آراء
(١) رأي في الزواج وشكوى النساء منه
رد على ما كتبه حضرة مدير الجريدة في العدد ٣٨٣ بعنوان: «بناتنا وأبناؤنا».
•••
كتبتم حضرتكم في العدد (٣٨٣) من الجريدة مقالة بعنوان «بناتنا وأبناؤنا» تستغربون فيها كثرة تشكي النساء من الزواج في هذا العصر مع قلة تزوج الرجل باثنتين، وقلتم فيها أقوالًا صائبة حقيقية، ولكنكم عجبتم من أن المرأة كان يرضيها من زوجها أن يعدل بينها وبين ضرائرها في الكسوة والمعاملة، وأنها إذا تزوج عليها كان يمنعها الوقار غالبًا من أن تفتح قلبها بالشكوى إليه أو إلى ذوي قرابة منها بما تجده من الألم؛ نعم ذلك صحيح لا ريب فيه، ولكن له أسبابًا أنتجت تلك النتائج، أولها أن الفتاة كانت إذا شبت وجدت والدتها تعيش مع ضرة أو أكثر، ورأت خالتها وعمتها على تلك الحال، وكذلك صويحباتها ومعارفها، فلم يكن ذلك بالشيء الغريب، فإذا جاء دورها وتزوجت من رجل له زوجة أخرى وجدت أنه لم يخرج عن المألوف، وأنه تابع لعادة أهل عصره ومصره؛ فلم يكن يحسن بها إذن أن تبدي شكواها من أمر عادي يأتيه كثير غير زوجها، ولو أنه يؤلمها في قلبها ويجرح عواطفها، وكذلك كانت التربية غير ما نراها اليوم؛ فبنات العصر الحالي، حتى الجاهلات منهن، يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات؛ فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كأحد خدم المنزل، ولكنهن يقدرن اليوم السعادة الزوجية أكثر من ذي قبل، ويعلمن أنه إذا لم يكن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما يتنافران ويتشاحنان كأمثال الديكة الخرقاء. ومن اختلاف التربيتين القديمة والحديثة صفاء النية والمجاهرة بالقول والحرية فيه الآن، والخوف وشدة التكتم حتى على مضض العيش وذله قبل، حتى إن المرأة في زمن جداتنا كانت إذا أصابها ألم أو مرض تبالغ في كتمانه وتعد المرض — أيًّا كان نوعه — عيبًا تجب مداراته، ولكن المرأة الجديدة على عكس ذلك تمامًا؛ إذ ترى أن كل شيء من هذا القبيل عادي، وأن ما يصيبها قد يصيب غيرها، فلا معنى لإخفاء أمر يصح أن يقع فيه الجميع. ولا يزال أثر هذا التباين في الحذر مشاهدًا للآن ويكاد يكون محسوسًا بين طبقة (بنات البلد)؛ إذ تعد الواحدة منهن من النقص أن تخبر زوجها بصداع قد يصيبها، أو تتوهم أنه يأنف منها ويعافها إذا وجدها راقدة في سرير الألم والانحراف! لا يزال التباين بين هؤلاء وبين الطبقة الجديدة (الألفرنكة) محسوسًا، وهؤلاء لا يكتمن إلا ما يجب كتمانه على الوجه الصحيح، هذا كله راجع إلى تربية الوجدان واختلاف تلك التربية باختلاف الوسط والزمان. هذا من جهة المرأة وحدها، وهناك سبب لكثرة الخلاف والتذمر الآن يرجع إلى الرجل وحده وإليك البيان: رجال الأمس على جمعهم بين زوجات متعددات كانوا أتقى منهم اليوم، فرجل العصر (الشاب والكهل) تراه يتبجح بأن له خليلات، وأنه بجماله ورشاقة قده واهتزاز أعطافه يسبي ربات الحجال بما فيهن المحصنات، وقد يتقول حكايات لا أصل لها في هذا الموضوع مما تندى له الجباه. ولعمري إن الجمع بين زوجتين — على ما فيه — لأحسن من التهتك وانتهاك حرمة الدين وإيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها، يا لله أليس لها قلب يتأثر وشعور يحس وعواطف تثور؟! وقد أصبح رجالنا بفضل هذا التفرنج يعدون من لا يشرب الخمر جهارًا، ومن لا خليلة له يترامى على قدميها أو تترامى على قدميه (أنتيكه) في عرفهم؛ فلله درهم!
والأغرب من ذلك، أنك إذا ذكرت للشاب أو أبيه شيئًا مما يأتيه أجابك هذه هي الحرية الشخصية (على كيفي)، أو قال: أنا رجل وليس علي عار في هذا. فلله أنت ولله أبوك! ائتني بآية من القرآن، أو إن كان القرآن عندك أيضًا (أنتيكه)، فائتني بمادة من القانون الفرنسي الذي تقاليد واضعيه وأهله تحرم التهتك على النساء دون الرجال، وتجيز للآخرين الرذيلة وتمنعه الأول، إذا صح عندك إباحة السفاح لأنفسكم فأسهل منه، وحقكم أن نجيز لكم السرقة بأنواعها والقتل والسلب والتزوير إلى آخر ما يحرمه الشرع والقانون، وإلا فلماذا تختارون أكبر الرذائل وتعدونها سهلة لا إثم فيها وتأنفون إذا قلنا لكم: سرقتم؟!
لا أخالكم تتشدقون بقولكم عند النصح: (إنا رجال) إلا لأنه لا تظهر عليكم عوارض الخيانة بخلاف المرأة والفتاة فلهما من أحوالهما الطبيعية المختصة بهما ما لا يأمنان معه شر الفضيحة والعار، فإن زعمتم أن التقوى هي خوف النتيجة المحسوسة وأن الذمة والضمير لا يردعان ولا يمنعان المرء من إتيان المعاصي؛ فبعدًا لما تزعمون وساء ما تتوهمون.
وليت هذا السلوك الفاصم لروابط الألفة بين الزوجين يقف عند هذا الحد، بل له عواقب أوخم من التذمر، وأسوأ من البغض، وهي شطط المرأة بباعث الانفعال والحزن أو الانتقام والخبث وخروجها متبرجة في الطرقات أو وقوعها في مهواة الرذيلة وسقوطها السقوط الأبدي، والعياذ بالله! وفي تلك الحال يلام الرجل لأنه شجعها على ما أتته بما يأتيه هو، وهي تعتقد أنها بشر مثله ويحق لها من الحرية الشخصية بقدر ما يحق له فضلًا عن اعتقادها بأنه قدوتها، يبعث ظلم الرجال وسوء سيرتهم النساء إلى السقوط في الرذيلة فيسقطن إلا من عصم ربك، وهؤلاء تمنعهن تربيتهن الصحيحة وشرف مبادئهن عن الإخلال بالدين والآداب، ولكن يُصَبْنَ في الغالب بحمى الدماغ أو الهستريا والجنون أحيانًا، وتكثر همومهن ويعدمن لذة العيش، فيا للظلم! لماذا يشقى عضو من المجتمع الإنساني خلقه الله ليكون سعيدًا؟! يشقى لاستبداد الرجل ويضحي بحياته ليتنعم الرجل، فإذا أردتم أيها الرجال أن ترفرف السعادة على بيوتكم فاختاروا الزوجة الملائمة، كل بحسب ما يرى؛ إذ (لكل امرئ فيما يحاول مذهب)، ولا تقيدوا أنفسكم بأفكار العجائز والمشيرين، ثم اسلكوا سبيل الجد في الحياة، فقد كفاكم هزلًا أن استعبدنا للغير ونحن لاهون، واجعلوا من أنفسكم صراطًا تتبعه زوجاتكم، فإن كنت أيها الرجل عاقلًا فلتكن زوجتك مثلك، وإن كنت خليعًا فامرأتك خليعة، وإن أسرفْتَ أسرفَتْ وإن فترْتَ فترَتْ، وهذا بحكم تأثير المعاشرة في الخلق، والعادة بالطبع ولإرضاء الزوج من جهة أخرى؛ لأن كلنا يعلم أن الملائمة هي أس الاتفاق، فإذا اجتمع عاقل بمجنون شقي والعكس بالعكس، فترى العقلاء معًا فرحين والمجانين معًا على أتم ما يكون من الجذل، وكذلك الحال في العلماء والجهال، وكل شيء له نقيض فإن الثعالب لا تتفق مع الدجاج، والجرذ لا يتوقع أن يكون أليفه الهر.
وفي المرأة صفة غريزية هي تقليدها الرجل؛ لأنها تعتقده مرشدها ومعينها أبًا وزوجًا. وقد ذكرني ذلك بمحادثة دارت بيني وبين سيدة إنكليزية، من صواحب اللادي كرومر أيام إقامتها بمصر، فسُئِلت تلك السيدة: «إني ألاحظ أن اللادي تترك التأنق في ملبسها شيئًا فشيئًا؛ فهل تعرفين سببًا لذلك؟» فأجابت: «إنها تتعمده لتكون هيئتها أقرب إلى التقدم في السن منها إلى هيئة الشباب؛ لأن زوجها شيخ وتحب أن لا تسوءه بفكرة أنه مسن وأنها أصغر منه سنًّا بكثير.» ألا فلينتبه الرجال لذلك، وليتقوا الله في نسائهم وأعراضهم، وليعلموا أن التقوى مطلوبة في السر والعلن وأن الله يرى. يا قوم تداركوا الأمر قبل فواته، فإن كنتم ترضون لنظام بيوتكم بالاختلال، وللثقة بينكم وبين أزواجكم بالضياع ولأمنكم بالتأخر، فاستمروا على فسادكم. وإن كانت فيكم بقية غيرة وحمية وتحبون وطنكم كما تدعون؛ فأصلحوا أحوالكم تصلح حال نسائكم، ونقُّوا وَرْدَ بيوتكم من شوك الهمِّ، وسنوا سنة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم يكن لكم أجرها إلى يوم الدين، ولله عاقبة الأمور.
(٢) الحجاب أم السفور
رد على خطبة ألقاها حضرة عبد الحميد أفندي حمدي بشأن الحجاب.
•••
تتبعت خطبة الأديب عبد الحميد أفندي حمدي عددًا عددًا في الجريدة، فشكرت له اهتمامه بترقية المرأة، وأثنيت على اجتهاده وشجاعته الأدبية، وقد وجدت خطبته صحيحة المقدمات متينة المبنى، إلا أن لي رأيًا أبديه فيها، وقد يمر بخلد أحد القارئين أننا ننتقد الخطيب حبًّا في النقد أو تمسكًا بحب القديم وجمودًا منا عليه، لكن الحقيقة لا هذا ولا ذاك، وكل امرئ حر في فكره، حر في قبول فكرة غيره أو رفضها حسبما يشاء، بشرط أن لا يضر ذلك الرفض أو القبول بالغير.
أما ما يرجوه الكاتب من تعليم المرأة تعليمًا صحيحًا، فإني أوافقه فيه تمام الموافقة ويجب أن نحث غيرنا عليه بما نستطيع، وقد أصبح هذا القبول بديهيًّا لا يحتاج لأن أطيل فيه الكلام لا سيما وقد وفاه الخطيب حقه في خطبته؛ فجزاه الله عنا خير الجزاء. بقيت مسألة الحجاب، وهي تلك المسألة العويصة التي قامت من أجلها منذ سنين حرب قلمية عنيفة وضعت أوزارها على غير جدوى فلم يفز فيها (المحافظون) على القديم ولا (الأحرار).
ولست أنتقد اقتراح السفور من الوجهة الدينية؛ لأني أعلم أن الدين لم يحرجنا في هذه المسألة، كما بيَّن ذلك حضرة الخطيب، ولا من الوجهة الاقتصادية فإن باقتراحه أن نلبس لباسًا يضارع ما ترتديه الراهبات المسيحيات لتوفير كبير لما كنا عسانا نصرفه في تأنيق اللباس الخارجي كما يفعل نساء الفرنجة مثلًا. كذلك لست أنتقده من الوجهة الأدبية فإن ذلك اللباس وبساطته لأليق بتأزرنا به من تلك الحبر المهلهلة، كما سماها الخطيب، ولأدل على حشمة صاحبته — وإن كانت سافرة — مما تلبسه الآن مبرقعة، وشتان بين هذا البرقع الوهمي والبرقع الصحيح.
إذن، لم يبقَ للموضوع إلا وجهة واحدة وهي الوجهة الاجتماعية، وإذا انتقدته من تلك الجهة فإني لا أقلد فيه ولا أتبع عادة رأي غيري، بل أصرح بما أشاهده عيانًا، وبما أعرفه من أحوال شتى جربت فيها النساء المختلفات، والتجارب يجب أن تقدم أوامرها على أوامر البحث والتخيل؛ إذ هي لم تعدم بعد أن تترك أثرًا في النفس لا يزول، أما التخيل فقد لا يطابق الحقيقة، وإن طابقها فقد لا يعلق كثيرًا بالذهن؛ لأنه لا أثر إلا في المخيلة بعكس التجارب فأثرها يبقى على الحواس والذاكرة. فإذا نصحت طفلًا أن لا يلمس النار لئلا تحرقه فإن ولعه بالحركة والاستكشاف لا يزال يغريه بلمسها حتى يفعل ولا تنفع نصيحتك له، أما إذا لمسها مرة وأحرقت أصابعه فإنه يبتعد عنها كلما رآها ولو أمر بلمسها. وعليه فلسنا متبعات رأي من يأمرنا بالحجاب ولا رأي من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب، وذاك نقب وخطب، إلا إذا تبينا الرشد من الغي، وعلمنا من التجارب أولى الخطتين بالاتباع. وأمامنا الطبقات المختلفة والأجناس العديدة يجب أن نبحث كلًّا منها على حدته، ونجمع منها كلها حكمًا واحدًا نحكم به على أنفسنا إما بالحجاب أو بالسفور، أو غير ذلك مما سنوضحه بعد. وطبقات النساء (كالرجال) في كل أمة ثلاث: العامة والخاصة والوسط، وأصحها آدابًا فيها كلها على الإطلاق الوسط، ولا بد لذلك من سبب. نعم؛ السبب راجع إلى التربية؛ فالخاصة أو طبقة الغنيات يرخين لأنفسهن العنان في الملاهي والملاذ، والجدة مفسدة في الغالب خصوصًا إذا اقترنت بالفراغ، وهؤلاء عندهن من الخدم من يقوم بشؤون بيوتهن وأمور أولادهن، وقد يعودن عيش الكسل والراحة.
والطبقة الدنيا تجد من حاجتها باعثًا لها على طرق الطرق المختلفة لتجلب ما تسد به الرمق، ويختلط نساؤها برجالها في المصانع والمزارع وغيرها، وهذه الطبقة شر على الآداب في كل أمة حتى في الإفرنج، وهم ليسوا مقيدين بحجاب ولا عادة يقال معها إنهم لما خالفوها وقعوا في شر منها كما يجوز تطبيق ذلك علينا.
وطبقة الوسط، وهذه دائمًا أحسن الطبقات آدابًا وأكثرهن حشمة ووقارًا، ولرب معترض يقول: ما لنا وللطبقات وآدابها وما نسبة ذلك للحجاب وقد أدخلت في حكمك هذا الأمم حتى التي لا حجاب عندها؟ فأقول: متى عرفنا ذلك التقسيم وقارنَّا بين درجة اختلاط النساء في كل طبقة برجالها علمنا تمامًا أن الأكثر اختلاطًا هن الأشد فسادًا.
وإنك إذا استقصيت حوادث النساء في مصر وجدت أكثرها في الطبقة الدنيا منها بما فيها الفلاحات اللاتي وصفهن الخطيب الفاضل بالنزاهة والحشمة، وقد رأيت القرويات كثيرًا وحادثتهن واستخلصت من أحوالهن أن ظاهرهن الجد دائمًا؛ وذلك لعدم رؤيتهن من يقتدين به في أسباب الخلاعة، وقد سمعت أن كثيرات منهن يهمن برجال ممن يختلطن بهم، فلو كانت القرى كالمدن فيها متنزهات بعيدات عن أعين الرقباء، أو كانت الفتاة يستغني أهلها عن شغلها وتعبها قليلًا لأفنت ولساوت طبقة المدنيات السفلى (وأعني بهن بائعات البرتقال ومثيلاتهن) في الفساد والوقاحة؛ فهؤلاء فسادهن من سوء التربية لا محالة، ولكن الاختلاط بالرجال زادهن فجورًا.
وإذا رجعت لغنيات مصر وهن (الذوات)، ويقلدهن بعض نساء الوسط، فهؤلاء يتفنن في الملابس ويكثرن من الخروج تحككًا لأن يسمح لهن برفع الحجاب، ولكن على طريقة بعيدة من الأدب، فإنهن لو كن يطلبن ذلك رغبة في الحرية الشريفة مثلًا أو إنهن يشعرن أن الحجاب يمنعهن من الاستفادة من العلماء، أو غير ذلك من الأسباب الجائزة لوجب إعطاؤهن ما يطلبن بغير تكلف البحث والعناء. أما ونساء مصر على هذا الجهل المطبق ورجالها، إلا القليل، على هذا الفساد المستحكم فلا يجوز مطلقًا إباحة الاختلاط، على أن الإفرنج — وهم المتعلمون نساء ورجالًا — يشكون من فساد مجتمعهم وقلة وفاء أزواجهم. وإذن، نعلم أن الطبيعة البهيمية في الإنسان تجتاز عقبات التربية وتخترق سياجها إلا الشاذة، والشاذة لا حكم لها.
بقيت مسألة واحدة أجملها إجمالًا، وهي المثل القائل: (في الطفرة محال)؛ فنساء مصر متعودات الحجاب فلو أمرتهن مرة واحدة بخلعه وترك البرقع لرأيت ما يجلبنه على أنفسهن من الخزي وما يقعن فيه بحكم الطبيعة والتغير الفجائي من أسباب البلاء، وتكون النتيجة شرًّا على الوطن والدين، وإذا أردت هدم بناء أفلا تهدمه قليلًا قليلًا إلى أن يتم الهدم فتبنى على أنقاضه أحسن منه. فإذا فرضنا محاولة هدم البناء دفعة واحدة (مستعملين الطرق والآلات التي نستعملها الآن) تصورنا كيف يستحيل ذلك مع بقاء المارة والبنائين سالمين، فضلًا عن الأنقاض كزجاج الشبابيك والخشب وما أشبه ذلك، فهذه الباقيات الصالحات في المرأة هي العفة والحياء والمنزل البالي حجابها الآن، والسابلة الوطن والدين والفضائل.
فناشدتك الله أيها الأديب، كيف تأمرنا الآن بالسفور ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها عبارات الوقاحة، ويرشقها هذا بنظرة فاجرة، وذاك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياء؟! فمجموع رجال مثل مجموعنا الحالي لا يصح بحال ما أن يوكل إليه أمر امرأة وتترك عرضة لسبابه وقلة حيائه، ومجموع نساء كنسائنا الآن لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع؛ يصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعة لا انتهاء لشرها. ثم أفدني أيها القارئ بالله، ماذا تقول امرأة جاهلة أو متعلمة تعلمًا ناقصًا لشاب تجتمع به؟ أتباحثه في العلوم وهي لا تدرك أهميتها أو تعلم منها قشورًا لا يعتد بها، أم تناضله في السياسة وهي لا تعلم أين إنكلترا من جزائر الأرخبيل، ولا يمكنها أن تفسر لفظة دستور أو استعمار مثلًا؟ أم ماذا تفعل اللهم إلا أنها لا تجد شيئًا تقوله إلا ما قد تستحسنه من هيئته وحسن بزته وهناك الضلال الكبير؟!
والمتعلمات في مصر الآن يزددن عددًا وفيهن من يصح أن تلقى إليهن قيادة أخواتهن، وسيجيء زمن ينشأ فيه جيل من النساء غير جيل (السحر والزار والرقى)، وهؤلاء يثمر فيهن البذر، فإذا أتعب الباحث نفسه في نصح النساء الآن قد يجد من تسمع، ولكنه لا يجد من تسمع وتعقل، ولا يبعد أن يكون من بين سامعات خطبة عبد الحميد أفندي من قد تقلدت وتزيت بزي الإفرنج وسارت في الشوارع تفاخر بأنها من ذوات الفكر الحر ومن صاحبات التمدين الحديث.
والخلاصة، أن خروجنا بغير حجاب لا يضر في نفسه إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا على غاية الكمال. وأظن هذا مستحيلًا أو بعيد الحصول، فإذا حصل التمازج وكان على هذا الشرط فلا اعتراض لي عليه.
وهناك قوم يشددون في تقدير الحجاب، فيحبسون المرأة مؤبدًا ويمنعونها من زيارة جاراتها، ويضيقون عليها بحيث لا تستنشق إلا هواء بيتها الضيق الدائرة فتفسد صحتها وتكسل عن الحركة، ومنهم من يفتخر بأن امرأته لم تبرح بيتها طول عمرها. وهؤلاء أيضًا متطرفون؛ لأن المرأة لها رِجلان يجب أن تتحركا وعينان يجب أن تبصرا، فإذا صاحبها أبوها أو أخوها أو زوجها مثلًا في نزهة وأراها محاسن الطبيعة ودقائق الموجودات وجدد قواها بالحركة واستنشاق الهواء الجيد، وهي بمئزرها محتشمة، فلا يخرج ذلك عن معنى الحجاب «وهنا استسمح الخطيب الأديب في استعمال لفظة حجاب على غير ما مر؛ لأننا لو رددنا كل المجازات إلى الحقيقة لصارت اللغة أضيق من سم الخياط».
على أن هذه المسألة واختلاف الآراء فيها قاضيها العادل الزمن والمستقبل، فكم من مسألة أبى قوم إلا اتباعها وآخرون نبذوها نبذ النواة؛ فاختلفوا وجاء الزمن مؤيدًا فيها لفريق دون فريق، فصارت له القوة ورجع له الحول فاتحدوا فيها. ورأيي أن الوقت لم يأن لرفع الحجاب؛ فعلموا المرأة تعليمًا حقًّا وربوها تربية صحيحة وهذبوا النشء وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبًا، ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة. وإن هذا الموضوع وأمثاله لمما يدعونا إلى التفكر والتبصر فإننا بدأنا أن نجاري الإفرنج في كل شيء، والمجاراة ليست ضارة في حد ذاتها ماديًّا، ولكن ضررها اجتماعي محض، فضلًا عن كل ما بينت في مقالي هذا فإننا لو سلمنا بما يقترحه الكاتب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزي بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق، فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن، وهذا هو ناموس الكون إذ يفنى الضعيف في القوى، وإنه لمن العار أن نهمل هذا الأمر يجري مجراه، فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه، وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء ثمار التمدين الحديث.
(٣) ما ذنبنا؟
رد على ما كتبه حضرة (الخانقاه) في الجريدة بشأن تبادل إرسال النشء والمصاهرة بين الترك والمصريين.
•••
كتب حضرة الأديب (الخانقاه) يقترح على الأمة المصرية أن تتبادل مع تركيا إرسال النشء من بنين وبنات، وقد رد عليه كثيرون مصوبين فكرته ومخطئين لها على أنهم لم يحيطوا بالموضوع من جميع أطرافه، وعذرهم في ذلك أنهم رجال وقد لا يعود عليهم بالذات ضرر ما من تنفيذ ذلك المشروع، ولا يهتم بدرس اقتراح كهذا خطير إلا من قد تقع عليه أضراره فيما لو نُفِّذ، ونحن — معشر النساء المصريات — أكثر الناس تعرضًا لمثل ذلك الخطر.
أنا لا أعترض على الموضوع في ذاته، ولكني أعترض على بعض لوازمه المربوطة به، على أني أوافق حضرات الكتاب الذين أبانوا أن بيوتنا لا تصلح لأن يقتبس منها التركي أو التركية شيئًا يزيده معرفة أو علمًا، ولكن بصرف النظر عن هذه الحقيقة المؤلمة فإن الاختلاط الشديد بين الأمتين بهذه النسبة التي يتمناها (الخانقاه)، لا بد وأن ينتج عنها المصاهرة بين أفرادهما، وإن كانت النساء التركيات أغلبهن متعلمات بعكس أخواتهن المصريات، فيكون للأول الرواج في سوق الزواج الآن، أما الآخر فعليهن العفاء ولهن الكساد.
