باب التقاريظ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد والصلاة والسلام على سيدنا محمد فوق العدو على آله وصحبه رجالًا ونساء يتجددان كل يوم صباحًا ومساء.
أما بعد، فإن كان لمذهب دارون وجه من الصحة فليكن في ترقي العقول واستنباط المجهول من المعقول وفي تولد المعلومات بعضها عن البعض، أما في نوع العالم — وهو بنو آدم — فلا نراه مصيبًا؛ إذ الآدمي آدمي أينما كان وشكله شكله في كل زمان ومكان.
أصدق الأدلة على ترقي المعلومات وتوالدها وتنوعها الذهاب إلى ما يقرب من الطوفان والمشي معه إلى هذا الزمان، فقد نرى في زمان نوح شكل الإنسان على ما هو عليه الآن، ولكننا نراه في معلوماته قد تغير تغييرًا تامًّا بحيث يمكننا أن نحكم بانقطاع النسبة، أو تبدل النوع بين معلومات هذا الزمان وزمان الطوفان.
نحن في غناء عن سرد حالة هذا الهيكل الإنساني في معلوماته القديمة والحديثة؛ فما من نفس إلا وقد تتصور الفرق بين العهدين وأن هذا الجديد كخلق جديد.
يمكنني أن أذكر شيئًا سمعته من أسن رجل لقيته في حياتي، وكانت سنه إذ ذاك تتجاوز مائة عام، وسني سبع عشرة على التقريب، قال ما معناه: «إنني وأنا شاب ذهبت إلى إحدى الأسواق الريفية، ثم رجعت منها حائرًا في أمري، فحدثت أبي بما عاينت وقلت: يا أبتاه رأيت اليوم في السوق عجبًا، فاعتدل وسأل: ما هو؟ فقلت: رأيت امرأة في السوق، وما عهدتها قبل هذا النهار إلا قعيدة البيت، فقال له أبوه: يا ولدي لا تعجب؛ فإننا قربنا من آخر الزمان الذي تقول فيه الملاحم وتعلو: «الحجول على الخيول.» فاللهم نجنا، ولا تبلغ بنا في حياتنا إلى ذلك الزمان». ا.ﻫ. هذا الحديث.
فأين المرأة التي حدث عنها محدثي هذا وزمانها لا يتجاوز المائة والعشرين سنة، وقد كان مقرها كسر بيتها تخرج منه إلى قبرها؟! وأين المرأة في هذا الزمان فقد تراها على وشك الإسفار حاملة قمطرها ذاهبة إلى مجتمع فيه كثير من النساء يعددن بالمئات، وفيهن كثير من المتعلمات، فتصعد بينهن على منبر الخطابة، ثم تقول وتعيد ذاكرة حال النساء ولزوم تربيتهن ووجوب تعليمهن مبينة فوائد تعليمها، منددة بالمواضي في جهلهن، حاضة على تسوية النساء بالرجال في الاستفادة من العلوم، فيقابل المجتمعات قولها بالرضى والقبول والإذعان للحجج والبينات التي أقامتها على وجوب تربية البنات.
يظهر أنني أسرعت في الانتقال إلى المقصود من كلماتي هذه، كما أسرع الزمان في تبديل حال النساء في بلادنا من تلك الجهالة العمياء إلى هذه المعرفة العلياء، وإن كانت هذه المعرفة تعد بالنسبة للآتي شيئًا قليلًا أو لا يكاد يذكر في جانب ما هو منتظر الحصول.
بالطبع قد عرف أنني أقصد التنويه بالسيدة الفاضلة الباحثة في البادية (ملك حفني ناصف)، فقد رأيت مجموعتها التي أدرجت في الجريدة منذ زمان، وطالعت معظمها بإمعان، ولم أطالع البقية لقرب عهدي بها منشورة في الجريدة، فإذا فيها من المباحث العلمية والفوائد الاجتماعية ما يعظم نفعه ويكون أساسًا في المستقبل لبناء جديد نضيد يخرج المرأة المصرية إلى عالم المشاركة الحقيقية للرجل في التربية والمعيشة، وبهذا يكون لهذه السيدة فضل المؤسسين.
إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدة في بعض الموضوعات، وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها، فكتبت فيه وهي ممتلئة حنقًا ولو ملكت نفسها لخفضت من حدتها وأتت بالخاص مكان العام، أو بالبعض مكان الكل، وبهذا كانت تسلم من الاعتراض، وتغني نفسها عن تدارك ما وقع في مقال ثانٍ، وليس هذا بالشيء إلا من جهة صناعة الكتابة، والعذر فيه هو ما ذكرناه.
رأيتها في موضوع الحجاب تضرب البحر بعصا موسى ولكنه لم يطعها، بل بقي عريقًا عميقًا، في صفاء مائه ما يغني عن انفلاقه، وستظهر الأيام أن رأيها في الحجاب رأي لم تقدر على تخميره، ولم تملك حرية القول فيه، وإنني لست معها في أمره، وأرى غير ما تراه فيه.
أيتها السيدة الفاضلة لا تبالي بما يتعرضك في طريقك من قول اللائي لم يشمن نور العلم (ما للسيدات وللخطابة، وما لهن للكتابة؟! وإن رضي أبوها، فكيف رضي زوجها؟! وإن رضي زوجها، فكيف رضيت عشيرتهما؟!)، فإن العلم دائمًا محسود أهله، ولن يغلبه الجهل مهما كثر مشايعوه.
أي بنية أخي إني أراك قد نبغت بين قريناتك، واتخذت لك طريقًا لم يسلكه قبلك منهن ولا واحدة؛ فكنت لهن قدوة صالحة؛ فكثر بوجودك بينهن عدد الكاتبات القارئات المتعلمات إلى الدرجة الابتدائية، ثم تدرج منهن بعضهن إلى التعليم الثانوي والعالي، فثابري بلا مبالاة على خطتك هذه، وأصمي أذنيك عن لوم اللائمات، فما هي إلا مائة وعشرون سنة يكون الفرق بين نسائها وبين نساء اليوم ما كان بين نساء اليوم ونساء تلك المائة والعشرين عامًا.
أيتها الفاضلة ناشدتك الله أن تكوني لبنات زمانك هذا قدوة في عملك بما تقررينه في أقوالك وخطاباتك حتى يكون نصحك مقرونًا بالإجابة مصحوبًا بالقبول، وإني لأعلم منك ذلك، ولكن لا بد من أن أنصحك به؛ لأنه إذا ظهر على الناصح عمله أولًا بنصائحه قبله المنصوح ورسخ في نفسه العمل به، وبهذا تكونين قدوة صالحة لأخواتك في الأعمال والأقوال.
أيتها السيدة، إذا كتبت بعد هذا الذي رأيته فأمامك ضرب المثل بالبعض وإياك والحكم على الجميع، فإن في هذا إغراء بالمخالفة، وليس هذا مما يقصده المؤسسون، وبعد هذا فلله أنت! ولله أبوك! ولله بعلك! وفي سبيل الله ما تقاسين من عناء وما تكابدين من محاولة هداية وإرشاد، حقق الله آمالك وأقر عينك بنيل ما تطلبين لأخواتك من الخير العاجل، والسلام.
