مِصْبَاحُ الْكَنْزِ
(١) الْمِفْتَاحُ الذَّهَبِيُّ
ظَلَّ الصَّدِيقَانِ يَتَحَدَّثَانِ حَتَّى بَلَغَا سَفْحَ الْجَبَلِ. الْتَفَتَ «أَبُو شَعْشَعٍ» إِلَى «أَبِي الْغُصْنِ» مُتَظَاهِرًا بِالدَّهْشَةِ. قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «أَيُّ شَيْءٍ مَا أَرَى؟»
نَظَرَ «أَبُو الْغُصْنِ» تَحْتَ قَدَمَيْهِ، رَأَى مِفْتَاحًا مِنَ الذَّهَبِ!
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «لَعَلَّهُ مِفْتَاحُ كَنْزٍ، سَاقَهُ إِلَيْكَ حَظُّكَ السَّعِيدُ!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لَدَيَّ كَنْزٌ مِنَ الْقَنَاعَةِ لَا يَفْنَى! حَسْبِي أَنْ أَبِيعَ هَذَا الْمِفْتَاحَ، لِأَدْفَعَ بِثَمَنِهِ بَعْضَ مَا رَكِبَنِي مِنْ دَيْنٍ.»
(٢) بَابُ الْمَغَارَةِ
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «أَلَا تَرَى بَرِيقًا يَنْبَعِثُ مِنْ سَفْحِ الْجَبَلِ؟ تُرَى: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ هَلُمَّ نَذْهَبْ إِلَيْهِ لنَتَعَرَّفَهُ.»
دَهِشَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِمَّا رَأَى. مَشَى مَعَ صَاحِبِهِ حَتَّى بَلَغَاهُ. مَا أَعْجَبَ مَا رَأَيَاهُ! لَوْحٌ مِنَ الذَّهَبِ، عَلَى بَابِ كَهْفٍ كَبِيرٍ فِي حِضْنِ الْجَبَلِ. انْعَكَسَتْ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عَلَيْهِ. أَحْدَثَ انْعِكَاسُ أَشِعَّتِهَا مَا رَأَيَاهُ مِنْ بَرِيقٍ.
(٣) خَاطِرٌ مُلْهَمٌ
(٤) فِي دَاخِلِ الْكَنْزِ
ابْتَسَمَ «أَبُو شَعْشَعٍ» الْتَفَتَ إِلَى صَاحِبِهِ قَائِلًا: «شَدَّ مَا تَحَقَّقَ الْحُلْمُ الَّذِي رَأَيْتُهُ لَيْلَةَ أَمْسِ! لَعَلَّهُ الْكَنْزُ الَّذِي شَهِدْتُهُ فِي الْمَنَامِ! مَا أَصْدَقَ الْأَحْلَامَ! لَا مَجَالَ لِلتَّرَدُّدِ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ» هَلُمَّ فَادْخُلْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.»
لَمْ يَتَرَدَّدْ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي طَاعَةِ صَاحِبِهِ. أَسْرَعَ بِالدُّخُولِ. أُغْلِقَ بَابُ الْكَنْزِ، دُونَ أَنْ يُغْلِقَهُ أَحَدٌ.
(٥) حَيْرَةُ «أَبِي الْغُصْنِ»
عَجِبَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِمَّا حَدَثَ. اتَّجَهَ إِلَى صَاحِبِهِ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ أَغْلَقَ الْبَابَ. لَمْ يَسْمَعْ جوَابَ سُؤَالِهِ. تَلَفَّتَ يَبْحَثُ عَنْ صَاحِبِهِ. لَمْ يَجِدْ لَهُ أَثَرًا. اشْتَدَّ عَجَبُهُ. تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ مِفْتَاحَ الْكَنْزِ فِي قُفْلِ الْبَابِ، مِنَ الْخَارِجِ.
سَاوَرَتْهُ الْحَيْرَةُ. اشْتَدَّ بِهِ الْحَرَجُ. كَيْفَ الْخَلَاصُ؟ كَيْفَ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْمَأْزِقِ؟ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ. أَصْبَحَ الْكَنْزُ لَهُ سِجْنًا؟ ظَلَامٌ حَالِكٌ يَغْمُرُ الْكَنْزَ! تُرَى مَاذَا يَصْنَعُ؟
(٦) حَارِسُ الْكَنْزِ
مَشَى «أَبُو الْغُصْنِ» بِضْعَ خُطُوَاتِ.
غَيْرُ «أَبِي الْغُصْنِ» يَتَمَلَّكُهُ الْفَزَعُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْجَزَعُ.
(٧) عَوْدَةُ الْمِفْتَاحِ
جَرَى «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى مَأْلُوفِ عَادَتِهِ فِي مُجَابَهَةِ الْخُطُوبِ. لَمْ يُفَارِقْهُ ثَبَاتُهُ وَرَبَاطَةُ جَأْشِهِ. ابْتَدَرَ الْعِمْلَاقَ بِالتَّحِيَّةِ، بَاسِمَ الثَّغْرِ.
دَهِشَ الْعِمْلَاقُ مِمَّا رَأَى. لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يُعْجَبَ بِشَجَاعَةِ «أَبِي الْغُصْنِ»، وَصِدْقِ إِيمَانِهِ. هِشَّ لَهُ وَبَشَّ. رَدَّ تَحِيَّتَهُ بِأَحْسَنَ مِنْهَا. رَحَّبَ بِقُدُومِهِ أَيَّمَا تَرْحِيبٍ. قَالَ الْعِمْلَاقُ: «أَلَا تَذْكُرُ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»، أَنَّكَ نَسِيتَ مِفْتَاحَ الْكَنْزِ فِي الْقُفْلِ!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لَمْ أَنْسَهُ، يَا سَيِّدِي لَكِنَّ الْبَابَ أُغْلِقَ دُونَ أَنْ يُغْلِقَهُ أَحَدٌ. لَمْ يَكُنْ لِي يَدٌ فِي إِغْلَاقِهِ.»
قَالَ الْعِمْلَاقُ: «لَمْ يَكُنْ لَكَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى الْخُرُوجِ، بَعْدَ فِقْدَانِ الْمِفْتَاحِ. كَادَ الْكَهْفُ يُصْبِحُ سِجْنًا لَكَ! إِنَّ أُسْتَاذِي «أَبَا شَعْشَعٍ» لَمْ يَفُتْهُ ذَلِكَ. أَدْرَكَ حَرَجَ مَوْقِفِكَ بَعْدَ فِقْدَانِ الْمِفْتَاحِ. أَشْفَقَ عَلَيْكَ. لَمْ يَشَأْ أَنْ تَطُولَ حَيْرَتُكَ. أَمَرَنِي أَنْ أُعِيدَ الْمِفْتَاحَ الذَّهَبِيَّ إِلَيْكَ.
