باحثة البادية والآنسة مي
إلى باحثة البادية
ترنمت باسمك قبل أن أعرفك، واتخذت ذكرك عنوانًا لنهضة المرأة المصرية قبل أن أطالع مقالاتك؛ لأن أصوات الجمهور قد اتفقت في الثناء على فضلك، غير أني عثرت بالأمس على مجموعة كتاباتك القديمة النفيسة، فانحنيت عليها ساعات طويلات، فيها خيل لي أني أقلب صفحات نفسك المفكرة المتوجعة.
ثلاث سنوات مضين، وتلك المجموعة محفوظة بين دفات المكاتب، أو مبعثرة بين الأوراق والأسفار المتراكمة يومًا بعد يوم، لكن سرها ما زال مترقبًا يدًا تلمسه.
سنوات ثلاث، فيها مشت البشرية خطواتها المعدودات متعثرة بالعظام والجماجم، منشدة أهازيج النصر الكاذب وتهاليل الفخر الباطل، وقواها الغالية تسيل على شفار السيوف، ودماء حياتها تجري أنهارًا في سهول قد أخفت نجمها الجميل، وثمراتها الممتعة خوفًا من وحشية الإنسان.
سنوات ثلاث، فيها شعرنا بارتداد صدمات السياسة والاقتصاد والأطماع المتزايدة، فيها ارتفعت دويلات جادة مجتهدة وتهشمت أعضاء تركيا العظيمة بتاريخها، الضعيفة بإهمالها وتهاونها، وقد جاش لذلك كل ما في صدر الإسلام من النخوة القديمة، وبكت له قلوب الغيورين على مصالح بني عثمان.
كل ذلك ومصر مصر، بكآبتها وانعطافها واندفاعها، كل ذلك ونحن هائمون على وجوهنا في صحراء الفوضى، صخور التقاليد القديمة تدمي أقدامنا الجديدة، وأشواك الاصطلاحات تجرح أيدينا الممتدة للمس أشياء نظنها موصلة إلى حياة نريدها عظيمة. والسراب الجميل اللامع في حدود المستقبل غير المحدود يستدعينا آمرًا، كأنه نظرة عين فتانة، فنجري في الصحراء ولا ندري إلى أين المصير!
سنوات ثلاث؛ مررن على يوم فيه ارتفع صوتك مرشدًا عائلتنا، لا تزال على ما كانت عليه وأفكارنا لم تتغير إلا قليلًا، وعواطفنا ما برحت بين تيارات متعاكسة، دائمة الاضطراب بين ما ندعي أننا نعلم وما نجهل أننا لا نعلم! غير أن الأصداء الخفية ما زالت ترجع همس ذلك الصوت الرخيم.
بالأمس لمست نفسك وقرأت أفكارك فتعثرت على جراح بليغة وودت تقبيلها بشفتي روحي، وما أطبقت الكتاب إلا وأنا ألثم بناني على غير هدى، ولم يكن ذلك إلا إجلالًا لصفحات قلبتها وحبًّا لنفس استجوبتها فعرفتها.
فيا من «ارتفع قلبها إلى فكرها وانحنى فكرها على قلبها» أيتها الباحثة الحكيمة، لماذا تصمتين؟
تتوالى الأيام ونحن في ضلال مبين، الرجل يجاهد في حرب الاقتصاد الدائمة، الرجل تائه في مهامه أشغاله، فإذا كتب بحث في العموميات، وإذا أجال قلمه في الخصوصيات فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي؛ لأنه يكتب بفكره، بأنانيته، بقساوته، والمرأة تحيا بقلبها، بعواطفها، بحبها.
علاتنا مستعصية لا يشفيها إلا طبيب يعرفها، والمرأة بعلة جنسها أدرى فهي تستطيع معالجته، ولا تطالب هذه الخدمة الشريفة من فتيات لا يعرفن من الحياة إلا ما يصوره لهن الخيال المخيم بطلانه على منابت العواطف المخصبة، هذا اعتراف ساذج صادق: الفتيات لا يداعبن القلم إلا لينثرن الدموع أو ليصورن الابتسامات، وما تجاوز ذلك علامات استفهام متتالية، وإن لم ير فيها من الاستفهام شيئًا.
لكن الزوجة والأم التي أعطيت ذكاءً وفطنةً وعلمًا وشعورًا قويًّا، تدرك بواسطته كل ما في الحياة من حلاوة ومرارة، تلك تستطيع وضع المرأة في مركزها السامي، وتلك تقدر أن تعمل في مزاج نصفي الشخصية المتألمة، شخصية المرأة وشخصية الرجل فيا سيدتي …
لدينا قلوب تحترق ولا ندري أي نار تحرقها، وتلتهب شغفًا بما لا نعرف ماهيته، فعلمينا أنت التي كنت فتاة قبل أن تكوني أمًّا، كيف نرشدها وإلى أين نوجهها!