بنت أخي العزيز حفني بك ناصف
نشرت كتابك دواء لعلة من علل الوطن، ذلك المريض العزيز في وقت اجتمعت حول وساده الأطباء والرقاة، هذا يصيح وهذا يولول وذاك يكتب وذلك يخطب وذياك ينادي بالصمت ويشير بترك العليل للطبيعة، تعمل فيه عملها، إن خيرًا وإن شرًّا.
فنظرت أنت ببصيرتك الوقادة وفكرك الصائب في جسم المريض، وفتشت في مظان العلل، فعثرت على أشدها فعلًا فيه، ودونت مقالاتك في كتاب جمع من الآراء النافعة والأفكار الناجعة ما لو عولج به ذلك المريض لذهب بأصل أمراضه وقرب للأطباء والرقاة يوم شفائه.
أجل يا بنت حفني، إن تربية بنات مصر لهو العلاج الأكبر الذي غاب عن أكثر الباحثين في أسباب انحطاطنا وثقل خطانا في طريق التقدم.
أجل، إن الفتاة إذا أصبحت أمًّا وكانت متعلمة متهذبة آخذة من أسباب التربية بما تشيرين به كانت لولدها في مهده ملكًا حافظًا، فإذا حملته رجلاه سددت خطاه، فإذا انطلق لسانه هذبت كلماته، فإذا سلم لمعلم كانت رقابتها نافعة في حث الصغير على الاستفادة وحمل المعلم على الإفادة.
إذا أمٌّ دامت — والعياذ بالله — على ما نراه من الجهل كانت الحال على عكس ما قدمت، ولو لم يكن في تعليم البنات وتهذيبهن إلا ما ننشده من الوفاق والوئام بين الزوجين وتقليل الطلاق والاكتفاء بزوجة واحدة، تقربًا من العدل الذي أمرنا به كتابنا الحكيم، لكفى كل ذلك مقرظًا لكتابك النفيس وآرائك الصائبة. والخلاصة؛ أن ما جاء في كتابك متعلقًا بتعليم البنات وتأديبهن وتهذيبهن يعد من أجل الخدمات للوطن في زمن تشكلت فيه الوطنية أشكالًا شتى، لا يلائم أحدها حالتنا الحاضرة والظروف التي غيرت وجوه الحكمة بيننا.
إن لرقي مصر أبوابًا عديدة أراك قد فتحت أوسع باب منها، فكانت بك ربات الجمال سابقة أرباب السيف والطيلسان إلى أجل خدمة تؤدى لمصر، ولا أخال شباننا وكهولنا إلا فاتحين الأبواب الأخرى؛ أبواب العلم والعمل والصناعة والتجارة والزراعة، وغيرها من أبواب الخير والسعادة المؤدية إلى استقلال الوطن، والتي يعد كل منها مؤديًا إلى استقلال نوعي تسعد به البلاد إلى أن يأتي يوم الاستقلال الأكبر.
أما من جهة الحجاب، وما أدراك ما الحجاب، شيء يظنه أسرًا واسترقاقًا، ويعتقد البعض أنه سعادة وسيادة، فالذي أراه فيه هو أننا رأينا المرأة متأخرة في حجابها فاستنكرنا تأخرها والحجاب معه، ولو كنا عاقلين لانتظرنا اليوم الذي نراها فيه متعلمة مرباة، فربما حكمنا غدًا بأن الحجاب أنفس حلي المرأة الراقية، بارك الله فيك وفي كتابك، وجعله مرجعًا نافعًا لطلاب رقي نصيف أهل مصر — أعني نساءها — بل كل أهل مصر بفضل تهذيب نسائها ورجالها، آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وبعد ذلك، أنا قلت كلمة في النسائيات التي وضعتها السيدة الجليلة «ملك حفني»، فما أنا بمقتف أثر المقرظين ولا متساهل تساهلهم (على عادتي قبلًا)، فإنني تصفحت هذه العجالات الثمينة واستوعبتها درسًا وبحثًا، فوجدت بين دفتيها من النصائح الأدبية والمسائل الاجتماعية ما لو بنيت عليه تربية البنت في بلادنا لسلمت منازلنا من كثير من ضروب الشقاء، الذي ابتلي به الشرقيون منذ تركوا تعاليم دينهم، وانحرفوا عن الصراط السوي في معاملاتهم، لقد وصفت السيدة الفاضلة أكثر عللنا الاجتماعية ومبلغ آثارها في حياتنا المنزلية وشؤوننا المدنية، فكانت فيما وصفت خير من يعتمد عليه في تعرف شؤوننا، ثم جعلت تصف لكل علة من طرق العلاج ما لو أخذت به النابتة منذ النشوء لصلح حال الأمة في جميع أطوارها ولنبلت مبادئها وغايتها، ولقد رأيتني إزاء كل باب من أبواب هذه المجموعة أقلب بصري في حقائق، بيد أنها كما يقال في المثل: «حقائق مرة» لا يجمل بالمصري الصبر عليها ولا يمكنه التبجح بإنكارها، على أنها قد هونتها العادة على النفوس حتى مرت الأيام تتابع والأجيال تتعاقب دون أن ينتبه لرذائلها وسوءاتها الرجال فضلًا عن النساء إلى أن وفق الله لهذه الأمة سيدة كاتبات هذا العصر، وأستاذة المربيات في مصر، فوضعت هذه العجالات التي ستكون فاتحة تاريخ جديد للتربية الصحيحة القويمة التي أساسها إصلاح المرأة والرجل اللذين عماد كل شيء في الحياة الدنيا.
ولقد كاد قلم قاسم أمين يجلب البلاء على المسلمين والمسلمات بما وضعه من الكتب في موضوع المرأة، لولا أن تنبهت لما يريده النابتة الإسلامية فجعلت تطارد تعاليمه وتحارب إرشاداته، وإذا شئنا أن نضرب مثلًا للمجاهدات والمصالحات، اللاتي تقصين بآياتهن البينة ما أودعه كتبه من النصائح البعيدة عن روح الإسلام، فإننا لا نجد أحسن من تلك السيدة الفاضلة التي بنت نصائحها على الإسلام، وحرصت على تقاليد المسلمين.
على أنني، وإن عجبت بكثير مما جاء في مجموعتها هذه من الآراء السديدة، فإنني لا أحب أن أزايل موقفي هذا دون أن ألاحظ على السيدة الفاضلة هفوة عرضت لها في باب مساوئ الرجال (الازدراء بالمرأة) طالبًا منها بما ورد لها في باب النقد أن تتقبل كلمة لم يملها علي إلا الإخلاص لها والميل إلى المصلحة الأمة، فلقد صورت في ذلك الباب المرأة في نظر الرجل اليوم على نحو ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، وهذا أمر قلما طابق الواقع، وهل كان من حرج على السيدة أن توسع المسألة بحثًا، وأن ترقب اليوم الذي تترجم فيه مقالاتها إلى اللغات الأجنبية، فتنشر أحكامها على هذه الأمة في العالم الأوروبي الذي يجهل معنى الغلو البديعي، وإنه من المحسنات في اللغة العربية؛ حيث يعتقد الأوروبيون — لا سيما نساؤهم — أننا اليوم على ما كانت عليه جاهليتنا منذ أربعة عشر قرنًا، وناهيك بما يحدث هذا القول في العالم المتحضر من الآراء، وما يجلبه علينا بعد ذلك من البلاء.