(٨) حَيَّةُ الْكَنْزِ
كَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّكَ أَنَّ حَيَّةَ الْكَنْزِ عَثَرَتْ عَلَيْهِ. مَا إِنْ عَثَرَتِ الْحَيَّةُ عَلَيْهِ، حَتَّى أَسْلَمَتْهُ إِلَى أُسْتَاذِنَا «أَبِي شَعْشَعٍ». مَا إِنْ تَسَلَّمَهُ «أَبُو شَعْشَعٍ»، حَتَّى أَمَرَنَا بِتَسْلِيمِ الْمِفْتَاحِ إِلَيْكَ.
هَا هِيَ ذِي حَيَّةُ الْكَنْزِ تُحَيِّيكَ، وَتُلْقِي إِلَيْكَ بِمِفْتَاحِ الْكَنْزِ. نَحْنُ جَمِيعًا لِأَمْرِ أُسْتَاذِنَا «أَبِي شَعْشَعٍ» سَمِيعُونَ، وَلِإِشَارَتِهِ مُطِيعُونَ.»
أَتَمَّ الْمَارِدُ كَلَامَهُ. قَذَفَتْ حَيَّةُ الْكَنْزِ بِالْمِفْتَاحِ مِنْ فِيهَا. لَقِفَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» شَاكِرًا مَسْرُورًا. اسْتَخْفَتِ الْحَيَّةُ وَالْمَارِدُ عَنْ نَاظِرَيْهِ فِي الْحَالِ.
(٩) عَاقِبَةُ الصَّبْرِ
أَحَسَّ «أَبُو الْغُصْنِ» إِحْسَاسًا خَفِيًّا أَنَّهُ قَادِمٌ عَلَى سَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ … سَعَادَةٍ لَمْ يَكُنْ لِيَحْلُمَ بِمِثْلِهَا مِنْ قَبْلُ.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى ثِقَةٍ مِنَ الْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ.
كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّ اللهَ سَيَجْزِيهِ — عَلَى صَبْرِهِ — الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، بَعْدَ أَنْ تَنَكَّرَ لَهُ الزَّمَانُ، وَهَرَبَ مِنْهُ الْأَصْحَابُ وَالْخِلَّانُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ — مِنْ مَصَائِبِ الْحَرِيقِ وَالدَّيْنِ وَالْفَاقَةِ — صُنُوفٌ وَأَلْوَانٌ.
كَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّهِ أَنَّهُ شُجَاعٌ. لَا يَسْتَسْلِمُ لِلْيَأْسِ. كَانَ مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَتِهِ أَنَّهُ يَلْقَى أَحْدَاثَ الدَّهْرِ بِصَدْرٍ رَحِيبٍ، وَيَتَحَمَّلُهَا بِصَبْرٍ عَجِيبٍ وَأَمَلٍ لَا يَخِيبُ.
كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
كَانَ عَلَى حَقٍّ. لَوْلَا أَنَّ اللهَ يُرِيدُ بِهِ خَيْرًا، لَمَا أَلْهَمَهُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ. طَالَمَا سَمِعَ: أَنَّ الصَّبْرَ مِفْتَاحُ الْفَرَجِ. هَا هِيَ الْحِكْمَةُ الصَّادِقَةُ تَتَحَقَّقُ. هَا هُوَ ذَا يَعْثُرُ عَلَى الْمِفْتَاحِ الذَّهَبِيِّ فِي أَشَدِّ سَاعَاتِهِ حَرَجًا.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» يُؤْمِنُ بِالصَّبْرِ إِيمَانًا عَجِيبًا. كَانَ يَرَى فِيهِ جُمَّاعَ الْفَضَائِلِ.
طَالَمَا قَالَ لِنَفْسِهِ: «إِنَّ الْعَقْلَ هُوَ أَكْبَرُ مَا مَيَّزَ اللهُ بِه الْإِنْسَانَ عَلَى الْحَيَوَانِ. وَأَعْظَمُ مَا شَرَّفَهُ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ. مَا أَجْدَرَ الْعَقْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمُبْدِعِ الْعَجِيبِ، وَيَصْنَعَ الْمُعْجِزَ الْغَرِيبَ! لَكِنَّ الْعَقْلَ — مَعَ جَلَالِ خَطَرِهِ — رُبَّمَا وَقَفَ حَائِرًا أَمَامَ مُشْكِلَةٍ مِنَ الْمَشَاكِلِ، وَتَحَيَّرَ إِزَاءَ كَارِثَةٍ لَا يُجْدِي فِيهَا إِلَّا الِاسْتِسْلَامُ لِقَضَاءِ اللهِ وَالرِّضَى بِمَا قَدَّرَهُ.
هُنَا يَتَوَاصَى بِالصَّبْرِ. سُرْعَانَ مَا يَتَجَلَّى فَضْلُ الصَّبْرِ مُعِينًا وَهَادِيًا: يَعْمُرُ النَّفْسَ. يُبَدِّدُ الْيَأْسَ، يُذْهِبُ الْحَيْرَةَ وَالْقَلَقَ، وَيُحِلُّ مَكَانَهُمَا السَّكِينَةَ، وَالْأَمْنَ وَالطُّمَأْنِينَةَ. بَعْدَ حِينٍ، تَنْجَلِي الْأَزْمَةُ، وَتَنْكَشِفُ الْغُمَّةُ. تَمُرُّ الْعَاصِفَةُ الْعَاتِيَةُ، وَتَنْتَصِرُ النَّفْسُ الرَّاضِيَةُ!»
(١٠) بَصِيصٌ مِنَ النُّورِ
أَفَاقَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ تَأَمُّلِهِ. أَلِفَتْ عَيْنَاهُ ظَلَامَ الْكَهْفِ، كَمَا أَلِفَ قَلْبُهُ — مِنْ قَبْلُ — ظَلَامَ الْمَصَائِبِ وَالْخُطُوبِ. أَدْرَكَ أَنَّهُ وَاقِفٌ فِي قَاعَةٍ فَسِيحَةٍ، تَنْتَهِي إِلَى رُوَاقٍ، يَنْبَعِثُ مِنْ أَحَدِ أَرْكَانِهِ بَصِيصٌ مِنْ نُورٍ.