وإن من يتصفح تاريخ المرأة المصرية الحديثة يرى أنها كانت دائمًا مظلومة مهضومة الحقوق؛ ففي عصر إسماعيل هجم علينا جيش الشركسيات انهزمنا أمامه، وخرج ظافرًا منا بأحسن رجالنا فلم يكن شريف أو نابِهٌ بمصر إلا وأم ولده جارية شركسية من شراء إسماعيل.
ثم ابتدأ رجالنا فيما بعد ذلك الزمن يتزوجون بالأوروبيات، وليتهن من ذوات الشرف، ولكن كان أكثرهن — إن لم نقل كلهن — من فريق الراقصات والخادمات وأضرابهن. كل ذلك يجري ونحن ساكنات ننظر ولا نتكلم خيفة الريب، ولكن نساء ذلك العهد كن جاهلات لا يفقهن شيئًا، وربما كان ذلك خير قصاص منهن على الجهل (على أن هذا لم يكن من جنايتهن على أنفسهن ولكن جناه الوالدون عليهن)، أما وقد صار بمصر الآن من المتعلمات من يصلحن للزواج بأبناء جلدتهن، أفليس من العار أن تقدر على أن تجعل ابنك شريفًا من أم ذات حسب؛ فتختار أن يكون ابن جارية شركسية أو راقصة أوروبية؟ ثم أليس من العار أن تشرئب دائمًا لما في يد غيرك وعندك أحسن منه؟
ألا رب معترض يقول: إن الرق قد بطل الآن، وإن من يصاهر الترك يصاهر أكفاء. هذا صحيح، ولكن الأم تغذي الطفل بأميالها وطباعها كما تغذيه بلبنها، فإذا ما حنت التركية لوطنها (وكل يحن بالطبع لوطنه) نشأ متشبعًا بأميالها يحب تركيا ويميل عن مصر وهو معدود من رجالها.
وسبب فشل المصريين وعدم ميلهم الفطري للاتحاد هو — على ما أرى — ناشئ عن تشعب أجناس أمهاتهم؛ فابن الفرنسية يحب فرنسا، وابن الزنجية يذكر خصب السودان، وابن العربية يفتخر بمحتده، وولد المغربية لا يفتأ يذكر بلده، وهكذا أضعنا وطنيتنا المصرية عن طريق المصاهرة بالأجانب.
ثم أجدني محقة إذا قلت إن الدم يحن لنوعه؛ فإذا تكافأ الرجل والمرأة في العلم والتربية وكانا مصريين مثلًا؛ فإن الحب بينهما يكون أصدق وأمتن منه لو كانا مختلفي الجنس والمذهب. فإذا أراد الأديب (الخانقاه) أن يختار لنفسه حليلة غير مصرية فليكن ولكل امرئ ما يرى، ولكن ليتذكر أخته وابنته وبنات عمه وقريباته فسيكون نصيبهن من غيره نصيب غيرهن منه، والسلام.
(٤) مدارسنا وفتياتنا
رد على من ذكرت أسماؤهم في هذه المقالة.
•••
لم يكن يدور بخلدي ساعة كتبت موضوع (ما ذنبنا) أن يخطئ فهمه أحد؛ لأنه من السهولة ووضوح الغاية بحيث لا يتعذر تفسيره، ولكن ظهر لي من كتابة الكاتب في جريدة (لابورص إجبسيان)، ومن كتابة التركية (على الهامش)، أنهما ذهبا في واد وأنا في واد.
أما جواب السيدة التركية فإنه يكفي لأن يقرظ نفسه، ولا أقول فيه أكثر من ذلك؛ لأنه دل على مبلغ أخلاقها ودرجة ألمها، على أني أشكر لها حميتها ودفاعها عن نساء جنسها وألتمس لها بعض العذر على حدتها؛ لأن المسيو (أودولف) أهاج كامن عواطفها، ولكني لا أرى له هو رأيًا أن يجرح عواطف إخواننا (أولاد الذوات)، ولا أجيز له أن يؤول مقالتي تأويلًا لم أرده؛ فقد ذكر أني قلت: «إن الغربيات لا يصلحن لإدارة البيوت.» وهو يعلم أن هذه العبارة لم ترد البتة فيما كتبت، وإن ظني بأن الكاتب لا يعرف العربية أو أن الذي ترجم له كلامي لم يحسن له الترجمة يجعلني أحمل تهكمه وخروجه عن الموضوع على محمل حسن.
أما الفاضل (المتحرج من الزواج) فقد صدق في كثير مما قاله عمن يدعون أنفسهن بالمتعلمات ولسن من العلم ولا من التهذيب في شيء، وأضر ما يكون هؤلاء إذا تزوجن؛ لأن المتزوجة عليها واجبات شتى، وعلى قدر الواجب تكون المسئولية وهؤلاء لا يدرين حقوقهن إزاء الزوج ولا فن تربية الأولاد ولا كيفية معاملة الخدم وو … إلخ، مما يجب معرفته، ويراهن — على جهلهن هذا — شامخات بأنفهن نحو السماء ويحسبن الاشتغال بلوازم البيت حطة لمقامهن؛ فيقضين وقتهن بين حديث خرافة وخروج في الشوارع! وهن على العموم أكثر النساء إسرافًا وتبذيرًا، فضلًا عن البهرجة وقلة الحياء؛ فلا علمًا أَتْقَنَّ حتى تتهذب نفوسهن، ولا على تربية منزلية محضة دَرَجْنَ حتى يعلمن على الأقل طبخ عشاء بسيط إذا تركتهن الطاهية يومًا ما.
وهذه الفئة الجاهلة الدعية في العلم هي ولا شك فئة خريجات مدارس الراهبات وكثير من المدارس الأهلية الأخرى. وقد خبرت مدارس البنات بأنواعها (ولا ينبئك مثل خبير)، وحسبك وقوفًا على مبلغ علم هؤلاء أن تسألهن سؤالًا بسيطًا عن بعض ما يلقينه على مسامعك مثل الببغاء فلا يحرن جوابًا، أما التدريس في تلك المدارس فهو على النظام الذي أخنى عليه الدهر أو محفوظ عن ظهر قلب، وليس فيه للتعقل أو المحاورة نصيب يذكر، ثم إن إحداهن لتسمعك تاريخ فرنسا ولا تكاد تأخذ نفسها من سرعة الإلقاء، وإذا سألتها عن عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي أو محمد الفاتح وأضرابهم من حماة الإسلام، قالت لك: لا أدري.
ومدارس البنات في مصر كلها خلا مدارس الحكومة الثلاث، لا أثر فيها إلا تظاهر بالعلم ورياء، وهي في اعتقادي لا تصلح مطلقًا لتربية البنات المصريات؛ لأنها فضلًا عن قلة بضاعة العلم فيها تجعل تلميذاتها على خلق غير ملائم لنا.
ومما يؤسف له أن القوم عندنا لا يفرقون بين الصالح وغير الصالح؛ فإذا أدخلوا ابنة لهم في مدرسة للحكومة، وأمرتها ناظرة المدرسة أن تلبس جلبابًا مغطى الصدر والكمين مثلًا أو تخلع حليها وقت الدرس؛ عدوا ذلك إساءة لابنتهم المدللة، وقطعوها عن المدرسة كما شاهدت مرارًا.
نحن المصريين نحب الظهور والفخفخة بغير نظر إلى النفس وفضائلها، وهذا نقص في التربية يجب محاربته وإزالته، وأكثر الآباء وجميع الأمهات عندنا لا يقدرون من تعلم البنات إلا العزف على «البيانو» والرطانة؛ لأنهما ظاهران.
وبالجملة أقول: إن أحسن مدارس البنات في مصر هي مدارس الحكومة أخلاقًا وعلمًا، على أنها لا تزال تقبل الإصلاح والرقي.
ولي كلمة أخرى في هذا الموضوع تتعلق بالبيت والمدرسة أرجئها لفرصة أخرى.
(٥) تربية البنات في البيت والمدرسة
كلنا يعلم ما تعودنا على سماعه من أمهاتنا في سن الطفولة الأولى، كان يغرينا النشاط وحب العمل بمداومة الحركة واستكناه كل شيء مما تقع عليه حواسنا، ولو أدى ذلك إلى كسر الشيء أو تلفه، حينذاك كنا نسمع والدتنا تقول: «خذوها للمدرسة» فترسم المدرسة في مخيلتنا عفريتًا يهول منظره؛ لأننا كنا نعد غضب الوالدة أكبر قصاص لنا، وهي لم تفُهْ بلفظة «المدرسة» إلا في ساعة الغضب، هذه أول فكرة تلقى علينا من جهة المدرسة، فإذا شببنا قليلًا وأتى بنا إليها ملأنا أرضها صراخًا وعويلًا، وطال أمد الوحشة بيننا وبينها.
تبذل معلمات المدارس جهد الطاقة في تثقيف عقول التلميذات وتعويدهن الفضائل، ولكن تلك الدروس إذا لم تدعمها الممارسة والمشاهدة لا تلبث أن تزول.
ترى إحدى المعلمات تنصح لفتياتها بأن لا يرتدين في المدرسة الأثواب المزركشة أو الرقيقة فتأتمر الفتاة بأمرها، وما هو إلا يوم حتى ترى والدتها أحضرت لها من تلك الثياب أقلها حشمة وأكثرها بهرجة، وإذا عارضت الفتاة وقالت: قد نهينا عن لبس مثل تلك الثياب أمس؛ أجابتها والدتها: لا تكترثي بكلام المدرسة فهو موجه للفقيرات لا لبنات الأغنياء مثيلاتك! إذًا ضاع النصح هباء، وتشجعت الفتاة على العصيان وعدم الاكتراث. كذلك المدرسة تدرب التلميذات على النظام وبيوتنا بفضل الجهل لا نظام بها، وقصارى القول: إن ما تبرمه المدرسة لنفع التلميذات ينقض في البيت ولا سيما مسألة الأخلاق.
وأسطع برهان على أن البيت يفسد ما تصلح به المدرسة، الفرق الظاهر بين التلميذات الداخلية والخارجية، فإن الأوائل كلهن أكثر نظامًا وترتيبًا من الأخر، وأغلبهن أشد تمسكًا بالفضيلة لأنهن ينشأن على البساطة والحشمة، وقد رسخ ذلك في أذهانهن.
فلو كانت تلك الأم متعلمة أو جاهلة تقدر العلم قدره لذاكرت لابنتها وأفهمتها ما تعسر عليها فهمه في الحالة الأولى، أو أعدت لها مكانًا بعيدًا عن لغط الزائرات في الثانية.
أعرف أختين كانتا معي في المدرسة وقد قصتا علينا يومًا الحديث الآتي: وقد كانت إحداهما في السنة الأولى الابتدائية والثانية في السنة الثانية، ومعلوم أن تلاميذ وتلميذات هاتين الفرقتين في المدارس المصرية لا يمكنهم التكلم بلغة أجنبية. قالتا: «سألتنا يومًا والدتنا إذا كان يمكننا التكلم بالإنكليزية فأجبنا إيجابًا ولما لم تكن تعرف هي منها شيئًا لم نجد ما نوهمها به سوى بعض أبيات إنكليزية كنا حفظناها في السنة الأولى؛ وهي حكاية عن طفلتين ضاعا في غابة … إلخ؛ فأخذنا نتناوب شطور الأشعار أقول أنا الأولى، وأختي تقول الثانية، إلى أن فرغنا منها؛ ففرحت والدتنا بذلك وشهدت لنا بأننا «بارعتان في لغة الإنكليز»!»
ذلك مثال من كثير يبين أن جهل هؤلاء الأمهات لا يقتصر على تأثير بناتهن في العلم، ولكنه يشجعهن على الكذب والفساد أيضًا وإن كن لا يدرين.
وأدهى من ذلك وأمرُّ أن الفتاة إذا شبت وكعبت، فإن الأم لا تفتأ تذكر لزوجها — وابنتهما تسمع — أن ابنتها كبرت وأنها يجب أن تترك المدرسة لتتزوج، وأن فلانًا وفلانًا أرسل والدته أو أخته تخطبها، فلا تلبث الفتاة أن تلتفت إلى أمر الزواج وتهمل المدرسة؛ لأن والدتها تغريها بذلك وتهتم به كثيرًا، فإذا أمطرت السماء يومًا ولو رذاذًا قالت لها: لا تذهبي إلى المدرسة، وإذا اشتد البرد منعتها عنها، وإذا زادت الحرارة قليلًا صدتها، وإذا ذهبت لعرس إحدى جاراتها أخرتها يومين أو ثلاثة، وهلم جرًّا. والفتاة مظلومة إذا لم تستفد من المدرسة بعد هذا، ولكن المدرسة مظلومة أكثر منها إذا نسب تأخر الفتاة كله إليها.
ولا تكمل تربية الفتيات بحيث تصير المدرسة مسئولة عنهن بالمعنى الصحيح إلا إذا كن لا يبرحنها كالداخلية مثلًا، أو إذا كانت أمهاتهن متعلمات يساعدن المدرسة على القيام بأعبائها، وهذا يظهر في الجيل القادم من بناتنا إن شاء الله؛ لأنهن يمارسنه بالفعل ولا يجدن أمامهن ما يفسد ذلك الدرس المفيد.
فيا ليت شعري! هل يخفف المنتقدون قليلًا من حدتهم عند انتقاد مدارس البنات؛ لأن بيوتهم ونظامها أدعى إلى الانتقاد منها، والأمهات الجاهلات أكبر عثرة في سبيل نجاح المدارس، ولا سيما إذا كانت بناتهن من القسم الخارجي. وليس من الإنصاف أن تكلف المدرسة بملاحظة الفتيات في مغيبهن عنها؛ إذ إن أعضاءها لم يكن يومًا من الشرطة (البوليس) ويكفي ملاحظة التربية والتعليم في المدارس، وليس ذلك بالأمر السهل على القائمات به.
المدرسة تأمر التلميذات بالنظافة وترتيب الهندام، والبيت لا يُعنَى بذلك كثيرًا؛ فإذا غسلت الفتاة شعرها يومًا تنتظر بعده أسبوعًا بغير تمشيط حتى تجيئها الماشطة وتمشطه لها في الأسبوع التالي، ويظل رأسها بين الأسبوعين معقدًا قذرًا، فترجعها المدرسة إلى البيت مرة أخرى وتكون النتيجة تأخر الفتاة عن تلقي الدرس، وربما استشاطت والدتها غضبًا من تكرر رجوعها من المدرسة، وهي لو مشطت بنتها كل يوم لما استغرق ذلك أكثر من ثلاث دقائق، ولكن هو الجهل والكسل.
حادثتني مرة ناظرة مدرسة للبنات في شأن التلميذات الخارجيات اللاتي يعدن إلى البيت كل يوم لقذارتهن؛ قالت: «إني أعجب لأمهاتهن كيف يرضين لأنفسهن أن تشتمهن المدرسة كل يوم ولا يخجلن؟!» قلت لها: وكيف تشتمهن المدرسة؟ قالت: «أليس إرجاع البنت إلى أمها بسبب الوساخة يعادل قولك لها: إنك أيتها السيدة قذرة ولا تصلحين لإدارة بيتك؟! وأكبر دليل على ذلك إهمالك ابنتك وهي فلذة كبدك وأعز عليك بالطبع من المنزل وأثاثه ورياشه، ولو رجعت تلك التلميذة في إنكلترا (وهي بلدها) إلى أمها بسبب القذارة لفكرت تلك الأم أن الانتحار أولى لها من أن تُسَبَّ علنًا بأنها قذرة.» هذا حقيقي؛ لأن الأم الإنكليزية متعلمة وتعرف حقوق التربية، وشتان بينها وبين الأخت المصرية.
هذا في الأخلاق وقل مثله في التعلم، فإن الفتاة ربما احتاجت إلى مذاكرة دروسها فتشغلها زيارة النساء لأمها ما بين (دلالة وماشطة و«كدية» زار)، ويملأن قلبها الصغير النقي أوهامًا وخزعبلات، فيهدمن ركنًا من فضيلتها ويبنين مكانه نقصًا ورذيلة، فضلًا عن أنهن يعقنها عن مذاكرة الدرس والاستفادة منه.
(٦) الزواج
بينا أنا أفكر في موضوع أكتبه للجريدة إذ قرأت ما جاء بها بقلم (أحد الناس) وحديثه مع فتاة، فتأثرت به أيما تأثر، وقلت في نفسي: إذا كان الرجال يخوضون في مثل هذه الموضوعات فنحن أحق بها منهم؛ لأنها بنا أمس، وأجدر منهم بالشكوى لوقوع حيفها علينا. وسأتكلم هذه المرة على طريقة الزواج عندنا؛ لأنها مقدمة لموضوع تعدد الزوجات، الذي سأكتب عنه في المرة القادمة إن شاء الله.
طريقة الزواج في مصر طريقة معوجة عقيمة نتيجتها في الغالب عدم الوفاق بين الزوجين؛ يقيم الرجل معالم العرس أيامًا وليالي، ويتكبد مصاريف جمة لعروس لم يرها عمره ولم يتأكد من حسن أخلاقها أو جمال نفسها، إنما سمع عن بياضها وسمنها أو مالها من الخاطبة التي تصف حسب نصيبها من نوال العروس وأهلها، فإذا أجزلوا لها العطاء صورت ابنتهم للشبان الخاطبين في صورة «بلقيس بمالها أو شيرين بجمالها»، وما هي إلا أحبولة يقع الفتى فيها فلا يلبث أن يصير بعلًا للفتاة إما على الحب منه أو الكره.
فإذا سعد طالعهما اتفقا قلبًا وقالبًا ورضي كل بالآخر رفيقًا له وصفت لهما الأيام، هذه حال قل أن يصل إليها زوجان، ومن تمت لهما كان ذلك أحدوثة في بني قرابتهما وعند الجيران!
أما البائس الذي قدر له أن يعاشر حمقاء أو جاهلة أو مسرفة أو ما شابه مما يعرفه أغلب رجالنا بالتجربة، فيا ويحه!
كذلك الفتاة إن فوجئت ببعل مدمن أو خليع أو فاسد السيرة؛ فيا طول ما تقاسي من عناء! فمسألة الزواج عندنا هي ككل أمورنا نحن الشرقيين نكلها للقضاء والقدر والحظوظ وما شئت من المترادفات …
ومما جعل مسألة الزواج عندنا — أي المسلمين — هينة لينة إباحة الدين الحنيف الطلاق وتعدد الزوجات، ولكن حاشا أن يكون قصد الشارع ما نراه الآن من الفوضى في أدق الروابط الاجتماعية، ومن نقص عهود الأسر وقلب نظاماتها، فإن الأديان لم تخلق لجلب البؤس وإنما خلقت لإسعاد البشر ولتقريبهم من الإنسانية، أو لإبلاغهم حدها الأقصى إذا تيسر ذلك.
وطريقة العرب على عهد النبي ﷺ، وما بعده في أمور الخطبة والزواج طريقة شريفة معقولة إذ لم يكن الحجاب حينذاك كما هو الآن، وإني أجاهر بأن حجابنا مقلوب ونظام اجتماعنا فاسد أشد الفساد، لا يصلح ولن يصلح لأن تتبعه أمة متمدينة.
أليس عجبًا أن نرى نساءنا وفتياتنا يتهتكن كل يوم في عرض الشوارع، ويملأن حوانيت الباعة، ويذهبن في الخلاعة كل مذهب؛ فيكلمن سائق (الترام)، ويقفن مائلات عاريات الصدور متبرجات أمام المصور (فوتوغراف)، وإذا طلب خاطب مستنير من أبي الفتاة أن يسمح له برؤيتها والتكلم معها وأبوها يراقبهما عد ذلك أمرًا إدًّا. هذا رجل وذاك مثله! والأول تكلمه بلا مراقبة وإنما بعلم من أهلها وترخيص، والآخر يريد أن يكلمها أيضًا ولكن مع مراقبة أبيها وغرضه شريف، وهو معرفة كنه التي سيتزوج بها ويجعلها شريكة حياته ومربية ولده، فما السبب في منح الأول ومنع الثاني؟ اللهم إن هو إلا الجهل والعادة وحب القديم حتى ولو كان مضرًّا.
إذا اعترض أحدهم وقال: إن الفتيان أغلبهم فاسدو الأخلاق، قلت: إن المصور والبائع أفسد خلقًا من الفتى المتعلم، على أن المراقبة مانعة للفساد على كل حال، ثم إن خوف الفتنة أكثر في الحالة الأولى منه في الثانية؛ لأن المقام الأول مقام هزل؛ فتضحك فيه الفتاة بلا مبالاة، وتكشف عن ذراعيها أو صدرها عند التصوير مثلًا وتكون في الغالب متبرجة. أما المقام الثاني فهو مقام جد لا تتعدى فيه الواحدة حد الحشمة، فمن أين تأتي الفتنة إذن؟
وعندي أنه لو اتبع هذا السبيل في الخطبة لكان خيرًا ولقلت حوادث الشحناء بين الزوجين فيما بعد، وهي بلا شك نتيجة الزواج (العمياني) الذي نتبعه في أعز شيء لدينا وهو أبناؤنا وبناتنا. ولا يقتصر الخاطب على رؤية العروس فقط فإن ذلك لا يكفي، بل يجب أن يستفهم عنها جيدًا ممن يعرفون أخلاقها ويبحث عن سيرتها وأهلها، فيتزوج منها على هدى بعد البحث والاستقصاء، وهذه الشروط بعينها يجب أن يتبعها والد العروس قبل أن يسمح للرجال برؤية ابنته، فما كل راء خاطب وما كل خاطب جاد، ورب فتى هازل يريد اللهو أو فاسد يحب الاطلاع على الفتيات بغير قصد الزواج! فهؤلاء يخرجون من موضوعنا؛ لأننا لا نعنيهم وإنما نعني الشريفي النفس الحسني السيرة، والأب مكلف بالبحث عن حقيقة سائليه كما بينا قبل.
وهنا يعترضني فكر يجب أن أبسطه وإن آلم بعضهم، فإن شباننا لم يتعودوا احترام النساء، وذلك نقص في التربية الاجتماعية يجب أن يتداركوه. لا أريد أن يسجدوا لنا، بل أن يفسحوا لنا الطريق إن ازدحمت، ولينظروا إلينا كما ننظر إليهم أناسًا مثلهم وليتركوا إشارات التعريض وألفاظه التي أصمت آذاننا، ولولا خوف مفاجأة العجلات والدواب لسددنا مسامعنا عند كل سير في الطريق تخلصًا من تلك البذاءة المحرجة، فهؤلاء وأمثالهم لا أصاهرهم لو كنت أبًا، ولكن بين شباننا كثيرين — بحمد الله — يتبعون الصراط السوي.
وقد سمعت كثيرًا عن قوم طلب منهم أن يروا خاطبًا ابنتهم فأروه أخرى جميلة وزوجوه من التي لا يرغب فيها غشًّا منهم وترويجًا لبائرة عندهم، ولعل أحدهم يجعل ذلك من جملة اعتراضاته على الموضوع، ولكني سبقت فقلت: إن هؤلاء قوم لا شرف عندهم، والشريف وغيره يظهر من معاملاته وطباعه وسيرته، والبحث يفرق بين الضدين فلا يعقل أن يستمر الرجل شريفًا في كل أمر يأتيه مع إخوانه ومعامليه ثم تتغير ذمته فجأة عند زواج ابنته! إن هذا يكاد يكون مستحيلًا، ثم إن هناك قومًا يعجبون بالخاطب وبأخلاقه ولكنهم يردونه خائبًا؛ لأن المهر الذي عرضه عليهم قليل، فيا ليت شعري! أيشتري العاقل الراحة بالمال أم يشتري المال بالراحة؟ وماذا عليهم لو كانت ابنتهم سعيدة غير غنية؟ إن أكثرهم يطلبونها غنية قبل كل شيء، ويحسبون السعادة تابعة للغنى ألا ساء ما يحسبون.
