الْغَرِيقُ النَّاجِي
(١) لَيْلَةٌ لَا تُنْسَى
وَقَعَتْ حَوَادِثُ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْجُحَوِيَّةِ الشَّائِقَةِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ وَأَلْفٍ مِنَ السِّنِينَ.
ذَاتَ مَسَاءٍ: كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ: عَبْدُ اللهِ دُجَيْنُ بْنُ ثَابِتٍ» يَسِيرُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ. كَانَتْ لَيْلَةً لَا تُنْسَى! كَانَتْ حَافِلَةً بِالْمُفَاجَآتِ! كَانَ لَهَا فِي حَيَاةِ «أَبِي الْغُصْنِ» أَكْبَرُ الْأَثَرِ.
مَا أَظُنُّهُ نَسِيَهَا طُولَ حَيَاتِهِ. مَا أَظُنُّ الْقَارِئَ سَيَنْسَاهَا طُولَ حَيَاتِهِ.
شَاعَ الصَّمْتُ وَسَادَ السُّكُونُ، لَوْلَا نَقِيقُ الضَّفَادِعِ الْمَرِحَةِ مُنْبَعِثًا مِنْ ضِفَّةِ النَّهْرِ.
جَلَسَ «أَبُو الْغُصْنِ» هَادِئَ النَّفْسِ مُطْمَئِنًا، بِرَغْمِ مَا لَقِيَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ كَوَارِثَ وَأَحْدَاثٍ.
لَوْ أَنَّ بَعْضَ مَا حَلَّ بِبَطَلِ قِصَّتِنَا مِنَ الْمَصَائِبِ أَصَابَ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ، لَمَا وَجَدَ الْعَزَاءُ إِلَى نَفْسِهِ سَبِيلًا، وَلَضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِمَا رَحُبَتْ، وَدَارَتْ بِهِ الْأَرْضُ قَائِمًا.
(٢) أَيَّامُ الشِّدَّةِ
تَسْأَلُنِي: مَاذَا لَقِيَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنَ النَّكَبَاتِ؟
اعْلَمْ — حَفِظَكَ اللهُ وَرَعَاكَ، وَسَلَّمَكَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَعَافَاكَ — أَنَّ أَحَدَ الْأَشْرَارِ أَحْرَقَ بَيْتَ «أَبِي الْغُصْنِ».
هَكَذَا عَبَسَ لَهُ وَجْهُ الزَّمَانِ! هَكَذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ:
لَمْ تَمْتَدَّ إِلَيْهِ — بِالْمُسَاعَدَةِ — يَدُ أَحَدٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ كَانَ يَدَّخِرُهُمْ لِلنَّوَائِبِ، وَيَسْتَبْقِيهِمْ لِلشَّدَائِدِ.
تَمَّتْ لَهُ — بِذَلِكَ — كُلُّ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ. لَمْ يَكُنْ يَنْقُصُهُ شَيْءٌ لِيَكُونَ أَتْعَسَ خَلْقِ اللهِ إِنْسَانًا!
(٣) جَارَةٌ مُحْسِنَةٌ
لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعِينٌ — فِي نَكْبَتِهِ — غَيْرُ جَارَتِهِ «زُبَيْدَةَ» الْمُحْسِنَةِ.
لَوْلَا عَطْفُ هَذِهِ الْجَارَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدَيْهِ، لَهَلَكُوا جُوعًا!
لَكِنَّ اللهَ لَطَفَ بِهِمْ، فَأَتَاحَهَا لَهُمْ لِتَتَعَهَّدَهُمْ فِي أَيَّامِ الْمِحْنَةِ وَالشَّقَاءِ.
(٤) نَفْسٌ رَاضِيَةٌ
أَتَعْرِفُ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ — كَيْفَ لَقِيَ «أَبُو الْغُصْنِ» تِلْكَ الْأَحْدَاثَ وَالْخُطُوبَ؟
لَقِيَهَا بَاسِمَ الثَّغْرِ وَضَّاحَ الْجَبِينِ، عَامِرَ الْقَلْبِ بِنُورِ الْيَقِينِ!
لَعَلَّكَ تَدْهَشُ إِذَا قُلْتُ لَكَ: إِنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْهَائِلَةَ بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ رَاضِيَةٍ.
(٥) عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ
كَانَتِ الضَّفَادِعُ — قَبْلَ حُضُورِهِ — تَمْلَأُ الْجَوَّ بِنَقِيقِهَا. سَكَنَتِ الضَّفَادِعُ حِينَ رَأَتْهُ قَادِمًا عَلَيْهَا.
اسْتَقَرَّ بِهِ الْجُلُوسُ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ.
عَاوَدَتْهَا الشَّجَاعَةُ. أَنِسَتْ بِهِ. اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ. أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ.