لدينا نفوس عزيزة تنمو فيها ميول مبهمة ورغبات حارة، فأرشدينا أي الأعشاب فاسد فنقتلعه وأيها الصالح فنسقيه ماء الرعاية والحنان!
قولي يا سيدتي تكلمي!
ضمي يدك الباردة إلى الأيدي التي تحاول رفع هذا الجيل من هوة الحيرة والتردد، ساعدي في تحرير المرأة بتعليمها واجباتها، إن صوتًا خارجًا من أعماق القلب، بل من أعماق الجراح كصوتك قد يفعل في النفوس ما لا تفعله أصوات الأفكار.
لا يهمنا أن تخفي تلك اليد النحيفة وراء جدران خدرك، وأن تحجبي هيئتك الشرقية وراء نقابك الشعري، ما دمنا نسمع صوتك في صرير قلمك، ونعرف منك روحك العالية.
فهنيئًا لوطن يضم بين بناته مثيلاتك، وهنيئًا لصغار يستقون وعود الهناء من ابتسامتك ويسكبون حياتهم في قالب حياتك!
إلى الآنسة مي
تفضلت فكتبت إلى كلمتك العذبة في الجريدة وكنت إذ ذاك بين مخالب الموت، فلم يكن في وسعي أن أمسك القلم لأرد عليك، وإن كانت مخيلتي لم تبخل بالرد، كانت رسالتك عزاءً جميلًا لي في مرضي الطويل المؤلم، وبلسمًا ملطفًا لجراحي البالغة التي قلت: إنك عثرت عليها، آلامي أيتها السيدة شديدة، ولكني أنقلها بتؤدة كأني أجر أحمال الحديد، فهل تدرين يا سيدتي ما هو لي؟ ليس لي بحمد الله ميت قريب أبكيه، ولا عزيز غائب أرتجيه، ولا أنا ممن تأسرهم زخارف هذه الحياة الدنيا، ويستولي عليهم غرورها، فأطمع في أكثر مما أنا فيه، وليس لي حال سيئ أشتكيه، ولكن لي قلبًا يكاد يذوب عطفًا وإشفاقًا على من يستحق الرحمة ومن لا يستحقها، وهذا علة شقائي ومبعث آلامي، إن قلبي يتصدع من أحوال هذا المجتمع الفاسد.
وما لي أحمل نفسي أعباء غيرها، ولست بمسيطرة على هذا العالم، ولكني كنت عاهدت نفسي على الأخذ بيد المرأة المصرية، ويعز علي أن أتخلى عن هذا العهد وإن كان تنفيذه شاقًّا، ومحفوفًا بالصعوبات ويكاد اليأس يسد طريقي إليه.
كنت اعتزلت الكتابة لا لنضوب مادتها عندي، ولا اكتفاء بالقليل الذي كتبت من قبل، ولكني كنت مللت المناداة بإصلاح المرأة المصرية، وثبط عزمي ما أراه من انصراف فئة المتعلمين والمتعلمات الجدد عن العمل لتكوين القومية المصرية المطلوبة، وما حركتهم التي ملأوا بها القطر صراخًا إلا عنوان نهضة كاذبة.
تسألينني يا سيدتي أن أدلك وسط هذه الأحوال المضاربة والآراء المتشعبة عن الطريق الذي يحسن بالفتاة نهجه، وإنها لحال توجب الحيرة، ولا ندري أي الطرق نسلك لنصل سريعًا إلى الغاية التي نقصد إليها، كلنا يرمي إلى تقدم الفتاة وتنورها وإعدادها لأن تكون زوجة صالحة وأمًّا نافعة أبناءها ووطنها، ولكن لكل مناد بالإصلاح وجهة هو موليها، فبعضهم لا يرى لهذا التأخر والجهل من سبب إلا كان راجعًا للحجاب، وهؤلاء قرروا وجوب سفور المرأة المصرية حالًا، ونسوا حكمة التأني والتحفظ عند إرادة الانتقال من طور مظلم مألوف إلى طور لم يعهد من قبل؛ تكتنفه المدهشات واللوامع البراقة الجذابة التي تكاد تغشى الأبصار.
وفريق لا يرى السفور فائدة، ويقول: إن الحجاب لا ينفي العلم وإن إطلاق الحرية للمرأة أخيرًا كان سببًا لفسادها، وإن اطراد تعليم المرأة وتثقيفها سيكون مجلبة للشغب ولخروجها عن حدود وظيفتها في المستقبل، كما خرجت أختها الغربية الآن، فأي الطريقين نسلك ومن نتبع؟ إننا معشر النساء لا يزال ظلم الرجل يرهقنا، واستبداده يأمر وينهى فينا، حتى أصبحنا ولا رأي لنا في أنفسنا، فإذا قال لنا: اختبئن حتى تدفن بالحياة صونًا لكن وتدليلًا كما يقول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:
وكقوله في أخت ممدوحه الثانية من رثاء أيضًا:
إذا أمرنا الرجل أن نحتجب احتجبنا، وإذا صاح الآن يطلب سفورنا أسفرنا، وإذا أراد تعليمنا فهل هو حسن النية في كل ما يطلب منا ولأجلنا أم هو يريد بنا شرًّا؟ لا شك أنه أخطأ وأصاب في تقرير حقنا من قبل، ولا شك أنه يخطئ ويصيب في تقرير حقوقنا الآن.