وهذه العادة كثيرة الشيوع بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين الأصحاب، يكون لأحدهم ابن فبمجرد ما تولد ابنة أخيه أو ابنة صاحبه يتفقون على أن المولودة الجديدة هذه من نصيب الصبي فلان عندما يكبر ويأخذون العهود والمواثيق على ذلك، وربما ربي الصبي تربية غير التي نشأت عليها الفتاة أو رأى أخرى أعجبته وهنالك الطامة الكبرى؛ أنت لا تأكل مكرهًا ولا تنام مكرهًا فلم تزوج ابنك أو ابنتك بالقصر والإجبار؟ ربما كان من يختاره الأهل أجمل وأغنى ولكنه في حال البغض يكون كأنه أقبح خلق الله وأفقرهم، على أن الجمال والغنى ليسا من شروط الوفاق بخلاف الرغبة فهي داعية له.
- (١)
جهل أحد الزوجين بالآخر.
- (٢)
زواج مختلفي الطباع كعالم وجاهلة وبالعكس، أو غني وفقيرة، ومختلفي الدين والبلد.
- (٣)
الطمع في الغنى بغير نظر إلى الأخلاق.
- (٤)
الزواج القسري.
- (٥)
تأويل الدين الحنيف على غير ما أريد منه في أحكام الزواج والطلاق.
وهذه الأسباب كلها شعب لأصل واحد هو عدم الحكمة، فإذا روعيت شروط الحكمة والتحري قبل الزواج فقل أن نرى هذا الشقاء المخيم على البيوت المصرية الهادم لمعنى الزوجية، وخير للفتاة والفتى أن يعيشا أعزبين من أن يتزوجا بثالث أيضًا هو البؤس والعذاب.
(٧) تعدد الزوجات أو الضرائر
إنه لاسم فظيع تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته، فهو عدو النساء الألد وشيطانهن الفرد؛ كم قد كسر قلبًا، وشوش لبًّا، وهدم أسرًا، وجلب شرًّا، وكم من بريء ذهب ضحيته وسجين كان أصل بليته، وإخوة لولاه ما تنافروا ولا تناثروا ففرقهم أيدي سبأ وأصبحوا تأكل الحزازات صدورهم، ويضمرون السوء بعضهم لبعض، يثأرون ولا ثأر بني وائل وكانوا لولاه متفقين.
إنه لاسم فظيع ممتلئ وحشية وأنانية، كم أحرج رجلًا وعلمه الكذب فأفسد عليه خلقه، وكم بذر مالًا كان يعده لبعض رزقه، وكم أحفظ قلب والد على ولد، وكم علم الوشاية والحسد، فإذا ما لهوت أيها الرجل بعرسك الجديد فتذكر وراءك بائسة تصعد الزفرات، يتساقط من مآقيها أمثال لؤلؤ عروسك، ولكنه صهرته نار الحزن فظهر سائلًا، واخشَ الله في صغار يبكون لبكائها، علمتهم الحزن فاستعاروا يواقيت عرسك أعينًا، أنت تقرع سمعك الطبول والمزامير، وهم لا يسمعون إلا دق الحزن في طبول آذانهم وكانوا من قبل ذلك جذلين.
وهذه البادية التي أقطن الآن لا أبالغ إن قلت إن جميع نسائها جربن الضرائر لشيوع عادة الجمع بين زوجتين في رجالهن، ولي من مخالطتهن ما يجعلني على ثقة من هذا الموضوع.
طالما سألت امرأة من الحي هذا السؤال: «ترى هل تحبين زوجك الآن كما كنت تحبينه قبل زواجه من غيرك؟» فكان جواب كل من سألت سلبًا.
وقد حقق لي ذلك بعضهن، وسمعت عن أخريات أنهن في الحقيقة كن يفضلن أن يرين نعش أزواجهن محمولًا على الأعناق على أن يرينهم متزوجين بأخريات، فيا لله! أإلى هذا الحد يبلغ بغض المرأة للضرة؟! فليتأمل الرجال، أرى «القديمة» حزينة و«الجديدة» كذلك، فإذا قلت للأولى: ماذا يحزنك؟ أجابت: يحزنني ذلي وانكسار قلبي وأنا على ما ترين لست أنقص عن الجديدة جمالًا ولا أدبًا وكنت أبذل جهدي في مرضاة زوجي أما الآن فلا. على أنه لا يزال يسترضيني فيقول لي: أنت أحب إليَّ من الأخرى، وأنت أول من ملك قلبي، وأنت جميلة، وأنت وأنت … إلخ، وأنا لم أتزوج عليك لنقص فيك وإنما كان ذلك مقدورًا، وإذا ما سألت الجديدة عن سبب انقباضها قالت: يحزنني أن أرى لي شريكة ومنافسة على أن زوجي يحقق لي أنه لا يعبأ بها، وأنه لو كان مقتنعًا بها لما تزوج عليها، وأنه يريد طلاقها ولكنه يبقيها رحمة منه لتربي أولاده فقط، فما أقدر زوج الضرتين على التفنن! ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسيًّا أو ناظرًا للمستعمرات! (ولكن الذي يؤسف له أنه ليس لنا مستعمرات).
المرأة إذا ابتليت بالضرة انطفأ سراج بهجتها، والتهبت مكانه نار حقدها وذوى غصن قدها وزرعت محله بذور شرورها، فإن لم تك تقية وإلا وسوس لها الشيطان وعلمها أساليب الانتقام والكيد، وكثيرًا ما دست امرأة السم لزوجها أو لضرتها أو لابن ضرتها فكان القضاء عليهم جميعًا، وكثيرًا ما عمدت للوشاية بها عند زوجها أو ثلم صيتها عند الناس، وأغلبهن يبذلن مالهن ويبعن مصوغاتهن للسحرة ليكيدوا للزوج ولامرأته على زعمهن.
فزوج الثنتين غير سعيد كما قد يُخيَّل له؛ إذا تغيب لبعض شغله اتهمته إحدى المرأتين بأنه كان عند الأخرى، ويا ليت التهمة تقتصر على هذا فإن هناك التغير والتدلل والكراهية والبذاءة أحيانًا، وإذا نسي واشترى لواحدة منديلًا ولم يشترِ للأخرى صُبَّ عليه سوط العذاب وألزم بأضعاف أضعافه، فما كان أحوجه للراحة وما أشد اشتغال باله! الإكثار من الزواج داء إذا تأصل صعب استئصاله.
ولا أعذر الرجل يتزوج مرتين إلا إذا تعذر عيشه هنيئًا مع زوجته الأولى، لسبب ما — شرعيًّا كان أو غير شرعي — فيضطر للزواج اضطرارًا، ولكن الحازم لا تنسيه أفراحه أولاده ولا امرأته الأولى إن كانت لا ذنب لها، أما إذا كان يعد بقاءها معه منغصًا لحياته، أو كان كارهًا لها فليطلقها بتاتًا، فربما يجد مع غيرها راحة وتجد هي كذلك مع غيره «وفي الأرض عن دار القلى متحول».
والطلاق — على مذهبي — أسهل وقعًا وأخف ألمًا من الضر، فالأول شقاء وحرية والثاني شقاء وتقييد، فإذا كان الشقاء واقعًا على كل حال فلماذا تلتزم المرأة الصبر على الشدة وترى بعينيها ما يلهب قلبها ويدمي محجريها؟ ألا إن حزينًا حرًّا خير من حزين أسير، وبعضهم يخادع المرأة الأولى بأن يجعلها حاكمة على البيت معها مفاتيح خزائنه، ولكن ماذا تفيد مفاتيح الخزائن والحكم على السمن والعسل؟! وأين هذه من مفاتيح القلوب وحب الزوج؟!
تعدد الزوجات مفسدة للرجل، مفسدة للصحة، مفسدة للمال، مفسدة للأخلاق، مفسدة للأولاد، مفسدة لقلوب النساء. والعاقل من تمكن من اكتساب قلوب الغير، فكيف بقلوب الأهل والعشراء؟
مفسدة للمال؛ لأن الرجل — فضلًا عن تحمله أعباء أسرتين وقيامه بلوازمهما — يرى كل زوجة من الثنتين تجتهد في التبذير لتعجزه عن الإنفاق على الأخرى، أو لتمنعه من الزواج بأخرى، ولا تلام إحدى الزوجتين على تبذيرها، فذلك طبيعي؛ إذ تقول: ما الفائدة من اقتصادي؟ أنا أحرم نفسي مما ربما أشتهيه وزوجي ينفق ذلك المتوفر على امرأته الثانية؟ فخير لي أن أمتع نفسي بمطالبها كما تفعل ضرتي، أما الأولاد فإنهم بدلًا من أن يكونوا من امرأة واحدة يولدون من امرأتين فيتضاعف عددهم، فإذا أخرجنا الأغنياء من حكمنا كانت معيشة الأب المتوسط أو الفقير ضنكًا وعوزًا؛ لأن زماننا هذا غير الزمان الأول؛ فغلاء المعيشة ونفقة أسرتين وتعليم أولادهما ليس بالأمر السهل.
مفسدة للأخلاق؛ لأن زوج الضرائر دائمًا يحتال ليطمع كل واحدة في حبه، وهذا تكفي فيه المداهنة والتطبع على أن زواج الضرائر في ذاته طمع وشره.
مفسدة للأولاد؛ لأني رأيت بنفسي أن كل ضرة تطبع كراهتها لضرتها في نفوس أولادها، فيشب الطفل وقد أشرب كره إخوته لأبيه وأمهم بلا مسوغ سوى ما زرعته أمه في عقله من مبادئها؛ فمهما فعلت امرأة الأب لترضي ابن زوجها ومهما أحسنت معاملته فإنه لا يفتأ يتهمها بكراهيتها له، وبأن ما تعمله معه من خير ومعروف فإنما هو لخوفها من أبيه أو مداراة لما في قلبها منه! وإنك لترى أبناء الرجل الواحد يغارون ويحسدون بعضهم البعض كما علمتهم أمهاتهم، وفي كلام العامة وأمثالهم الجارية ما يؤيد صحة هذا المبدأ.
مفسدة لقلوب النساء؛ لأن الأولى تكرهه بلا شك لإغضابه إياها وجرحه لعواطفها والثانية لا تصافيه مطلقًا ما دام متعلقًا بغيرها؛ فهو: «المُنبتُّ، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.»
ويسرني أن عادة الجمع بين زوجتين كادت تتقلص الآن من بين الطبقات المتنورة والعالية؛ لأن التمدين والاستنارة يحرمانها وإن ادعوا أن الشرع يحللها، ولأن العيش أصبح سعيًا وتناحرًا، فإذا كان أجدادنا يكفي أحدهم أن يمتلك عشرة أفدنة لينام مستريحًا في بيته ويتزوج اثنتين أو ثلاثًا، فإن رجل اليوم لا يكفيه مائتا فدان مع تعبه واجتهاده للإنفاق على بيت واحد صرف التمدين الحديث محب الظهور.
(٨) سن الزواج
بينت في مقالي الأسبق ما يجب مراعاته في الخطبة والزوج من حيث اتحاد مشارب الزوجين في الدين والأخلاق والمعارف على قدر الإمكان ومعادلة البيئات، واليوم أفرد موضوعي هذا لشرط آخر لا يقل عن هذا أهمية وهو السن الملائمة للزواج.
«الشرق» كما قال لورد كرومر في أحد تقاريره عن مصر: «يتم فيه بلوغ كل شيء متقدمًا.» وهذه حقيقة جغرافية لا ريب فيها؛ إذ بنسبة حرارة البلاد يكون نضج النبات والثمار ونمو الإنسان والحيوان. هذا ناموس الطبيعة الثابت، بغير نظر إلى تفاوت درجة العلم والعناية، وما يتخذ من التدابير لإنماء ذلك الشيء أو لتحسين الآخر، مما يكون له أثر في البطء والإسراع، فبلوغ الفتيات في مصر يكون عادة في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة لجيدات الصحة بعكس فتيات أوروبا والبلاد الباردة الأخرى؛ فإنهن ربما جزن السادسة عشرة أو الثامنة عشرة ولم يبلغن. وعليه، فلا نقيس سن الزواج عندنا به عندهن؛ لأننا كما نسبقهن في البلوغ يجب أن نسبقهن أيضًا في الزواج، فضلًا عن أن فتياتنا أقرب إلى السكينة، وأبعد عن الطيش من أخواتهن الغربيات، وإني لا أوافق بعض الأطباء الذي كتب في الجرائد مرة ينص على أن سن البلوغ يجب أن يكون هو بعينه سن الزواج؛ إذ بالله ماذا تفهم فتاة في الثانية عشرة من معنى الزواج، وماذا تعلم من أمور البيت، وماذا تعمل لو رزقت بأولاد؟ إني أكاد أتصورها تموت هي وإياهم إن لم يكن في النفاس ففي التربية، وقد ثبت بالتجربة أن أكثر اللاتي يتزوجن صغيرات جدًّا يصبن بأمراض الأعصاب (الهستيريا) وهذا هو السر في وجود (الزار) كثيرًا عندنا.
إن الزواج ليس بالشيء الهين ولا هو بالهزل؛ تظن الفتيات الصغيرات والراشدات أيضًا أن الزواج معناه ضرب الموسيقى ونصب السرادق ليلة العرس ولبس الحرير والماس والمباهاة بالأثاث والأواني الفضية، وغير ذلك من ضروب الفخر الكاذب والطنطنة الفارغة، ليس هذا هو الزواج يا سيدتي الصغيرة، بل هو إرضاء الزوج وحسن القيام على ماله وتدبير بيته ومؤاساة أهله وتربية أولاده ورئاسة خدمه، فهل تستطيعين كل ذلك؟ لا أخالك تستطيعين.
تقص علينا جداتنا وأمهاتنا في بعض سمرهن أنهن تزوجن ولم تزل عليهن التمائم؛ فكُنَّ يهربن في (الحارة) ويبكين عند الجيران ويأتين من المضحكات ما يبكي؛ فهل نريد أن نرجع القهقرى إلى زمن أجدادنا؟! حرام عليكم — أيها الآباء — ظلم بناتكم وتكليفهن ما لا يطقن (ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)، حرام عليكم — أيها الآباء — الإصغاء إلى أماني النساء الجاهلات وزج بناتكم الصغيرات في سجون الزوجية الضيقة، حرام والله أن تتزوج البنية اليوم وترجع لبيت أبيها غدًا، حرام على الأم أن تقول: «أريد أن أفرح ببنتي»، فتزوجها طفلة ولا تنتقي لها كفؤًا، بل تعطيها لأول طالب لها، ولعمري إن الزواج ليتطلب الروية والتأني، والأم ملومة أكثر من الأب؛ لأنها جربت الزوجية بنفسها وسبرت غور مصاعبها وأتعابها، إلا أن حب الظهور متأصل فينا لدرجة أننا نرمي ببناتنا في المأزق الحرج كي يقال عنا: عرس فلانة كان فخمًا، وما أبهى العروس! وغير ذلك من الترهات.
والزوج قد يسر أولًا من عروسه الطفلة لكنه لا يلبث أن يستاء، وهي مظلومة لا جريرة عليها؛ لأنها بالطبع لا تفهم ولا تستطيع القيام بحاجات منزلها من نظافة وحسن ذوق في وضع الأشياء في مواضعها، وهي لا تفهم معنى المسئولية لكنها مع الأسف مسئولة عن جميع لوازم البيت من طعام ولباس وغيرهما، وهي تنام مستغرقة من الغروب إلى الضحى، فإذا بكى وليدها لم تسمعه فيقتله البكاء إن لم تقتله هي بالتقلب عليه في النوم، والطفل يحتاج لسهر الليل وللرضاعة، أفتقدر الصغيرة على حمله طول الليل وإرضاعه، ومعرفة أمراضه وأوجاعه وحسن العناية به؟! يا قوم هذه إحصائيات الصحة ترينا كل يوم بأجلى ما يرى كثرة موت الأطفال في مصر، أو أصابتهم بما يعسر شفاؤه نتيجة جهل الأمهات بلا شك، والجهل في الصغر أكثر منه في الكبر، فإذا قرن بما يستلزم الصغر من الضعف وعدم القدرة على تحمل مصاعب التربية كان أدهى.
ومن نكد الدنيا على الفتاة — قاصرة كانت أو رشيدة — أن تتزوج من فتى صغير تابع لأبيه وتكتفي من الزوج بأنه ابن فلان الغني، فطالما سمعنا بأن اختلاف الكنات أو سوء سير الفتى أدى إلى طرده هو وزوجه من بيت أبيه، فماذا يفعل إن لم يكن تعلم علمًا أو صنعة تساعده على المعيشة؟ لا جرم أن يذوقا وبالًا، أو ينتجعا بيت أهلها وتبقى هي وهو وأولادهما عالة عليهم إلى أن يشاء الله.
ومما يشقي الزوجين أيضًا مختصًّا بالسن أن يتزوج هرم شابت مفارقه بشابة في مقتبل العمر، أو بالعكس فتى بعجوز، فإن مشرب الشباب يختلف عن مشرب الهرم، فضلًا عن أن النسل الناتج من أبوين بعيدي فرجة السن الواحد عن الآخر يأتي في الغالب ضعيفًا أو لا يأتي بتاتًا، وإنك إذا نظرت هرمًا وشابة، أو شابًّا وعجوزًا ممسكًا أحدهما بذراع الآخر، كما قد ترى الفرنجة في طريقك أحيانًا، فإنك لأول وهلة تستنكر هذا المنظر، وتحكم — إن حقًّا وإن كذبًا — بأنها ابنته في الأول أو أمه في الثاني، وما يمجه النظر فهو ليس طبيعيًّا، وإذا كان الله — سبحانه — أحكم أمر الملاءمة في الطبيعة؛ فلم يخلق الجبل الوعر في السماء الرقيقة الصافية، ولم يبرأ النجوم الجميلة المتألقة في الأرض الخشنة القاتمة، فلِمَ نجمع نحن بين الأضداد ونخالف ذوق الطبيعة الصادق؟!
الشابة تفكر في زينتها وحسن هندامها والتأنس بجمال الاجتماع بصديقاتها، والهرم يفكر في علبة السعوط والثريد ودواء السعال فيا:
كذلك الشاب لا يلذ سمعه الشينات الكثيرة والياآات في موضوع السين والراء، ولا زيادة مصروفاته في تركيب الأسنان المستعارة، وصبغ الشعر، وطلاء الوجه، وغيره من لوازم سيدتنا أو (أمنا العجوز) كما كنا نقول في قصص الطفولة. أحب فتى مرة امرأة أعجبه شكلها فخطبها إلى نفسها، فقالت له: أنت فتى وأنا عجوز لا أصلح لك، فلم يقبل قولها وظنها مازحة وألح عليها في قبوله بعلًا، فلم تر بدًّا من إجابته إلى طلبه، فلما دخل عليها ليلة العرس جلس يكلمها وإذا بها خلعت أسنانها ووضعتها على منضدة أمامها فهلع قلبه إلا أنه بقي صامتًا ينظر إليها ريثما تتم عملها، ثم خلعت إحدى عينيها وكانت صناعية من الزجاج، ثم جردت رأسها من شعرها المستعار فظهر أصلع مخيفًا، وبينما هي تنزع القطن من صدرها هرول الشاب نحو الباب مسرعًا؛ فنادته: لماذا تهرب وقد كنت تدعي أني فتنتك بجمالي؟ فأجابها: يا سيدتي «نعم أهرب ويحق لي؛ لأني رأيت أغلب أعضائك من الدكان وأخاف أن تكون حواسك كذلك أيضًا.» فهل يغبط الرجل على زوجة مثل هذه؟! وإذا لم يغبط فلماذا تكره الشابة على تزوج الهرم؟ اللهم أنت خالق الخلق ومحدد الأعمار، تزعم الجاهلات أن زواج الهرم دلال في حياته وغنى بعد موته؛ فهل ضمنت المرأة الطماعة أن المنية ستعدو عليه أول؟ وهل تطيب الحياة الزوجية إذا كان الواحد يترقب الموت لرفيقه؟ وهل تصح معاشرة هذه التي تعد موت القرين ربحًا؟ إن هذا إلا ضلال كبير.
فعلى ملاءمة سن الزوجين يتوقف شيء كثير من الوفاق والمحبة، والواجب أن لا تتزوج الفتاة إلا متى صارت أهلًا للزواج كفؤًا لتحمل مصاعبه، ولا يكون ذلك قبل السادسة عشرة. وتزويج الصغار لعب فيه شقاء للأمة من عدة وجوه؛ عناء في الزوجية نتيجته دائمًا الشقاق أو الانفصال، كثرة وفيات الأطفال، ضعف النسل، إصابة النساء بالأمراض العصبية والأمراض النسائية الأخرى.
وزواج مختلفي السن إضعاف للنسل وشقاء للزوجين وقلب لنظام الطبيعة الدقيق.
فمتى يلتفت لهذا الآباء والأمهات؟ ومتى تنقشع سحابة هذا الشقاء عن سماء بيوتنا؟ ومتى ننظر للزواج بعين الجد والاهتمام؟ اللهم أرني ذلك اليوم فهو أمنية النفس وسبيل سعادة الأمة وترقيها.
(٩) طلاء الوجوه
أول ما يلفت نظر باحثة مثلي عند زيارتها القاهرة كثرة وجود الخود البيض في شوارعها وطرقاتها ومنازلها، فيا ليت لي علم الغيب كلنا من جنس واحد؛ إما من سلالة العرب الفاتحين أو من الفراعنة، والأولون والآخرون لم تؤثر عنهم الشقرة، ولم يأت في أوصافهم الصحيحة وتواريخهم ذكر لاشتداد حمرة الخدود وزيادة بياض الوجوه إلا ما كان مبالغة خيالًا في حبيبة أو حقيقة نادرة، فلماذا نجد نساء القاهرة كلهن شقرًا ونساء المدن الأخرى أقل بياضًا؟ أو لماذا نجد الدم ضاربًا في وجوه الحضريات قليلًا عند الفلاحات والبدويات مع أنهن دائمًا معرضات للشمس، تنقي الدم وتجدد الصحة. إن في الأمر لسرًّا، نعم إن المسحوقات والمراهم وضروب الأصبغة تفعل بالوجوه فعالها «وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟»
تزعم عاشقة الطلاء أن البياض حلية، ولكن هل تعتقد أن هذا الأبيض، الذي خيل لها أنه أبيض، يبقى إذا فرض أن خيالها صحيح؟ كلا؛ إن هذا الأبيض الذي تتعمده وتجتهد في تنميقه لا يلبث أن يزرق فيصير وجهها بنفسجيًّا. فهل سمعت في أشعار المتغزلين والمشببين أن الوجه البنفسجي من أمهات الجمال؟ وهل إذا لفح الحر الوجه المدهون، فسال عليه العرق يخطط جداول وغدرانًا، وينقل من كحل المحاجر إلى صفحات الخدود، فيختلط الأسود والأحمر، هل يرى ذلك الوجه مشرقًا جذابًا؟ ولماذا تعد الشقرة خيرًا من السمرة ألا تتساوى في ذاتها الألوان؟! إن مسألة اللون اعتيادية صرفة لا أثر لها من الصحة، فأنا أحب اللون الأخضر وجارتي تحب الأحمر، فهل تفضل إحدانا الأخرى من هذه الوجهة؟
إن هؤلاء السيدات يقلدن، ولكن تنقصهن ملكة الذوق في كثير مما يعملن، فإن الوجوه الشديدة البياض والحمرة يكون فيها دائمًا عينان زرقاوان وحاجبان أخطبان ويكسو رأسها شعر أشقر فتلائم بعضها بعضًا، أما نساؤنا فإنهن بينما يصبغن حواجبهن بالسواد الفاحم إلى نصف الأنف وأعينهن يكاد كحلها يخلق لها حاجبين آخرين تراهن بعد ذلك يصبغن وجوههن بالشقرة، فأين الذوق الحسن من هذا الترقيع الشائن؟!