سُرْعَانَ مَا عَاوَدَهَا الْمَرَحُ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا الْبَهْجَةُ.
انْطَلَقَتِ الضَّفَادِعُ تَقْفِزُ فِي الْفَضَاءِ، وَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا بِمَا تَمْلِكُ مِنْ قَبِيحِ الْغِنَاءِ!
(٦) نَجَاةُ الْغَرِيقِ
عَثَرَ بِطَرَفِ ثَوْبٍ! أَطْبَقَتْ يَدَاهُ عَلَيْهِ، وَجَذَبَهُ إِلَيْهِ. بَذَلَ قُصَارَى جُهْدِهِ حَتَّى أَنْقَذَ الْغَرِيقَ. حَمَلَهُ إِلَى الشَّاطِئِ، بَعْدَ أَنْ أَشْرَفَ كِلَاهُمَا عَلَى الْغَرَقِ.
(٧) شُكْرُ النَّاجِي
أَبَى لَكَ فَضْلُكَ وَمُرُوءَتُكَ، إِلَّا أَنْ تُخَاطِرَ بِحَيَاتِكَ، لِتُنْقِذَ حَيَاتِي! جَزَاكَ اللهُ — بِمَا صَنَعْتَ — خَيْرًا. لَوْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، لَكَانَ الْهَلَاكُ نَصِيبِي!
(٨) حِوَارٌ عَجِيبٌ
أَنَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِي. لَسْتُ أَدْرِي — عَلَى التَّحْقِيقِ — أَجَمِيلًا صَنَعْتَ مَعِي، أَمْ قَبِيحًا؟! لَسْتُ أَدْرِي — عَلَى التَّحْقِيقِ — أَخَيْرًا قَدَّمْتَ إِلَيَّ، أَمْ شَرًّا؟!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَاذَا تَعْنِي؟ أَكُنْتَ تَقْصِدُ عَامِدًا إِلَى إِغْرَاقِ نَفْسِكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَا بَالُكَ — إِذَنْ — تَنْدَمُ عَلَى نَجَاتِكَ؟ لِمَ لَا تَحْمَدُ اللهَ عَلَى سَلَامَتِكَ؟»
(٩) آلَامُ الشَّيْخِ
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَاذَا يَحْزُنُكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟»
قَالَ الشَّيْخُ: «مَثِّلْ لِنَفْسِكَ شَيْخًا فَانِيًا مِثْلِي، مَاتَتْ أُسْرَتُهُ جَمِيعًا: أَوْلَادُهُ وَزَوْجَتُهُ، وَأَخَوَاتُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَأَقَارِبُهُ الْأَدْنَوْنَ وَالْأَبْعَدُونَ. مَاتُوا جَمِيعًا!
أَتُرَاهُ يَسْعَدُ بِذَلِكَ أَمْ يَشْقَى؟ أَتُرَاهُ يَبْتَهِجُ بِاسْتِرْدَادِ حَيَاتِهِ، أَمْ يَأْسَفُ لِخَلَاصِهِ وَنَجَاتِهِ؟
(١٠) بَرَاءَةٌ مِنَ الضَّعْفِ
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» يُنَاجِي نَفْسَهُ، فِي صَوْتٍ خَافِتٍ: «مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَسْتَنْكِرُ الْبَقَاءَ، وَيَلْعَنُ الْحَيَاةَ؟!»
(١١) آهَةُ الْمَحْزُونِ
إِيَّاكَ أَنْ تَأْخُذَ عَلَيَّ مَا سَمِعْتَ! إِنَّهَا آهَةٌ مَحْزُونَةٌ. إِنَّهَا كَلِمَةٌ حَمْقَاءُ، سَبَقَتْ إِلَى خَاطِرِي، فَنَطَقَ بِهَا لِسَانِي فِي سَاعَةِ أَلَمٍ عَارِضَةٍ، لَمْ يَتَدَبَّرْ عَقْلِي مَغْزَاهَا، وَلَا تَثَبَّتَ فِكْرِي مِنْ مَعْنَاهَا!»
(١٢) أَسْبَابُ السَّعَادَةِ
قَطَعَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى الشَّيْخِ صَمْتَهُ. سَأَلَهُ: «مَنِ الرَّجُلُ؟»
أَجَابَهُ الشَّيْخُ: اسْمِي: «لَعْلَعٌ»، كُنْيَتِي: «أَبُو شَعْشَعٍ»، اسْمُ أَبِي: «دَعْدَعٌ»، اسْمُ جَدِّي: «هَدْرَشٌ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «كَلَّا، يَا صَاحِبِي. السَّعَادَةُ لَمْ تُفَارِقْنِي طُولَ حَيَاتِي. مَا أَذْكُرُ أَنَّنِي شَعَرْتُ بِالتَّعَاسَةِ يَوْمًا وَاحِدًا؛ عَلَى كَثْرَةِ مَا أَصَابَنِي مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ.
