستاذي فلم يقُمْ لقدومهم. وجلسنا بعض الوقت ثم انصرفنا.
الأربعاء ٨ يوليو
أُشيع في ذلك اليوم ارتحال الفرنساويَّة ونزولهم من القلاع، وتسليمهم الحصون من الغد وقت الزوال.
الخميس ٩ يوليو
بتنا أمس نسمع لغَطَ العساكر العثمانيَّة وكلامهم ووطء نعالاتهم، وفي الصباح تبيَّن أن الفرنساويَّة خرجوا بأجمعهم ليلًا وأخلوا القلعة الكبيرة، وباقي القلاع والحصون والمتاريس، وذهبوا إلى الجيزة والروضة وقصر العيني، ولم يبقَ منهم شبح بالمدينة وبولاق ومصر العتيقة والأزبكيَّة.
الأحد ١٢ يوليو
وصلت مراكب من جهة بحري، وفيها البضائع الرومية واليميش من البندق واللوز والجوز والزبيب والتين والزيتون الرومي.
الأربعاء ١٥ يوليو
ارتحل الفرنساويَّة وأخلَوا قصر العيني والروضة والجيزة، وانحدروا إلى بحري الوراريق، وارتحل معهم قبطان باشا ومعظم الإنجليز، فكانت مدة الفرنساويَّة وتحكُّمهم بالديار المصرية ثلاث سنوات وواحدًا وعشرين يومًا، وعلق أستاذي قائلًا: سبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه. وقال: إن جيش الحملة كان ٤٠ ألفًا، بقي منهم النصف.
وذهبت مع أستاذي إلى جسر المراكب الذي عمله الفرنساويَّة من بر مصر بالقرب من قصر العيني إلى الروضة قريبًا من موضع طاحون الهواء؛ لنشهد خروجهم. وكان موكبهم صامتًا مهيبًا لا يسمع فيه غير صوت حوافر الجياد. وتقدَّمهم الجنرال بليار على صهوة جواده الرمادي المرقَّط وخلفه المعلم يعقوب في رداء جنرال فرنساوي حاملًا رتبته وأوسمته وسيفه على جنبه وبجواره أمه وقرينته وأقاربه وبعض أتباعه، ولم ألمح حنا بينهم.
الخميس ١٦ يوليو
نبهوا على موكب حضرة الوزير يوسف باشا فاجتمع الناس من جميع الطوائف وسائر الأجناس، وهُرع الناس للفرجة، واكترَوا الدُّور المُطلَّة على الشارع بأغلى الأثمان، وجلسوا على السقائف والحوانيت صفوفًا.
وانجر الموكب من أول النهار إلى قريب الظهر، وتبِعته عندما دخل من باب النصر، وشق من وسط المدينة، وأمامه العساكر المختلفة من الأرنؤد، والينكجرية، والعساكر الشامية، والأمراء المصرية، والمغاربة، والقليونجية، ومحمد باشا والي مصر، والكتبة ورئيس الكُتَّاب، وكَتْخُدا الدولة والأغوات الكبار بالطبول والنقرزانات، وقاضي العسكر ونواب القضاء، والعلماء المصرية، ومشايخ التكايا والدراويش.
وأقبل الوزير وأمامه الجاويشية والسعاة، وعلى رأسه قَلَنْسوة من الرِّيش مُرصَّعة بفصوص الماس، وخلفه اثنان عن يمينه وشماله ينثرون دراهم الفِضَّة البيضاء المضروبة في إسلامبول على المتفرِّجين من النساء والرجال، وخلفه أيضًا العدة الوافرة من أكابر أتباعه، والنوبة التركية المختصة به، ثم المدافع وعربات الجبخانات، وعملوا وقت الموكب شنكًا ضربوا فيه مدافع كثيرة.
وفرِح الناس كعادتهم بالقادمين وظنوا فيهم الخير، وصاروا يتلقَّونهم ويُسلِّمون عليهم ويباركون لقدومهم، والنساء يلقلقن بألسنتهن من الطيقان وفي الأسواق، وقام للناس جلبة وصياح، وتجمَّع الصغار والأطفال كعادتهم، ورفعوا أصواتهم بقولهم: نصر الله السلطان.
وجلس الكثير من العساكر من أجناس مختلفة برءوس العطف والحارات، وعلى القهاوي وأمام الحوانيت والحمَّامات، وطلبوا من الناس المآكل والمشارب والقهوات وألزموهم بذلك، ثم طلبوا البيوت وسكنوها.