الوجه المدهون يضيع كثيرًا من معاني الجمال؛ فإن تأثرات النفس وطبائعها تنعكس على مرآة الوجه فتكسبه أثرهما فيما لا يمكن وصفه في العينين وفي الفم وفي الابتسام وفي أسارير الوجه الصغيرة وفي الجلد نفسه أيضًا، ولكن الطلاء يظهر الوجه كأنه ليس فيه حياة، ويغطي جلده المملوء معنى وينزع بصاحبته إلى تصنع الحركات والسكنات، والتصنع يذهب بهجة الجمال، ولست مبالغة إن قلت: إني أعد كل طالية وجهها تمثالًا من الرخام، فإذا كان «حافظ» يعجب لصمت تماثيل الطليان، فأنا أعجب لتكلم تماثيل المصريات.
لتقف سيدة من هؤلاء اللاتي يستعملن الطلاء بجانب تمثال من عرائس (ستين وكموان) ولتنظر في المرآة فتتحقق من حكمي عليها.
ضمني مجلس بصديقتين من المتعلمات المهذبات، وكنا ننتظر سيدة فرنسية أتت مصر لأول مرة لتسيح في الشرق وتخبر عادات أهله، فحضرت السيدة السائحة وأخذت تسألنا عن عاداتنا وأخلاقنا، وأظنها سرت بحديثنا، وإذ دخلت علينا زائرتان مصريتان (من قسم التماثيل)؛ فبهتت السائحة وخجلنا نحن الثلاث لهذا المنظر غير الجميل، وبينما كانتا تتحدثان مع صاحبة المنزل بالعربية، والسائحة لا تفهمهما، كنت أسارقها النظر فأراها تكاد تجهر بضحكة عالية احتقارًا واستهزاء من هاتين المرأتين، فيا ويحنا! أما يكفينا أن يحكم علينا الغربيون بالجهل والتأخر حتى يروا ما يسجل علينا العار؟! وبعد أن خرجتا قامت السائحة وطفقت تقلد لنا حركاتهما وتشمئز لذكر وجهيهما، ولم يسعنا إلا موافقتها.
هذا الطلاء مضيع للجمال الحقيقي المعنوي والحسي أيضًا، فإنه يسمم الجلد ويسد مسامه ويجهد عضلات الوجه، فإذا استعملته سيدة وانقطعت عنه يومًا ظهر وجهها شاحبًا أصفر متغضنًا وتغور عيناها وتسود ولا حور، وعملية الطلاء هذه ربما تعذرت حينًا، فقد تمرض المرأة أو تتأخر فتفاجئها الزائرات، فماذا تعمل؟ أتقابلهن طبيعية أم تجبرهن ساعة على الانتظار ريثما تتم عملها الشاق؟
السيدة التي تغش زوجها يجب أن تحتقر؛ لأنها تزدري بصنع الخالق — سبحانه — وتعمد إلى تغييره، ومن يزدري بصنع الله كافر؛ لأنها تخدع الرائين والرائيات والخادع يجب أن يمتهن؛ لأنها تجني على صحتها وتعجل الهرم لنفسها، فهي إذن لا تدري النافع من الضار، ومن لا يعرف نفع نفسه من أذاها أبله لا يُحترَم؛ لأنها تجني على الآداب فتجعل من نفسها قدوة فاسدة لبناتها.
وإذا كان الوجه الذي هو أظهر أعضاء البدن يعمد لغش الناس فيه، فكيف بالضمير الخفي؟ إن الطالية وجهها ساقطة في رأيي، فلتغضب من هذا القول من كانت غاضبة؛ فإني لا يهمني رضا التماثيل.
ولولا تشجيع الرجال النساء في غرورهن لما تمادين فيه، فإن بعض الرجال يشترون بأنفسهم علب المسحوقات وأنواع المحسنات لنسائهم وبعضهم يتكدر عندما يرى امرأته في وجهها الأصلي وهيئتها البسيطة.
ألا يا نساءنا اتركن هذه العادة الذميمة، وإن كان لا يسليكن غير صناعة النقش بالألوان فأمامكن الورق ليس أكثر منه، انقشن فيه صورًا ورسومًا تحلي جدران المنازل، واشكرن الله على نعمه الجزيلة، واعلمن أننا مصريات، فإن لم يكن في أجدادنا أصل العجمة فمن أين لنا هذا البياض الناصع والاحمرار الشديد؟! وما أحلى السمرة الجاذبة لو تفهمين معناها! إنها جميلة لأنها جميلة ولأنها مصرية ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفى، وكل طبيعي جميل.
(١٠) مبادئ النساء
المبدأ الأول: عدم الثقة بالزوج أو الغيرة العمياء
أول مبدأ تحفظه المرأة الجاهلة عند زواجها هو عدم الثقة بزوجها، مهما أكد لها براءته من تهمة الخيانة، ومهما كان الباعث له على تغيبه عن منزله، فتراها إذا ذهب زوجها لديوانه ودعاه صاحب له إلى الغداء معه فلم يؤب لمنزله إلا بعد، تراها تتكدر وتثور زوابع غضبها وتتهمه إما بزواج جديد أو بمصاحبة غير شرعية. تراها إذا دعي للسهر مع إخوانه فتأخر قليلًا بالليل تسأله: أين كنت؟ ولا تصدقه إذا قال الحقيقة، تراها إذا كان ممن ينتدب في تحقيق قضية أو البحث عن جناية وتغيب يومين أو ثلاثة تتهمه حقيقة، فيلتفت الزوج إلى ما تقول امرأته ولا يلبث أن يتزوج أو يخال؛ لأنها علمته أن هذا الأمر مستطاع له، وسهلته على أذنيه وروحه بكثرة ذكره له، وشدة الضغط تحدث الانفجار.
إذا ركز هذا الأساس في رأس الزوجة نغصت عيشها وعيش قرينها؛ لأن السعادة والشقاء وهميان، فإذا تخيلت أني سعيدة انبسط أمامي الكون، ووجدت مخرجًا من المضايق التي تعترضني، ووجدت من ثقتي بنفسي واعتدادي بسعادتي سعادة حقيقية، وصرفت الأمور على قاعدة أن أكون دائمًا جذلة، وإذا انقلب الأمر رأيت كل حادث هين جالبًا للشقاء، وهذا مُشاهَد في النساء لا سيما الجاهلات؛ لأن اعتقادهن في أي شيء لا يتزعزع حتى ولو سطع أمامهن برهان يكذب ما يعتقدن؛ ولأن أعصابهن أسرع تأثرًا وأنفسهن أكثر انفعالًا منها عند الرجال.
وقد يتفق أن يرى الإنسان سيدة دائمة الحزن مقطبة الجبين بلا مسوغ، وأخرى دائمًا جذلة وكل ما حولها مثبط للهمة مزعج، فأي الأسباب عكس كل قضية إلى ضدها؟ إنه هو الاعتقاد والنفس.
وإذا فقدت المرأة الثقة في قرينها فقد يفقدها هو أيضًا منها، فيا لهول تلك العيشة المنكرة! مرتبطان اسمًا منفصلان معنى، والنساء الملتفات حول الزوجة يزدنها كرهًا له بأن يزعمن أنهن رأين خليلته أو زوجته الأخرى، وينهبن الزوجة الساذجة ويطمعنها في أن ما يأخذنه منها هو لنكاية عدوتها، وسلاحهن الوحيد هو السحر؛ فيا ضعف السلاح والمقاتل! لماذا تعتقد المرأة دائمًا أن الرجل ليس مخلصًا لها الود كما هي مخلصة له؟ إنها ولا شك مخطئة في ذلك التقدير إلا إذا رأت بعينها ما يثبته، ومما يجسم لها خيالها لسانها الذي لا يفتأ يقلب للزوج مواضيع لم تكن لتخطر له، فهي تعيدها صباح مساء، وتقوم معها وتنام، تحلم بها وتأكل، وهي من جوارشها (أي: مشهياتها للطعام)؛ فيتضايق الزوج لأن الموضوع في ذاته ثقيل، ثم هو مكرر ومعاد مرارًا، والشيء حتى الجميل إذا كرر مرارًا ضاعت طلاوته وذهب رونقه، فما بالك بهذه التهمة الشنيعة وفقدان الثقة؟! إذا تضايق الزوج من هذا الحديث وبلغت روحه التراقي، ولم يفلح في إثبات براءته وإخلاصه لزوجته، لم يجد أمامه إلا أحد طريقين؛ إما أن يكثر من مجالستها ويستغني عن رأسه وأذنيه، وإما أن يهيم حيث لا مضايق وحيث يُبَجَّل مع إخوانه ويتبادل معهم أطايب الحديث، ولكن يستعد لسماع قوارص الكلام كلها ليلًا عند أوبته لمنزله، فبحق الألفة والسعادة هل يعد ذلك عيشًا؟!
هل علمت سبب تلك الوساوس؟ نعم هي الغيرة العمياء.
الغيرة القليلة ممدوحة؛ لأنها تدل على حب الشخص للآخر وعلى اهتمامه به، فإذا رأت سيدة بعلها غير مستقيم السيرة وتأكدت ذلك من طريق الصدق لا من شياطينها وأعوانها ولم تغر عليه، فإنها لا إحساس لها والحجر أقرب للتأثر عنها، وأما إذا استعملت الغيرة في غير موضعها فإنها تشقي نفسها وتشقي زوجها وتشقي أهله وأهلها.
هل يجسر بعل يومًا أن يكلم عجوزًا أو يضاحك طفلة أمام زوجته الجاهلة؟ وهل إذا قصدته أرملة في إنجاز عمل لها، لم تجد أكفأ منه في القيام به، هل تغفر له زوجته هذا الخطأ العظيم في مكالمة الأجنبية عنه؟
يجب أن لا يجعل محل للريب إذا رؤيت الريبة رأي العين؛ قد تحمل الرجل سلامة نيته على أن يبوح لامرأته ببعض ما رآه في صباه، أو أن يصف لها ملاهي باريس وغيرها من البلاد، التي ربما كان ساح بها قبل زواجه، فيلاحظ وهو يقص الحديث أنها تتغير أو تسأله عدم تكملته، ولكن هل تغارين أيضًا من الماضي أيتها السيدة وقد ابتدأ وانتهى قبل تعرفك بهذا الزوج الشقي؟
والسيدات يملن دائمًا لفتح مثل هذا الحديث، وليس عندهن أرقى منه طبعًا، فتجتهد كل واحدة في إظهار المساوئ التي تسمع بها أو تخترعها عن زوج صديقتها، وتظن ذلك خدمة لها؛ لأنها توقفها على مبلغ إخلاص زوجها لها، فإذا فرض وكانت هذه المساوئ حقيقية، فإن تلك الصديقة الجاهلة تضر صديقتها من حيث تريد لها النفع، وتسبب شقاء أسرة بأكملها، وإذا كانت اختراعًا وافتراء على رجل بريء فما كان أجدر هذه الصديقة بضبط لسانها، وهو لا يكلفها أكثر من إطباق فكيها.
وقد شوهد كثيرًا أن اختلافات وخصومات جناها أرباب الأسر المتفقة المتحابة من أمثال هؤلاء الواشيات، فإذا علم الزوج أن امرأة صاحبه أو أمه أو قريبته، هي التي غيرت عليه زوجته، واكفهر من غيم حديثها جو سعادته ووفاقها، لا يسعه — وهو مصيب — إلا أن يأمر ذلك الصاحب بحجز تلك المنتمية إليه عن الإيقاع به، وعن الدخول إلى منزله فتؤلم هذه الإهانة صاحبه وتوجعه، وربما بتت بينهما حبل الوداد.
الثقة ما أحلاها بين الزوجين! حتى وإن كانت على غير أساس؛ لأن الزوجة إذا تحققت انحراف زوجها عن الصراط السوي فلتنبهه أولًا باللطف والمحاسنة، فإذا لم تفلح ملاينتها فماذا تعمل؟ إما أن تبقى معه إن كانت ترجو عيشه وتؤمل تحسنه، وإما أن تنفصل عنه وهذه إحدى الكبر، فإذا فضلت معاشرته بسبب حبها له أو لارتباطهما بأولاد، أو لانقطاعها من الأهل والإخوة، فأولى لها وقد تحتم عيشها معه أن تفرض أنه مخلص لها، وأنه لا يتغيب إلا لأشغال نافعة لمستقبلها ومستقبل أولادها، وأنا على يقين أن هذا الفرض متيسر وسهل جدًّا لمن تبغيه وجالب لطمأنينة وهدوء بال لا يفرقان كثيرًا عن مثلهما الصحيحين.
المبدأ الثاني: بغض أقارب الزوج أو الأثرة
مما يطرب له النساء أن يكون أزواجهن لا أهل لهم، فترى الخاطبة أول ما تذكر حسنة للشاب الراغب في الزواج، سيان صدقت أو كذبت أنه لا أهل له، وتبالغ بقولها: «إنه مقطوع من شجرة.» معاذ الله! أيجب أن تفنى أسرة بأكملها ليتزوج منها فرد؟! والإنسان مدني بالطبع فالاجتماع بالغير لا مندوحة عنه والاحتياج للمخالطة ضربة لازب، والمرأة تميل للاستئناس كما يميل الرجل، وتعتز بالأهل كما يعتز هو، وتدرك معنى القرابة والصلة. إذن، فماذا يجعل المرأة تحترم هذا المبدأ فتاة وتتجاهله زوجة؟! أو لماذا هي تحب أقارب نفسها وتبغض أقارب الزوج وتحمله أيضًا على مجاراتها؟! إن هي إلا الأثرة أو التنازع على السلطة، الزوجة تريد أن تكون حاكمة بأمرها، مطلقة التصرف في شيئين عزيزين عليها: قلب الرجل، والبيت. فإذا كانت وحدها لا يعيش معها من أهل زوجها أحد ظنت أنها نالتهما، أما إذا عاشرتها حماة أو أخت لزوجها أو ابنة له من غيرها فهناك تنازع البقاء والبغض الذي لا نهاية له، كل تريد أن تستأثر بالسلطة على المملكتين، وتجتهد في الفوز بقلب الرجل أولًا، فإذا ما وفقت له نالت الأخرى بغير كبير عناء، ولا تخلو إحدى المتنازعتين من خطأ وصواب؛ إذ لا يمكن أن تكون الواحدة على خطأ محض والأخرى على صواب صراح، ولو علمتا لرضيت كل منهما بقسمها من حب الرجل؛ فالحب البنوي غير الحب الزوجي، وإذا ابتغت امرأة أن تغير على الاثنين كانت مخطئة وتعدت ما وراء حدها.
إذا أرادت الزوجة أن لا يحب زوجها أمه ولا يحترمها ولا يتكفل بلوازمها، وهي محتاجة إليه فقد أثمت، وكذلك أمه إذا حدث زوجة ابنها على ابتسامة ألقاها عليها زوجها أو تغشمرت، وأرادت أن تجعلها كالصنم لا رأي لها بينهما، فهي أيضًا قد تناهت في الظلم والقسوة.
نساء اليوم غير نساء الأمس وأذواقهن تختلف باختلاف الزمن، ولكن إذا تحتم أن تعيش فتاة الجيل الجديد مع حماتها ذات الفكر القديم، فما العمل؟ المخاصمة والمعاندة لا تجديان نفعًا، فضلًا عن أنهما من صفات الطبقة الدنيا، أما النساء المهذبات فلا يبعد أن يختلفن في الرأي، ولكنهن يصرفن الخلاف حالًا، ولم تسمع واحدة من الأخرى ما يغيرها عليها.
التساهل أول ما تجب مراعاته في الأسرة، واللطف أجمل صفات المرأة. ترى الزوجة وضع هذا الشيء على اليمين وترى حماتها وضعه على الشمال، فلتتساهل الزوجة فإنها أصغر سنًّا، ولتبين آراءها فيما تختار بلطف وتواضع، واللين كفيل بتسوية الخلاف. أما إذا تشبثت وأظهرت كبرياء المتمدنات وأصغرت حنكة حماتها وتجاربها بجانب تمدينها الحديث، فربما وصل الأمر إلى أوخم العواقب، وأصعب قضية يحكم فيها الرجل هي التي بين أمه وزوجه؛ لأنه إذا أرضى أحد الخصمين أغضب الآخر وأمامه أم واحدة، أما النساء فغير زوجته كثيرات، فتدور الدائرة في الغالب على الزوجة، ولو كان رأيها صوابًا.
الزوجة التي أول ما تدخل البيت تفرق بين أعضائه المتحابين المربوطين بصلة الأمومة والأخوة شيطان رجيم، يجب عليها أن تتذكر أنها لم تأتِ إلا من قريب أما هؤلاء الذين معه فمنهم من ربته وتعبت فيه إلى أن صيرته رجلًا، ومنهم من يفضله على نفسه ويفديه بما يعز وأحدث واحد فيهم أقدم منها حبًّا له وارتباطًا به، والغريب أن كل امرأة من هؤلاء العجائز كانت تكره حماتها وتريد أن تحبها امرأة ابنها، ولكن الجزاء الحق من جنس العمل.
وإذا سألت الأولاد وجدت أغلبهم يحبون أبناء أخوالهم أشد مما يحبون أولاد عمهم، وهذا ناشئ — ولا شك — عن حب أمهم لأقاربها وبغضها لأقارب زوجها، على أنهم بعيدون عنها ولا ينازعونها السلطة التي تخاف عليها، ولكن كره واحدة سرى في جميع من ينتمون إليها؛ فالزوجة تكرههم بحق أو بغير حق، فضلًا عن أهل الزوج يحبون الرقابة على امرأة قريبهم، وقد ذكرنا أنها عدوة الرقابة والتقييد ومبادئها استقلالية مطلقة، على أني لا أفهم كيف تزعم المرأة أنها تحب زوجها ثم هي تبغض أقاربه؟! إن هذا تناقض غريب، فإذا كان ادعاؤها هذا حقيقة وجب أن تحبهم وتحتمل من أجله كل صعب مهما كلفها ذلك الاحتمال.
تنازع الرئاسة على البيت أحد سببي البغض، والسبب الآخر تنازع الرئاسة أيضًا ولكن على قلب الرجل، ألا فلتطب نفسًا كل امرأة غيور فإن حب الزوجة المكتسب الظاهر غير حب الأهل الغريزي الدفين، كل له صفة خاصة به تجعله لا يقل أهمية عن الآخر، وهما مختلفان لا تدل كثرة أحدهما على قلة الآخر، فهما منفصلان تمام الانفصال.
فالزوجات المتمدينات يجب أن يخفضن قليلًا من غلوائهن ولا يبخلن على الحاكمة القديمة في البيت بشيء من السلطة؛ لأن من تعود الحكم صعب عليه أن ينزع منه، وأمهات الأزواج أولى لهن أن لا يتشبثن كثيرًا بآرائهن العتيقة؛ فكل زمن يقتضي إصلاحًا مغايرًا لما قبله، والصلاة والصيام خير لهن من إلقاء مسؤولية البيت وتربية الأولاد على عواتقهن؛ لأنهما مريحان في الدنيا مكسبان أجرًا في الآخرة، والسلام.
المبدأ الثالث: المباراة والإسراف
يمتاز الجيل السابق على أخيه الحالي بقلة اللزوميات ورخص أسباب المعيشة، كذلك له ميزة أخرى لا أعرف ألاحظها الجمهور أم لم يلاحظها، وهي لزوم كل طبقة من الناس حدها من جهة الغنى والفقر، فلم يكن الفقير ليستنكف من خصاصته، ولم يكن المتوسط يقلد الأوسع رزقًا والأعظم جاهًا، كما نفعل نحن الآن، ولعل السبب الأصلي في ذلك هو نقص الحرية من أخلاقهم وتأثير شدة الضغط عليهم.
نفقات الأسرة اليوم كثيرة في ذاتها لتعدد الحاجات وغلائها، كثيرة جدًّا؛ لأننا نتأنق في الكماليات الزائدة، ونحاكي الغير فيها ممن هم أوسع ثروة وأفخم مظهرًا، ولا مبرر لنا في ذلك إلا الحرية الشخصية وحب التقليد، أما الحرية فنعمة من الله ورحمة وأما التقليد إلى هذه الدرجة: درجة التلف، فليس من العقل في شيء اللهم إلا إذا ابتغينا به تأييد مذهب دارون في النشوء والارتقاء، ولا أخالنا نبغي التسجيل على أنفسنا بأننا وحدنا من سلالة القرود.
إذا استثنينا الطبقة السفلى من النساء، فإننا نكاد نرى الباقي من الوسط والثريات شبيهات في الملبس والزينة، تضارع الواحدة الأخرى في عدد الخدم وكمية الأثاث ونوعه، فهل يمكن أن نكون كلنا في درجة متساوية من الغنى؟ هذا يستحيل، وإذا لم نكن متساويات في ماليتنا؛ فمن أين نسد هذا العجز في النفقة عن الإيراد؟ جواب صغير مفهوم: من الرجل أبًا وزوجًا.
إذا تزوجت الواحدة منا كلفت أباها ما لا طاقة له به كي لا ينقص جهازها عن فلانة جارتها أو قريبتها، فإذا قدر فنعم القادر لا انتقاد عليه، ولكن إذا عجز فمن خرق الرأي أن يستدين ليكسب فخرًا كاذبًا أطول مدته يومان، وإذا تزوجت لم تشأ أن ترى صاحبتها تشتري عشرة أثواب وهي لا تشتري إلا أربعة مثلًا، وكيف تجد عند جارتها خمس خادمات فيهن الأوروبيات وليس في بيتها إلا واحدة مصرية وهي تكفيه، فهي دائمًا تزن نفسها بميزان الغير لا تفتأ تقلده مهما فعل، فإذا لم يكن لها ميراث رفيع خاص بها يُصرَف في مآربها فإن هذا يحمله الزوج المسكين ولا راحم له يصرف دخله كله، وفي الغالب لا يكون له إلا جعالته الشهرية دخلًا، ويحمد الله إذا لم يستدن على حساب الشهر التالي، فإذا فُصِل من الوظيفة أو لحقه ما يستلزم النفقة كالهرم أو المرض لم يجد شيئًا يعتمد عليه إلا رحمة رب العالمين.
علة المباراة الحقيقية هي الحسد، يأكل القلب ويكثر الهم، فلا تطيق صاحبته أن ترى أجمل منها هيئة أو أغنى مظهرًا، وتهتم في أن تكون هي المشار إليها بالبنان في المجالس، ويسكرها الطرب إذا ذكر غناها واقتدارها على اقتناء العربات الجميلة والخدم الكثير، وبعضهن تبيع حليها أو شيئًا من أملاكها لتشتري سيارة (أوتوموبيلًا) أو لتسافر إلى أوروبا، لا لأنها تحب السياحة أو تستفيد من الأسفار، ولكن لأن غيرها فعلت ذلك. ولو تأملنا لرأينا أن الإنسان مهما حاول أن يجعل نفسه الأول في صفة ما فإنه لا يلبث أن يرى أعلى منه وأمكن في تلك الصفة بعينها. تبذل سيدة كثيرًا من مالها ووقتها للتفتيش عن أجمل عقد في القاهرة فتجده، ولكن لا تدوم أوليتها به أكثر من أن ترى أخرى عليها عقد أنفس أتت به من الآستانة أو باريس مثلًا، وإذا تطلع المرء لغيره لم يقتنع قط بما عنده.
أرى أنه لا يجمل بالسيدة العاقلة أن يستحكم منها داء التقليد؛ لأنه يدل على صغر النفس والإحساس بصغرها (وإذا ذممت المحاكاة هنا فإني لا أقصد المعتدلة منها فقد تكون لازمة أحيانًا، وإنما أذم المتطرفة ولذلك وصفتها بلفظة داء).