دَخَلَ أُولَاهَا: وَجَدَهَا مُخَمَّسَةَ الزَّوَايَا.
دَخَلَ الثَّانِيَةَ: وَجَدَهَا مُسَدَّسَةَ الزَّوَايَا.
(١١) مَصْدَرُ الضَّوْءِ
دَخَلَ الثَّالِثَةَ: رآهَا مُسَبَّعَةَ الزَّوَايَا.
رَأَى فِيهَا نُورًا سَاطِعًا تَشِعُّ أَضْوَاؤُهُ عَلَى سَائِرِ الْحُجُرَاتِ الْمَمْلُوءَةِ بِنَفَائِسِ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ، وَاللَّآلِئِ الْيَتِيمَةِ.
الْآنَ اهْتَدَى إِلَى مَصْدَرِ النُّورِ الَّذِي يُرْسِلُ أَضْوَاءَهُ إِلَى أَبْهَاءِ الْكَنْزِ وَحُجُرَاتِهِ؛ كَمَا يُرْسِلُ الرَّجَاءُ أَضْوَاءَهُ إِلَى النَّفْسِ، فَيُنِيرُ جَنَبَاتِهَا، وَيُبَدِّدُ ظُلُمَاتِهَا، وَيَعْمُرُ الْقَلْبَ، فَيُبَدِّدُ الشَّقَاءَ وَالْكَرْبَ.
(١٢) مِصْبَاحُ الْكَنْزِ
(١٣) قَوْسُ قُزَحَ
أَتَذْكُرُ قَوْسَ قُزَحَ؟
(١٤) حَدِيثُ الْمِصْبَاحِ
خُيِّلَ إِلَى «أَبِي الْغُصْنِ» — مِمَّا شَاهَدَهُ فِي الْمِصْبَاحِ الصَّغِيرِ — أَنَّهُ يَنْبِضُ بِحَيَاةِ لَا يَعْرِفُ لَهَا مَصْدَرًا، وَلَا يَدْرِي لَهَا كُنْهًا. حَيَاةٍ لَا شَكَّ فِيهَا، وَلَا مِرَاءَ.
سَمِعَ «أَبُو الْغُصْنِ» هَمْسًا. اقْتَرَبَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنَ الْمِصْبَاحِ. مَا أَعْجَبَ مَا حَدَثَ!
سَمِعَ الْمِصْبَاحَ يَقُولُ: «خُذْنِي، أَيُّهَا السَّعِيدُ أَنْتَ جَدِيرٌ بِي، وَأَنَا جَدِيرٌ بِكَ.»
اسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى «أَبِي الْغُصْنِ». كَادَتْ تُسْلِمُهُ إِلَى الذُّهُولِ. كَادَ لَا يُصَدِّقُ مَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ.
(١٥) نُورُ الْمِصْبَاحِ
انْبَعَثَ مِنْ مِصْبَاحِ الْكَنْزِ شُعَاعٌ بَاهِرُ السَّنَا، تَشِعُّ أَضْوَاؤُهُ فِي جَنَبَاتِ الرُّوَاقِ، فَتَجْلُو لِرَائِيهَا مَنَاظِرَ فَاتِنَةً بَهِيجَةً، لَمْ تَرَ مِثْلَهَا عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ حُسْنُهَا عَلَى قَلْبٍ!
(١٦) مَفَاتِنُ الْكَنْزِ
تَسْأَلُنِي: مَاذَا رَأَى؟
هَيْهَاتَ لِوَاصِفٍ — مَهْمَا أُوتِيَ مِنْ بَرَاعَةِ الْبَيَانِ — أَنْ يُصَوِّرَ لَكَ مَا رَأَى.
كَانَ الْكَنْزُ يَحْوِي مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْقَاعَاتِ وَالْأَرْوِقَةِ. كَانَ الْمِصْبَاحُ الصَّغِيرُ يُضِيئُهَا جَمِيعًا. كَانَ سَنَاهُ الْبَاهِرُ يَكْشِفُ مَحَاسِنَهَا، وَيُظْهِرُ مَفَاتِنَهَا. كَانَ يَجْلُو لِلْعَيْنِ رَوَائِعَ مِنْ نُقُوشِ حِيطَانِهَا، وَبَدَائِعَ مِنْ تَصَاوِيرِ سُقُوفِهَا. كَانَ سَقْفُهَا يُخَيِّلُ لِمَنْ يَرَاهُ؛ أَنَّهُ سَمَاءٌ انْتَثَرَتْ فِي قُبَّتِهَا اللَّآلِئُ، كَمَا تُنْثَرُ النُّجُومُ فِي قُبَّةِ السَّمَاءِ!
عَبَثًا أُحَاوِلُ أَنْ أَرْسُمَ لَكَ صُورَةً كَامِلَةً مِنْ غَرَائِبِ مَا أَبْصَرَهُ وَمُدْهِشَاتِهِ.
هَيْهَاتَ ذَلِكَ هَيْهَاتَ! لَوْ حَاوَلْتُ وَصْفَ بَعْضِهِ، لَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الصَّفَحَاتِ لِرِوَايَةِ الْقِصَّةِ!
(١٧) حَيَاةُ التَّرَفِ
حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ. رَأَى عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ أَرَائِكَ مِنَ الْآبَنُوسِ، بَارِعَةَ الصُّنْعِ؛ عَلَيْهَا وَسَائِدُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَرْدِيَّةُ اللَّوْنِ، مُغَطَّاةٌ بِنَفَائِسَ مِنَ الدِّمَقْسِ.
رَأَى جَمْهَرَةً مِنَ الشَّبَابِ، تَفِيضُ عَلَى وُجُوهِهِمُ النِّعْمَةُ، فَوْقَ الْوَسَائِدِ. كَانُوا يَبْدُونَ لِمَنْ يَرَاهُمْ، فِي صُورَةِ الْكُسَالَى الْخَامِلِينَ، الْمُنْغَمِسِينَ فِي الرَّاحَةِ وَالتَّرَفِ. كَانُوا بَيْنَ النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ يَتَثَاءَبُونَ. كَانُوا سَادِرِينَ فِي أَحْلَامِهِمْ. كَانَتْ ثِيَابُهُمْ مُزَرْكَشَةً بِالْمَاسِ.