وكثُر الخبز واللحم والسمن والسيرج بالأسواق، وتواجدت البضائع، وانحلَّت الأسعار فبيع اللحم الضاني بثماني بارات، والماعز بسبع، والجاموس بست، والمسلي بمائة وثمانين بارة للعشرة أرطال بعد أن كانت بثلاثمائة، وبيعت جميع الخَضراوات بالرَّطل حتى الفجل والليمون، ورطل الخبز ببارة، والماء بعشر بارات بعد عشرين. وكثرت الفاكهة مثل العنب والخوخ والبطيخ، وتعاطى بيع غالبها الأتراك والأرنؤد، فكانوا يتلقَّون من يجلبها من الفلاحين بالبحر والبر ويشترونها منهم بالأسعار الرخيصة يبيعونها على أهل المدينة وبولاق بأعلى الأثمان.
الجمعة ١٧ يوليو
نودي بإبطال شرك العسكر لأرباب الحرف إلا من شارك برضاه وسماحة نفسه، فلم يمتثلوا لذلك واستمر أكثرهم على الطلب من الناس.
الأحد ١٩ يوليو
نودي بأن لا أحد يتعرض بالأذية لنصراني ولا يهودي، سواء كان قِبْطيًّا أو روميًّا أو شاميًّا، فإنهم من رعايا السلطان.
ووجدت أستاذي ساخطًا لأن الحكام الجدد أرسلوا فرمانات إلى الأقاليم المصرية والقرى بعدم دفع المال إلى الملتزمين، وإنما يدفعونه للصيارف المبعوثين من طرَف الدولة. وكان يخبط كفًّا بكفٍّ ويقول: كيف سنقوم بالنفقات من دون هذه الأموال؟
الثلاثاء ٢١ يوليو
فقدَ الشيخ البكري مملوكه العزيز الذي حكم له الفرنساويَّة به؛ فقد اشتكى عثمان بك الطنبرجي للقاضي فأحضر البكري والتاجر الذي جلب المملوك، وادَّعى عثمان بك أن البكري قهره بالفرنسيس، وأخذ منه المملوك بدون القيمة، فحكم القاضي بانتزاع المملوك من البكري، وقد كان أعتقه وعقد له ابنته، فأبطلوا العتق، وفسخوا النكاح، وأعادوا المملوك لعثمان بك فأخذه، ودفع للشيخ دراهمه وتجرَّع فراقه.
الأحد ٢٦ يوليو
أُشيع أنه كتب فرمان على النصارى أنهم لا يلبسون الملوَّنات، ويقتصرون على لبس الأزرق والأسود فقط، وترصَّد الحراس لهم فيأخذون الطربوش والمداس الأحمر، ويتركون الطاقية والشد الأزرق. واستغاث النصارى فنودي بعدم التعرُّض لهم.
الإثنين ٢٧ يوليو
طلب الوزير من التجار مائة كيس، وعشرة أكياس سُلفة من عشور البهار.
السبت أول أغسطس
جرى اليومَ كسْح بئر كراسي الراحة، وتبييض النُّحاس لأول مرة منذ مقتل كليبر.
الأحد ٢ أغسطس
عاد الشيخ حسن العطار من الصعيد وزارنا. وعرض على أستاذي رسالة من المعلم يعقوب لبعض أكابر القِبط. وأعلمني أستاذي بمحتوى الرسالة. وقد كتب المعلم أن الشرق قد بلغ حالًا من الهوان يتطلب فيها إنقاذه من خارجه. وأن ضمير الأمم العظيمة مثل فرنسا وإنجلترا لا يمكن أن يقبل بقاء مهبط الحكمة وأرض الأنبياء على هذا الحال. وقال إنه لا بُدَّ من إقناع الإنجليز والفَرنسيين بضرورة مساعدة المصريين على التحرُّر من حكم الأتراك والمماليك. وبلا موافقة إنجلترا لن تقوم حكومة مستقلة في مصر. ومن مصلحتها خضوع مصر المستقلة لنفوذها مما سيعيد لمصر رخاءها.
الثلاثاء ٤ أغسطس
طلبوا ابنة الشيخ البكري فحضروا إلى دار أمها بالجودرية بعد المغرب، وأحضروا والدها، وسألوها عما كانت تفعله من تبرُّج مع الفرنساويَّة، فقالت إني تبت عن ذلك. فقالوا لوالدها ما تقول أنت؟ فقال: أقول إني بريء منها. فكسروا رقبتها.