وإذا كنت بارعة رشيدة فلماذا لا أبتكر في ملبسي ومنزلي ما يجعل غيري من النساء يقلدنني فيه بدل أن أجري دائمًا وراء ما يفعلن؟
يقول الحديث الشريف: «الناس بخير ما تباينوا.» وهي حكمة بالغة، أو هي كل نواميس العمران ولباب نظامات الاجتماع، وإذا كد الاقتصاديون أذهانهم وألهب الاجتماعيون أدمغتهم يستنبطون القوانين ويسنون النظامات لصالح بني البشر فلن يأتوا بأجمع للحكمة، ولا أدعى لسير هذا العالم سيرًا آليًّا منتظمًا (ميكانيكيًّا) أحسن من هذا الحديث على إيجازه. وعليه، فلا يمكن أن يتساوى البشر، ولا يمكن — مع الأسف — أن نكون كلنا غنيات، نحن نريد أن نظهر كلنا بمظهر الموسرات «وهل بالفقر من عاب؟»
الفقر وحده لا ينزل الإنسان من رفعته؛ فالاعتبار بالنفس والفضائل لا باليسر وعدمه، ماذا يضر المجتمع الإنساني إذا كنت أفقر من صاحبتي أو كانت هي أفقر مني؟ بل ماذا تفيد محاكاتي لها إذا كنت لا أستطيعها بمعناها الصحيح؟ هي تقدر أن تتجمل بالثياب الحريرية والماس الكثير من مالها وفضل الغنى عليها، ولكني قصيرة اليد عن الإتيان بمثل ما عندها، أفليست القناعة إذن خير ذخيرة للقاصرات؟!
وقد تكون امرأة ثرية جميلة الملبس يعجبك منزلها ويبهرك أثاثها، وتكون مع ذلك شحيحة لا ينال العاجزين نفعها أو تكون فظة سيئة العشرة، وتكون أخرى غير جمة المال، ولكنها جمة الفضائل محسنة على المعوزين، فأي الثنتين أنفع للإنسانية وأولى بالدعاء؟! أعجب لنا لماذا نتبارى فيما لا يفيد ونترك النافع من الأمور؟!
المباراة تستدعي الإسراف، والإسراف يعجز مالية الزوج ويثقل كاهله بالديون، والمرأة التي تضطر زوجها ليصرف عليها أكثر مما يستطيع لا تخلو من أحد باعثين؛ إما أن تكون تفعل ما تفعل غير عالمة بعواقب التبذير، فهي إذن كثيرة الشطط جاهلة لا تصح أن تكون مديرة للبيت وللأسرة، وإما أن تكون عالمة بمصير مالية الزوج وتفعل ذلك مختارة، كما يفعل كثيرات كي لا يوفرن للرجل ما يمكن أن يتخذه في يوم من الأيام مهرًا لحليلة جديدة أو خليلة عنيدة، فهي مزعزعة اليقين كثيرة الشك تقدر البلاء قبل نزوله، ولا بلاء إلا التزوج بمثلها.
وأكثر ما تنزع المرأة للإسراف في مال الزوج إذا كان لها ضرة تقتسم معها فؤاد الزوج وماله، فإنها تصرف بحساب وبغير حساب كي لا يجد ما يقوم بمصروفات ضرتها، أو كي تنتقم منه لنفسها ليعجز عن الجمع بين اثنتين ويندم، وتحسب أن عجزه وندمه يجعلانه يكتفي بها وحدها، ولكن ما أدراها أنه إذا أراد حذف إحدى الثنتين من جدول نسائه لعلها هي تكون المحذوفة الخاسرة.
وعلى ذكر التصرف بمال الزوج أصرح باستهجان عادة التوفير السري الذي يأتيه كثير من النساء ويحسبن ذلك محمدة؛ فيشترين بما يوفرن حليًّا ولباسًا ويزعمن أن أهلهن أتوا به لهن، أو يصرفنه في السحر والخرافة، وفي ذلك منقصتان: نقيصة الكذب ونقيصة السرقة؛ وأسميها سرقة لأنها لا تفرق عن سرقة اللصوص البتة، وربما كانت الأخيرة أخف من الأولى؛ لأن اللصوص فضلًا عن كونهم غرباء عن المسروق منه فإنه قد يعثر بهم فيعاقبهم، أو على الأقل لا يهتدي إليهم ولكن يدري أنه فقد شيئًا، أما السرقة الأخرى فإنها من أقرب الناس إليه وألصقهم به ثم هو جاهل بالمرة قد لا يهجس بها، فإذا وفرت المرأة شيئًا فإن ذلك يعد مهارة لها واقتدارًا، ولكن لتريه لزوجها فيعطيها إياه عن طيب خاطر وسماح، فذلك أهنأ لها وأشرف.
والخلاصة، أن الغنى ليس متيسرًا لكل فرد فأولى أن يلزم كل حده؛ لئلا يكون مثلنا كمثل الضفدع التي أحبت أن تبلغ كبر الثور؛ فاستعانت بالماء فانفجر جوفها فماتت، ولتعلم المرأة أنها وكيلة الزوج في ماله وبيته، والوكيل يجب أن يكون أمينًا تقيًّا، وأن التكالب على المباراة صفة مصغرة للنفس، وإني لأزعم أن رجالنا وأبناءنا يقل فيهم الباحث ويندر المخترع أو لا يكاد يوجد؛ لأننا متشبعات بحب التقليد لا تتجدد همتنا بالبحث والاستنباط؛ فيكون لهم من زوجيتنا وأمومتنا محك لأفكارهم أو أسوة ومثال حسن.
المبدأ الرابع: سرعة الغضب والتهديد بالفراق
اتحاد الزوجين وارتباطهما بالحب الصادق هما السعادة الكبرى التي نفتقدها، والتي لا غنى لأحد المتزوجين عنها، ولو رأى سعادة أخرى في غير ذلك؛ فالممول الذي يحسب نفسه سعيدًا إذا أحرز الملايين، والعالم الذي يغبط نفسه إذا اشتهرت تعاليمه، والسيدة التي ترى هناءها في اقتناء النفائس، كل هؤلاء مع فرحهم بما وفقوا إليه لا يستغنون عن تلك المحبة الزوجية، ولا يستكملون سعادتهم وهي ناقصة؛ لأن الإنسان مهما قويت إرادته لا يستطيع أن يتفرغ لأعماله ويفكر وعنده شاغل يزعجه، ولشد ما يقاسي أحد الزوجين من تنغيص الآخر له.
ومن أكبر دواعي الكدر والتنغيص أن تفعل الزوجة لأقل كلمة وترجع إلى قومها غضبى آسفة.
عادة التهديد بالفراق شائعة عندنا شيوعًا هائلًا مستهان بها كثيرًا، فكما ترى الرجل يحلف بالطلاق لغير داع كذلك ترى المرأة تنهزم من بيت زوجها لأوهى الأسباب، يهدد بعضهما البعض بالانفصال في عرض كلامهما، يريد أحدهما بذلك بث خوف الفراق في نفس الآخر ليخشاه، وما من زوجين مرتبطين برابطة ما إلا ويخشيانه، ولكن فاتهما أن ذكره ساعة الغضب مما يثير العواطف ويعلو بالنفس إلى سماء عزتها، وكيف يرضى إباء المهدَّد وغيظه محتدم أن لا يطلب ما يهدَّد به ويستخفَّ بالعقاب وإن عظم، فينسى الحقيقة والصالح ويدوس العقبى؛ تفاديًا من ضيم نفسه المثارة الهائجة، ولا يشجع النفس الجائشة أكثر من تذكيرها بالخوف، كالجند إذا صح عزمها على القتال، وكانت على حق منه، تراها أكثر ما ترمي بنفسها في حلق الموت حينما ترى نار الحرب مستعرة متأججة، فشدة الموقف تذهب الخوف وتبعث على الإقدام، والغضب كذلك إذا أُرخيَ له العنان ملك صاحبه، ورمى به إلى حيث لم يقدر وهو حليم، والمرأة التي تتغنى دائمًا بذكر الفراق لأقل خلاف يحدث بينها وبين حليلها أو بينها وبين أهله، قد لا تأمن أن يصدر عليها حكم الفراق المؤبد من زوجها ساعة الغضب، وهي لم تكن لتعضده بالجد وإنما كان هزلًا وعادة مستقبحة، سمعت أن إحدى السيدات كانت تطلب الفراق من قرينها كلما شجر بينهما خلاف بسيط أو كلما كدرتها حماتها، وقد تشبثت بذلك الطلب مرة وألحت فيه وألحفت، فسألها الزوج هل تبغي الطلاق حقيقة؟ فأجابت نعم، فلم يسعه إلا أن أخذها إلى القاضي ليترافعا إليه ويتخاصما، وبعد أسئلة وأجوبة رأى القاضي أنها مصرة على تنفيذ رغبتها فأصدر حكمه بالطلاق، ولم يكد يتم كلمته حتى صرخت وأعولت وندمت على ما جنت، ثم طلبت أن ترد إلى زوجها ثانية، فما هذا التناقض واللعب؟! إن هذه المرأة مثلها كثيرات يجنين على أنفسهن وأولادهن، ويبعثرن أسرًا كانت ملتئمة لولا الحمق واللين. إذا تعسر عيش المرأة مع زوجها صافيًا تعذر إذا طلبت الفراق، وأما إذا كان ذلك تجنيًا ومزاحًا، فالزوجة أحكم من أن تفصم عراها في التجني والمزاح.
الوالدان أو الأهل لا يزوجون بنتهم إلا وهم راسمون لها خطة سعادتها المستقبلة، ومقتنعون بها ومقررون هدوء بالهم من جهتها، فما أحراها أن تحقق ما يرجون! وهي الواجب بطبيعة الحال أن تخفف مسئوليتها كثيرًا عن عاتقهم، أما وهي تشكو لهم مما لا يوجب الشكوى فإنها تبدل صفاءهم كدرًا وتأتي بعكس ما كانوا ينتظرون.
يجب أن نقرن رقة شعورنا وسرعة تأثرنا بفضيلتي الصبر والحلم؛ لأننا في منازلنا بين استقبال الزائرات وزيارتهن وترتيب الأواني وجلائها، ولعب الأطفال والذهاب من اليمين إلى الشمال، والاضطجاع على الفراش الوثير من مزركش وحرير، لا ندري ما يكابده الرجل من الآلام من تعنت الرؤساء، وما يقاسيه من العذاب في غلاء المأكل والشراب، ربما كد فكره وأنهك قواه ولم يصادفه التوفيق وأخطأه الرزق وهو لو لم يكن له إلا نفسه فقط لرضي باليسير، ولكن ماذا يفعل ووراءه أم وأولاد، أو قلب وأكباد، أيتركهم يتضورون جوعًا وهم لم يألفوا إلا الرخاء؟! أفمن كانت هذه حاله يشتغل ليحفظنا ويتعب ليريحنا يصح أن نقابله بالعبوس والغضب إذا ما بدا متأففًا يومًا من طول إعمال الفكرة أو من شدة النصب؟!
كل شريكين قد يختلفان اختلافات بسيطة ولكنهما لا يذيعانها، ومن أحق بكتمان السر من شريكي الحياة؛ أعني الزوجين؟! والحازم من لا يجعل للاختلاف الصغير محلًّا من اهتمامه، بل يزيله بمجرد الفراغ من التكلم فيه، فإذا ما اختلف زوجان أديبان في تقدير حسنات الشاعر الفلاني، أو تفضيل هذا المذهب على ذاك، واحتدم بينهما الجدال وبدرت من أحدهما كلمة شديدة للآخر، أفيغضبان ويسببان الفراق لأجل ذاك الشاعر، أو ذلك الحكيم صاحب المذهب، وهما لا يدريان كما قال أبو الطيب المتنبي:
بقيت لي كلمة عن هؤلاء اللاتي يغضبن ليقبضن ما يبقى لهن من الصداق عند أزواجهن، وهي عبارة شائعة كثيرًا عند بعض الطبقات، أما قبحها فجليٌّ؛ لأن المرأة بذلك تبرهن على أنها تقدر النقود أكثر من الحياة والسعادة، وهذا جشع لا يليق إلا بالمرابين ومهووسي المال، والمرأة يجب أن تكون ملك اللطف ومثال الرقة والنزاهة، وبعضهن يتذرعن بالغضب والاحتماء بالأهل ليصالحن الرجل، والعادة أن يصالح الرجل زوجه بقطعة حلي وثياب كثيرة، فما أسخف هذه العقول! تفدي المرأة راحتها وهناءها وسعادة أولادها بذلك المتاع الفاني.
وقد تغضب المرأة أيضًا لتجرب محبة زوجها لها، وترى من آيات الود شيئًا جديدًا، ولكنها في غنى عن هذه المخاطرة والتجربة الصعبة؛ لأنها تعلم مبلغ حبه لها من أحواله معها.
المنزل لا بهاء له إلا بالمرأة كما أن قوامه الرجل، فترك المرأة بيتها يمسخ ذلك الهناء المرفرف عليه ويسبب حزن الأولاد وانقباضهم، كما أنه يتلف وتعبث به أيدي الخدم فيخسر الرجل خسارة مضاعفة.
طريق الكذب والتمويه هذه وعرة المسالك غير مأمونة دائمًا، فإما أن تقرر المرأة أنها تعيش مع زوجها وتشاركه السراء والضراء فتحتمله ولا تحنق عليه لصغير الهفوات، فلا يلبث أن يندم إذا كان أساءها ويعتذر لها، ويغفر أحدهما غلط الآخر، ويزيلان أثر كل خلاف بينهما فيعيشان سعيدين، ويتحتم على الزوجة إذن أن لا تسرع الخطو نحو منزل أهلها، بل تظل في منزلها تديره. وإما أن تغضب وترجع لأهلها حين ترى أن لا خير في البقاء مع رجل فظ سيئ الأخلاق فتفارقه إلى الأبد، ولا تعود ترى وجهه البتة، أما الذهاب والإياب فأعده طيشًا لا يليق بعاقله مهذبة تعلم عواقب الأمور.
(١١) مساوئ الرجال
الطمع
أريد مما كتبت وما أكتب في الجريدة بعنوان «النسائيات» تخفيف ويلات الزواج على قدر الإمكان، وقد بينت في مقالاتي السابقة ما يرجع منها إلى المرأة، واليوم أراني مضطرة لأن أكتب عن الرجل؛ لأنه أحد طرفي الزواج؛ لأنه كثيرًا ما يظلم ويطغى، ولست أقصد كل رجل على الإطلاق، كما أني لم أكن أقصد كل امرأة، وإنما الكلام على من فسدت أخلاقهم (وهم مع الأسف كثيرون)؛ فسببوا شقاء النساء وهدموا بناء الزوجية.
انقلبت الحال وصارت الفتاة بائرة في سوق الزواج إلا إذا شفع لها غناها، عُكِست آية الإسلام واستبدلت بها عادة لم تأتِ في شرائع النصارى ولا اليهود وإنما اتبعوها بدعة وضلالًا.
ازداد طمع الرجل فملك عليه حواسه، فصار ينام يحلم بالمال ويقوم يشتغل له، ولا عيب عليه في ذلك، وإنما الذي يعيبه أنه زادت خميرة جشعه فحمض ذوقه واستحكم منه الطمع في كل شيء حتى في عروسه!
«ماذا عندها»؟ كلمتان ألفناهما وهما أول ما يفتح به للخاطب، وقد لا يسأل غير هذا السؤال؛ فأبو العروس الذهب وأمها الفضة وأخلاقها النحاس وسمعتها الطين ومعارفها العقار، متى وجد المال صحت المصاهرة ولزم الزواج، وإلا فتبقى الفتاة إلى أن تسن وتدفن معها طيبة قلبها وحسن عشرتها وقدرتها على تربية أولاد بررة ربما كانوا، لو ظهروا في العالم نافعين.
يلبث إعجاب الرجل بزوجه وغناها قليلًا، ثم يتحول إلى استبداد واغتصاب، فيجبرها على أن توكله على مالها توكيلًا شرعيًّا ليتصرف فيه على هواه، فيبدده على ملاهيه وخليلاته، أو يتذرع به للظهور في مظهر الموسرين، ورب معترض يقول: لماذا تستحل المرأة مال الرجل وتحرم مالها عليه؟ فهل فاته أن الرجل مكلف شرعًا بالإنفاق على زوجته وعياله أما المرأة فلا؟ اللهم إن كان محتاجًا وعند المرأة فضل، فليس من المروءة ولا الحنان أن تتركه يقترض من غيره ولا تعطيه هي مما عندها وتعتبره شريكًا لها في كل شيء على أن ذلك تكرم منها لا تجبر عليه، فإذا سمحت أعطت وإن شاءت منعت، كذلك إذا تزوجت المرأة من رجل كان يكفي بيته ثم عضه الدهر فأعسر فلا يصح أدبيًّا ولا اجتماعيًّا أن تتخلى عنه وقت عسره أو تبخل عليه بمالها؛ إذ هما شريكان في السراء والضراء، فضلًا عن أنها لو لم تكن ذات مال لوجب عليها أن تساعده بما تستطيع فيما لا يتعدى الشرف، فمساعدة المرأة للرجل بالمال واجبة إذا أعسر بعد يسر اشتركت فيه معه، بشرط أن تكون تلك المساعدة في غير ضرر عليها أو إفساد له، أما إذا كان ممن يلعبون الميسر، أو ممن يقضون حياتهم بين القناني والقيان، فأحر بزوجته أن لا تقرضه فلسًا واحدًا.
وهناك آخرون تحل لهم أخلاقهم أن يجازوا الإحسان بالإساءة، فبعد أن يبددوا ثروة نسائهم ويلحق أصفرها أبيضها يكافئونها بضرة جديدة، وبئس الجزاء!
مال المرأة يجب أن يبقى لها ولكمالياتها وترفها، وهو على أي حال يوفر على الرجل بعض النفقة، وإذا اتحدا ولم يتفارقا فالمال باقٍ لأولادهما فأي ضرر عليه في ذلك؟! وهل الأنفع له أن يبدده ويحتاج لغيره أو أن يوفره فيجده كنزًا لم يتعب في الحصول عليه؟ وهي إذا وفى لها وأيقنت بحسن نيته لا تضن عليه بروحها فضلًا عن بعض مال سيفنى وتأتي عليه الغير.
لا أعد الرجل ذا مروءة ونخوة وهو يبيع حلي امرأته ويجردها حتى في حال عسره؛ لأنه لا معنى لرجوليته ووصفه نفسه بالقوة والنشاط مع اعتكافه على الكسل، ولماذا لا ينقب له عن عمل يرتزق منه، وهو لا يمنعه عن الارتزاق مانع إلا أنه وكل؟ لا يعذر الرجل على مد يده لمال زوجه إلا إذا كان له من ضعفه وعدم اقتداره على العمل مبرر.
على أن هذه المسألة من التعقيد بحيث يسهل عندها ذنب الضب؛ فإن بعض النساء يُهدَدن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون ويذكر لهن الزواج إرهابًا، فأي الأمرين تختار المرأة البائسة؟! لا شك أن إعطاءها المال أهون الشرَّين، ولكن أتأمن غدره بعد أن أظهر لها أنه قادر على إتيانه في أي لحظة وهي لا تعلم؟! اللهم إن رجلًا هذه أخلاقه مع زوجه وهذا مبلغ جشعه لخليق بأن يُفارَق، ولكن المداراة مما أوصى به النبي ﷺ فلتداره ما أمكن؛ فذلك خير لهما من الخلاف وأولى للمرأة التي تشك في أمانة زوجها الطماع أن توكله توكيلًا مدنيًّا فقط، لا شرعيًّا كما يريد، فتكون وسطًا بين الطرفين تحفظ العين من الضياع وتتساهل قليلًا في الريع. المرأة مظلومة دائمًا؛ إذا كانت فقيرة لا يُرغَب فيها، وإن كانت وارثة يُطمَع في مالها. والوارثة مظلومة أيضًا؛ فإما أن لا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا. ولو كان للخطبة والزواج عندنا نظام آخر لأمكن التحقق من أخلاق الخاطب، وتمييز الرجل ذي المروءة من الشره الزنيم.
الظلم
من الأنباء ما يترك في أعماق النفس أثرًا لا يزول، ومن تلك الأنباء ما أثر فيَّ تأثيرًا خاصًّا، وسأقصه فيما يلي: كنت يومًا عند صاحبة لي، فسألتها عن سيدة كان لي بها معرفة قديمة، ولم أرها منذ زمن بعيد، فتنهدت وأجابت بلهجة المحزون أن تلك السيدة في أشد ما يكون من الأسى، وأنها لفرط حزنها وكثرة بكائها قد حل بها السقم؛ وذلك لأن زوجها عقد على امرأة أخرى وستزف إليه قريبًا، فأخذ مني العجب مأخذه، ورأت صاحبتي دهشتي فقالت: لم تعجبين من ذلك الخبر؟ أليس كثير الحدوث عندنا مألوفًا؟ قلت: نعم؛ ولست أعجب من حدوثه في ذاته وإنما العجب في أنه حدث لتلك السيدة، وهي على ما تعلمين على أحسن ما يكون عليه النساء من الخلق، وعلى جانب غير قليل من الجمال والعلم، وقد كنت أسمع منها أنها في راحة مع قرينها، وقد رأيتها بعيني تشتغل في بيتها، ولم يكن ينقصه شيء من النظافة والترتيب، ولها منه أطفال صغار؛ فماذا يريد الرجل فوق ذلك (تربية وعقل وملاحة وإنجاب)؟ فقالت محدثتي: إن ولدَيْ تلك السيدة توفيا في شهر واحد وهذا ما حدا بالزوج إلى البحث عن أخرى، وقد خطب في نفس الشهر الذي فقد فيه ولديه، وامرأته الأولى أم جنين لم تكمل مدته بعد، فيا لقساوة الرجل! أكل ذنبها أن ولديها توفيا؟ وهل لم يكفها حزنها على فقدهما فيسدد إلى فؤادها المكلوم سهمًا آخر مسمومًا؟ وهل ضبط منها رسالة لعزريل تستزيره بها وتحثه على خطف فلذتي كبدها؟ وهل كان هذان المفقودان ولديها ولم يكونا كذلك له؟ نعم؛ إن الرجل أقوى عزيمة من المرأة وأشد احتمالًا للمصائب، ولكن هب أنه جلد أفينسيه الجلد الشفقة، ويخطئ به الصبر مواضع الرحمة؟ اللهم إن هذا منكر لا يرضيك.
إذا احتاجت المرأة للمواساة والعطف في زمن ما فأشد ما يكون ذلك في أيامها السود، وهل أحلك من يوم تفقد فيه ولدين معًا؟! فإذا ما اشتد حزنها وشاركها فيه القريب والغريب أيصح أن يتنصل عنها زوجها ويتركها هدفًا لسهام الأرزاء والأشجان والحزينة زوجه والذاهبان ولداه؟ إنها إذا حزنت على أخ لها أو قريب كان من الواجب عليه أن يشاطرها الحزن حتى ولو ظاهرًا، أما وهي محتسبة ابنها وابنه فمن أحق بتخفيف آلامها إذا خلا هو من مثلها؟! إنه إذا لم يحزن ولم يواسها فلم يكن أقل من أن يتركها ونفسها، كما قال الشاعر:
ولكنه هو يتزوج عليها؛ يكلم قلبها الكسير فضلًا عن أنه أقدم على أمر لا يضمنه، أفلا يجوز أن تكون امرأته الجديدة عاقرًا فلا تلد، أو ولودًا ويموت أبناؤها كالأولى؟! إن القدر لا يُعاكَس ولا يستطاع تحويله عند أمر كهذا؛ فالولادة والحياة والموت بيد الله لا ندري متى هو مانحها ومتى يقبضها، إن جوف تلك السيدة لا يسع شيئين في آن واحد: الجنين والشجن، ألا يكون زوجها جانيًا عليها وعلى ولده الجديد إذا ما زاحمه البث فلفظه ميتًا، ألا إن ذلك الزوج القاسي لجانٍ في عرف القانون، جانٍ في عرف المروءة، جانٍ في عرف الإنسانية والحنان.
تذكرني تلك الحادثة المؤلمة بحادثة أخرى تشبهها، ذلك أن رجلًا من ذوي الرتب عاف زوجته لأن أولادها منه كلهم بنات؛ فطلقها واقترن بأخرى على أمل إنجاب الذكور، فأتت له بأنثى ثم بأخرى، وهكذا أبى الله إلا أن يتم ما أراد، فكأنه استبدل بنات بغيرهن، ولكنه خسر ود امرأة صالحة كانت تحبه، وغير عليه قلوب بناته الشابات، وظن أنه كسب ود أخرى وما هو إلا واهم فيما زعم.