حَانَتْ مِنْ «أَبِي الْغُصْنِ» الْتِفَاتَةٌ. رَأَى رَجُلًا صَامِتًا يَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيْهِ صِينِيَّةً مِنَ الْبَلُّورِ، عَلَيْهَا أَكْوَابٌ مِنَ الْيَاقُوتِ الْأَزْرَقِ، مَقَابِضُهَا مِنَ الزُّمُرُّدِ، مَمْلُوءَةٌ بِلَذَائِذَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ؛ كَشَرَابِ التُّفَّاحِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْبُرْتُقَالِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
رِيحُ الْمِسْكِ تَنْبَعِثُ فِي أَرْجَاءِ الْقَاعَةِ مِنْ مَبَاخِرَ مَصْنُوعَةٍ مِنَ الْفِضَّةِ، مَصْفُوفَةٍ فِي نِظَامٍ عَجِيبٍ، حَوْلَ أَسِرَّةٍ مِنَ الذَّهَبِ الْأَصْفَرِ، مُوَشَّاةٍ بِاللُّؤْلُؤِ وَأَصْدَافِهِ.
(١٨) هَيْكَلُ الرَّاحَةِ
دَهِشَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِمَّا رَأَى. لَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ التَّرَفُ الَّذِي يَغْمُرُ أُولئِكَ الشَّبَابَ؛ فَيُحَبِّبُ إِلَيْهِمُ الرَّاحَةَ وَالْكَسَلَ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِمْ إِلَى الْفَنَاءِ.
سَأَلَ «أَبُو الْغُصْنِ»، الْمِصْبَاحَ: «أَيُّ شَيْءٍ هَذَا الَّذِي أَرَى؟»
أَدْرَكَ الْمِصْبَاحُ مَا يَدُورُ بِخَلَدِهِ مِنَ الْأَفْكَارِ. قَالَ الْمِصْبَاحُ: «هَذَا هَيْكَلُ الرَّاحَةِ! فِي هَذِهِ الْقَاعَةِ يَتَعَذَّبُ الْمُتْرَفُونَ الْمُتَبَطِّلُونَ. الرَّاحَةُ تُضْجِرُهُمْ، وَالْبَطَالَةُ تُمْرِضُهُمْ، هؤُلَاءِ يُعَذَّبُونَ بِالنَّعِيمِ، وَيَشْقَوْنَ بِالرَّاحَةِ، كَمَا يُعَذَّبُ غَيْرُهُمْ بِالشِّقَاءِ!»
حَانَتْ مِنْ «أَبِي الْغُصْنِ» الْتِفَاتَةٌ. رَأَى أَمَامَهُ تِمْثَالًا مِنَ الْمَرْمَرِ يُمَثِّلُ الْحَظَّ. كَانَ عَلَى صُورَةِ فَتَاةٍ مَلَائِكِيَّةٍ، جَالِسَةٍ عَلَى سَرِيرٍ مِنَ الذَّهَبِ، مُحَلَّى بِأَثْمَنِ الْفُصُوصِ، وَهِيَ جَمِيلَةُ الْقَسَمَاتِ، صَافِيَةُ اللَّوْنِ لَيْسَ فِي جَبِينِهَا النَّقِيِّ أَثَرٌ لِلتَّجَعُّدِ. عَيْنَاهَا الْجَمِيلَتَانِ، لَيْسَ فِيهِمَا شُعَاعٌ مِنَ التَّفْكِيرِ وَالْفَهْمِ، بَلْ تَدُلَّانِ عَلَى بَلَاهَةٍ وَفَرَاغِ بَالٍ. لَمْ تُؤَثِّرِ السِّنُونَ وَالْأَيَّامُ فِي جِسْمِهَا أَقَلَّ تَأْثِيرٍ.
اقْتَرَبَ مِنْهَا «أَبُو الْغُصْنِ». نَهَضَتْ إِلَيْهِ الْفَتَاةُ مُتَبَاطِئَةً. أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ مُبْتَسِمَةً. شَخَصَتْ إِلَيْهِ بِبَصَرِهَا، كَأَنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ جَلِيَّةَ أَمْرِهِ. انْفَرَجَتْ شَفَتَاهَا عَنْ صَوْتٍ رَائِعِ الْغِنَاءِ، بَارِعِ الْأَدَاءِ. رَتَّلَ تِمْثَالُ السَّعَادَةِ الْأُنْشُودَةَ التَّالِيَةَ، أَبْدَعَ تَرْتِيلٍ:
تَلَفَّتَ «أَبُو الْغُصْنِ» حَوْلَهُ. رَأَى تَمَاثِيلَ مُبْدَعَةً مِنَ الْمَرْمَرِ، تُمَثِّلُ الشَّجَاعَةَ وَالْعَمَلَ وَالرَّجَاءَ. كَانَتْ تُرَتِّلُ أَنَاشِيدَ رَائِعَةً. اسْتَمَعَ إِلَيْهَا وَهِيَ تُنْشِدُ:
كَأَنَّمَا أَفَاقَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ رُقَادٍ عَمِيقٍ. كَأَنَّمَا انْتَهَى مِنْ حُلْمٍ طَوِيلٍ. خَرَجَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنَ الْقَاعَةِ. قَالَ: «كَلَّا. لَا أُحِبُّ التَّرَفَ، وَلَا أُطِيقُ الرَّاحَةَ. التَّرَفُ وَالرَّاحَةُ — فِيمَا أَرَى — مَجْلَبَةٌ لِلشَّقَاءِ. وَدَاعِيَةٌ إِلَى الْفَنَاءِ.»
(١٩) حَدِيقَةُ الْحَيَاةِ
الْتَفَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» حَوْلَهُ. رَأَى نَفْسَهُ فِي الْحُجْرَةِ ذَاتِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا.
قَالَ الْمِصْبَاحُ: «سَمِعْتُكَ تَهْتِفُ بِالْحَيَاةِ. انْظُرْ أَمَامَكَ لَعَلَّكَ وَاجِدٌ فِي هَذِهِ الْحَدِيقَةِ طِلْبَتَكَ، وَبَالِغٌ فِيهَا أُمْنِيَّتَكَ!»