الأربعاء ٥ أغسطس
كثر اشتغال العسكر بالبيع والشراء في أصناف المأكولات، ورتبوا على أرباب الحوانيت دراهم يأخذونها كل يوم ويأخذون الخبز من الخابز دون ثمن، ويشربون القهوة في القهاوي، وتعرَّضوا للسكان في منازلهم، فتأتي طائفة منهم ويدخلون الدار ويأمرون أهلها بالخروج ليسكنوها، فإن شكَوا لكبيرهم قال ألا تُفسحون لإخوانكم المجاهدين الذين حاربوا عنكم وأنقذوكم من الكفار؟ والحرس الذي تقيَّد بحارة النصارى يطلبون منهم المآكل واللوازم ومصروف الجيب وأجرة الحمَّام.
الخميس ٦ أغسطس
اشتدَّ طلب العثمانلي للحمير. وأنزلوا أحد تجار وكالة إينال عن حماره، وذهبوا به إلى السوق وباعوه. وكان قد تبِعهم فاشترى حماره.
وخافت الناس على حميرها وصاروا يُنكرون وجودها. وهكذا فعَلْنا عندما أتونا اليوم. لكنهم وقفوا بالباب بعد أن أغلقناه ولم ينصرفوا. وأخذوا ينصتون لعلهم يسمعون صوت نهيق الحمار. وعندما لم ينهق صاحوا: زر. وكرَّروا ذلك فنهق الحمار وعلموا به، ودقوا الباب يطلبونه فافتداه منهم جعفر على بعض المال.
الثلاثاء ١٨ أغسطس
ورد الخبر بسفر الفرنساويَّة ونزولهم المراكب من ساحل أبي قير.
الإثنين ٢٤ أغسطس
نودي على أهل الذمة بالأمن والأمان، وأن المطلوب منهم جزية أربع سنوات.
الخميس ٢٧ أغسطس
ارتفعت أُجْرة البنَّاء إلى أربعين فِضَّة أي ثمانين بارة.
الأحد ٣٠ أغسطس
حضر جماعة من أهالي الصعيد إلى حسن العطار هربًا من الألفي، وما أوقعه بهم من الجَوْر والمظالم والضرائب والمغانم. وقالوا إن الأتراك إذا نزلوا القرى لا يتقدَّمون إلى طعامهم حتى يعطيَهم صاحب المكان مالًا قبل أن يأكلوا.
الإثنين ٣١ أغسطس
وجدت أستاذي جالسًا جلسته المعهودة، وأمامه رِزْمة الأوراق التي تضمُّ ما كتبه منذ دخل الفرنساويَّة في بلادنا، بالإضافة إلى ما كتبه حسن العطار من نثر وشعر. كان يقرؤها في عناية واحدة بعد الأخرى وهو يهزُّ رأسه ويتمتم. وأخيرًا طلب مني إحضار ورق فارغ والمحبرة والقلم، وطلب مني أن أكتب ما سيُمليه عليَّ.
تناول الورقة الأولى وقرأها بعناية.
قال: اكتب: سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعُف الشرور، وترادُف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب. وما كان ربك مُهلِك القُرى بظلمٍ وأهلها مصلحون.
تذكرت أن هذه السطور هي التي بدأ بها كتابه عن مدة الفرنسيس في مصر. وظننته يُعِدُّ نسخة لصديق له أو لشخصٍ أراد شراءها.
قال: اكتب في رأس الصفحة «مظهر التقديس بذَهاب دولة الفرنسيس».
قلت: كتاب جديد؟
قال: جديد وقديم.
قلت: لم أفهم.
قال: هل تتصور العثمانلي يقبلون ما كتبته من امتداح للفرنسيس وذمٍّ في الترك؟ الوزير التركي طلب أن أكتب له تاريخ فترة وجود الفرنسيس في مصر. ثم أني أريد أن أبرِّئَ نفسي من تهمة التعاون مع الفرنسيس.
قلت: لقد قرأت ما كتبته. أنت لم تفتئت على الحقيقة.
– وهل يقبل الترك ذلك؟
– ماذا ستفعل إذن؟
– كتاب جديد هو نفسه القديم بعد أن ننزع منه ما قد يُغضبهم. ثم نهديه إلى الوزير يوسف باشا.
فكَّرت فيما كتبته أنا. هل سيكون عليَّ أن أفعل المثل؟
أخذ يُملي عليَّ: كنت قد سطَّرت ما وقع وحصل من الوقائع من ابتداء تملُّك الفرنسيس لأرض مصر إلى أن دخلها مولانا الوزير في أوراق غير منظومة في سلك الاجتماع والاتفاق، وكثيرًا ما كان يخطر ببالي — وإن لم يكن ذلك من شأن أمثالي — أن أجمع افتراقها وأُلبسها بالترصيف اتساقها ليكون ذلك تاريخًا مُطلِعًا اللبيب على عجائب الأخبار وغرائب الآثار، وتذكرةً بعدنا لكلِّ جيلٍ.