ليت شعري إذا فرضنا أن ولادة البنات عيب كما يرى بعضنا؛ فهل للمرأة يد في ذلك؟! ولماذا لا يعيب الرجل كما يعيبها؟ لماذا لا تعافه المرأة وتطلب إليه أن ينفصل عنها وتتزوج غيره لتلد ذكورًا؟ إذا صح أن يتشبث أحد الزوجين بهذه الخرافة صح للثاني أيضًا؛ إذ هما في حقها وبطلانها سيان.
إن لنا من شؤوننا البيتية الأخرى ما يكفي لشغلنا، ولنا من عاداتنا القديمة المستهجنة ما يبح في طلب إصلاحه صوتنا، فجدير بالرجال أن لا يشغلوا وقتنا وفكرنا بالشكوى من أعمالهم، وأظنهم يقع عليهم ظلم الحكومة مرة وضيق العيش أخرى، فلا يجدون من ينتقمون منه لأنفسهم سوانا، وما أخال محروبًا أضعف منا سلاحًا وأقل طلبًا للثأر، فيا ربِّ ألهِمْ رجال حكومتنا السداد؛ فإن ظلمهم الأمة له أثر مضاعف فينا، ولعلنا لم نزد عن الرجل في شيء البتة إلا فيما يؤلم. إذن؛ لقد عكسوا آية القرآن القائلة: فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ.
الازدراء بالمرأة
لعل عدوى التشاؤم من النساء سرت إلينا وانتقلت إلى بعضنا بالوراثة من عرب الجاهلية الأولى، أولئك الذين كانوا يئدون بناتهم خشية الإملاق أو العار، كما كانوا يزعمون، وقد نسخ النبي ﷺ تلك العادة المنكرة، إلا أن أثرها لم يزل باقيًا فينا إلى اليوم؛ إذ نحفل لولادة الصبي ونستاء لظهور البنية في هذا الوجود، وقد يعذر المتقدمون على اعتقادهم هذا لحاجتهم إلى الرجال لكثرة حروبهم وغاراتهم، أما نحن فلا عذر لنا إلا قليلًا، وفي ما عدا حفظ لقب الأسرة ومالها من الضياع يتساوى الصبي والصبية في نظري؛ لأن عدد جنودنا محدود ونحن قوم مسالمون نجتنب الحرب ما أمكن وترانا نقلد العرب ولا نحكيهم فهم يهبون الصبي من يوم ظهوره للحرب، ويفتخرون بدخوله في غمارها، أما نحن فإذا دخل أحد أبنائنا الجندية يكاد يقتلنا الحزن، وأعرف أمهات فقدن أبصارهن من شدة البكاء على أبنائهن المجندين.
ذلك كان زمان الكثرة والشجاعة أما اليوم فزمن السياسة والصناعة، ها هي دولة الإنكليز يربو عدد نسائها على رجالها، وقد سادت أممًا كثيرة رجالها ضعف الإناث فيها، وها نحن بحمد الله يزيد رجالنا عنا عددًا، فأي خير جلبنا وأي شر دفعنا عن بلدنا المفدى؟! وحنكة وزير واحد أطيب أثرًا من مائة ألف مقاتل، ويقظة من قليل خير من نوم الكثيرين.
هذا بيان لا بد منه لتنفيذ رأي القائلين بعدم الاعتداد كثيرًا بالبنات.
المرأة المصرية مسلوبة الحق مظلومة في كل أدوار حياتها؛ نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة، ترى القابلة وهي تحملها منكمشة لا تبدي ولا تعيد، كأنما كان لها بعض الذنب في ولادتها أنثى، نرى أقارب النفساء وصديقاتها يكثرون لها الهدايا إذا كان مولودها ذكرًا ويقللون منها عددًا وقيمة إذا أتت بأنثى، نرى كل من نقل الخبر يطفح اليأس من عينيه ولسان حاله يقول: ناقل الكفر ليس بكافر، فإذا انقضت ستة أيام كان سابع أيام الصبي عيدًا نوقد فيه الشموع نهارًا وتجلب أنواع الحلوى وتعزف الطبول وآلات الطرب، أما الصبية فيكتفى لها ببعض النقل ويحسب تفضلًا.
كذلك حالهما في التربية والتعليم، فإن نصيب البنت قليل عندنا حتى إن من كعبت وهي في المدرسة تعد شاذة، ولست أعجب من جهل الأمهات أكثر مما أعجب لقوم متنورين تربوا تربية عالية ينادون بقصر البنت على تعليم القراءة والكتابة والطبخ والغسل، كأنما العلم خلق لهم وحدهم في حين أن الله — سبحانه وتعالى — لم يكلف به طائفة دون أخرى، فكأنهم يجرحون عواطفنا علنًا بقولهم لنا: نريدكم خادمات منازل فقط لا سيدات مهذبات، وكيف يأبون علينا حقنا الطبيعي في مشاركتهم الحياة ويطلبون الدستور؟!
وليس حالنا في سن الشباب بأدعى للطمأنينة منه في الطفولة، فإننا لا نزيد عن المساجين شيئًا إلا بالاسم فقط؛ فبينا تجد الفتى حرًّا في كل شيء ترانا يحجر علينا حتى في استنشاق الهواء النقي، حتى في اختيار لون الثوب الذي نلبسه، وإذا سمح لنا ببعض المشي أو التنزه رمانا المارة بكل معيبة وأخجلونا ببذاءتهم، وهم أحق بالخجل من وقاحتهم وفحشهم.
وإذا تزوجنا لم نزدد إلا ضغطًا فيقوى الرجل ويستبد، تكتم حرية الزوجة إلى درجة تميت نفسها وتعدمها الإحساس والحياة، أرأيت أطغى من ذلك الرجل الذي يمنع زوجه من رؤية أمها وأهلها لغير جناية حدثت منهم؟ أرأيت أطغى من ذلك الذي يمنع الزائرات من دخول بيته، ويحجب امرأته عنهن خوفًا من أن يفسدنها عليه أو يعلمنها شيئًا جديدًا يأباه جموده واعتسافه؟ يتحكم فيها وفي صحتها وفي مالها وفي وقتها وفي حريتها وفي كل شيء ويأبى عليها أن تسأله سؤالًا بسيطًا عن شغله، بحجة أنها لا تفهمه! أو عن نفقاته معتذرًا بأنه لا مدخل لها في شؤونه! وهل يحتقر الرجل المرأة أكثر من أن يجلس لطعامه وحده ولا يدعوها لمشاركته فيه، فإذا فرغ منه تأخذ لقمة من هنا وأخرى من هناك كما يفعل الخدم؟ تظل واقفة، وإذا غاب ليلًا يتحتم عليها السهر إلى أن يحضر، ثم إذا مرضت يأنف أن يناولها جرعة من الدواء، ويستنكف البقاء معها قليلًا فيترك لها المنزل بما فيه، وليس أصعب على المريض من أن يرى نفسه مهملًا متروكًا.
يظهر احتقار الرجل للمرأة جليًّا في أفعاله وتصرفاته، إذا حزن يومًا لا يكاشفها بما يؤلمه، وإذا نوى الشروع في عمل يعدها غريبة عنه فلا يخبرها، يخرج من البيت ولا يعود إليه إلا لأمر ضروري، فمؤانسته وأسراره نهب للخلان، أما زوجه فلا يعدها إلا طاهية أو خادمة، وأظن أن الرجل لولا بقية حياة فيه لما هوى منزله، ولولا أن أكله في الفنادق يكلفه كثيرًا لما ذاق طعام بيته.
أي ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشد من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرق بينهما وتشتت ملتئمهما؟! وأي أمل لها في مستقبل مظلم لا تدري متى ينهار بنيانه؟! إن الدين لم يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا من غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطًا وقيودًا لو اتبعت لما أَنَّ منها النساءُ البائساتُ.
زار أغلب رجالنا أوروبا والبلاد المتمدينة، ورأوا بأعينهم كيف يحترم الرجل الأوروبي امرأته، حتى إنها مقدمة عليه في كل مجتمع، فعادوا ينادون بوجوب تعليم المرأة، ويصرحون في كلامهم بأنهم من أنصارها وأنها واجبة الاحترام، ولكن لا يلبث كلامهم أن يذهب مع الهواء، إلا أنهم إذا اجتمعوا بسائحة إفرنكية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرًا، فساعدوها في النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش إجلالًا لها، في حين أن أحدهم يستنكف أن يركب مع امرأته في عربة واحدة، وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها، كأنه لم يكن هو صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة، وإذا ازدحمت الطرقات في مولد أو موكب مثلًا رأيت الرجال يدوسون النساء ويضربونهن بالمناكب كأنه زحام الحشر، فهل هذا مبلغ احترام النساء عندنا؟!
أي سبة للمرأة العفيفة أنكى أو أشد إيلامًا من أن يحوطها زوجها بالرقباء والحشم كلما انتقلت خطوة، كأنها غير أمينة على نفسها، أو كأن العفة ملاكها الرهبة لا الرغبة؟!
وهل يزدري الرجل عواطف المرأة بأكثر من أن يجالس خليلته أمامها، كأن شعورها ميت، ويريدها أن لا تغضب، فهل قُدَّ فؤادها من حجر صلد؟!
لا أنكر أن لنا عيوبًا يجب إصلاحها، وأن بعضنا لا يستحق كثير احترام، ولكن أيؤخذ البريء بذنب المجرم؟ وهل يصح تطبيق القانون إلا على من ثبت إدانته؟ وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلًا من كبريائه، وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة، وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصي لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبًّا فيه لا خوفًا منه، ولا يجهل أن الاستبداد يأتي بعكس المراد.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فكيف ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور؟! أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحترامًا لكنا لهم كما يحبون، فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم، ولنا قلوب تشعر كما يشعرون، فإن أرادوا إصلاحنا فليصلحوا من أنفسهم وإلا فلينظروا ماذا هم فاعلون.
(١٢) احترام الآراء وآداب الانتقاد
اللسان والقلم رسولا القلب إلى الناس، أو هما جدولان صافيان تنعكس عليهما صورة النفس وما حواليها من الصفات، وإن شئت فقل: هما سلك الكهرباء بين ذهن المرء ومن يخاطبهم أو يكتب لهم، تنقل عنه رسالة أخلاقه حرفًا حرفًا بغير زيادة ولا نقصان، والفضائل والرذائل كامنة في الأشخاص، لا يوري زنادها إلا الأقوال والأفعال بالمتكلم والكاتب تظهر أخلاقهما جليًّا فيما يقولانه أو يخطانه وإن حاولا إخفاءها؛ لأن الطبع غالب، والتطبع سمل بالٍ قليل الستر، إن دارى شيئًا تظهر منه أشياء، والفكرة — وإن جانبتها — لا تزال تحوم حولك وترفرف إلى أن تجد لها مقرًّا تستقر فيه من الجولان والاضطراب.
فإذا قرأت كتابة شخص لم تلحظه عيناك أمكنك بالتفرس فيها أن تحكم على أخلاقه بالإجمال، فالمتكلف تعرف من كتابته بأنه لا يزال ينتقي الألفاظ الوحشية، ويتقعر في أسلوب إنشائه؛ ليدل على علمه وبراعته. والرجل البسيط يتجنب الألفاظ ومعقد التراكيب، من غير تبذل ولا ركاكة في عبارته، كذلك من كرمت نفسه ترى أثر ذلك الكرم فائضًا على كلماته وفي ثنايا سطوره، واللئيم بالمثل تكاد تلمس لؤمه وضعة نفسه وأنت تقرأ أماليه على القرطاس، وأظهر صفات الكاتب على الورق الحكمة والحلم والحسد والجهل؛ لأن الغرائز كلها حسنة أو قبيحة هادئة لا يستفزها الشيء القليل، ولا يهيج لاعجها إلا إذا هيجت كالرائحة لا يبعثها إلا الهواء، أو كتراب الأرض لا يثور إلا مع الرياح، أما الحسد والجهل فهما أبدًا جائشان، يغلي صدر حاملهما ويكاد ينبثق من تلقاء نفسه من شدة الفوران كالبركان المضطرم يقذف الحمم لحر ما احتواه جوفه من النيران.
والكاتب أو المفكر يخطئ إذا لام معارضيه على وقاحتهم في الرد عليه، أو النظر إلى فكرته بغير العين التي تستحقها؛ لأنهم معذورون فيما أرى، معذورون لأنهم لا يمكنهم التجرد عن غرائزهم، ولا يستطيعون نزع نفوسهم أو تنزع أرواحهم من جسومهم، وما قلمهم إلا أنبوب تصب فيه تلك النفوس سائلها فيجري على القرطاس، فأقلامهم لا ذنب عليها وأيديهم لم تأثم، وأذهانهم خفيف جرمها، إنما العيب كل العيب في نفوسهم فإنها مصدر الوحي للذهن واليد والقلم.
على عدد اختلاف أشكال البشر وألوانهم ومناهجهم تجد اختلافًا في آرائهم ومعتقداتهم، يخطئ الأبيض إذا لام الأسود على حلكة لونه، كذلك يخطئ ذو الفكرة إذا عاب غيره لعدم رضائه عنها، ورحم الله البارودي إذ قال:
من العدل أن تترك الحركة لكل إنسان يعتقد في خلده ما يعتقد؛ لأن المصادرة لا تجوز في الأفكار والاضطهاد، إذا ضيق دائرة العمل والكلام، فلن يبلغ التضييق على الهاجس والوجدان.
فالفكرة ما دامت في الخلد خفي أمرها، ومن التحامل أن يتكهن قوم بمعرفة أسرارها والوقوف على حقيقتها، وإن العمل الذي يقصد به النفع هو بذاته ما يصح أن تقصد به الشهرة وحب الذكر، ألا ترى إلى المحسن كيف يتهمه أعداؤه وحساده بأنه لم يحسن ابتغاء وجه الله ولكن سعيًا وراء المحمدة، ويقول أنصاره وعاضدوه: إنما أتاه لحب الخير المحض، كذلك السياسي وصاحب الصحيفة فقد يناضل عن مبدأ يعتقده صوابًا، أو يرد على رأي مخالف، فيقول قوم: ما أصدق وطنيته! ويقول آخرون: إنه مأجور، ولم يخل عمل من الأعمال من العاضدين والمعترضين، ومذهبي أن العمل ما دام نافعًا فسيان أن يعتبره قوم للمنفعة وحدها أو للشهرة، فإن فائدة حاصلة على أي حال، وقد تكون الشهرة وحسن الصيت جزاء وفاقًا لصالح الأعمال، تأتي عفوًا بغير قصد صاحبها فما حيلته؟ أيردها وقد لا تدفع، أم يترك عمله كي يبرهن لأعدائه أنه صادق، وأنه لم يقصد إلا الفائدة خالصة لوجه الله؟ أما الأفكار والكتابات أو الأعمال التي تظهر للملأ فيجب على من لا توافقه أن ينتقدها، وليس أحب للمنصف من أن ينتقده الناس بالحق فيصلح من خطئه ويقوم من معوجه، وإذ قد بينت أن الآراء تختلف بحسب الأشخاص والعقول، فما على المنتقد إلا تخطئة ما يرى فساده، على أن يقرع الدليل بالدليل والحجة بالحجة، حتى يقتنع صاحبه ويفحم، فلا يجد مناصًا من الرجوع إلى الصواب، ويرى الناس صدق الأدلة أو كذبها، فيكونون حجة له أو عليه، أما من ينتقد بغير الدليل أو يشوب كلامه بالتهكم والسب القبيح فيخرج من عداوته بكلامه أن يضرب به عرض الأفق فهو هراء، وإذا كان الله — وهو يعلم صدق دينه وفي قدرته أن يجبر البشر على أن يدينوا بما ينزله لهم — لم يرضَ أن يذكر مسألة القرآن إلا وهو مبين أدلة نفعها وأوجه ضررها، وضارب لها الأمثال كي يقتنع من له عقل بصلاحها أو فسادها، إذا كان الله وهو القادر المتعالي يفعل ذلك؛ فهلا نفعله نحن عبيده الضعفاء؟!
ومن أدب الكتابة أن لا يخلط الكاتب الشخصيات بالعموميات؛ إذ ما علاقة انتقاد مبدأ مثلًا بأم المنتقد أو زوجه أو فقره وغناه؟! وأين الشجاعة والشهامة في كيد الخصم من هذا الهذيان؟! لعلهم جعلوا مكان الأسنة الطوال ألسنة طوالًا وبدل خضاب الدماء صبغة من قلة الحياء.
كل ذي رأي يجب قدر رأيه واحترامه وتمحيصه، حتى إذا ظهر فساده يحاج بالدليل إلى أن يقتنع، ومن البلاهة أن يتشبث كل بفكرته وحدها، ويزعم أنه علمها ومفردها، فيأبى قبول البرهان ويغمض عينيه على القذى.
الصياح والتحامل لا يجديان بل قد يزيدان المتشبث عنادًا، واختلاف المبادئ والآراء لا يحمل على العداوة إلا من لا يفقهون، ثم إن العداوة لا تستلزم الهجر وفحش القول إلا من القوم السافلين، ومن لي بصلاح الدين الأيوبي يلقي على كل عدو درسًا مما أتاه مع خصمه ريتشارد قلب الأسد ملك الإنكليز؟! ومن لي بمن يعلِّم الجهلةَ ما ورد في القرآن والإنجيل والتواريخ من مقابلة الأنبياء أعداءهم بالصبر والصدر الرحب؟!
ومما يجمل ذكره من آداب الانتقاد أن لا ينتقد الكاتب أمرًا كان قد أتاه هو أو أتى شرًّا منه؛ لأنهم يقولون: من كان بيته زجاجًا فلا يقذف الناس بالحصى.
هذا رأيي في احترام الآداب وآداب الانتقاد، أوجهه للفتيات والسيدات فقد ابتدأنا نعترض ويُعترَض علينا، وإذا كنا ننقد الرجال في كثير من الأمور؛ لأنهم سبقونا في التعلم والبحث، هؤلاء قد بلغ بعض كتابهم من الهوس وسقط المتاع إلى الخبط والخلط، وحشو عام المواضيع بالشخصيات، ومزج الانتقاد بالعداوات والمشاحنات، فأنبه أخواتي من النساء أن يجتنبن الهوة التي وقع فيها بعض إخوانهن، فالباطل أولى أن يُجتنَب والحق أحق أن يُتبَّع، والسلام.
(١٣) لماذا يضيع الرجل تأثيره الحسن في أسرته
يأخذ مني العجب مأخذه كلما دخلت بيت أحد العلماء ورأيت نساءه على جهل مطبق، وتنال مني الدهشة كلما سمعت أن ابنة فلان الغيور غاية في الخلاعة، وأن أخت ذاك المستنير تدعو أترابها لحفلة زار، وأن أطفال ذلك الأستاذ مثقلون بالتمائم، وأكاد أحزن إذا سألت امرأة الصحافي المشهور — وهي تعرف القراءة وتدعي العلم — عن مبدأ زوجها السياسي؛ فتخبرني ببرود أنها لا تقرأ الجرائد، ولا تشتغل بمعرفة المبادئ! يحزنني جهل هؤلاء أكثر مما آسف لجهل عامة النساء.
يعذر الفلاح على عدم تعليم ابنته العلوم؛ لأنه هو ذاته لا يفقهها، وربما لم يسمع إلا بقليل من أسمائها، فضلًا عن احتياجه لفتاته في مساعدته في الحقل ومساعدة أمها في البيت، ويعذر العامل الصغير إذا لم يدخل ابنته المدرسة؛ لأن ما يشتغل به قد لا يكفيه لسد الرمق، فضلًا عن تحمله أجرة تعليم أبنائه، يعذر هذا وأمثالهما جد العذر، ويعذر أيضًا صغار الناس ممن لم يتعلموا إلا القليل، ليمكنهم من نيل وظيفة تكفيهم العيش؛ لأن نفوسهم لم تتشرب روح العلم، ولم يأخذوا به إلا وهم لا يجدون غيره وسيلة للارتزاق، ولكن ما عذر رجالنا المستنيرين المتفقهين في ترك بناتهم تنشئهن الطبيعة، كيف اتفق وتربيهن الأمهات وسط الترهات، وهم إذا كلمك أحدهم أظهر لك واسع خبرته في العلم الذي يتقنه، وفهمت من مجمل حديثه أنه فيلسوف، وأنه ذو أفكار ومبادئ قويمة وأنه يلتهب غيرة على أمته؛ مثل هؤلاء يصدق فيهم المثل العامي (باب النجار مخلع) أو هم كالرجل الذي إذا دهمه أمر ظل كالحديد يتجاذبه مغناطيس الحيرة من كل الجهات، فلا يكاد يرى له مخرجًا من الضيق.
إذا رأيت ابنة شيخ الإسلام لا تقيم الصلاة، وإذا حادثت امرأة الطبيب فوجدتها لا تفرق بين فعل الأدوية الأكيد وبين تأثير الرقى والتعاويذ في شفاء الأمراض، فهمت من حالهما أحد أمرين: إما أن يكون رب الأسرة لم تمتزج روحه بالعلم الذي يشتغل به تمام الامتزاج، فهو لا يشعر به حقيقة وإنما يظهر به ليتذرع إلى كسب معاش أو احترام، وإما أنه صادق في ادعائه، ولكنه لا يختلط كثيرًا بأفراد أسرته، ولا يوضح لهم آراءه ومذهبه، وهذا هو الغالب في رجالنا.
يقضي الواحد منهم نهاره في الديوان أو محل شغله، ويتسلل من العصر إلى (القهوات والبارات) فيقتل الوقت فيما لا ينفع، ولا يعود لمنزله إلا وجفنه مثقل بالكرى، وقد يمضي الأسبوع ولا يرى أولاده إلا يوم بطالة المدرسة، فيشبون لا يدرون شيئًا من أخلاق والدهم، ويقصر هو في مخالطتهم والتحدث معهم، كأنه يأنف أن يضيع وقاره في محادثة الصغار، وبعضهم يظل أمام زوجه صامتًا حتى إذا مل وملت أخذ صحيفة من صحف الأخبار يطالعها، ولكنه لا يفهمها ما بها إن كانت جاهلة، ولا يقرأ ليسمعها إن كانت تفهم القراءة، فكيف تعلم مبادئه وميوله وهو لا يتكلم؟! إنها ليست نبية فينزل عليها الوحي، ولا قدرة لها على كشف حجب الغيب، وكيف يبلغ أولاده التربية الكاملة التي بلغها هو ومن يرشدهم في الحوادث اليومية إلى مكارم الأخلاق ويخلص لهم النصيحة؟ إن المدرسة وحدها لا تفي لأن تكيف ملكة الشخص، والأم لا تجد من وقتها فراغًا لتجالس أولادها وتثبت فيهم أخلاقها، هذا إذا كانت مهذبة عاقلة لها أخلاق فاضلة أما غيرها فعليها العفاء.
وإن الصبي لاعتناء والده به، ولكثرة اختلاطه بأخدانه خارج المنزل تفيده التجارب ويعرك الحوادث فيعرفها، أما الفتاة فحظها قليل من التربية النفسية، وهي ملاك الأخلاق، ولا عبرة بما يعلمه الإنسان من العلوم إذا لم يكن ذا إرادة قوية؛ معتمدًا على نفسه في كل أموره، ثابتًا حازمًا لا يابسًا ولا طريًّا، وفي اعتقادي أن الأب الرحيم العالم باجتماعه مع أولاده وبناته يعوض عليهم كثيرًا مما لم يدركوه بالتجربة.