تقول السيدة الفاضلة في ذلك الفصل: إن الجاهلية ما حُبِّب إليها الذكور وبُغِّض إلى نفوسها البنات، إلا حاجتها إلى الحرب والطعان في سبيل حماية ذمارها، فكان لها من هذا عذر مقبول، وأما هذا الزمن فزمن السياسة والصناعة إلى آخر ما قالت في هذا الباب، وإنني أستمحيها عفوًا أن أصرح هنا بأنني لا أكاد أطابقها على شيء مما جاء لها في هذا الباب من الأحكام، وما التمسته من العلل واستخلصته من النتائج والآراء.
وإنني لعلى يقين أن السيدة الفاضلة لو زادت هذا الباب عناية وبحثًا لما وجد منتقد سبيلًا إلى كلمة يقولها في أكثر موضوعات هذه المجموعة الثمينة، فحسب الأمة المصرية الإسلامية ما دون ذلك من الأبواب الاجتماعية الأدبية التي طرقتها، فإن فيها من الحكم الغالية والنصائح العالية ما هو كفيل لسعادتها، إن شاء الله تعالى.
لست بميال لإطراء بنات الأفكار، إذا تضمنتها بطون الدفاتر والأسفار؛ ذلك لأن الثمرة التي تتولد عن القرائح والأذهان إذا جاء معها لقاح المدارك والأفهام، هي التي تنادي بنفسها على نفسها، وتدعو الرأي العام إلى الحكم عليها أو لها، بل هي التي تقتضي الرواج والإقبال بطبيعة الحال، سواء تبرع بمدحها قطب من أقطاب الآداب، أو تطوع لتقريظها علم من أعلام الكتاب.
كنت — ولا أزال أعتقد — أن التقريظ جناية على العلم الصحيح، وعلى ارتقاء الأمة في معارج العرفان، وها هي كتب المتقدمين خلو بالمرة من هذه البدعة حتى إذا تصوحت زهرة الآداب ظهر التقريظ، فاعتمد حملة الأقلام على مجاملة الأصدقاء والخلان؛ حينئذ تهافت الناس عليه تهافتًا اختلط فيه الحابل بالنابل والغث بالسمين، والتافه بالثمين، هذا التهافت هو الذي أفسد الأذواق، فتبدل النفاق بالنفاق، وكسدت أسواق الأوراق.
إنما يكون التقدم بهجر التقريظ ومقاطعته، وبالتعويل على النقد الحقيقي الذي قرره العلماء في أيام تقدم الإسلاميين، وهو الذي عول عليه جهابذة أوروبا في هذا العصر، وذلك أن يتوخى الكاتب إظهار ما في الكتاب المعروض عليه من الحسنات وآيات البراعة، مع الإشارة إلى ما فيه من العيوب بغير تحامل، ومن الواجب في هذا السبيل التماس المعذرة في بعض الأحايين، والدلالة على طرق التوسع وشفاء الغليل.
لو عاد قومنا إلى منهاج السلف الصالح والصدر الأول، لكان سعيهم محمود المغبة، مشكور العاقبة؛ لا جرم إذن أن تعود المعارف في ربوعنا إلى بهجتها الأولى، ونبني على ما كانت أوائلنا.
تلك الخواطر، لو اشترك فيها النساء مع الرجال، لكانت مقدماتها صحيحة القياس، وهذه المباني لو تعاون الصنفان على إقامتها لكانت وطيدة الأساس.
ولقد شمت اليوم بارقة الأمل، فأمسكت اليراع وأجريته على القرطاس لأشكر الثلاث: صاحبين من خيار الرجال، تعززهما ثالثة يعتز بها كل منهما؛ ولا فخر لأنها فخر الإناث.
أمعنت النظر في السلسلة الأولى من «النسائيات» التي صاغت حلقاتها يد لصاحبتها كما لأبيها، ومن كمال بعلها أياد على الآداب والفضيلة، فلم أعجب من صلاح ذلك الغرس الطيب، وإيناع هذا الثمر الشهي، وقد تعهد تلك البذرة الصالحة المباركة الباسل «حفني» في إبان الصبا، والمنصف «الباسل» في ريعان الفتوة.
فيا رعى الله ذاك القناع، وذياك اليراع! فقد برزت بهما تلك الفتاة في مضمار الحياة، فأثبتت أن في السويداء إناثًا يضارعن الرجال، إذا هن أخذن بالعلم الصحيح والعمل النافع، وتهيأت لهن الأسباب مع التمسك بأذيال الحشمة والكمال.
مرحى مرحى! ﺑ «ملكة» ظهرت في عالم الإنس بين النساء فأكبرها الرجال؛ لأنها أعادت لنا ذلك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميداني الكتابة والخطابة!
لو لم يكن للسيدة «ملكة الباسل» سوى أنها أول من برزت في هذه الأيام بحجابها وآدابها، لإلقاء الخطب على أترابها، لكفاها فخرًا في الأواخر أن اسمها سيخلد في «كتب الأوائل»؛ إذ يقال: إنها من المجتهدات المجددات؛ لأنها أول من أعادت الخطابة إلى فريق من النساء، بعد أن انطمست معالم هذه السنة منذ ست مئين من السنين، سُنَّة أخذها الغرب عن العرب فارتقى، وأهملها الشرق فانزوى وقعد بهن وبنا.
إحياء هذه السنة على يد هذه الفضلى هو الذي حداني إلى كتابة هذين السطرين: لإطراء النساء لا لإطراء «النسائيات»، فهو كتاب ينطق بنفسه لصاحبته، بل هو غني عن التقريظ لرقة عبارته ولطف أسلوبه، ولبسالة صاحبته بنوع أخص.
نسأله تعالى أن يكثر بين ظهرانينا من أمثال أولئك الثلاث؛ فكل منهم فرد في بابه إن شاء الله!
أباحثة البادية شكرانك في البدو والحضر، فقد أراني كتابك علم عائشة بنت الصديق، وأدب سكينة بنت الحسين، وأذكرني عهد الحضارة الإسلامية وقد بدا كوكبها فى أفق المشرق، ذلك العهد المتقادم الذي تسابقت نساؤه ورجاله في المعرفة؛ فكان الفضل للسابق كفضل هاتين السيدتين على غيرهما من نساء ورجال، لعمرك ما كان نبوغهما مقتضبًا اقتضابًا؛ إذ كان من دونهما مراتب للرجال وللنساء، مراتب متفاوتة بحكم الترقي والاستعداد ومستباحة بحق الإسلام؛ فالزمان يومئذ زمان العدل والنصفة، والعلم يومئذ علم اليقين والتهذيب.
(روى البخاري) عن أبي هريرة — رضي الله عنه — أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: نساء قريش خير نساء ركبن الإبل؛ أحناه على طفل وأرعاه على زوج في ذات يده.