أَلَا تَرَى كَيْفَ تَتَوَالَى الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ: صَيْفٌ يَتْلُوهُ خَرِيفٌ، وَشِتَاءٌ يَتْلُوهُ رَبِيعٌ؟!
كَذَلِكَ يَتَعَاقَبُ حُزْنٌ وَفَرَحٌ. انْقِبَاضٌ وَانْبِسَاطٌ، يَأْسٌ وَرَجَاءٌ. شِدَّةٌ وَرَخَاءٌ. عُسْرٌ وَيُسْرٌ. فَقْرٌ وَغِنًى. ظُلْمَةٌ وَنُورٌ. مَرَضٌ وَصِحَّةٌ. لَا يَبْقَى حَالٌ وَلَا يَدُومُ! إِنَّ الْحُزْنَ وَالسُّرُورَ — فِيمَا أَرَى — يَتَعَاقَبَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.»
قَالَ الشَّيْخُ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا سَمِعْتُ — طَوَالَ حَيَاتِي — أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِكَ، وَلَا أَحْكَمَ مِنْ رَأْيِكَ! لَئِنْ صَحَّ ظَنِّي؛ لَيَكُونَنَّ لَكَ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي حَيَاتِكَ، وَبَعْدَ مَمَاتِكَ.»
(١٣) مَأْسَاةُ «أَبِي الْغُصْنِ»
أَطْرَقَ الشَّيْخُ لَحْظَةً، اسْتَأْنَفَ بَعْدَهَا قَائِلًا: «تُرَى: مَنْ تَكُونُ، أَيُّهَا السَّيِّدُ الْكَرِيمُ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: اسْمِي: «عَبْدُ اللهِ دُجَيْنٌ»، كُنْيَتِي: «أَبُو الْغُصْنِ»، اسْمُ أَبِي: «ثَابِتٌ»، اسْمُ جَدِّي: «جَحْوَانُ.»
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا صِنَاعَتُكَ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «كُنْتُ — إِلَى يَوْمِ أَمْسِ — تَاجِرًا غَنِيًّا. لَكِنَّ حَرِيقًا شَبَّ فِي بَيْتِي وَمَخْزَنِي، الْتَهَمَهُمَا الْحَرِيقُ جَمِيعًا. أَتَى الْحَرِيقُ عَلَى كُلِّ مَا أَمْلِكُ مِنْ أَثَاثٍ وَبَضَائِعَ. لَمْ يُبْقِ لِيَ الْحَرِيقُ — مِمَّا مَلَكْتُهُ — كَثِيرًا، وَلَا قَلِيلًا.
حَمْدًا للهِ، عَلَى كُلِّ حَالٍ. تَدَارَكَنِيَ اللهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، سَلِمَ كُلُّ مَنْ فِي الدَّارِ … سَلِمَتْ زَوْجَتِي، وَوَلَدِي وَابْنَتِي. شُكْرًا للهِ عَلَى بَدِيعِ أَلْطَافِهِ.
كِدْنَا نَهْلِكُ جُوعًا؛ لَوْلَا جَارَتُنَا الْكَرِيمَةُ «زُبَيْدَةُ». مَا أَطْيَبَ قَلْبَهَا، وَمَا أَكْرَمَ صُنْعَهَا! شُكْرًا لَهَا. مَدَّتْ إِلَيْنَا يَدَ الْمَعُونَةِ، أَحْوَجَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهَا. تَكَفَّلَتْ بِإِطْعَامِ زَوْجِي وَوَلَدَيَّ.
•••
قَالَ الشَّيْخُ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا أَعْجَبَ قِصَّتَكَ! أَنْسَتْنِي مَصَائِبُكَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — كُلَّ مَا لَقِيتُ فِي حَيَاتِي مِنْ أَحْدَاثٍ وَآلَامٍ.»
(١٤) فَضْلُ الصَّبْرِ
اسْتَأْنَفَ الشَّيْخُ يَقُولُ: «كَيْفَ تَكُونُ الدُّنْيَا إِذَا خَلَتْ مِنْ ذَوِي الْمُرُوءَةِ وَالْفَضْلِ؟ كَيْفَ تَكُونُ الْحَيَاةُ إِذَا خَلَتْ مِنْ كِرَامِ الْمُحْسِنِينَ؟»
•••
قَالَ لَهُ «أَبُو الْغُصْنِ»: «دَعْنَا مِنْ حَدِيثِ الْأَحْزَانِ. لَيْسَ فِي ذِكْرَيَاتِ الْمَصَائِبِ فَائِدَةٌ تُرْجَى. سَيَنْقَضِي وَقْتُ الشِّدَّةِ إِذَا صَبَرْنَا لَهَا. سَيَعْقُبُهُ وَقْتُ الرَّخَاءِ. سَوْفَ تُنْسِينَا بَهْجَتُهُ جَمِيعَ مَا كَابَدْنَاهُ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا وَآلَامِهَا.