نحن لا نأبى أن نتبع رأي العقلاء والمصلحين من الأمة، ولكننا لا يمكننا كذلك أن نعتقد أن كل من يتصدى للكتابة في موضوع المرأة من العقلاء المصلحين؛ ليدعنا الرجل نمحص آراءه ونختار أشدها، ولا يستبد في (تحريرنا) كما استبد في (استعبادنا)، إننا سئمنا استبداده، إننا لا نخاف من الهواء ولا من الشمس وإنما نخاف عينيه ولسانه، فإن وعدنا أن يغض بصره كما يأمره دينه، وإن يكن لسانه كما يوصيه الأدب، نظرنا في أمرنا وأمره، وإلا فكل منا حر يفعل ما يشاء، والسلام عليك أيتها الفاضلة من المعجبة بك المثنية على أدبك الجم وعلمك الغزير.
إلى باحثة البادية
ليس أعز لدينا من لطفك إلا حزمك وصراحتك، وليس أجمل من صدى صوتك إلا فعل معناك، وإني لأقبض بيدي لأعترف بأني أحب — أستغفر الله وأستغفرك يا سيدتي — آلامك النفسية الشديدة من جراء شقاء الإنسانية وضلالها، وأتمنى من أعماق فؤادي أن تجد دوامًا تلك الآلام منفذًا رحبًا إلى قلبك، وأن يبقى ذلك القلب كريمًا لينًا ينجرح لجرح الغريب ويبكي لبكاء المظلوم، ويشفق على المتوجع أيًّا كان، بالاختصار: عفوك! عفوك! أتمنى لك العذاب المعنوي؛ لأنه النار المقدسة. أجل، هو النار التي تطهر النار التي تلين النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية والميول الرفيعة والرغبات الكريمة، والتحمس لإجراء الإصلاحات اللازمة وتنفيذ المبادئ الطيبة، والنهوض بالاجتماع نهضة تهتز لها القلوب حميةً وطربًا.
أتمنى لك ذلك، ولولاه لما وجدنا في كتاباتك تلك الأنة العميقة التي تنبه الفكر وتلمس العاطفة في آن واحد.
لا أنكر أن أنانيتي تتكلم الآن، غير أني قلت ما قلت مسرعة هامسة فابتسمي له إن شئت، وإلا فلا تصغي يا سيدتي ولا تسمعي، بل اسأليني عما أهمس به لأجيب أني أحمد الله على إبلالك وأني أسأله أن يديمك سالمة وما أغلى سلامتك لدنيا!
جئت أسر إليك أمرًا وقفت عليه عندما شهدت صدى مقالتك لدى جمهور القراء، اسمعي يا سيدتي الباحثة، وصوني سري!
رأيت جميعهم يتقبل أقوالك بنظرة الفخر وابتسامة الإعجاب، ولكني رأيت أسيادنا الرجال — … أقول: «أسيادنا» تخمد نار غضبهم — قلت: إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون، نعم آنست ذلك في ملامح كل من قرأ مقالك أمامي من أسيادنا الرجال.
فذكرت إذ ذاك ألا سرور في العالم يضاهي سرور التفاهم، فإذا شعر المرء بأن من يفهمه كان سعيدًا، سواء لديه إن تعرف منه على صفاته أو علاته؛ لأن معرفة العلات تتبعها حتمًا معرفة الصفات، وإن كان الخير أقل انتشارًا من الشر، وما النقائص إلا فضائل مضخمة مكبرة تتسع وتستفيض دون أن تجد لها من الضمير مهذبًا فتتجاوز الحدود المعنوية التي عينتها اصطلاحات الاجتماع — إذا كانت اجتماعية — أو رسمتها علوم النفس والأخلاق، إذا كانت أخلاقية.
فعملًا برغبة التفاهم، وطبقًا لنظام المباهاة، وتوصلًا للاستمتاع بنتيجة هذه المباهاة وذلك التفاهم كان وسيكون السارق دائم المفاخرة بوقوف الناس على براعته في اختيار الطرق الجديدة واستنباط الحيل الغريبة، وكان وسيكون القاتل مسرورًا بإعلان آثامه للورى آملًا أن يجدوا فيها أعمال بطل من نوعه! وكان وسيكون السياسي جادًّا في إقناع الآخرين أن دهاءه اقتدار وسوء ظنه وروغانه فطنة وحكمة، كذلك الرجل يسر ويرجو ويريد أن تشعر المرأة باستبداده ظنًّا منه أن الاستبداد هو السيادة، وأن هذه مقياس ذاتيته التي يريدها كبيرة، رضيت المرأة عن تلك السيادة أم تمردت عليها في نظره سيان، بل أظنه — سامحني الله إن كنت مخطئة — مؤثرًا تمردها على إذعانها؛ لأنها كلما زاد تمردها زاد شعوره بالسيطرة، وأشد الملوك فرحًا بهز الصولجان وأرفعهم للرأس كبرًا وتيهًا تحت ثقل التيجان، هم ذوو العروش المتداعية للهبوط، والرجل ملك متداع عرشه؛ لأن ريح الفوضى تهب عليه من كل جانب، وخطوات الارتقاء النسائي تتوالى متمكنة مع مرور الأيام.