لقد بين النبي ﷺ تاريخ المرأة العربية التي كانت تركب البعير في البادية؛ فقال إنها كانت تحنو على طفلها وتحفظ مال زوجها، والحنو الصحيح هو التربية الصحيحة، وحفظ مال الزوج هو الاقتصاد فيه، ولا يكون ذلك إلا بعد العلم بوجوه صرفه ووضع الشيء في موضعه، والحكمة كل الحكمة في تربية الطفل وحفظ المال، فإن في هذين الأمرين عمران الكون وبهجته: المال والبنون؛ زينة الحياة الدنيا.
وقال: إن المرأة القرشية أحنى على طفلها وأحفظ على مال زوجها من العربية الأخرى، فالقرشية أفضل من غيرها لهذه المزية لا لشيء آخر، فالفضل إنما هو بالعلم والعمل.
أثنى النبي ﷺ على نساء العرب بما أحرزن من فضيلة توافق زمانهن، ورفع القرشيات عليهن درجة، كما هو شأن البيوت العالية في كل جيل، فإن أهلها يفوقون غيرهم في كثير من الأمور.
فالنبي ﷺ يأمر أمته أن تجري على هذا السنن: سنن العمران والسعادة.
ففي الحديث إشارة إلى بيان أساس البيت، الذي تتألف منه القرية والبلد والمصر والقطر والمملكة.
وفي الحديث إشارة إلى بيان نصيب المرأة في الحياة الدنيا، وأن قسمتها ليست قسمة صغيرة.
وعلى ذلك درج الناس في القرون الأولى من الإسلام، ثم خلف من بعدهم خلف أنزلوا المرأة من مكانتها وبخسوها حقها، والله يقول: وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
ولما قهروها وضموا حقها إلى حقهم ضعفوا أن يؤدوا الحقين فوقعوا في الحرج، فلما استحكمت حلقات الأزمة أخذوا يفكرون في الخروج من هذا المأزق، فكان كل امرئ منهم يرى رأيًا حتى كثرت الآراء واختلطت الأمور وأظلمت الآفاق وطمست الطرق.
رويدكم أيها الناس فهذا (كتاب النسائيات) يبين لكم الجادة من مكان قريب، ويقول: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم.
أباحثة البادية، قرأت كتابك فأنبأني أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فأخذ الناس يهتدون بهدى الفطرة، وأنساني أسفي على عبث الرجال بنصف الأمة، وأخبرني أن التاريخ يعيد نفسه فتستوي المرأة والرجل رغم أنف الجاهلين.
أباحثة البادية، قرأت كتابك فأنشدت قول ابن هانئ:
أباحثة البادية، قرأت كتابك فألقى في روعي أن أكون مستقل الرأي كما أعرف نفسي، وأذن لي أن أدخل باب الكلام متأدبًا كما تعودت، وألا أتعرض إلا إلى العظيم من الأمور، فإن ائتلف الرأيان فالخير في الائتلاف وكفى الله المؤمنين القتال، وإن اختلفا فهذه عادة الناس فيما هو من عند غير الله، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، وربما كان الاختلاف مبدأ الائتلاف، وعند ذلك لا يشين السبب المسبب (كما لا يشين الكلف البدر).
رأيت في المقالة (١) أن المرأة الحاضرة تفهم معنى الحياة أكثر من الغابرة؛ لأن ذلك مقتضى سنة الله في رقي الزمان.
ولكن المرء إذا زاد علمه عرف وجوهًا كثيرة من النفع، ووجوهًا كثيرة من الضرر، فإذا كان العلم غير صحيح لم تتهذب النفوس، فلا تكون المعاملة بالحسنى وقد يكون الضرر أكثر من النفع؛ فالجهل البسيط خير من الجهل المركب.
ورأيت في المقالة (٢) أنه لا يجوز أن تلبس نساؤنا كلباس الراهبات المسيحيات؛ لأنه — وإن أباحه الدين بضرب من التأويل — يضيع تاريخ نسائنا ويذهب مميزاتهن، وذلك يمنعه الدين بضرب من التأويل، وإذا دار الأمر بين الإباحة والمنع فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة والاحتياط في الأمور أولى، فينبغي أن تبقى النساء على لباسهن لباس الجو والعشيرة، ويقتصدن فيه اقتصادًا لائقًا، وإذا زادت نفقته فالزيادة يسيرة ومثلها يمكن تحمله بلا ضرر.
ورأيت أن خروج نسائنا سافرات مضر عند عدم التهذيب، ومبدأ ضرر عند كمال التهذيب.
ورأيت أن خلاف أئمة الدين في مسألة السفور لا يكون إلا عند أمن الفتنة حالًا ومآلًا، فإن خيفت الفتنة فلا خلاف في أن الواجب عدم السفور.
يزعم الناس أن علم أوروبا كامل ولست أزعم ذلك؛ لأنه لم يمنع الفساد المترتب على السفور والمخالطة فهو في الحقيقة علم ناقص.
ورأيت في المقالة (٣) أن المتعلمين من أهل مصر أكفاء للمتعلمات من أهلها؛ لأن الدرجات متقاربة ولا يضر التفاوت اليسير، والكلام في كفاءة التربية.
ورأيت أن اقتباس الأدب من دار الخلافة ضروري، فيلزم أن يجاء بطائفة من المعلمات للتربية، كما جيء بمعلمين ومعلمات من جهات أوروبا الأخرى، لنأخذ من كل جهة ما نحن في حاجة إليه، وإذا أمكن إرسال طائفة من النشء إلى هناك فلا بأس، ولكن على شريطة أن يكون معها من يقوم بأمرها ويراقب أخلاقها التي تريدها، وذلك لا يذهب بنا إلى عقدة النسب فإني لا أجيز النسب من عنصرين مختلفين يؤخذ على أحدهما شيء إلا عند الحاجة الشديدة؛ فإن العرق دساس.
ورأيت في المقالة (٤) أنه يجوز لبعض المتعلمين أن ينأى عن ناقصة العلم والتربية إلا إذا استطاع أن يقوِّم من أودها بحكمته، وإن كامل التهذيب يستطيع ذلك، فإذا قصر فهو نصف رجل، ومن أراد سعادة قومه وكان ذا عزيمة أمكنه أن يختار جاهلة لا يصعب تعليمها فيتزوجها ثم ينشئها بالتعليم خلقًا جديدًا، فالمدرسة تعلم من ناحية، والرجال في بيوتهم يعلمون من نواحٍ أخرى ما تمس إليه الحاجة، فتكثر المتعلمات في وقت قريب وإن كان بعضهن أكمل تربية من بعض.
ورأيت في المقالة (٦) أنه ينبغي أن يتراءى الرجل والمرأة قبل الزواج في حضرة بعض المحارم، فترى المرأة من الرجل هيكله العادي، ويرى الرجل منها مثل ذلك ووجهها وكفيها ويحادثها وتحادثه حتى ينجلي الأمر فإن ذلك نموذجهما، وكثيرًا ما يكون النموذج صادق المخبر، وإذا جاز للرجل أن يرى وجهها وكفيها بلا داع عند بعض أئمة المسلمين فالأولى أن يرى ذلك عند خطبة الزواج مع الاحترام؛ هذه سنة إسلامية معقولة، وفي العمل بها إنقاذ الأمة من وهدة الشقاء؛ فإن الطلاق قد ينشأ عن قبح الذات كما ينشأ عن قبح الخلق.