أَلْقَى الْمِصْبَاحُ نُورَهُ عَلَى الْحُجْرَةِ سَاطِعًا وَهَّاجًا، يَكَادُ لِوَهَجِهِ يُذِيبُ الْجُدْرَانَ، وَيَخْتَرِقُ الْحِيطَانَ. تَجَلَّتْ أَمَامَ «أَبِي الْغُصْنِ» فُنُونٌ مِنَ الطُّرَفِ، وَأَلْوَانٌ مِنَ الْعَجَائِبِ، لَا يُحِيطُ بِهَا الْوَصْفُ. تَبَدَّتْ أَمَامَهُ حَدِيقَةُ الْحَيَاةِ فِي أَبْهَى رُوَاءٍ. لَمْ يَفْتِنْهُ مَا رَآهُ فِي أَرْجَائِهَا مِنْ كُنُوزِ الذَّهَبِ وَالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ. إِنَّمَا فَتَنَهُ وَسَحَرَ لُبَّهُ مَا رَآهُ فِي الْحَدِيقَةِ مِنْ أَعْشَابٍ وَأَزْهَارٍ، وَأَشْجَارٍ وَأَثْمَارٍ، وَبَلَابِلَ وَأَطْيَارٍ.
امْتَلَأَ الْمَكَانُ بِأَذْكَى الرَّوَائِحِ الْعَطِرَةِ. افْتَنَّتِ الطُّيُورُ فِي تَغْرِيدِهَا عَلَى أَغْصَانِ الشَّجَرِ. امْتَزَجَ بِغِنَائِهَا خَرِيرُ الْمِيَاهِ وَهَدِيرُهَا، بَيْنَ حَشَائِشِ الْحَدِيقَةِ وَأَعْشَابِهَا.
غَمَرَتِ السَّعَادَةُ نَفْسَ «أَبِي الْغُصْنِ». ذَكَّرَتْهُ بِوَلَدَيْهِ وَزَوْجَتِهِ. تَمَنَّى لَوْ صَحِبُوهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْفَاتِنِ الْبَهِيجِ!
(٢٠) رُمُوزٌ وَتَمَاثِيلُ
أَنْعَمَ النَّظَرَ فِي تِلْكَ الثَّمَارِ النَّاضِجَةِ … خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ التُّفَّاحَةَ تُمَثِّلُ الْعِلْمَ. وَأَنَّ الْكُمَّثْرَى تَرْمُزُ إِلَى الصِّنَاعَةِ. وَالْكَرِيزَ تَتَمَثَّلُ فِيهِ صُورَةُ اللُّطْفِ وَالْوَدَاعَةِ. وَعِنَبَ الثَّعْلَبِ تَنْبَعِثُ مِنْهُ ضِحْكَةُ السُّرُورِ وَالْمَرَحِ.
تَخَيَّلَ الشَّجَاعَةَ تَحْتَ قِشْرَةِ التِّينِ. وَالطِّيبَةَ تَحْتَ قِشْرَةِ الْمِشْمِشِ. وَالِاقْتِصَادَ فِي اللَّيْمُونِ الْحُلْوِ. وَالْإِحْسَانَ فِي الْبُرْتُقَالِ. وَجَمَالَ الْفَنِّ فِي هَيْئَةِ الْخَوْخِ. وَرَمْزَ الصَّبْرِ فِي الْبُرْقُوقَةِ. وَمَصْدَرَ الْفَصَاحَةِ فِي الْعِنَبِ. وَهَكَذَا …!
احْتَوَتِ الْحَدِيقَةُ جَمِيعَ مَا تُخْرِجُهُ بِلَادُ الدُّنْيَا مِنْ أَلْوَانِ الثَّمَرِ، وَفُنُونِ الشَّجَرِ وَالزَّهَرِ، فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ.
•••
عَجِبَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِمَّا رَأَى. بَحَثَ عَنْ مَصْدَرِ الْأَشِعَّةِ الَّتِي أَنْضَجَتِ الْأَشْجَارَ، وَفَتَّحَتِ الْأَزْهَارَ، وَأَنْطَقَتِ الْأَطْيَارَ!
عَجَبٌ أَيُّ عَجَبٍ! نُورٌ يَمْلَأُ الْأَرْجَاءَ. مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟! لَا شَمْسَ — فِي الْكَهْفِ — وَلَا سَمَاءَ!
«أَبُو الْغُصْنِ» يُسَائِلُ نَفْسَهُ مَدْهُوشًا: «تُرَى مِنْ أَيِّ كَوْكَبٍ تَنْبَعِثُ الْحَيَاةُ فِي هَذَا الْكَهْفِ الْمُقْفَلِ؟ تُرَى أَيُّ قُوَّةٍ أَنْشَأَتْ فُنُونَ هَذِهِ التُّحَفِ وَالْبَدَائِعِ، وَنَسَّقَتْ أَشْتَاتَ مَا أَرَى مِنَ الطُّرَفِ وَالرَّوَائِعِ؟»
(٢١) صَوْتٌ هَامِسٌ
صَوْتٌ خَافِتٌ يَهْمِسُ. إِنَّهُ صَوْتُ الْمِصْبَاحِ يَقُولُ: «الْعَمَلُ. إِنَّهُ الْعَمَلُ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»! إِنَّهُ الْعَمَلُ وَحْدَهُ، لَا شَيْءَ غَيْرَهُ! لَوْلَا الْعَمَلُ لَتَعَطَّلَ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ! لَوْلَاهُ لَتَوَقَّفَ الْكَوْنُ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَكَفَّ الْفَلَكُ عَنِ الدَّوَرَانِ!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «صَدَقْتَ، يَا سَيِّدِي! إِنَّهُ الْعَمَلُ. لَا شَيْءَ غَيْرُ الْعَمَلِ. هُوَ — كَمَا تَقُولُ — مَصْدَرُ الْحَرَكَةِ. وَالْحَرَكَةُ بَرَكَةٌ، كَمَا تَقُولُ الْأَمْثَالُ الصَّادِقَةُ. لَكِنَّ التَّجْرِبَةَ عَلَّمَتْنَا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُجْدِي وَلَا يُؤْتِي ثِمَارَهُ، إِذَا لَمْ تُمِدَّهُ الشَّمْسُ بِحَرَارَتِهَا وَضَوْئِهَا. بِغَيْرِ الشَّمْسِ لَا تَنْمُو حَيَاةٌ وَلَا يَنْضَجُ ثَمَرٌ!»