لكنه ملك عزيز!
هو الأب والأخ والصديق والخطيب والزوج فإذا سقط سقطنا معه، وإذا ارتفع كنا بارتفاعه عظيمات؛ لذلك نريد له خيرًا ونجتهد في تأييد دولته، بشرط أن ينصب عرشنا بقرب عرشه، وأن نقف إلى جنبه وقفة المثيل بجوار المثيل، نريد أن نكون متساويين في الواجبات والمسؤلية، بل إن واجباتنا ومسؤليتنا يفوقان ما عليه من مسئولية وواجب!
فيا ترى متى يرضى الرجل بتقرير هذه الحقيقة؟
ما أطيب قولك، يا سيدتي الباحثة، إنك تشفقين على من يستحق الشفقة ومن لا يستحقها! الرجل من الذين يستحقون الشفقة؛ لأنه لا يعرف أنه يستحقها إنه باستعبادنا لمنتحر، ولو صرفنا النظر عن مستقبل الذرية وبحثنا في حياته الفردية لوجدنا أن ما من أحد يساعده على التخلص من الشوائب الشائنة، ويحثه على إنماء شخصيته الغنية المخصبة إلا نحن، كما أنه لا يهدينا إلى واجباتنا ويضع في ضعفنا قوة إلاه.
الحجاب؟ وما الحجاب؟
مرحبًا به ما دمنا في وسط لا يعرف كيفية معاملة المرأة ولا يستطيع احترامها، ولكن كيف نلوم الرجل على كلامه ونظراته ما دام رجل اليوم صنع امرأة الأمس؟! هكذا علمته أمه وإن لم تعلمه ذلك فإنها لم ترشده إلى ما يفضله، ولا ذنب لها لأن قصورها في جهلها لم يكن إلا نتيجة اتفاق أبيها وزوجها على جعلها عبدة، لا لوم على أبناء تلك الأمهات، إلا أن مستقبلنا صالح؛ لأن حاضرنا مملوء بالآمال الطيبات، النشء تتنازعه طبائع الوراثة ومؤثرات العصر وعواصف الفوضى المهاجمة قديم التقاليد من كل ناحية، ولكنه ينشد الصراط السوي ويصغي إلى صوت الإصلاح فارفعي صوتك، يا سيدتي، ولا تيأسي! قولي بصراحتك واكتبي بشجاعتك! جاهري ولا تصمتي!
إن البذرة التي تزرعها اليوم يد زارع تنبت سنبلة في كيانها حياة الغد، وما يتبعه من الأيام، وعندما تخضر المروج بنصرة الرجاء، فتتماوج فوق غلتها نسمات الحياة، إذ ذاك سيسمع المستقبل صدى جيل يردد أبيات الأمير شوقي:
فتجيب الأصداء الجديدة: لقد فعلت! لقد فعلت!
الساعة المفقودة
جعلها أرباب التجارة حلية نسائية، وأتقن الجوهري وضعها في سوار ذهبي فكانت نصيبي في الشرى.
صورة مصغرة للكون كذلك كانت ساعتي، مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود الإمكان، علاماتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب … من الثواني يتألف الزمان ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجًا.
فيا لهول ثواني الزمان، ويا لهول نبضات قلب الإنسان!
بين ثانية وثانية يلتقي العدوان في أحشاء الثرى: الماء والنار، فتميد الأرض بمن عليها، وتنفطر أساساتها فتقذف البراكين مقذوفاتها الجهنمية وسوائلها النارية، وتزفر الطبيعة زفرتها القتالة فتلتهم صروح العمران، وتفتح صدرها مرحبة ببنيها، تفتح صدرها مرحبة فيتدحرجون إلى الهاوية التي ليس فيها من يعود على وجه البسيطة مخبرًا.
بين ثانية وثانية يتلاقى الجيشان في ساحات الوغى، فتدوي وعود المدافع في الفضاء، وتختطف بروق السيوف غالي الأرواح؛ ولأجل كلمة غالب أو مغلوب تندك عروش وتنتصب عروش، تدمر ممالك ويعمر سواها، تخرب مدائن ويشاد غيرها، تتجندل الأفراد وتفنى مجامع؛ فترتدي الأقوام سواد الألوان، وفي نفوسهم لوعة الفقدان وسواد الأحزان.
بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو بين ثانية وثانية!
وبين نبضة ونبضة هناك سر الأسرار، دماء داخلة إلى القلب ودماء منبعثة منه، تتهافت عليه جراثيم الموت فتخرج مطهرة حيوية، بين النبضة والنبضة تأثيرات تهتز لها أعماق العمر وانفعالات تشخص لمرورها ذوات الكيان، اشتعال الفكر وخمود العاطفة، ظفر البلاهة وتقهقر النبوغ، لذعات الغرام والحسرات العظام، قنوط ورجاء، سعادة وشقاء، هتاف الروح المسلمة ولهاث الروح المودعة!
يا ابنة أبيك! يغدرنا الزمان ساعة الرجاء، ويخوننا يوم الصفاء، ويهجرنا حين اللقاء، فأنت خائنة هاجرة كالزمان، يا ابنة الزمان!
كم من ساع طيبات وقت مرورهن على دوران عقربيك وفكري يناجيك بأحاديث هداه وضلاله! ابسم لك عند السرور فأتخيلك صامتة تبتسمين، وأتنهد حيالك يوم الأسى فأتوسمك تتنهدين وتحزنين، وكأن عقربيك ذراعان يمتدان نحو العلاء مستغيثين متوسلين.
لما أفنت قلبي وحدة القلب ضغطت بك على ساعدي قائلة: «أنت الصديقة التي لا تخون.» ولما مزقت سمعي أكاذيب الناس وأحاديثهم المؤذية خاطبتك قائلة: «أنت لا تؤذين لأنك لا تتكلمين.» ولما أذابني الجهل بدعواه والغرور بسخافته نظرت إليك قائلة: «أنت عالمة لذلك تصمتين.»
وكنت تعزيني!
وكنت زماني، يا ابنة الزمان!
وعلى هذا ما كان أطول إعراضك عني وأقل اهتمامك بي! في النهار كنت تطوقين ساعدي فيوجعه أثر سلسلتك وأجيب أنا على هذا العنف بلمسة المداعبة، وفي المساء كنت تستريحين بجوار وسادتي، فأوقع على موسيقاك الساهية ألحان أحلامي وآمالي، وفي الصباح كنت أول عين أشاهدها وأول روح أستجوبها.
كل ذلك وأنت لا تنتبهين ولا تعلمين.
وها قد هجرتني، فقدتك فسيري بحراسة الله وانسيني!
ولكن انتخبي اليد التي ستطوقينها!
فإذا وقعت في يد شرير وقصد استعمالك ليؤذي أخًا له فانقلبي أفعى لساعة ولا تبرحي مفرغة فيه سُمَّك حتى تصرعيه قتيلًا!
… لكن لا، لا! ليس الأشرار إلا ضحايا البشر وضحايا نفوسهم لو كنت تعلمين، وهم خليقون بالرحمة أكثر من الأخيار الصالحين؛ فلا تتحولي حية ولا تؤذي شريرًا، بل غادري تلك اليد المسكينة واسقطي في طريق أب فقير لتكوني من نصيب فتاة لم تلبس في حياتها حلية، زيني يدًا شوهت خشونة الخدمة جمالها، ونامي على زند الفتاة الغربية بدلال القبلة والتحبب! نامي هناك وأسعدي ولو ساعة قلبًا بائسًا يحسب السعادة في الغنى!
نامي هناك وانسيني، ولكن!
إن كان لديك ذاكرة تذكر يا ساعتي الصغيرة المحبوبة؛ اذكري لحظة ما شهدته معي من المسرات واللهفات، اذكري واحفظي ما تعرفين!
ولكن … ألست ابنة الزمان الذي ننسب إليه في ضعفنا كل شيء، وهو في قوته لا يبالي بشيء؟! ترين بأي حافظة تذكرين، وبأي ذهن تتأملين؟! إنما علاماتك مداد قد تحجر، وعقربك إصبع يشير إلى علامة يجهل منها المعنى، وأنت آلة ليس إلا وإن كنت آلة الآلات المثلى.
أنت ابنة الزمان الناسي، وأنت مثله لا تذكرين!
إلى الآنسة مي
عزيزتي مي
لا تستغربي يا سيدتي أني دعوتك «بيا عزيزتي» وسأدعوك باسمك على غير معرفة شخصية سابقة، أقول: شخصية وأحدها؛ لأني عرفتك من كتاباتك الشعرية الجميلة من قبل، وتعرفت منها بروحك العالية الهائمة في الفضاء، وكأنها تبحث عن مستقر لها، فلا يكاد يعجبها مكان تستقر فيه.
وتعرفت بك بالأمس، بل وارتبطت بك من دعائك عليَّ بالعذاب المعنوي، كأني أنا المعنية بقول جميل:
وإنما حاشا أن يكون دعاؤك علي سبابًا، وحاشا أن يكون له جواب عندي من مثله؛ فإني لم أقابله إلا بالضحك والحلم الذي ركب في غريزتي.