وهناك صنف من الناس تدور عصم نسائهم على ألسنتهم، فيحلفون بالطلاق كثيرًا، ويعلقون الطلاق على أمور منها اليسير والخطير، وربما لم يكن لها ارتباط بالمرأة البتة، وكم من نساء ذهبن في سبيل هذه البدعة وأصبحن مطلقات بلا ذنب وبلا علم، وأمسين مسهدات يندبن حظهن، وهن يزعمن فيما يزعمن أن الشريعة تبيح ذلك الطلاق، فيكتمن ما في أنفسهن ويتكلفن الصبر فيما بعد، حاشا لله أن يأذن في ذلك؛ فما كان الله ليبعث بخلقه ويتركهم يجهلون ولا يقفون عند حد محدود.
ذلك الطلاق ضلالة يتبرأ منها الدين، ولم يحصل نظيره في عهد النبوة والخلافة فهو طريقة باطلة وشريعة عاطلة، فيجب على المسلمين ألا يأخذوا به، ويجب على ولي الأمر أن يضع للناس حدًّا في الطلاق كما وضع حدًّا في بيع السلعة الحقيرة عملًا بحديث: «إنما البيع عن تراضٍ.»
ورأيت أنه يجوز أن يكون أحد الزوجين غنيًّا والآخر فقيرًا مع العفة والمعروف.
ورأيت أن الأولى في هذا الزمان أن يتعاون الناس على مقاومة الجهل من جميع النواحي؛ ومن ذلك أن يتزوج العالم جاهلة، وتتزوج العالمة جاهلًا؛ لأن شأن العلم النفوذ، فهو يسري من المرأة إلى الرجل كما يسري من الرجل إلى المرأة.
وربما كانت هذه الطريقة عند المصلحين أولى من كون الزوجين عالمين ابتداء، فإن المتعلمات الآن أقل عددًا من المتعلمين، ولا سبيل إلى تعليم الجاهلات عند الكبر إلا زواجهن من المتعلمين، والعلم فريضة على الأمة كلها فهي متضامنة في ذلك.
ورأيت في المقالة (٧) أنه يجوز أن يجمع الرجل بين زوجين فأكثر عند الحاجة الشديدة وظهور المصلحة في ذلك، والقدرة على إرضائهما أو إرضائهن جهد استطاعته، على شرط أن يكون الجمع أخف من مفسدة تركه، وإن بعض الكبراء في مصر يغش زوجه ويخدعها بعدم زواجه عليها ويريها أنه لها، ثم هو يأتي المنكر من حيث لا تدري وربما رضيت أن يأتي المنكر ما دام ممتعًا من زواج غيرها، الغش ظلم والرضا بالمنكر ظلم، وما هذان إلا من الجهل وعدم المروءة، وذلك ظلم ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
إن الله أباح للرجل زوجًا فأكثر، ولكنه حظر الظلم، فقال: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً. ومشى الناس في صدر الإسلام على ذلك، ثم أصبحوا فوضى في أمر الزواج، فترى الرجل يتزوج المرأة قادرًا على حاجاتها وغير قادر، ويتزوج أكثر من واحدة قادرًا على العدل وغير قادر، فوقع كثير من الأمة في البلاء والعذاب الأليم؛ كل هذا لأن الأمة لم تعمل بوصية الله ورسوله في النساء، ولو كان أمر النساء سهلًا ما قصد إليه النبي ﷺ، في أمهات المسائل التي ذكرها في حجة الوداع ثم مات على ذلك.
إن محمدًا النبي العربي والرسول الأمي كان يحترم المرأة كثيرًا، كان يحترمها أكثر من احترام الإفرنج الآن.
فيا قضاة الإسلام، اعملوا بتلك الوصية واضربوا على أيدي الرجال حتى لا يتزوج الرجل واحدة إلا بإذن القاضي، بعد علمه بالقدرة والمصلحة، ولا يتزوج أكثر من واحدة إلا بإذن القاضي، بعد علمه بالقدرة والمصلحة والعدل.
ما بال الناس ينظرون إلى المسألة من جهة الجواز ولا ينظرون إليها من جهات المنع؟! هذه مغالطة في الدين أو جهل، وكلاهما لا يجوز.
ورأيت في المقالة (٨) أنه يجوز زواج البنت عند بلوغها إذا كان في ذلك مصلحة ظاهرة يدوم أمرها، وعلى مثل ذلك يحمل حديث تعجيل الزواج.
وإن الأوفق مراعاة اتحاد الزوجين في السن أو تقاربهما؛ خشية الضرر عند التباين الشديد.
ورأيت في المقالة (٩) أن أهل مصر الآن خليط من العرب والفراعنة وغيرهم، وليسوا خليطًا من العرب والفراعنة فقط؛ فالقشرة الطبيعية موجودة كالقشرة الصناعية الحاصلة بسبب الجهل والغش.
ورأيت أن كثرة التعرض للشمس تضيع حسن اللون وربما جعلته ضاربًا إلى السواد.
ورأيت في المقالة (١٣) أن تهديد الرجل امرأته بالطلاق أو تهديد المرأة الرجل بالخروج من بيته لا يجوز ما دام هناك رجاء في البقاء، سواء أكانت الأسباب قوية أم ضعيفة؛ فإن مثل ذلك التهديد يلفت الذهن إلى أمر الانفصال فيقربه، وتلك بدعة في الدين لم تكن من أخلاق الأولين.
ورأيت في المقالة (١٤) أنه لا يليق بالرجل أن يتزوج المرأة لمالها؛ لأنه لو تزوجها لمالها فقد تزوج مالها ولم يتزوجها؛ فالمال عنده هو المقصود والمرأة غير مقصودة، وليس ذلك سر عقد الزواج الذي يطلبه الدين.
إذا تزوج الرجل المرأة لمالها فقد تنازعا فيه فيهزم الرجل؛ لأنه غير محق، فإن كان غنيًّا بالطمع رجع فقيرًا بالهزيمة، أما إذا صادفته الغنية ولم يقصدها لمالها فهو عند حده ولا يعدم معروفًا يناله من حيث لا يحتسب.
(روى البخاري) عن أبي هريرة — رضي الله عنه — عن النبي ﷺ أنه قال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك.»
ورأيت في المقالة (١٥) أن عمران الكون لا يحصل إلا بالنسل، وهو أمر طبيعي يقهر الإنسان وسائر الحيوان؛ فالرجل معذور أن يتزوج على امرأته التي فقدت ولديها، وربما قوى عذره أنها عجوز في الغابرين مثلًا، ولكنه غير معذور أن يفاجئها بالزواج في حين المصيبة، فلكل منهما حق، والمخلص أن يتزوج بحيث لا تعلم امرأته الثكلى بالزواج.
ورأيت أن للرجل أن يتزوج على زوجه لأجل إنجاب الذكور؛ فإنهم أقوى عملًا وأكثر نفعًا من الإناث، فلا جناح على الرجل أن يقصد إلى ذلك، وتمام مأربه بيد الله وحده.