قَالَ الْمِصْبَاحُ: «كَلَامُكَ حَقٌّ، حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا مِرَاءَ. لَمْ تَعْدُ الصَّوَابَ فِيمَا تَقُولُ. لَوْلَا الشَّمْسُ مَا كَانَ نَبَاتٌ، وَلَا عَاشَ حَيٌّ مِنَ الْكَائِنَاتِ. هَذَا، فِي عَالَمِكُمُ الْأَرْضِيِّ. أَمَّا فِي عَالَمِنَا الْعُلْوِيِّ — حَيْثُ نَعِيشُ — فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِنُورِ الشَّمْسِ وَلَا حَرَارَتِهَا. الْأَمْرُ عِنْدَنَا جِدُّ مُخْتَلِفٍ. شَتَّانَ بَيْنَ حَيَاتَيْنَا.
لَوْ كَانَ هَذَا الْكَهْفُ مُتَّصِلًا بِعَالَمِكُمُ الْإِنْسِيِّ، لَكَانَ كَمَا تَقُولُ. لَكِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ عَالَمِكُمُ الْأَرْضِيِّ، مُتَّصِلٌ بِعَالَمِنَا الْعُلْوِيِّ؛ لِذَلِكَ يَغْمُرُهُ النُّورُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى الشَّمْسِ.
(٢٢) فَضْلُ الْعَمَلِ
شَيْءٌ وَاحِدٌ يَجْمَعُ بَيْنَنَا، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَيُّنَا. لَا تَقُومُ لَكُمْ قَائِمَةٌ — بِدُونِهِ — وَلَا لَنَا. تَشْتَرِكُ فِيهِ الْكَائِنَاتُ، وَلَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ عَلَى اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَأَشْكَالِهَا، وَقُوَاهَا وَأَحْجَامِهَا.
تَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّمْلَةُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الضَّآلَةِ وَالصِّغَرِ، كَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْفِيلُ الْمُتَنَاهِي فِي الضَّخَامَةِ وَالْكِبَرِ، يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسِيُّ الْخَائِرُ الضَّعِيفُ، وَالْجِنِّيُّ الْمَارِدُ الْعَنِيفُ. إِنَّهُ الْعَمَلُ. حَيَّ عَلَى الْعَمَلِ. حَيَّ عَلَى الْعَمَلِ.»
•••
لَاذَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِالصَّمْتِ. غَرِقَ فِي بَحْرٍ مِنَ التَّأَمُّلِ. لَمْ يَلْبَثُ أَنْ صَحَا مِنْ تَفْكِيرِهِ الْعَمِيقِ. الْتَفَتَ إِلَى الْمِصْبَاحِ قَائِلًا: «صَدَقْتَ. صَدَقْتَ. مَا خُلِقْنَا إِلَّا لِلْعَمَلِ. لَا حَيَاةَ — لِكُلِّ مَنْ فِي الْوُجُودِ — بِغَيْرِ عَمَلٍ. حَيَّ عَلَى الْعَمَلِ. حَيَّ عَلَى الْعَمَلِ.»
(٢٣) شَجَرَةُ الْفَاكِهَةِ
عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ شَجَرَةٌ دَانِيَةُ الْقُطُوفِ، مُحَمَّلَةٌ بِلَذَائِذِ الثَّمَرِ، طَعَامٌ سَائِغٌ، وَشَرَابٌ هَنِيٌّ. فِيهِمَا شِبَعٌ وَرِيٌّ. ثَمَرٌ يُغْرِيهِ وَيُرَاوِدُهُ. امْتَدَّتْ لِقَطْفِهِ يَدُهُ.
كَادَ يَتَنَكَّبُ سَبِيلَ الْأَمَانَةِ وَالطُّهْرِ، وَيَتَرَدَّى فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ وَالشَّرِّ.
خَاطِرٌ كَرِيمٌ طَافَ بِرَأْسِهِ، أَشَاعَ الْحِكْمَةَ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ. سُرْعَانَ مَا تَيَقَّظَ ضَمِيرَهُ الْحَيُّ. أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُعَاتِبُهَا. يُسَائِلُهَا وَيُحَاسِبُهَا: كَيْفُ يَجْرُؤُ عَلَى الطَّمَعِ فِيمَا لَيْسُ لَهُ؟
كَيْفَ يَسْتَحِلُّ لِنَفْسِهِ أَنْ يَلْمُسَ فَاكِهَةً لَمْ يَأْذَنْ لَهُ صَاحِبُهَا فِيهَا؟
أَسْرَعَ بِالْفِرَارِ وَالْهَرَبِ. حَمِدَ اللهَ عَلَى أَنْ يَسَّرَ لَهُ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، وَنَجَّاهُ مِنْ فِتْنَةِ الْغَوَايَةِ.
(٢٤) حَوْضُ الْمَاءِ
حَوْضٌ مِنَ الرُّخَامِ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ «أَبِي الْغُصْنِ»: حَوْضٌ يَنْسَابُ إِلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ نَافُورَةٍ عَالِيَةٍ. الْحَوْضُ تَكْتَنِفُهُ الْأَزْهَارُ. مَاؤُهُ الْعَذْبُ النَّمِيرُ يَتَدَفَّقُ أَمَامَ نَاظِرَيْهِ. الظَّمَأُ يَكَادُ يَقْتُلُهُ. قَالَ فِي نَفْسِهِ: «لِلْفَاكِهَةِ صَاحِبٌ يَمْلِكُهَا. أَمَّا الْمَاءُ فَلَيْسَ وَقْفًا عَلَى صَاحِبِهِ، بَلْ هُوَ حِلٌّ مُبَاحٌ مَبْذُولٌ لِشَارِبِهِ.»
فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، لَمْ يَتَرَدَّدْ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي الِارْتِوَاءِ مِنْ مَاءِ الْحَوْضِ. مَا كَانَ أَعْذَبَهُ مَاءً! قَطَرَاتٌ قَلِيلَةٌ مِنْهُ أَرْوَتْهُ. مَا إِنِ اسْتَقَرَّتْ فِي جَوْفِهِ حَتَّى سَرَتْ فِي عُرُوقِهِ الصِّحَّةُ، وَتَمَشَّتْ فِي مَفَاصِلِهِ الْعَافِيَةُ؛ وَزَايَلَ أَعْضَاءَهُ الْفُتُورُ وَالْوَهَنُ.