لماذا تدعين عليَّ بالعذاب المعنوي؟! ألا إن العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرًا، على أني جربت كليهما وذقت الأمرين منهما معًا، تقولين: «لأنه النار المقدسة.» نعم؛ لقد أعطاني من القداسة مقدارًا أكثر مما يجب لمثلي، حتى جعل البون بعيدًا جدًّا بيني وبين هذا العالم غير القديس.
تقولين: «إنه النار التي تطهر.» حقيقة أنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافًا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء، وهذا فيه من الضنى والخطر ما فيه.
تقررين «أنه النار التي تحيي.» نعم؛ يا مي إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كل صباح كمصباح سيال كهربائه شديد، ولكن فتيلته ضعيفة لا تحتمل.
هو «النار التي تلين.» هذا ما أبديت، ولكن ألا تعتقدين أن اللين قد يؤذي ولا يفيد، خصوصًا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، إنه ألانني حتى صيرني ماء، وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة!
يصبونه فينصب ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة، فيأخذ كل شكل ويصطبغ بما يراد به من الألوان، تبخره الطبيعة زارية هازئة فتارة ترفعه إلى السحاب وطورًا تقذف به إلى الأرض وآونة تعاكسه بصقيعها بردًا وآونة تحمى عليه براكينها فيخرج ملتهبًا، وحينًا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسوا منه غير ما يريدون وهو بريء، ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سكرًا فيحلو ويذيبون به الحنظل فيمر، وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنًا ولا يعترفون له بالجميل، وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض وأرخص الأشياء في أقلها، إنه مثلي يا مي يذهب ضياعًا.
وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك: «إنه النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعنى …» إلخ.
نعم يا مي إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني؛ فهل يا ترى ستعجبني السماء؟! إني أشك في ذلك، إني أول ما حفظت من الشعر حفظت المراثي وأولها رثاء الأندلس، وكنت في حداثتي أقرأ كثيرًا ديوان المتنبي وأعجب بروحه العالية وبنفسه الكبيرة، وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائي — رحمه الله — إني ألذ كثيرًا بهذه العدوى …
وقد قال لي أخي مرة بعد حديث كنت أشتكي له فيه الدنيا وأهلها، وأقول: «لعل الله يجزيني على هذا في آخرتي بالجنة.»
قال متهكمًا: «أنا واثق يا شقيقتي أن الجنة أيضًا لن تعجبك؛ لأنه لا يكاد يسرك شيء.» أستغفر الله!
إنك يا مي خالفت المألوف في التمنيات والمجاملات الفارغة، وهي كثيرة وشائعة جدًّا الآن (بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة المسيحيين، قلت: «ابتسمي له» أي: لدعائك «إن شئت وإلا فلا تصغي ولا تسمعي واسأليني عما أهمس به لأجيبك أني أحمد الله على إبلالك وأني أسأله أن يديمك سالمة … إلخ».)
لا يا عزيزتي، إني أكره الكذب والمجاملات الفارغة ولذلك أصغيت وسمعت وابتسمت (حسب أمرك)، وتسرني جدًّا صراحتك في الدعاء علي.
أتدرين يا مي أن ذلك اليوم الذي تمنيت لي فيه العذاب كان فيه عيد ميلادي أيضًا، وأني تفاءلت خيرًا بدعائك وافتتحت عامي الجديد بالضحك من تمنيك، وبصداقتي لك تبعًا لذلك التمني المعكوس، أشكر لك يا عزيزتي أمانيك لي ورغباتك الصادقة، وأقر لك أني واقعة فيما رجوت لي والحمد لله، ولكن يا مي لا أتمنى المزيد؛ إنه عذاب طاهر لا يتعدى الميل إلى السكون والشعور بشيء من الحزن الشعري الجميل، ولكنه ولله المنة والشكر، لا تخامره شائبة من الندم ولا من الأسف الأثيم وأخشى أن يزيد ضرام النار التي طلبتها لي؛ فأحترق يا مي أو أصل إلى ذلك الذي لا أريده لنفسي ولا أظنك تريدينه لي.
الساعة المفقودة
عجيب يا سيدتي أنك تريدين عذابي وأنا أريد هناءك! أتدرين ماذا سألقيه عليك فيفرحك؟!
إني وجدت ساعتك المفقودة والتقطتها، رأيتك ترثينها بحرقة فجئت لأمسح دموعك؛ لأني أحب دائمًا أن أمسح دمعة المحزون، تعالي إلي لتأخذيها وتستغفريها من وصفك إياها بالغدر وبعدم الإحساس، فإنها أحسب بشوقي لرؤيتك فأتت تقدمة لمجيئك ولتعارفنا.