مَتَى صَبَرَ الْإِنْسَانُ لِجَهْدِ نَازِلَةٍ أَصَابَتْهُ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى احْتِمَالِهَا، وَابْتَسَمَ لِلْكَوَارِثِ وَالنَّكَبَاتِ — غَيْرَ هَيَّابٍ وَلَا وَجِلٍ — لَمْ تَلْبَثِ الْغُمَّةُ أَنْ تَنْجَلِيَ عَنْهُ وَيَنْسَاهَا، كَمَا نَسِيَ غَيْرَهَا مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْآلَامِ.
الْعَاقِلُ مَنْ يَرْضَى بِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ! هَيْهَاتَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَاقِلُ لِلضَّعْفِ! إِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ شِدَّةٍ مُدَّةً، ثُمَّ تَنْقَضِي. إِنَّهُ يَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ صَبَرَ لِلْمِحْنَةِ غَلَبَهَا، وَانْتَصَرَ عَلَيْهَا!»
(١٥) فِي ضِيَافَةِ «أَبِي الْغُصْنِ»
صَمَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» قَلِيلًا. اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «هَلُمَّ، يَا «أَبَا شَعْشَعٍ». اتْبَعْنِي إِلَى الدَّارِ. أَنْتَ وَاجِدٌ فِيهِ — عَلَى ضِيقِهِ — مَكَانًا تَأْوِي إِلَيْهِ. سَنُحْضِرُ بَعْضَ الْحَشَائِشِ وَالْأَعْشَابِ. سَوْفَ نُوقِدُهَا، لِنُجَفِّفَ ثِيَابَنَا الْمُبْتَلَّةَ.»
•••
أَطْرَقَ «أَبُو شَعْشَعٍ» لَحْظَةً. اسْتَأْنَفَ يَقُولُ: «قَبِلْتُ ضِيَافَتَكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». شُكْرًا لَكَ! لَعَلَّ اللهَ — سُبْحَانَهُ — يُوَفِّقُنِي ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى أَدَاءِ هَذَا الْجَمِيلِ إِلَيْكَ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «إِنَّ فِي صُنْعِ الْمَعْرُوفِ لَذَّةً يَتَضَاءَلُ أَمَامَهَا كُلُّ جَزَاءٍ مَهْمَا جَلَّ، وَتَصْغُرَ — بِالْقِيَاسِ إِلَيْهَا — كُلُّ مُكَافَأَةٍ مَهْمَا عَظُمَتْ. حَسْبِي سُرُورًا وَابْتِهَاجَا أَنْ يُمَكِّنَنِي اللهُ — عَلَى فَقْرِي — مِنَ الْقِيَامِ بِوَاجِبِ الضِّيَافَةِ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى جَزَاءٍ وَلَا شُكْرٍ. فَخَيرُ مَا يُكَافَأُ بِهِ الْإِنْسَانُ — يَا سَيِّدِي — شُعُورُهُ بِأَنَّهُ أَدَّى وَاجِبَهُ، وَفَرَحُهُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ!
هَلُمَّ، يَا صَاحِ، فَاعْتَمِدْ ذِرَاعِي. اتَّكِئْ عَلَيْهَا لِتُسَاعِدَكَ عَلَى السَّيْرِ.»
(١٦) دَعَوَاتٌ مُسْتَجَابَةٌ
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا أَبْعَدَ نَظَرَكَ، وَأَحْكَمَ رَأْيَكَ، وَأَصْدَقَ نِيَّتَكَ، وَأَسْلَمَ طَوِيَّتَكَ! أَنَا عَلَى ثِقَةً أَنَّ الْفَوْزَ وَالْفَلَاحَ مُقَدَّرَانِ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا!
اللهُ — سُبْحَانَهُ — يَتَوَلَّى حِمَايَتَكَ، وَيُخَلِّدُ — عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ — اسْمَكَ وَسُمْعَتَكَ.
اللهُ — سُبْحَانَهُ — يُسَخِّرُ لَكَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ لِمُعَاوَنَتِكَ وَخِدْمَتِكَ، وَيَجْعَلُهُمْ طَوْعَ مَشِيئَتِكَ، وَرَهْنَ إِشَارَتِكَ.»
•••