لا أحب الأب يتكبر على أهله وأولاده؛ فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة، وهو لا يعلم بما يشعرون. إن الهيبة واجبة في حد الاعتدال، ولكنها إذا زادت تعدت على الخوف فيفقد الوالد الرحمة على أولاده، ويفقدون هم كثيرًا من المحبة والثقة بوالدهم، وتجد أغلب الأطفال يحبون والدتهم أكثر من آبائهم لهذا السبب عينه، وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربي فيه الجبن والذل، ثم الاستبداد متى كبر وأولاد البخلاء أكثر الناس تبذيرًا متى كبروا. زرت مرة سيدة ممن ابتلين بمثل هذا الزوج القاسي، وكنا نتكلم وأولادها الصغار يلعبون قريبًا منا وبناتها الشابات يضحكن، وإذا بهن سكتن فجأة، وارتبكت أمهن وغارت أعينهن، وعلاهن الاصفرار وقامت إحداهن تهرول إلى الصغار لتسكتهم، والثانية تتسمع على السلم، والأخرى ترى ماذا يمكنها ترتيبه في حجرة والدها، فعجبت من هذه الحركة الفجائية، وسألت عن الباعث لها، فأخبرتني السيدة والحزن باد عليها وتكاد لا تنطق إلا همسًا «إن البك ربما يكون قد حضر»، فقلت في نفسي: إذا كان كل هذا الاضطراب وفي حضوره شك، فماذا يفعل هؤلاء النسوة إذا قيل لهن: «إنه قد والله حضر»؟! وأخذ البنات يشرحن لي أنهن لا يتكلمن أمام والدهن، وأنهن يجتهدن دائمًا في البعد عن طريقه؛ لأنه غضوب وأنه لا يسمح لهن بزيارة قريبة ولا صديقة، وأنه إذا أخطأت إحداهن في خدمته أو تأخرت قليلًا (وشدة الوجل تبعث على الخطأ والتأخير) كدرها وأهانها، وإذا تناول الطعام تظل أمهن وثلاثتهن واقفات كالإماء إلى أن يفرغ منه، فعجبت لذلك وأسفت على تأصل روح الاستبداد في بعض رجالنا إلى هذا الحد المعيب حتى وهم في منازلهم بين أهلهم وفلذات أكبادهم.
هذا مثل الأب القاسي الذي إذا اختلط بأسرته ليعلمها لم يستفد أفرادها من تعليمه؛ لأن شدة الخوف تذهب بالفكر، سألت عن هذا الرجل ومعاملته في الخارج فأكد لي أخي أنه غاية في اللطف والتواضع، وأنه يحب المزاح أحيانًا، فاستغفرت الله له. أيتفضل على الغرباء بالمؤانسة والمزاح أيضًا ويضن بابتسامة على أولاده وأهله؟! ولكن لله في خلقه شؤون.
ألا فليعلم الآباء والأزواج أن السلطة التي يطلبونها في منازلهم يكفي منها أن يقلدهم أبناؤهم، وتتشبه بهم فيها زوجاتهم وبناتهم، ويخشينهم على البعد والقرب. وإن الأسرة الواحدة يجب أن تكون تامة الامتزاج، مرتبطة بالحب الصحيح، فلماذا يضيعون ذلك الحب الطبيعي بقسوتهم وجفائهم؟! ولماذا لا يبثون روحهم فيمن حواليهم من بنات وأخوات؟! ولماذا لا يجعلون لهم تأثيرًا حسنًا في أسرهم؟! وكما يتوارث الأولاد اللون والخلقة عن والديهم يجب أن يتوارثوا عنهم أيضًا أخلاقهم الحسنة ومميزاتهم، وبودي لو يجتهد كل شاعر في أن يجعل أبناءه ذكورًا وإناثًا شعراء، وكل رياضي أن يعلم أسرته الرياضة، وكل سياسي أن يجعل زوجته وذويه يتباهون بمبدئه حتى يتم الامتزاج المطلوب، وتظهر فينا روح الحياة الطبيعية، والسلام.
(١٤) الكلفة بين الزوجين
بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالًا من غير تعقيد ولا إبهام، فالسماء معقودة على الأفق في مصر، وهي كذلك معقودة على الأفق في اليابان وفي جرينلاند، لم يضع الله لها عمد المرمر في إيطاليا، ولا قوائم العاج في السودان، ولم يقرها على حوائط البلور في النمسا، تنيرها الشمس نهارًا (إلا في القطبين) والقمر ليلًا، وقد نثرت فيها النجوم نثرًا، إلا قليلها فهو منظوم، ولم يشأ الله — وهو قادر — أن يجعلها في شكل عقود وتيجان، أو يرسمها دوائر ومثلثات مرصوصة رص البلاط الملون، وهي مع ذلك يأخذ جمالها بلب المتأمل المتفكر، والأرض بسيطة أيضًا لا تحول لنظامها؛ فالصخر يفتته توالي الريح والمطر فيصير رملًا، والرمل تسقيه الريح ويعجنه المطر فيكون صخرًا، والبذر ينبت إذا لقي ريًّا وأرضًا صالحة، وما أبسط سوق النبات تظل قائمة ولكنها تميل مع الريح، ويثقل عليها ثمرها فيتدلى، أو يسقط إلى الأرض.
زعموا أن ملكًا من ملوك الصين أمر أن يعرض أصحاب الحرف والملكات مخترعاتهم ومجهوداتهم على باب قصره ليكافئ المجيد منهم، وبينا هو ذات يوم يفحص تلك المعروضات استوقف نظره جمال لوحة مصورة، فأمر أن يمثل صاحبها بين يديه ليكافئه على مهارته في النقش، فلما أن حضر الرجل عرض الملك اللوحة على جمع من أهل النظر ليحكموا فيها، فاستحسنوها كلهم وأشاروا بإجازة المصور، إلا رجلًا حاذقًا قال: إن بالصورة عيبًا وتكلفًا لا ينطق على الطبيعة، فسئل عنه فقال: صور الرجل عصفورًا على إحدى سنابل القمح المرسومة في اللوحة، ولكنه رسم السنبلة قائمة مع أنها ضئيلة، ولو اعتلاها عصفور لمالت كل الميل، فرأى الملك صدق رأيه وأخرج المصور بخفي حنين، هذا مثل ضربته لقبح التكلف وحلاوة البساطة، ولكننا — مع الأسف — نسمع الزوجة عندنا تقول لزوجها: يا سيدي، أو يا أفندي، وهو يناديها بقوله: «يا هانم»، كأنهما غريبان بعضهما عن بعض، وما اثنان أحق بزوال الكلفة بينهما من الزوجين، المطلع أحدهما على سر الآخر، المشرف على نفس صاحبه، ولو اقتصر الأمر على النداء لقلنا: بعض الشر أهون من بعض، ولكنك ترى الرجل يرائي في حديثه مع امرأته ويطريها بمحاسن ليست بها، فما أكذبه وما أكذبها! إذ تغش نفسها وإذ تتكلف له في كل شيء حتى لون وجهها فتصبغه وتغيره، وعذرها أنها لو وثقت من رضاه عنها، وهي في صورتها الفطرية لما ظهرت له متكلفة.
أعرف نساء وأسمع عن أخريات، تظل إحداهن واجمة أمام بعلها تخطئها الكلمة إذا نطقت، وتتعثر إذا مشت، وتكسو وجهها الصفرة إذا سمعت صوته، «وتعروها لذكره رعدة» فيا سبحان الله! أي سعادة في تلك العيشة النكدة، عيشة الخوف والوجل؟! إن الزوجة مهما كان الرجل مهيبًا شجاعًا ليست موضعًا لإظهار بسالته وقدرته على سحق البشر! ويقول العامة في أمثالهم: «السبع لا يأكل أنثاه.» وهو مثل من الحكمة بمكان، وحبذا لو اقتدى به ساداتنا المتجبرون، وحسبهم شرفًا أن يقال إنهم كالليوث، وإلا يصدق فيهم قول الشاعر: «أسد عليَّ وفي الحروب نعامة.» فعندهم مواطن عدة لإظهار شجاعتهم، فليتشجعوا لها وليتركونا.
تعجبني طريقة العرب والفلاحين والفرنجة في معاملة أزواجهم، ينادي الرجل زوجته باسمها وتناديه باسمه، تشاركه في الراحة والتعب وتقاسمه الطعام والشراب، إذا غضب عليها أظهرت له في مظهر الشمم والإباء، فإن حاسنها حاسنته، وإن التوى لم تقصر هي في كيل الصاع بالصاع.
أما طبقتنا نحن نساء الحضر في مصر فلا يمثلها في العالم طبقة جمعت بين الأضداد، فبينما نحتكم في الرجل من شأن حلينا وحللنا، حتى نجعل نهاره ليلًا أو يذعن لمطالبنا، ترانا نكسر شرة النفس ونحملها من الكلفة وضيمها فوق ما تحتمل، فكم من امرأة تقبل إهانة زوجها لها صاغرة، وكم من أخرى تلدغها أصابعه لدغ الأفعى فتجعل من دمعها المدرار ترياقًا لها، ثم لا تلبث أن تستغفره كأنها هي المذنبة، على حد قول الشاعر:
إنها لو ظهرت له أنها مساوية لما استرضته مخطئًا، ولكن هل ظواهر الإنسان دائمًا بواطنه؟! إنك تحترم الأمير، ولكن لا تعتقد أنه أشرف منك مجدًا، ولا أعرق منك في الإنسانية، وتظهر هذه النزعة في كلامك عنه، خصوصًا إذا استفزتك إهانة منه فأثارت نفسك عليه.
فالزوجة بتحملها أذى زوجها لا تعتقد أنها أذل منه، ولكنها تخضع صاغرة لاحتياجها إلى إنفاقه عليها، أو تفاديًا من أن يقال: طلقت وبانت، أو حبًّا لأولادها، وخوفًا عليهم من أن يذلهم بعدها، وهذا الخضوع — وإن كان يعلمها مزية الصبر الجميل — تكلف منها وتصنع، فالحاجة والحياء يغطيان جراحها ظاهرًا فتظهر كأنها اندملت، ولكنها تنغر نغرًا صديدًا وصدودًا.
الكلفة رياء، والرياء سرطان يسطو على النفوس فيصدعها ويصرعها، والزوج القاسي أو المتكبر يفسد أخلاق زوجته بتكبره ويعلمها الصغار والكذب، ومن كانت هذه حالها كيف ينتظر أن تربي أولادها على الفضائل؟! كيف تقول لابنها: لا تكذب، وهي تكذب؟!
أظن أصل تأليه البعول سرى إلينا من ذلك الزمن الذي كانت فيه الجواري حظيات! ولكن إذا جاز أن تقول الجارية لسيدها المالك لها، الباني بها: يا سيدي، فكيف يجوز لحرة أن تدخل نفسها في الرق مختارة والرق أسر فضلًا عن أنه غير مباح الآن؟!
وهناك أخرى تقول لزوجها: حضرتك وسعادتك، فما هذا التكلف البارد؟!
إننا بتسميتنا فلانًا بصاحب العزة، وتلقيبنا أحد الملوك بصاحب الجلالة لنكفر ونلحد، فما صاحب العزة وذو الجلالة إلا الله الواحد القهار، ولو أنصف كتابنا لحذفوا تلك الألفاظ الدالة على الشرك من كتاباتهم وأقوالهم.
الزوجان بعقدهما عقد الزواج تعاهدا أمام الله أن يرتبطا بعضهما ببعض، فكيف يقف الإنسان حياته على من لا يوافق مشربه أو يتعالى عليه؟
سمعت أن المرأة اليابانية تسجد لزوجها وعجبت من ذلك، وهي قد أخذت من التمدن الغربي حظًّا وافرًا، ولكنها مشركة بالله فلا غرو إذن أن صدق ما سمعته عنها في هذا الشأن، فعلى رجالنا المستكبرين، الذين ستغضبهم مقالتي هذه أن يخطبوا منهن، فإننا مسلمات مؤمنات لا نشرك مع الله أحدًا، أو أولى لهم إذا قبلوا أن يتحملوا مسئولية المحاكمة أن يختطفوا الجواري من جبال القوقاز، أو من مجاهل أفريقيا، ويدربوهن على عبادتهم من الصغر ولكن بأي لغة!
لعل مصلحة منع الرق لا تعتبرني محرضة على العبث بقوانينها فتحاكمني قبلهم معتبرة الدال على الخير كفاعله.
(١٥) زواج الأختين
وصلني في بريد الخيال كتاب ذو بال أثار من النفس أشجانها، واعترض سرورها بأحزانها، وجعلها بين اليأس من الإصلاح والرجاء فيه، فتارة أنا متسنمة ذروة الأمل، وطورًا أراني في حضيض القنوط، ومعاذ الله أن أستسلم لليأس، وهو سم القلوب ومعول الحياة! ومعاذ الله أن تسترجعني الصعوبات عن عهد أخذته على نفسي بيني وبين الله أن أصلح ما أستطيعه من فساد! وما كان لمثلي أن تنكث المواثيق أو تغدر بالوعد مهما كانت وعورة الطريق، وهذا هو الكتاب.
مصر في ٣ شوال سنة ١٣٢٧ هجرية
عزيزتي ملك:
شوق وسلام وبعد، فإني أهنئك بالعيد السعيد كما يقولون، وإن كنت لم أشعر به ولا حفلت له.
أما ماضيَّ فقد كان غير سعيد، اكتنفته الأحزان وأخذت عليه طريقه تقلبات الزمان ومستقبلي لا أراه، أشد حلكة وأبعث على اليأس منه على الرجاء، فقد تولتني مصيبة دهماء ليس لها سلوان، واحدة لكنها متعددة إذا تعزيت بأولادي ألح على فراقهم لي على الرغم مني ومنهم، وإذا أنساني عزاء الصديقات بعض الأسى على بعدهم، ذكرني غدر شقيقتي خيانة بعلي، ولولا الإيمان والثقة برحمة الله لفضلت الانتحار على حياة سئمت تكاليفها، ولكني لم أعش ثمانين حولًا كزهير عندما سئم، بل عمري لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
عزيزتي، لقد أفرغ الدهر جعبة سهامه عليَّ فأصاب مني مقاتل شتى، طالما سمعتك ونحن نلعب تقولين لشقيقتي: إنها غليظة القلب جافية الشعور، ولا أكتمك أن قولك هذا كان يؤلمني، وقد عاتبتك عليه مرارًا إلى حد التعنيف، ولكن ستأخذ منك الدهشة الآن إذا جاريتك على رأيك فيها، بل زدت عليه أن فؤادها قُدَّ من الجلمود.
أتدرين ماذا فعلت؟ إنها كانت تكثر من زيارتي فأنشرح لها؛ إذ كان يلذني شعوري بحبها الأخوي؛ لأننا كما تعلمين فقدنا الأبوين منذ نعومة الأظفار، فكنت أستعيض بها عنهما، وكانت تجالس بعلي وتخاطبه وليس عندي شك في إخلاصها لي وأمانتها نحوه، ثم تحولت المحادثة البسيطة إلى مضاحكة ومغازلة، فحملتها على أنهما كأخوين مرفوع بينهما التكلف، ثم زاد الشغف فكان يأخذها للفسحة معه خارج البيت ويتركني به، وهكذا تدرجا في الحب كما قيل:
ولم يداخلني ريب البتة في حسن نيتهما نحوي، وأخيرًا لم أدر إلا وقد فاتحني يومًا بأنه يريد التزوج من أختي؛ لأنه كلف بها وهي كلفت به، وإذ كان الدين الإسلامي لا يسوغ الجمع بين الأختين فقد تحتم طلاقي منه وحم القضاء، وقد تركت له منزله فأقام فيه عرسًا بهجًا، واقترن بشقيقتي بنت أمي وأبي، وأخذ مني أفلاذ كبدي، وتركني أندب حظي وأندب اجتماعي بأولادي، بل أندب الوفاء وأندب الإنسانية، أما والله لو كان تزوج غير أختي لهان الخطب، ولما أسفت على عيشة نكدة … قضيتها معه؛ تحملت سوء معاملته بالصبر الجميل، وعذرته في سكره وعربدته، فكنت أصفح ويسيء، كما قال معن بن أوس:
إني لأشك في أني وأختي رضعنا ثديًا واحدًا أو حملتنا أم واحدة.
لم يكف أختي — سامحها الله — ما فعلت، بل إني ذهبت بعد شهرين من زواجها لأرى أطفالي، الذين حرمني الدهر منهم على غير جريرة ارتكبت، فامتنعت عن أن تسلم عليَّ، وتركت الطبقة (الدور) التي كنت بها إلى الطبقة العليا، وأرسلت لي خادمتها تأمرني بالانصراف حالًا عن منزلها خيفة أن أكون استصحبت لها سحرًا يقلل من محبة زوجها لها خرافة والله، وما كان ليهمني زوجها وحبهما بعد أن حصل منهما ما قد حصل، على أني لا أعتقد في السحر إلا كاعتقادي في وجود العنقاء.
وأنا الآن في بيت خالي وقد طالما نصح لأختي هو وجدتي، نصحًا لها أن ترجع عن غيها وتنسى زوجي والرجال كثير، وهدداها بأن يبرءا من نسبتها إليهما فلم تحفل بما بذلاه لديها من النصح والتهديد، وصُمَّت إلا عن هواها وأنانيتها.
إن هذه الحادثة عزيزتي جعلتني أمقت ذكر الزواج والرجال، وأعتقد أنه لا يزال بهم جزء وافر من البهيمية، وإن كانوا يدعون أنهم أرقى منا عقلًا وأصفى جوهرًا، نعم إن أختي عليها بعض الجرم، ولكن من أغواها وأضلها؟ أليس هو الرجل؟
هذه حكايتي قصصتها عليك، ولي في إخلاصك ما يخفف بعض لوعتي، والسلام.
كلمتي
تقع أمثال هذه الحادثة كثيرًا فيتفطر لها قلب الإنسانية، ولا أدري هل عند حضرات العلماء والمجتهدين فتوى تحرم الزواج في مثل هذه الحادثة.
نعم؛ إن الشرع نص على أنه لا يجوز الجمع بين أختين في آن واحد، ولكن ألم يضع الدين كل ما يكفل راحة البشر وسعادتهم؟ وإن في طلاق أخت لأجل زواج أختها من نفس بعل الأولى لشقاء لا يعادله شقاء، وقطيعة بين ذوي القربى، أو عصيانًا لأمر الله تعالى، فإنه نص على البر بهم نصًّا صريحًا لا يحتاج لتأويل.
من الملوم في مثل هذه الواقعة؟ لا ريب أن اللوم لا يتخطى كلا الزوجين الجديدين، ولكني أعتقد أن المرأة أضبط للنفس من الرجل متى أرادت، وليس ذلك بالفطرة ولكن بفضل المبادئ والتقاليد، فلو كانت أخت سعاد أرجعت بعل أختها عنها لارتجع، أو لو ابتعدت عن طريقه لامتنع عن التمادي في الغواية، ولكنها كانت ميالة للغدر بأختها، فلا رعاها الله ولا رعى كل امرأة لا تقوى على ضبط نفسها وامتلاكها.
(١٦) المدن والقرى
قل: ما أنقى الهواء وأعذب الماء وأصفى السماء في القرى! وما أكذب الحياة وأقرب الوفاة في المدن! القرى جميلة لأنها على الفطرة، أما المدن فلا تعدم أثرًا للتكلف والرياء.
أين دوي الكهرباء من خرير الماء، والدخان المتعاقد فوق المداخن من جو لا ترى فيه إلا تحليق الصقور وإلا رؤوس النخل الباسقات؟! وأين وحل الشوارع وعثيرها من أرض كسيت ببساط النبات؟! وأين الرائحة المنبعثة من مقاذير المنازل، وروث الدواب من شذى أزهار الحقول؟! بل ما أوصل البصر يريد الجولان فيرده من هنا جدار ومن هناك سور من نظر تسرحه حيث شئت فلا تجد إلا اللا نهاية للفضاء؟! وأين كثرة التلفت والحذر من رسل عزريل (السيارات والمركبات) من اطمئنانك وسيرك على صراط سوي لا يقتفي أثرك إلا ظلك، وهو على ما تعلم من التبعية والولاء؟! وبالاختصار قل: إن جملة المدن فيها إجهاد للحواس وتشويش للفكر، وإن القرى فيها هدوء الكون والجسم والبال.
في القرى تجود الصحة لنقاوة الهواء وحسن الغذاء واتباع سنن الطبيعة في النوم والراحة والاستيقاظ، أما في المدينة فغذاء مغشوش وماء آسن لا يكاد يصل إلى المنازل إلا بعد مروره ببطن الأرض فيتلوث بما فيها من المستنقعات والرواكد والأقذار، وجو مكتظ بأنفاس السكان من أقوياء وأعلاء، ومساكن اشتركت في عمرها الرطوبة فضلًا عما بها من الضيق، وساكنها من حين لآخر ينتظر زائرًا أو يزور صاحبًا، أو يخرج ليرى منظرًا أو يلتقط خبرًا، فيضيع وقته سدى في أحاديث منمقة كاذبة، تراه يقول لزائره: «أوحشتنا وآنستنا» وقد يؤثر زيارة الحمى على زيارته.
المدن باعثة على الفساد، من كان عنده ميل إليه، أو كان ضعيف الإرادة يجره أولو السوء إلى مساوئهم كما يجر الجزار الشاة، ويجذبه زخرف المدينة الباطل فلا يقوى على رد هجمته، لا تصلح المدن لتربية الأطفال على قواعد الصحة والاستقلال، وكذلك لا توافق المرأة كثيرًا. والمتصفح لكتاب (التربية الاستقلالية، أو إميل القرن التاسع عشر) لا يسعه إلا التأمين على ما قاله مؤلفه من وجوب تربية الأطفال في القرى، وقد ضرب لذلك مثلًا أن الطفل في المدينة تجتهد أمه في تزويقه وتحسين بزته ليفتن كل من رآه، فإذا مشى يريد الفسحة حمله هذا وقبله وأطراه ذاك، وإذا أراد اللعب أو تتبع حشرة أو جرى تنشيطًا لرجليه، منعته مربيته لئلا يلوث ثيابه الجميلة، فينشأ الطفل ضعيف الجسم؛ لأنه لم تترك له الحرية ليستعمل حواسه وأعضاءه كيف شاء، ولا غرو فإن استعمال الشيء يقويه ويصلحه ويشب ضعيف الإدارة مغلوبًا على أمره؛ لأنه يجبر على الخضوع لمربيته خضوعًا مزريًا، حتى إنه ليستشيرها فيما يقول أو يفعل، ويشب كذلك مغرورًا بنفسه لتعوده سماع الثناء عليه والإطراء، ثم يظل جاهلًا لكثير من الأمور؛ لأنه في القرية يستغني عن كثير من «دروس الأشياء» والجغرافية الأولية يتعلمها بنفسه، والعلم المكتسب من النفس والتجارب ثابت بخلاف ما يحشى به الرأس قسرًا فإنه سريع الزوال غير مؤثر. فبدلًا من تلقينه أن الشمس تبزغ من الشرق وتغيب في الغرب، وترديده تلك الألفاظ كالببغاء وقد لا يرى شروقها وغروبها لعلو المساكن الملتصق بعضها ببعض وحجبها الأفق، بدلًا من ذلك يمكنه في القرية أن يلاحظ الشروق والغروب بنفسه لسعة الفضاء حوله.
يضحكني في دروس الأشياء وكتبها أن يقال: الجمل من ذوات الأربع وله سنام، والقط وله عينان وشاربان، والسمكة لها ذيل وحرافيش، فإن ذلك يجب أن يراه الطفل بنفسه، أما ذكره له فأراه حطًّا من كرامته وتضييعًا لوقته، وتعويدًا له أن يتكل على غيره، وعندي أن تركه يلعب ويمرح خير له من تلك الدروس العقيمة، ولكن قد لا ينتبه أطفال المدن لتلك الحيوانات لقلتها عندهم، ولعدم تعودهم البحث وإجالة النظر من تلقاء أنفسهم، وهم لو تربوا في القرى لعلموا كل ما يتعلق بها أو جله، ولأمكنهم معرفة خصائص النباتات، ومتى وبأي وسيلة تنمو، وماذا يصنع بها في أدوار نموها وبعد نضجها، وغير ذلك مما يفيدهم ويسليهم في آن واحد.