تَحَرَّكَ جِسْمُهُ الْهَامِدُ بَعْدَ يَبْسٍ. خَفَّ بَعْدَ ثِقَلٍ رَشُقَ بَعْدَ كَلَالٍ. نَشِطَ بَعْدَ كَسَلٍ. صَحَّ بَعْدَ سَقَمٍ. قَوِي بَعْدَ ضَعْفٍ. خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ دَمًا قَوِيًّا يَدِبُّ فِي جِسْمِهِ وَيَسْرِي فِي عُرُوقِهِ. أَحَسَّ قُوَّةً لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهَا فِي طُفُولَتِهِ وَصِبَاهُ.
(٢٥) قَطَرَاتُ الْعَافِيَةِ
مَا أَسْعَدَهُ بِهَذِهِ النَّتِيجَةِ!
إِنَّ كُنُوزَ الْعَالَمِ كُلَّهَا لَا تُسَاوِي مَا أَظْفَرَتْهُ بِهِ الْقَطَرَاتُ الْعَذْبَةُ مِنْ صِحَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَمَا سَكَبَتْهُ فِي عُرُوقِهِ مِنْ قُوَّةٍ وَعَافِيَةٍ.
عَمَرَتِ الْبَهْجَةُ قَلْبَهُ، صَيَّحَ قَائِلًا: «مَا أَسْعَدَ الْإِنْسَانَ يَعِيشُ حَيَاتَهُ سَلِيمَ الْجِسْمِ مُعَافًى قَوِيًّا!»
أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُسَائِلُهَا: «تُرَى مِنْ أَيْنَ سَرَتْ إِلَيَّ هَذِهِ الْقُوَّةُ الْمُفَاجِئَةُ؟ أَكَانَ فِي قَطَرَاتِ الْمَاءِ الْقَلِيلَةِ سِرُّ هَذَا التَّغَيُّرِ الشَّامِلِ الطَّارِئِ، وَمَبْعَثُ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْعَارِمَةِ الْمُفَاجِئَةِ؟!»
(٢٦) صَوْتُ الْمِصْبَاحِ
بَقِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ أُرِيدُ أَنْ أُنَبِّهَكَ إِلَيْهِ …»
(٢٧) مُقَاطَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» غَارِقًا فِيمَا ظَفِرَ بِهِ مِنَ السَّعَادَةِ، الَّتِي أَظْفَرَهُ بِهَا مَاءُ الْحَوْضِ الْمَسْحُورُ.
لَهُ الْعُذْرُ إِذَا مَلَكَ عَلَيْهِ الْفَرَحُ كُلَّ نَفْسِهِ، وَأَذْهَلَهُ الْفَوْزُ عَنْ كُلِّ مَا حَوْلَهُ. لَهُ الْعُذْرُ إِذَا غَفَلَ عَنِ الْمِصْبَاحِ، غَيْرَ عَامِدٍ.
أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَزِيزُ: لَوْ كُنَّا — أَنْتَ أَوْ أَنَا — مَكَانَ «أَبِي الْغُصْنِ»! تُرَى مَاذَا كُنَّا صَانِعَيْنِ؟ أَمَا كَانَ الْفَرَحُ يَطْغَى عَلَيْنَا — كَمَا طَغَى عَلَى «أَبِي الْغُصْنِ» — فَيُنْسِيَنَا الْإِصْغَاءَ إِلَى بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَهُ الْمِصْبَاحُ؟
(٢٨) أَمَلٌ وَرَجَاءٌ
أَيُّ فَوْزٍ وَأَيُّ سَعَادَةٍ أَدْرَكَا «أَبَا الْغُصْنِ»؟ مَا أَجْدَرَهُ بِمَا ظَفِرَ!
تُرَى: أَيُتَاحُ لَنَا — أَنْتَ وَأَنَا — أَنْ نَرْوَى مِنْ هَذَا الْمَاءِ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ «أَبُو الْغُصْنِ».
تُرَى: أَيَسْتَطِيعُ الْعِلْمُ أَنْ يَهْتَدِيَ — بَعْدَ زَمَنٍ، قَرِيبًا كَانَ أَمْ بَعِيدًا — إِلَى سِرِّ هَذَا الْمَاءِ النَّاجِعِ الشَّافِي؟
(٢٩) تَحْذِيرٌ هَامِسٌ
اسْتَعْذَبَ «أَبُو الْغُصْنِ» الْمَاءَ. سَاوَرَهُ الطَّمَعُ فِي مَزِيدٍ مِنَ السَّعَادَةِ. حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنَ الْحَوْضِ جُرْعَةً أُخْرَى.
صَوْتٌ هَامِسٌ يُحَذِّرُهُ. صَوْتُ الْمِصْبَاحِ يَهْمِسُ فِي أُذُنِهِ قَائِلًا: «مَا بَالُكَ تُصِمُّ أُذُنَيْكَ عَنْ سَمَاعِ نَصِيحَتِي؟ مَا بَالُكَ تُقَاطِعُنِي؟ مَاذَا عَلَيْكَ لَوْ سَمِعْتَ بَقِيَّةَ حَدِيثِي؟!»
خَجِلَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِمَّا صَنَعَ. ابْتَدَرَ الْمِصْبَاحَ مُعْتَذِرًا عَنْ خَطَئِهِ. اسْتَأْنَفَ الْمِصْبَاحُ قَائِلًا: «قُلْتُ لَكَ: إِنَّ شَيْئًا وَاحِدًا يَدْفَعُنِي وَاجِبِي إِلَى تَحْذِيرِكَ مِنْهُ، وَتَنْبِيهِكَ إِلَيْهِ. لَكِنَّكَ غَفَلْتَ عَنِّي. أَنَا أَلْتَمِسُ لَكَ الْعُذْرَ. لَسْتُ أَجْهَلُ أَنَّ فَرَحَكَ — بِمَا ظَفِرْتَ بِهِ — أَذْهَلَكَ عَنْ وَاجِبِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى نَصِيحَتِي. عَفَوْتُ عَنْكَ هَذِهِ الْمَرَّةَ. إِيَّاكَ أَنْ تَعُودَ لِمِثْلِهَا!»
أَدْرَكَ «أَبُو الْغُصْنِ» خَطَأَهُ. اشْتَدَّ بِهِ الْخَجَلُ. أَسْرَعَ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَمَّا بَدَرَ مِنْهُ مِنْ خَطَأٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ وَلَا مُتَعَمَّدٍ.