ورأيت في المقالة (٢٠) أن من أحط الأخلاق وأكبر الآثام أن تسعى المرأة في طلاق المرأة لتحل محلها، أو يسعى لرجل في طلاق امرأة غيره ليتزوجها مثلًا؛ فإن ذلك من هدم المصالح الثابتة، ووقوع ذلك من بعض الأقربين منتهى الفظاعة، ويكاد المرء يعتقد أن الله لا يغفره، ولا شك أن الساعي في الطلاق هو الذي اجترح السيئة أولًا وإليه ينسب الإثم، وإن شاركه غيره في ذلك.
(روى البخاري)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، أنه قال: «لا يحل لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتستفرغ صفحتها؛ فإنما لها ما قدر لها.»
ورأيت في خطبة نادي حزب الأمة أن مزاج الرجل أكمل من مزاج المرأة، وكذلك المذكر والمؤنث من بقية الحيوان، ومما يشهد على ذلك التشريح والأعمال الظاهرة في كل جيل، وقد تغلب الرجل على المرأة من سالف الزمان إلى الآن، وبذلك أخذت الطبيعة حقها واستوفت عملها، وقد حكم الله في كتابه أن الرجل مسيطر على المرأة؛ فقال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ.
(وروى البخاري) عن أنس — رضي الله عنه — أنه قال: كانت أم سليم في الثقل وأنجشة غلام النبي ﷺ يسوق بهن، فقال النبي ﷺ: «يا أنجش، رويدك سوقك بالقوارير.»
لأي شيء شبه النبي ﷺ النساء بالقوارير؟! ما ذلك إلا لضعفهن ولطافتهن؛ فهن الجنس اللطيف وهن محل عناية الرجال؛ فالرجال أقوى منهن ومسيطرون عليهن.
إن الرجل يتعلم مع المرأة في مدرسة واحدة في أوروبا وينقطعان إلى دروسهما، ثم بعد إتمام سني المدرسة يخرجان، وقد يوفقان للفراغ والتفكير فترى الرجل يخترع الأشياء وترى المرأة لا تخترع.
وقد تصل المرأة إلى ما وصل إليه الرجل في العلم والعمل، ولكن بعد اللتيا والتي وبعد أن تخرج عن طورها وسنتها الطبيعية، فهي في ذلك الوقت رجل لا امرأة، والطبيعة حاكمة بالقسمة؛ فقسم رجال وقسم نساء (فلا يغيرن خلق الله).
وإن مساواة المرأة الرجل في بعض الأحيان أمر عارض لا أمر جبلي (والفرق مثل الصبح ظاهر).
وعملًا بمقتضى الطبيعة وحفظًا للصحة، يلزم أن تتعلم المرأة في المدرسة والمنزل ما يلائم درجتها لا غير.
نحن لا نجد في تاريخ المرأة ما يجعلها في صف الرجل؛ فلا يجوز أن تسمو إلى رتبته إلا إذا شذت عن فطرتها.
وإن آدم — عليه السلام — سيق بطبيعته إلى جلب المعاش، وحواء سيقت بطبيعتها إلى سكنى البيت وتدبيره، (وفرمان) الطبيعة فرمان من الله مقبول ومعقول.
والمرأة القروية أقوى من الحضرية ولكنها دون درجة الرجل، ولو نشأت مع سباع البادية.
والمادة الثانية من المواد العشر التي في آخر الخطبة تظلم السيدات، فإنا شاهدنا آثار الضعف في كثيرات ممن يتعلمن التعلم الثانوي، فلا بد من معارضة هذه المادة حتى لا تكسر (القوارير).
ولا بأس أن تلزم طائفة من النساء هذا التعلم الثانوي ليقمن بفرض الكفاية في تعليم البنات، ويكون ذلك من قبيل (قتل الثلث لإصلاح الثلثين) أقول ذلك مازحًا ولا أقول إلا حقًّا.
ورأيت في خطبة المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية أن بعض الأمراض العصبية لا يزول إلا بضرب من الموسيقا، فيجب على الطبيب أن يعرف ذلك، كما قال ابن سينا: «وبعض نغمات الزار تصلح لذلك، ولكن أصبح إثم الزار أكثر من نفعه، فالواجب محاربة الزار، وقيام الطبيب بما يلزم.»
ورأيت أن الرجل أخذ المرأة بأمانة الله، وأن الخيانة في الأمانة حرام ومفسدة خطيرة.
(روى البخاري) عن أبي هريرة — رضي الله عنه — عن رسول الله ﷺ، أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (واستوصوا بالنساء خيرًا) فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج (فاستوصوا بالنساء خيرًا).
ورأيت في الكتاب بعض مؤاخذات عربية تجري على ألسنة كبار الكتاب عند التسرع لا عند التأني واليقظة.
مثل عبارة: (يسبي ربات الحجال بما فيهن المحصنات) في (فصل آراء: رأي في الزواج وشكوى النساء منه) والعربي يقول: (وفيهن المحصنات).
ومثل عبارة: (لا تتفق مع الدجاج) في (فصل آراء: رأي في الزواج وشكوى النساء منه) والعربي يقول: (لا تتفق هي والدجاج).
ومثل عبارة: (فقد لا يطابق الحقيقة) في (فصل آراء: الحجاب أم السفور) والعربي لا يدخل (قد) على فعل منفي.
ومثل عبارة: (لا بد وأن ينتج) في (فصل آراء: ما ذنبنا؟) والعربي يقول: (لا بد أن ينتج).
ومثل عبارة: (بسبب الوساخة) في (فصل آراء: تربية البنات في البيت والمدرسة) والعربي يقول: (بسبب الاتساخ) فليس في اللغة العربية (وساخة).
ومثل عبارة: (وحب القديم حتى ولو كان مضرًّا) في (فصل آراء: الزواج) والعربي يقول: (وحب القديم ولو كان مضرًّا).
ومثل عبارة: (ويحسدون بعضهم البعض) في (فصل آراء: تعدد الزوجات أو الضرائر) والعربي يقول: (ويحسد بعضهم بعضًا).
ومثل عبارة: (ضمني مجلس بصديقتين) في (آراء: طلاء الوجوه) والعربي يقول: (ضمني مجلس وصديقتين).
ومثل عبارة: (أو التنازع على السلطة) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (أو التنازع في السلطة).
ومثل عبارة: (ويسنون النظام لصالح بني البشر) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (لمصلحة بني البشر).
ومثل عبارة: (تنغيص الآخر له) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (تنغيص الآخر عليه).
ومثل عبارة: (إذا كان أساءها) في (فصل آراء: مبادئ النساء) والعربي يقول: (أساء إليها).
ومثل عبارة: (فسيان أن يعتبره قوم للمنفعة وحدها أو للشهرة) في (فصل آراء: احترام الآراء وآداب الانتقاد) والعربي يقول: (وأن يعتبروه للشهرة).
ومثل عبارة: (سواء كانت في الأطفال أو الكبار) في (فصل آراء: جمال السيدات) والعربي يقول: (سواء أكانت في الأطفال أم الكبار).
ومثل عبارة: (العمار) في (فصل باب التقاريظ) والعربي يقول: (العمران).
ومثل عبارة: (لقلت) في (فصل آراء: الزواج) والعربي يقول: (قلت) لأن اللام لا تدخل على جواب (إذا).
ومثل عبارة: (الصدف) في (فصل خطبة في نادي حزب الأمة) والعربي يقول: (المصادفات).