ترى الطفل في القرية يستيقظ مع الشمس وينام معها ويأكل متى جاع، فلا ينتظر وليمة يأخذ منها فطيرة قد تفسد معدته، ولا يجبر نفسه على السهر ليحضر الملاعب، وهو في كل أوقاته بعيد عن السكارى والمهوسين وصرعى العجلات (الترام) فتمتلئ نفسه ثقة وإيمانًا واطمئنانًا، ويكون أبعد انفعالًا وحمقًا من مثله في المدينة، ويؤيد قولي هذا أن أعظم النوابغ في مصر وأشرف الرجال مبادئ أصلهم كلهم تقريبًا من أولاد أولئك القرويين الأصحاء البنية والعقول، أثرت فيهم تربيتهم الاستقلالية فنشأوا ذوي عزيمة صادقة وحب غريزي للعمل، أما أولاد (الذوات)، وهم العريقون في سكنى المدن، فلا حاجة لوصفهم، ويكفي القول بأنهم لا يصلحون لشيء ما، ولا ينبغ منهم إلا النزر القليل.
والمرأة ليست أقل سعادة من الطفل في سكنى القرى، بأنها فضلًا عما تجد من جودة الصحة والراحة، تراها تتفرغ لبيتها أكثر وتزاول بعض الأعمال مما يشغل عضلاتها، أو على الأقل يستدعي انتباهها وملاحظتها، فبدلًا من أن تنام وتنتظر بائع الخبز يحضره لها، تراها في القرية تشتغل بتحضيره، أو تلاحظ خدمها عند اشتغالهم بالقمح وتجهيزه، كذلك تجد نفسها في المدينة كسولًا؛ لأنها ببذل بعض الدراهم يمكنها استجلاب جميع لوازمها، فلا تخيط والخياطات كثيرات، ولا تلاحظ نظافة البيت وترتيبه، كما تفعل لو كانت في القرية؛ لأن خادمات المدن أرقى بالطبع من الفلاحات في مثل هذه الشؤون؛ فتتكل ربة البيت عليهن ولكنهن لا يقمن بما عهد إليهن تمام القيام، أما سوق التنافس فرائجة جدًّا في المدن لكثرة الاختلاط، وقد يجر تنافس النساء إلى تحميل الرجال فوق طاقتهم ومضايقتهم إذا لم يكونوا في سعة من الغنى.
ماذا تعمل نساء المدن عندنا؟ لا شيء اللهم إلا كنس الشوارع بذيول حبراتهن، وإثارة ترابها وجراثيم الأمراض المنتشرة، ووقتهن ضائع بين استقبال الزائرات وزيارتهن، وبعضهن يحضرن التمثيل ولكنهن مع الأسف لا يخرجن منه بفائدة ما، ولا يتعلمن من مزاياه والتاريخ المنطوي تحته والمعاني السامية التي يحتويها إلا ألفاظ العشق والتهتك ووسائل الهرب والفجور، مثل هؤلاء تفسدهن المدن وتدعوهن للتبذير والابتذال.
قارن بين المرأتين المدنية والقروية تجد فرقًا هائلًا في الصحة والأخلاق؛ فبينا تنشأ الأولى خمولًا عليلة تجد الثانية مفتولة الذراعين طاهرة السيرة والسريرة، تمشي الأولى في الطريق محتجبة، ولكنها غير محتجبة عن أعين السفلة وألسنتهم فيغازلونها على قارعة الطريق، وهي تمشي الهوينى متبخترة، أما القروية فإنها تلوح عليها دائمًا ملامح الجد والنشاط، فإذا مشت خارج بيتها تجدها تسرع الخطى لا تلوي على شيء، وهي لا تغطي وجهها، ولكن هل يجسر أحد على «معاكستها»؟
السيدة الفاضلة هي التي ينال غيرها نفعها، لا التي ترفل في الدمقس وفي الحرير، وفي القرى يمكن بث التعاليم المناسبة لأهلها فتستفيد منها كثير من النساء الجاهلات، كتشويقهن للنظافة، وإلقاء بعض النصائح الصحية عليهن، وحثهن على إرسال بعض أولادهن للكتاب، وتعويدهن الاطمئنان لتحوطات الأطباء أيام الأوبئة، وتشجيعهن عند أخذ أولادهن للجندية وغيره كثير، وقد جربت ذلك بنفسي ويسرني أنه ناجح والحمد لله، إلا أن هذه القلوب الطيبة والنفوس المطمئنة لتجعل الملتفات حولها تشعر كأنها ملكة في مملكة صغيرة ويلذها أن تنفعها وترقيها، فليتدبر ذلك نساؤنا اللاتي يكرهن زيارة القرى لا لذنب إلا لأنها بلد الفلاحين.
(١٧) جمال السيدات
البشاشة مفتاح ما أغلق من السعادة، ومعوان على قضاء الأشغال، يصل نورها إلى قلب صاحبها فيفعمه غبطة، كذلك يُلقي شعاعه الكهربائي على من حوله فتنتعش به أرواحهم وهي جميلة في الكهل، كما تجمل في الطفل، إلا أنها أبهى وأشد تأثيرًا في المرأة تلك التي تسيطر على القلوب ولا تدري.
خلقت المرأة لطيفة بالفطرة، والبشاشة من لوازم اللطف، كما هي من المؤثرات في الجمال، وإن لين صوتها ونعومة أديمها وتناسب أعضائها لتستدعي مراعاة النظير في رشاقة حركاتها وانفراط أسرة وجهها، كذلك صوت المرأة يدل على تربيتها، فالمرأة المهذبة لا ترفع الصوت ولا تكاد تسمعها عن بعد إلا كالهمس، هذا إذا لم يبعثها باعث شاذ على إعلائه كأن تقف خطيبة على جمع حافل أو تلقي درسًا في حجرة واسعة، ولكنك إذا اجتزت أحد شوارع البلد الهادئة يذعرك كثرة ما تسمع من صياح النساء في غير طائل إلا شتم الخدم والدعاء على الأطفال أو محض قص القصص أحيانًا، فإذا دخلت المنزل تجد صاحبته مقطبة الجبين، يكاد يطردك عبوسها عن أن تقابلها، ولا توشك أن تجلس حتى تبدي لك سبب صراخها، فتشكو من هذا وتتألم من تلك إلى أن تجعل الدنيا في عينيك كسم الخياط.
يلاحظ نساء الفرنجة ذلك، وكذلك السيدات التركيات، ويستدللن من صوت المرأة على مكانتها في الاجتماع، فالمهذبة تخفضه أما عاليته فيَصِمْنَها بفساد التربية أو ضعة المنبت، ولكننا نحن المصريات قلما نراعي ذلك فقد تجد أعرقنا أصلًا أقوانا نبرة، وأكثرنا حشمة أشدنا صراخًا.
ثم إذا أرادت إحدانا التنقل من حجرة لأخرى تراها تتعثر بأذيالها، أو يصدمها حائط أو تكسر زهرية قريبة منها، وهذا كله نتيجة تربيتها الأولى.
يجب أن تتعلم الفتاة كيف تمشي وكيف تتكلم، لا أريد بذلك أن تتدرب على التبختر أو غنة الصوت، كلا وإنما المراد تربيتها على ملاحظة ما حولها والانتباه له؛ فكثيرات عندنا وكثيرون أيضًا من يمشون غير حذرين فيقعون فيما لا تحمد عقباه، وإن كثرة صرعى (الترام) في مصر وتعدد السقوط من النوافذ لبرهان جلي على فساد التربية سواء كانت في الأطفال أو الكبار، وإن من العمى لمن هم أشد حذرًا في التلمس وأكثر تؤدة في المشي من هؤلاء المبصرين الذين (لا يستعملون أعينهم) كما يقول الإنكليز في اصطلاح لغتهم.
إذا كان الإنسان عاجزًا عن أن يحسن خلقته أو يغيرها تغيرًا ثابتًا، فإنه يستطيع على الأقل أن يحفظها كما هي زمنًا طويلًا وأن يحسن أخلاقه، وهذه الثلاث الخصال؛ أي: البشاشة والخفة وانخفاض الصوت من مجملات المرأة خلقًا وخلُقًا، ومن محسنات الصحة أيضًا؛ فقد ثبت أن تقطيب الوجه يدني إلى الشيخوخة بما يخلفه من الآثار والغضون، فيثني الجلد ثنايات لا انفراط لها فيما بعد، وأظن هذا هو السبب الوحيد فيما يظهر على نسائنا من الكبر قبل الأوان.
أما خفة الحركة فكفى بها ما تستدعيه من نشاط الجسم وتوفير الوقت، تسافر المرأة الإفرنجية الآن أو البدوية وحدها، فتركب القطار أو الجمل وتنزل وسرعان ما تحمل متاعها أو تحضر من يحمله لها بلا ضوضاء، أما المصرية فلا تسافر إلى محطة قريبة إلا ومعها من الخدم والأقارب من تعطلت أعمالهم من أجلها، ثم تجدها لا تكاد تحرك رجلًا لتنزل حتى يتحرك القطار وإذا ساعدها الله (والأولياء) ونزلت! فما أكثر ما تفتقده ولا تجده! ضاعت حقيبة المصوغات وانكسرت القلة فبللت حبرتها، واشتبك برقعها بمفتاح العربة فانقطع خيطه، وإذا لم يسرع حشمها في التقاط أطفالها فقد يقع أحدهم تحت العجلات صريعًا.
أما انخفاض الصوت، ففضلًا عن رقته ولطفه في ذاته، فإنه يريح الرئتين والزور من الإجهاد وكذلك يقع لينًا على آذان السامعين.
المرأة صاحبة البيت في الحقيقة لا الرجل، فإنها بما لها من القيام على ترتيبه وحفظ من فيه وما فيه تسري سلطتها على من يسكنونه معها من زوج وأولاد وخدم، والرئيس له تأثير غريب على مرؤوسيه، يأتي طبيعيًّا إن لم يكن بالتقليد لنيل الزلفى، فإذا دخل معلم على تلاميذه بحالة من الحالات النفسية تجد أن تلك الصورة بعينها قد انطبعت في التلاميذ إن فرحًا وإن غضبًا. والمرأة لها نفس التأثير الغريب في بيتها، فحرام أن تحزن معها رجلًا يتعب ويكد يومه ولا يغشى بيته إلا ليستريح، وأولادًا صغارًا لا يعرفون للهم معنى، وخدمًا تبعث فيهم كلمة طيبة منها روح النشاط وحب العمل، حرام أن تكدر صفو هؤلاء على غير جريرة؛ لأنها تشعر بملل من طول الكسل، أو بضيق صدر بسبب كان ذلك أو بلا سبب.
على أن بعضهن قد يفرطن في التبسم وانخفاض الصوت إلى درجة تخرجهن عن اللائق، فالمرأة الضاحكة بلا سبب والخفيفة إلى حد الطيش والواطئة الصوت إلى حد الهمس كلهن مفرطات فيما يجب، إنما أعني أن تصحب البشاشة الوقار، والخفة الحزم، وهدوء الصوت البيان. هذا هو الجمال الممكن نيله، الممدوح أثره، لا الطلاء والتطرية الكاذبان.
جمال السيدات يضيعه التبغ والخمر
الله أكبر! ما جمال المرأة المعنوي إلا في عفتها ووداعتها، والتبغ مُذْهِبٌ لتلك الوداعة مخل بصفائها؛ صور قدماء الرومان واليونان آلهتهم برموز وتماثيل تدل عليها، وكذلك يصور المعاصرون من الفرنجة كثيرًا من المعاني في أشكال مجسمة تعينها، مثلوا الحنو الوالدي والشفقة والصبر والحب وغيرها في حجارة نحتوها وصور نقشوها، ولعلهم لم يفتهم تصوير الكسل ولو أنصفوا لصوروه امرأة تقضي وقتها بين السيجارة والقهوة، وأظننا لا نجهل مُثلًا حية كثيرة له.
وكما يذهب تعاطي التبغ بالجمال المعنوي، كذلك يسلب الجمال الحسي، يرمي الأسنان بالصفرة ويغير اللثة والشفتين، وأظنه يغير طعم الفم أيضًا، ولو عاش الشعراء الأقدمون إلى هذا الوقت لما رأينا في أشعارهم ذكر اللؤلؤ والبرد ووميض البرق، وغيرها مما كانوا يشبهون به أسنان النساء لشدة بريقها، فإذا كانت المعاصرات — وخصوصًا المتدينات منهن — يزعمن أنهن أرقى من مثيلاتهن الغابرات في كل شيء فقد أخطأن، وإذا كان دارون وأنصاره يدعون اطراد التحسن والارتقاء في التسلسل الذي قالوا به، فقد كان يتحتم عليهم أن يستثنوا جمال النساء؛ لأنه راجع القهقرى، ولو اقتصرن على تعاطي التبغ لهان الأمر، إنهن — والأسف ملء فؤادي — يتعاطين الخمر سرًّا وجهرًا، أعوذ بالله من شر المدنية الحديثة، ومن شر التقليد الأعمى.
الرجل أبشع ما يكون حين يسكر، والمرأة أبشع ما تكون حين تشرب الخمر، وقد سرى هذا الداء العياء بين الطبقات العالية من النساء، بدعوى أنه من كماليات التفرنج، ويقلدهن فيه الباقيات تشبهًا، ويتبجح بعض النساء الآن في الأعراس بطلب الكؤوس والأقداح وزجاجات الخمر؛ إذ يشربن بلا احتشام، ولا يلبثن أن يتمايلن ويهذين كسكان (السراي الصفراء).
حدثتني سيدة ثقة من المتألمات لهذه الحال أنها دعيت إلى عرس أحد (الذوات)، ولما جن الليل قام من بين المخمورات اثنتان فهذتا ما شاء الجنون، وبعدها تشاجرتا وأمسكت كل واحدة منهما بتلابيب الأخرى فمزقتا أثوابهما المزركشة، وكانت النتيجة سخرية وفضيحة، وقد أكدت لي محدثتي أن ثوب إحداهما كلفها أربعين جنيهًا؛ فيا للعار! إنها لبدعة وضلال كبير … ذهب الوقار وانتشر الفجور فبئس التدين وبئس التقليد، ألمثل هاتين المرأتين توكل تربية الأولاد، ومن مثلهما يطلب تدبير الدور؟ إن السكرى لا تعي ما تقول ولا ما تفعل، وقد يجرها الخمر إلى شر أنكى من الهذيان، وإن المتتبع لسير نسائنا ليدهش من كثرة الفساد بين الطبقة العليا منهن وهي تعدي كالجرب غيرها من الطبقات، أين وازع الدين؟ أين زاجر العقل والآداب؟ يا قوم لا تغرنكم زخارف المدنية وربوا بناتكم تربية إسلامية، ولا بأس من اقتباس الحميد من المدنية الأخرى، وإن تدهوركم هذا لآخذ شيء بكم وبالوطن إلى مهاوي الاضمحلال، وأي فساد أكبر من اندماج أمة في أخرى، وتلاشي عاداتها وآدابها في اتباع سنن لا تتفق مع دينها ولا مع مدنيتها؟
إن فساد كثير من النساء راجع إلى بعولتهن، فكثيرات من تعلمن منهم المسكر، وكثيرات من يسكرن معهم في البيت حرصًا عليهم أن يسكروا في الخارج فيرنوا إلى غيرهن، أو تُسلَب نقودهم، ويجعلن لأنفسهن عذرًا أن بعض الشر أهون من بعض، إلا أن المرأة الحكيمة هي التي إن رأت في بعلها خصلة ذميمة أخذته بالحيلة وحسن السياسة والتأثير إلى أن يتركها، لا التي تحاكيه فيها فيتضاعف الفساد، وأجدني مضطرة إلى توجيه بعض اللوم إلى أطبائنا في هذه الحال، فأغلبهم يصفون أدوية فيها مزيج من النبيذ وغيره للسيدات بدعوى أنها تقوي الدم أو تجلب الدفء أو تمنع المغص وغير ذلك. نعم؛ إنهم يصفونها بقصد حسن لأنهم يعرفون من خصائصها ما قد يشفي ما وصفت لأجله، ولكن في إمكانهم أن يستبدلوا بها عقاقير أخرى لها نفس تلك الصفات، ولا يبعد عليهم معرفتها أو التنقيب عنها في كتب الطب القديمة؛ لأن بعض النساء يتوكأن على أن الخمر داء، فيتعاطينه لذاته ويزعمن أنه للشفاء، وقد تترك فيهن الكأس الأولى وهي دواء ما يجعلهن يعدن الكرة في غير ألم.
أما الضرر الصحي من التبغ والخمر فلا يقل عن مثله الاجتماعي، فقد أوضح الأطباء مفعوله وبينوا مقدار (النيكوتين) السام في كل لفافة (سيجارة)، وكيف أنه يضر الصدر والعيون ويفسد الشهية للطعام، أما الخمر فكفى أنها تقطع الكبد وتفسد العقل، وفي تقرير كتبه مدير مستشفى المجاذيب أن أكثر من نصف ضيوفه اللطاف أذهبت عقولهن المغيبات!
إن أثقل وقت تقضيه السيدة التي لا تدخن هو الذي تجتمع فيه بأخريات يدخن، فيرسلن سحب دخانهن فتستعير ويسد عليها الدخان منافسها، ولعل الله بفضله وكرمه يسمعنا عن حريق آخر في مخازن الخمور كما أحرق مخازن التبغ، فتجد المتوسطات والفقيرات من غلاء أسعارهما ما يمنعهن من تعاطيهما، ويكون عزاؤنا الوحيد لأصحاب الخسائر بيت المتنبي:
جمال السيدات والرياضة البدنية
كثيرًا ما يكون ضعف البنية من مشوهات الجمال، وإن لجودة الصحة لدخلًا لا يستهان به في تحسين تقاسيم الوجه وتناسب الأعضاء، ولا تقوم تلك الجودة على حسن الغذاء فقط كما يتوهم أغلب النساء، بل لها أساسات أخرى، أهمها الرياضة وخلو الفكر من الهم، والناظر لحالة نسائنا يدرك لأول وهلة احتياجهن الشديد إلى الرياضة البدنية، فإن فقر الدم المستحوذ على كثيرات منهن، والسمن المفرط المسببين عن طول مدة الجلوس، ليشهدان أن تلك الوجوه المصفرة لم ترها الشمس، وأن تلك الأجسام الضخمة لم تهذبها الحركة، ولو اقتصر الأمر على تشويه الجمال، وما ذلك بالهين على النساء، لما كان الخطب كما هو الآن جللًا، إن طول المكث في محل واحد وعدم تنوع المعيشة عندنا يذهبان بطلاوة الجديد ويجلبان الأمراض المختلفة والسأم، كالماء الراكد إن لم يتغير أسن.
للرياضة أنواع شتى تستعملها النساء الغربيات، ولست أشير على نسائنا باقتباسها بأنواعها فقد لا تلائم مجتمعنا، فمنها الألعاب المختلفة والركض والسباحة وركوب الخيل وأقلها كلفة وأكثرها ملاءمة للشرقيات المشي؛ فهل ترانا نقوم به وهو لا يكلفنا درهمًا، وليس هو مما قد نعده من علائم الطيش الإفرنجي، أو مما يذهب برزانة الشرقيين ووقارهم الطبيعيين؟!
إن عيشتنا كلها جلوس في جلوس، نظل أسرى البيوت الضيقة، ويمنعنا زهونا عن أن نشتغل بشيء فيها، فتجمد عضلاتنا عن الحركة، وإذا طلبنا فكاكًا من هذا الأسر الممل فلا نجد سوى بيوت الجارات نزورها ماشيات خطوات معدودة إن كانت قريبة، وإن بعدت فما أرخص العجلات وأكبرها مما تجره الخيل أو الكهرباء!
يشكو أغلب نسائنا الصداع وضيق الصدر وعسر الهضم وغيرها مما تكفي الرياضة واجتلاء جميل المناظر لإزالته، وما الآلام العصبية و(الزار) إلا نتيجة ذلك الملل وبلادة الأعضاء، فإن المرأة المصرية لا تدري بماذا تُروِّح عن نفسها وتذهب سأمها ولا كيف تنوع معيشتها فتنزع إلى تلك الترهات لجهلها، ولكنها معذورة فيما أرى لأنها مضطرة وقد يركب المضطر حد السيف.
إن آباءنا وأجدادنا كانوا أكثر منا مراعاة لترويض النساء من حيث لا يدرون، فإن المنازل القديمة كانت كلها مبنية على الطراز التركي، تحجبها أسوار عالية وداخلها الرحبات المتسعة والحدائق الغناء مما تمرح فيه نساء البيت ولا رقيب عليهن، وينعمن أنفسهن ببهيج منظر الحدائق وفوارات الماء، فمِن لاذٍّ للسمع وجميل للنظر وحلو للذوق ولطيف للمس وزكي للشم؛ طيور صادحة وغزلان سارحة وفاكهة جنية وزهور شهية وروائح عطرية. خضرة الزمرد وشفافية البلور في النبات والماء، وبهاء الياقوت وأريج المسك في الزهر والهواء، وسواقٍ ناعرة تجلب النوم وتجعله هنيًّا، وبالجملة كان عيش تلك البيوت مريئًا ونساؤها كما قال شوقي بك:
أما اليوم فقد قضى الاقتصاد، أو بالأحرى البخل والتناهي في تقليد الغربيين على أصحاب البيوت أن يضيقوها، وما ضاقت إلا على النساء المظلومات فليس بها إلا الحجر، وتجد السلم مبتدئة من عتبة الدار ووجهة البيت مكشوفة، فلا تستطيع صاحبات البيت التحرك ولا فتح النوافذ أحيانًا، وهذا لعمري آخذ بالخناق، ولعله سبب انتشار كثيرات منا في الطرقات، ماذا يفعل الطير المحبوس في قفص من حديد؟ إنه لا يتأخر لحظة عن الفرار إذا وجد وسيلة له.
إلا أن الشوارع والطرقات بها ما يوقر الآذان من بذاءة المماحكين وانتشارهم كالجراد، وقد يراهم رجال شرطتنا ويسمعونهم يتعدون على الآداب ويضحكون، ولو جاز أن تجعل طرق للنساء خاصة وأخرى للرجال خاصة، لما تأخرنا عن المشي في طريقنا، أما والطريق عامة فليس أمامنا إلا أن نتوسل إلى أولئك الطغام أن يكفوا عن مماحكتهم وتعرضهم لنا، فيكفينا ضيق المساكن عن أن يضيقوا علينا السبيل.
إن المشي والنزهة ليكسبان علمًا وتجربة، فضلًا عما يؤثران به في الصحة وتنقية الدم وما يخلفانه من النشاط في الأعضاء لمساعدتهما الجسم على إخراج فضلاته المحترقة، فكم في الطريق من مثار للرحمة ومن نافع لتعليم الأطفال. وليست الفضيلة دروسًا تلقى على الآذان وتحفظ باللسان، وإنما هي فواعل تؤثر في النفس فتكسبها صدق العزيمة على رد هجمات السوء، وتحبب إليها الحسن من الخصال، وكم في المتنزهات من دروس صامتة لجمال الكون، وتسبيح الخالق والإيمان بما أنزله، وكم فيها من شياطين للشعر والموسيقى النفسية توحي للنفس ما توحي من جمال وحكمة.
إننا في مصر ولكنا لا نعرفها، أرأيت أغرب من مبصر أعمى؟! إن الأهرام على قيد فلتة العيار من القاهرة، ولكن كثيرات منا لم يزرنها، والآثار تخبرنا عنها السائحات الأجنبيات فنبدي جهلًا مزريًا، ونعجب مما يقصص علينا، وتاريخنا مبعثر في الأرض من قديم وحديث ولا من تلم به حيًّا من غير الكتب الجامدة الخالية من الروح، ألم يأن لنا أن نطلب الحرية قليلًا فقد طلبتها أرجلنا التي كاد يصيبها الكسح من طول الجلوس، وأعيننا لم تر من بدائع الكون شيئًا؟! خصصوا لنا متنزهات — إن شئتم — لا يدخلها غير النساء وخليق بالمحافظين والمديرين أن يجيبوا هذا الطلب كل في مديريته، ووفروا قليلًا مما تصرفونه على الزخارف الكاذبة لبناء أو استئجار بيوت فسيحة الأفنية ليتروض فيها نساؤكم وأطفالكم بالمشي ليس إلا، أما نصيحتي للسيدات فهي أن يتركن الزيارات جانبًا وينزهن أنفسهن في الخلوات القريبة مع آبائهن أو بعولتهن؛ ليستفدن صحة وعلمًا وجمالًا.