إنها بثت إليَّ ما كنت تشكينه إليها من العواطف والآلام، عثرت عليَّ وعثرت عليها لنكفي قلبك شر الفناء من الوحدة، ولنؤكد لك أنك وجدت الصديقة التي لا تخون.
حكاية الرجل
والآن فلنعد إلى حكاية الرجل:
عجيب يا سيدتي أمر هذا المخلوق الغريب الأطوار الذي يسمى «بالرجل»، إني أعتقد أنه كريم شجاع وله قلب حساس ولكني أظنه (وبعض الظن إثم) أنانيًّا قبل كل شيء، ورأيي أن أنانيته وحدها هي أصل رذائله؛ فهو يهضم حق المرأة ويستعبدها، لا لأنه يبغضها أو يتمنى لها السوء ولكن ليلهو بها، وهو يحبها ويموت لأجلها لا لأنه يحبها ولكن ليلهو بها، وهو في كل ذلك واسع الحيلة قوي الحجة فيقنعها فتصدقه وهو كذوب.
أما المرأة فهي دائمًا تحترمه وتحبه لأنها تحبه صادقة، وإذا كرهته علانية، ولم يكن لذلك البغض من دواء. عرف ذلك أبو الطيب، فقال:
هي صادقة مخلصة دائمًا حتى وهي خاطئة، هي تحب لتفنى في الحب، ولكن الرجل يحب ليعيش متمتعًا بالحب، هي تحزن وقت المصاب لتتفرغ للحزن ولكن الرجل لا يحزن إلا ليبحث عن تعزية وسلوان.
المرأة كدودة القز تفرغ حريرها لتموت، إنها تعلم أن حريرها الذي تقدمه للملأ زينة وحلية سيقتلها، ولكنها لم تحاول قط الخلاص منه.
أما الرجل فهو كالنحلة يتنقل من زهرة إلى زهرة متروضًا، وقد يطيل المكث على زهرة ناضرة وإنما ليمتص منها نضارتها وماء حياتها، إنها تحب الأزهار حينًا ولكنها تلهو بها أحيانًا فتتركها هشيمًا، وهي تقدم للناس عسلًا فيه شفاء لهم وشمعًا نافعًا ولكنها تعملها لغذائها وسكنها قبل كل شيء.
ظلمنا الرجل حقوقنا، لا لأنه كان ينوي ظلمنا وإنما هو أخطأ كثيرًا في حسبانه، وإن ما يزيد في قوتنا يضعف من قوته هو، لعله ظن أن مملكتنا واحدة؛ ولذلك نظر إلينا نظر الدعيات الثائرات، وإنما نحن نريد له السعادة والمزيد من القوة في مملكته، ونرجو منه أن يفك عنا الخناق في مملكتنا المستقبلة التي تشد أزره ولا تفكر في إضعافه قط مهما بلغت من العزة والقوة، إننا نتقدم إليه كأننا ساعده الذي يريد أن يخدمه لا كأننا يد غريبة تريد أن تضربه، إننا منه وهو منا فليطب نفسًا وليقر عينًا وليعطنا ما نشاء.
وإنما نحن يا مي ضايقناه في بعض شؤون مملكته حتى ظننا نريد منازعته فيها؛ لنترك له السياسة التي يحبها وحمايتنا، وأقول لك همسًا: «إننا لا ننفع بدونه، ولكنه هو أيضًا لا ينفع من غيرنا!»
إن المطالبات بحق الانتخابات وإن كن يطلبن حقًّا إلا أنهن ظالمات الرجل وأنفسهن معًا، لماذا يرمن مشاركته في الجلوس على كراسي «البرلمان» ولا تقدم واحدة منهن صدرها للقاء كرات المدافع ونصال الفناء في الحرب، الحق أحق أن يتبع.
ليهنأ الرجل بمملكته، إننا لا نهز عرشه ليتداعى إلى السقوط كما تقولين، ولكنا نهزه لنطلب منه «الدستور».
ولها في وصف البحر في حالتي صفوه وكدره:
تعالى الله ما هذا الجلال! أيها البحر إنك كأطماع الإنسان لا تنتهي إلا إذا عبر جسر الحياة، كذلك أنت لا يعرف لك حد إلا عند الخروج منك، أو أنك كقلب الرجل مرة تصفو ومرة تغضب، لا أمان لك في الأولى ولا أمان في الثانية، إذا رضيت كنت جمالًا وإن غضبت انقلبت نكالًا.