ومثل عبارة: (وأخبار علانة) في (فصل خطبة في نادي حزب الأمة) والعربي يقول: (وأخبار فلانة).
ورأيت في الكتاب بعض مؤاخذات إملائية لا تخفى على الكاتب، وربما كانت من المطبعة.
أباحثة البادية، أحسنت فكرًا وكتابة كما يحسن الأكثرون، بيد أنك سابقة السيدات في ميدان الإصلاح، وتلك مزية لو نالها رجل لكان له شأن في هذا الزمان، فليكن شأنك أعظم وثناؤك ألزم، ولا يصرفنك بعض ما جرى به قلمي، فما أخذت عليك إلا كما يأخذ أستاذ الإنشاء والشؤون الاجتماعية لا كما يأخذ الناقد المثبط، وإني أرتقب يومًا أرى فيه أثرك وقد دل على الكمال الذي تحاولين ونحاول.
سيدي الأستاذ الفاضل؛ حفني بك ناصف المحترم
أشكرك على النسخة التي تفضلت عليَّ بها من مقالات النسائيات لحضرة الفاضلة باحثة البادية، وقد طالعتها معجبًا بعلم صاحبتها ودقة نظرها، ولا سيما إقدامها في مجتمع لا يزال يعد الخروج فيه عن المألوف مهما كان شأنه بدعة مذمومة؛ مما دل على أن علمها الواسع لم يبق في رأسها عقيمًا، كما هو الحال في رءوس أكثر رجالنا حتى اليوم، ولم أقل نساءنا لئلا أبخسها حقها من الفضل المتقدم بين أترابها، وهن غالبًا كما هن شطر عاطل في جسم اجتماعنا.
فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات، بل الشرقيات عمومًا لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا، والحض على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها، وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله؛ لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية، وهو رأي في نظر البعض وجيه، أولئك الذين يقولون: إن الطفرة محال ويخشون الانتفاضات العنيفة، فيطلبون الإصلاح بالتؤدة واللين خوفًا من أن تصعيب المطلب يحول دون بلوغه، وإن كان نظام الاجتماع لا يستغني أحيانًا عن الثورات العنيفة إذا اشتدت المقاومة في الأحوال الراسية لطول العهد، كنظام الطبيعة نفسه حذو القذة بالقذة ومهما يكن من ذلك، فإن رأيها هذا في نظري، لا ينافي رأي الطالبين اليوم السفور المطلق، وما هو إلا حذر لفظي؛ لأن رفع الحجاب المعنوي عن العقل لا بد أن يؤدي إلى رفع الحجاب الحسي عن الجسم، كما أن طلب رفع الحجاب الحسي دفعة واحدة لا يرضى به حتى المحجوب نفسه، إذا لم يرفع حجاب الجهل عن عقله أيضًا، كأنها في ذلك سلكت مسلك دارون نفسه في العلوم الطبيعية؛ إذ حصر الخلق في أصول قليلة تفرعت منها الأنواع الكثيرة بعد ذلك بالنشوء والتحول، حذرًا من تصعيب المطلب على أصحاب الخلق أنفسهم، ولكن ذلك الحذر لم يمنع معتنقي مذهبه المعتقدين صحته من إطلاق ناموس النشوء والتحول على الطبيعة كلها؛ لأنه إذا صح النشوء للبعض لا يفهم لماذا لا يصح للكل، فتحرير العقل إلى الغاية القصوى لا يتم بدون تحرير الجسم إلى الغاية القصوى أيضًا، فطالب تحرير المرأة لا يسعه أن يطلبه من جهة واحدة، وإلا فكأنه لم يطلبه؛ ولذلك أعتبر نسائيات باحثة البادية ككتاب تحرير المرأة لقاسم أمين في النتيجة المترتبة عليهما، ومقامها بالفضل المتقدم بين النساء كمقامه بين الرجال في الإسلام اليوم، وفي يقيني أن الإسلام لم تحرك فيه حتى اليوم مسألة اجتماعية أهم من المسألة التي نحن بصددها، والفضل في ذلك لمصر وحدها ولأبناء مصر.
•••
ليس الغريب أن مسألة المرأة في الاجتماع شغلت الناس في كل العصور، ولا تزال شغلهم الشاغل حتى اليوم في كل المعمورة، فهي من مقومات الأسرة التي هي أساس الاجتماع، بل الغريب أنها مع بساطتها لم يسهل الاتفاق فيها وذهب الناس فيها مذاهب، وكتبوا فيها ما لو جمع لضاق عنه الحصر كأنها من المسائل اللاهوتية العويصة؛ لأن أكثر الباحثين جعلوها كذلك، مع أنها من المسائل الطبيعية البسيطة التي لا يجوز أن يختلف فيها اثنان لولا ذلك، ولا نظن أن منشأ هذا الاختلاف خاص بقوم دون آخرين وبصقع دون آخر، بل هو عام جميع المعمورة، وكائن من أول التاريخ إلى اليوم في أشد المجتمعات البشرية انحطاطًا، وفي أكثرها ارتقاءً على ضروب متنوعة، فلا بد أن يكون لذلك سبب عام هو أصل كل الاختلافات التي رويت في شأن المرأة، والتي لا تزال موجودة حتى الآن.
فالمرأة منذ القدم مظلومة مهضومة الجانب من الرجل؛ لأنه أقوى منها، وهي مظلومة في كل الشرائع دون استثناء؛ لأن واضعيها رجال حتى إن بعض هذه الشرائع أنكر عليها النفس، أو بالأحرى حتى جاز لأتباعها في عصر من العصور أن يتباحثوا في ما إذا كان للمرأة نفس، وهكذا استبد الرجل القوي الخشن بالمرأة الضعيفة الجاهلة، فحرص عليها الفقير حرص المالك على ملكه النافع له، واستخدمها أحيانًا كما يستخدم الحيوان، ولكنه لم يكن يضن بها كما كان يضن به؛ لأن الحيوان بثمن وهي بلا ثمن غالبًا، ولم يستمسك كثيرًا بالحجاب؛ لأن الفقر كان يطفئ فيه آياته الشهوانية، وحرص الغني عليها حرص غيره، فدفنها حية في قبور من القصور، وكفنها بأكفان من الحجاب، حتى إذا برزت من خدرها مشت متثاقلة كالبرميل الموشح، وهي تهتز على محورها وتتعثر بظلها، ولم يعدم الشعراء من خيالهم تصورًا للتغني بهذا الشبح، وغار عليها من النسيم لئلا ينقل إلى سواه شذاها، وحتى من النور لئلا تمتد الأبصار به إلى مرآها، فإذا مات وئدت معه حية، كأنها متاع له لا يجوز أن يفصل عنها أو كأنها جزء منه، ولكنه يجوز له أن يفصل عنها واعتبرها بذلك أحط من الحيوان، الذي كانوا إذا غالوا في القسوة عليه ربطوه إلى جانب القبر حتى يموت، وهي قبلت بذلك مرغمة بالقوة مستسلمة للجهل، حتى حسبت كل ذلك واجبًا عليها وحقًّا له:
حتى قتل الترهل قواها الجسدية، والجهل مواهبها العقلية، والرجل يحسب أنه بذلك صانها وصان نفسه بها وما صان فيها إلا جهله؛ إذ المرأة مرآة الرجل جاهلة فجاهل وعالمة فعالم، وما صان الجهل أدبًا ولا أوصد أبوابًا ولا أعز أمة، وأمنع حجاب توسيع العقل بالعلم الصحيح وتقويم الأخلاق بالتربية القويمة، وأكفل كافل الاختبار بالنفس لصيانة المصلحة، فالذي قياده بيده أمنع جدًّا إذا امتنع ممن قياده بسواه.
فالحجاب بقية باقية من ضروب الظلم التي حاقت بالمرأة من أول عهد التاريخ إلى اليوم، والحجاب على المرأة المسلمة إلى الحد المألوف اليوم، من غير تخريج أو تأويل، لا تقبله العقول الناضجة أيًّا كانت، وهو سبب عيوب الأسرة الشرقية عمومًا، والمصرية خصوصًا التي قامت باحثة البادية تنبه إليها في نسائياتها طلبًا لإصلاحها، وأي دليل أوضح على أن فساد الأسرة هذا إنما هو من مقام المرأة فيها المنافي للطبع؛ إذ الحرية المتبادلة في نظام الطبيعة حق طبيعي لا يجوز أن تسلبه حتى ذرات الجماد، وإلا كانت أعمال الطبيعة أدعى إلى الخراب منها إلى العمار، وهي في الاجتماع البشري حق واجب بل ضروري أيضًا؛ لأن المرأة فيه شطر من شطري جسمه، فإذا سلبت المرأة الحرية عرج الاجتماع ومشى على رجل واحدة، وفيها قيد أيضًا إذ تصبح المرأة حينئذ عالة عليه عوضًا عن أن تكون عونًا له، ولا حاجة بنا إلى إطالة البحث لوضع المقدمات المركبة لاستخراج النتائج البسيطة؛ فإن علم المقابلة البسيط يغنينا اليوم عن كل ذلك، ولا أقل من أن نقارن بيننا وبين الأمم الراقية لنقف على الفرق الجسيم بين مجتمع المرأة فيه مدرجة حية في الأكفان، مدفونة بين الجدران، عقلها محجوب عن أنوار علوم الاختيار، كما حجبت حواسها عن نور الطبيعة، وبين مجتمع ترى المرأة فيه على ضد ذلك، ونقابل فقط بين أطفال الامرأتين في مجتمعنا ومجتمعهم، فأين قذارة أطفالنا من نظافة أطفالهم وسقم أطفالنا من صحة أطفالهم، ورعونة أطفالنا من رصانة أطفالهم؟! حتى إن صبيانًا ليفوقوا رجالنا في العزائم، فيشبون على الجد والعمل، ونشب نحن على السخافة والكسل، فيستطيلون بأيديهم إلى كل عمل نافع، ونستطيل نحن بألسنتنا إلى كل دعوى فارغة، وإذا دمغتنا الحجة أخذنا نفتش على عيوبهم الجزئية لنستر بها عيوبنا الكلية، غير ناظرين من خلال ذلك إلى ارتقائهم وانحطاطنا وتقدمهم وتقهقرنا الكليين، وما كان هذا الارتقاء لهم يوم كانت المرأة عندهم مسلوبة الحرية، محجوبة عن نور العلم، فقد كانت مظلومة كذلك عندهم، وإن لم تكن محجبة كما هي عندنا، فإن دروب الظلم كثيرة.
وأغرب من كل ذلك أن مثل هذه الدعاوى الفارغة التي نطمئن إليها تجوز على كثيرين ممن هم في مقام القادة أو أن البعض يجيزونها نفاقًا يجعلونه طعامًا على رؤوس صنانير أغراضهم لاصطياد أغرارنا به، والأدهى محاولة البعض من هؤلاء وأولئك إخراج البحث في الموضوع من وجهته الاجتماعية إلى وجهة دينية، بحسب أهوائهم وعلى قدر أفهامهم، وما يقصدون بذلك إلا إزالة التكافؤ من بين المتباحثين لينقلوا الكلام من أن يكون بين الناس بعضهم مع بعض إلى ما بينهم وبين الله، لعل المعارض يجبن ويكون صمته عونًا على تأييد ما يدعون، كما يفعل منتقدو الزهاوي، وقد يظن بعض السياسيين أنهم يأتون ذلك عن حكمة ليدفعوا عنهم شر الجهلاء، كما فعلت الحكومة العثمانية الدستورية اليوم؛ إذ ظنت أنها تملك قيادة الجهلاء، وهم لا يملكون إلا إقامة العدل الصحيح ومن ورائه السيف حتى يقره العلم، فتزلفت إليهم بأنها منعت نشر أفضل كتاب في الإسلام لأعظم مصلح من المسلمين وهو كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، وما أشبه سلوكهم في هذه المسألة بسلوك عرابي؛ إذ قام يتبرك بالحجب، ويلبس المسابح ليتقرب إلى العامة وهو يحسب أن النصر له من ورائهم! وما كان له من ورائهم إلا الفشل وهم بعملهم هذا اليوم، أبعدوا غاية الدستور عنا أجيالًا، غافلين عن أن التنازع حولنا اليوم شديد.
•••
قد يقول بعض الذين ينظرون إلى الأشياء مجردة أن الإسلام ارتقى في الماضي وما كان حجاب المرأة عقبة في سبيله، وهؤلاء لو نظروا إلى الاجتماع كما ينبغي أن ينظر إليه؛ أي: بنظر المقابلة، لعلموا أن المرأة كانت في تلك العصور متناسبة في الظلم في كل المعمورة، ولم يكن بينها هذا التباين الشديد الذي نراه الآن، فالمرأة الغربية لم تكن أفضل من المرأة المسلمة في تربيتها وفي علمها، وأما اليوم فمن المستحيل أن يتم للمسلمين ما تم لهم في الماضي مع سائر الأمم بسبب هذا التباين، وإذا طال جمودهم على حالهم هذه ولم يجاروا جيرانهم في كل شيء، كان مصيرهم إلى حيث تقضي سنة التنازع بين المتنازعين غير الأكفاء.
على أن النهضة التي قام بها قاسم أمين منذ سنين قليلة وتلته فيها باحثة البادية، والتي نراها تتجسم أكثر فأكثر كل يوم، كما يدل تكاثر الباحثين في الموضوع وميل الأكثرين منهم إلى شد أزرها ولا سيما في هذه الآونة الأخيرة، تبشرنا بأن مساعي المصلحين وإن لم تظهر نتائجها العملية في المسلمين اليوم، فسوف لا يمضي زمن قصير حتى تجني منها الأجيال القريبة كل الفوائد المطلوبة؛ إذ تكون الرؤوس البالية بما فيها من الأفكار المتعفنة قد انقضت — والعادات دين ثان — فتشب الرؤوس الجديدة على المبادئ الجديدة الموافقة لمصلحة الإنسان المشتركة في العمران، والمتغيرة بحسب روح كل عصر طبقًا لاحتياجات كل زمان عملًا بسنة الارتقاء وغلبة الأصلح، والعلم الصحيح؛ أي: العلم الاختباري دين أيضًا.
واقبل أيها الأستاذ الفاضل فائق احترامي.