أيها البحر، إنك رهوًا نعم المركب الذلول، كأن صفحتك من الغمام، يصطخب الموج بين أحشائك ويتلاشى كألفاظ الحاد تمر بسمع الحليم، وتشق البواخر جوف عبابك فتصبر عليها صبر الكليم، تحمل من الأثقال والأكدار ما لو حملته الجبال لخرت هدًّا، كأن صوتك الهادئ تموجات لحن شجي، وكان أمواجك المزبدة متتابعة متقابلة سرايا جيش منظم يحمل رايات السلام، إذا صحت السماء استعارت صفاء زرقتك وإن تجللت بالغيم حكت لون كدرتك، تضيق عليك الأرض مسالكها فتنكمش وتوسع لك فتنفرج، تجري متواضعًا تحت قدميها وأنت أعظم منها قوة وأعز شأنًا، تنفجر جبال النار (البراكين) بين ضلوعك فلا تلتاع ولا ترتاع كأنك أجمد من قلب الخلي، أو كأنها بثور بأديمك أو أثر لذع البعوض في وجه الحسناء، كم سقطت فيك جزر وبلدان تحتمي بك من مآثمها ومعاصيها فمسحتها بدموعك ونفيت روعتها بمائك الطهور، ظلموك أيها البحر إذ لم يهتموا بك اهتمامهم بأختك الغبراء، زينوها وتركوك عاطلًا ففنيت بجلالك عن جمالها المصطنع، وبحدائق مرجانك وأودية درك عن حدائقها الخضراء وأوديتها الجرداء، وصلتهم فقطعوك، وشايعتهم فناوؤوك، بذلت لهم ما تملكه زينةً وطعامًا وتسامحت لهم بمائك فحللوه شرابًا وأنخت لهم متنك فاتخذوه ركابًا، وصقلت لهم جبينك فجعلت منه عند بزوغ القمرين مرآة ومشكاة تفيض عليهم بهجة ونورًا، كأن العسجد أذيب فيك نهارًا، وتكسرت في ثنائك جداول اللجين ليلًا، وأنت أيها البحر الخضم أصل حياتهم، منك الغيث ومن الغيث الحياة، أظللت سماءهم وأنبت غذاءهم وألطفت هواءهم، وفوق ذلك فأنت مستودع أسرارهم وقارورة أقذارهم، فهل تراهم على ذلك يشكرون؟! تالله ما رأيت مثلك اتضاعًا في عظمة واحتسابًا في قدرة.
وإذا عبثت أيها البحر وكشرت عن نابك، ويا سرعان ما تعبث! فإن الموت في تقطيب حاجبيك يصرح الشر باسمه عند زمجرة منك، كأن جوفك كان مملوءًا أسودًا فلفظتها فاغرة أفواهها، تبلع من تصادف في طريقها، يدوي صوتك كالرعد القاصف فيمطر وابل المنايا بغير ولي، ما أظلمك أيها البحر! مستبد غاشم؛ تأخذ البريء بدم المجرم أو تأخذه بلا جريرة، إن الله لم يظلمك إذ جعلك ملحًا أجاجًا، وإن البشر لم يبخسوك حقك إذ امتطوا ظهرك كالدابة ومزقوا أديمك سفرًا، وإن أقل خفقة في قلب الأرض تذكر تضطرب على اتساعك، وأدنى هزة من الريح تهز أعصابك، لا أمان عندك فتحب ولا ميعاد لغضبك فتتقى، كأنك في تقلبك رأي الضعيف أو يمين الحانث وفي تلونك كالحرباء، كم مجرم استعان بك على كتمان جريمته، وكم ملك أفنى رعيته ودفن العدل في جوفك كأن آذيك متلاطمًا قمم الجبال تتساقط كسفًا أو رؤوس الجند البريء تتناثر إرضاء لأهواء الملوك الظالمين، كأن جوفك المظلم ضمير الحسود يغلي كالرجل ويخفي ما يخفي تحت ثوب الرياء، تنطح الصخر الأصم كمستجدي البخيل، ثم ترجع أدراجك كالسائل المحروم أو كالجيش المقهور تشمخ بأنفك فترغمها اختراعات الإنسان، وتتطاول على السماء فتسقط إعياء ويرجع البصر خاسئًا وهو حسير، لا أثر للرحمة عندك كأنك قلب الكافر الجحود، لا يسوغ لك شراب تمج مرارة كمرارة المظلوم أرهقه العذاب، كأن بريق مائك التماع أسنة الخرصان أو امتداد ألسنة النيران، شاهر سيفك بادئ العدوان، لكنك لا تتمثل في هجومك بما يفعله الشجعان؛ لأنك تطلع على الغافلين بالردى بغير نذير.
لا حبذا أنت أيها البحر من طريق ولا رفيق، لولا اضطرارنا إليك ما سلكناك، ومن يسلم منك فما ينجو من الحِمام إلى الحِمام كما قال المتنبي:
ما أكفر الإنسان وما أضعف إيمانه! أين قوته واختراعه من قدرة الله سبحانه؟! إن في البحر وحده حالتي صفوه وهياجه لعبرة لقوم يعقلون، فسلام عليك أيها البحر ضاحكًا وعبوسًا، وسلام عليك إنك أبو الكون ومحيطه، وسلام عليك لو لم يكن لك فضل إلا وصل مصر بأجزاء العالم لكفاك بذلك فضلًا، ولو لم يكفِ ماؤك أن يصل لمصر لأكلته بشراييني.