قَالَ الْمِصْبَاحُ: «اعْلَمْ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — أَنَّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْحَوْضِ مَرَّةً وَاحِدَةً، تُكْتَبُ لَهُ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ طُولَ حَيَاتِهِ. فَإِذَا شَرِبَ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى، عَاجَلَهُ الْمَوْتُ وَطَوَاهُ الْفَنَاءُ!»
(٣٠) الشَّيْخُ الْفَتَى
ارْتَاعَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِمَّا سَمِعَ. رَفَعَ رَأْسَهُ مَدْهُوشًا. أَرَادَ أَنْ يُكَرِّرُ اعْتِذَارَهُ … يَا لِلْمُفَاجَأَةِ! مَا أَعْجَبَ مَا حَدَثَ!
شَابٌّ جَمِيلَ الطَّلْعَةِ، بَسَّامُ الثَّغْرِ، غَضُّ الْإِهَابِ، مَوْفُورُ الشَّبَابِ، أَنِيقُ الثِّيَابِ، يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيُحَيِّيهِ. دَهِشَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِمَّا رَأَى!
كَانَ الْقَادِمُ فِي هَيْئَةِ الْفَتَى الْوَسِيمِ. كَانَ فِي قَسِمَاتِ وَجْهِهِ الْمُشْرِقِ شَبَهٌ عَجِيبٌ يُذَكِّرُهُ بِضَيْفِهِ؟ «أَبِي شَعْشَعٍ». لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ خِلَافٍ، إِلَّا فَرْقُ مَا بَيْنَ الشَّبَابِ الْفَيَّاضِ بِالنِّشَاطِ وَالْحَرَكَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ الْوَاهِنَةِ الْفَانِيَةِ.
اشْتَدَّتْ حَيْرَةُ «أَبِي الْغُصْنِ». لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَقُولُ.
ابْتَدَرَهُ الْفَتَى قَائِلًا: «أَيُّ شَاغِلٍ أَذْهَلَكَ عَنْ رَدِّ التَّحِيَّةِ؟ مَاذَا يَرِيبُكَ مِنْ أَمْرِي؟ مَا بَالُكَ تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَيَّ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «عَجَبٌ مَا أَرَى، أَيُّ عَجَبٍ! كَيْفَ لَا تَتَمَلَّكُنِي الدَّهْشَةُ، وَتَسْتَبِدُّ بِيَ الْحَيْرَةُ؟!
صُورَةٌ فَيَّاضَةٌ بِالْفُتُوَّةِ، زَاخِرَةٌ بِالشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ، ذَكَّرَتْنِي بِشَيْخٍ مَهِيبٍ جَلِيلٍ. كَانَ يَصْحَبُنِي مُنْذُ وَقْتٍ قَلِيلٍ. كَانَ صَاحِبِي الْعَزِيزُ، شَيْخًا طَاعِنًا فِي السِّنِّ، تَحَالَفَتْ عَلَيْهِ الْأَمْرَاضُ وَالْعِلَلُ. أَعْجَزَتْهُ الشَّيْخُوخَةُ، وَأَضْنَاهُ الْهَرَمُ. كَانَ — فِي الْحَقِّ — أَشْبَهَ إِنْسَانٍ بِكَ. صُورَتُكَ تُمَثِّلُهُ فِي أَوَّلِ الشَّبَابِ. صُورَتُهُ تُمَثِّلُكَ فِي نِهَايَةِ الشَّيْخُوخَةِ.»
(٣١) حَدِيثُ الْفَتَى
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَيَّ كَلَامٍ أَسْمَعُ؟ أَتَعْنِي أَنَّكَ أَنْتَ …؟»
قَالَ الشَّيْخُ: «نَعَمْ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». مَا عَدَوْتَ الصَّوَابَ فِيمَا ظَنَنْتَ. أَنَا مَنْ حَسِبْتَ. أَنَا «أَبُو شَعْشَعٍ»، «لَعْلَعُ بْنُ دَعْدَعِ بْنِ هَدْرَشٍ» الَّذِي أَنْقَذْتَ حَيَاتَهُ لَيْلَةَ أَمْسِ مِنَ الْغَرَقِ. كُنْتُ أَمُرُّ بِبَلَدِكَ، لِحُسْنِ حَظِّي وَحَظِّكَ. عَرَفْتُ مَأْسَاتَكَ. أَعْجَبَنِي ثَبَاتُكَ — فِي مُوَاجَهَةِ الْخُطُوبِ — وَشَجَاعَتُكَ. أَرَدْتُ أَنْ أُخَفِّفَ عَنْكَ بَعْضَ مَا تُعَانِي مِنْ أَلَمٍ.
عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أُهَيِّئَ لَكَ الْوَسِيلَةَ لِأَدَاءِ مَا عَلَيْكَ مِنْ دَيْنٍ؛ لِتَسْتَأْنِفَ حَيَاةً كَرِيمَةً، تَسْتَرِدُّ فِيهَا مَا فَقَدْتَ مِنْ ثَرَاءٍ وَغِنًى. تَبَدَّيْتُ لَكَ — أَوَّلَ مَا تَبَدَّيْتُ — فِي صُورَةِ شَيْخٍ هَرِمٍ، طَاعِنٍ فِي السِّنِّ. لَمْ أَغْفُلْ عَنْكَ — مُنْذُ فَارَقْتُكَ — لَحْظَةً وَاحِدَةً. لَمْ تَغْمُضْ لِي عَيْنٌ عَنْ حِرَاسَتِكَ. ظَلِلْتُ سَاهِرًا عَلَيْكَ، دُونَ أَنْ تُبْصِرَنِي. حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَسْتَخْفِيَ عَنْكَ.
عَرَفْتُ مُرُوءَتَكَ وَصِدْقَ أَمَانَتِكَ. كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ لَنْ تَتَعَدَّى شُرْبَ الْمَاءِ لِتَرْوَى. ذَلِكَ حَقٌّ لَا يُنَازِعُكَ فِيهِ أَحَدٌ. الْمَاءُ مَبْذُولٌ لشَارِبِهِ. كُنْتُ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ يَدَكَ لَنْ تَمْتَدَّ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا تَنُوءُ بِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ جَنِيِّ الثَّمَرِ، مَا دُمْتَ لَمْ تَسْتَأْذِنْ صَاحِبَهُ فِي أَخْذِهِ.
كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَجَاحِكَ فِي هَذِهِ التِّجْرِبَةِ الْعَسِيرَةِ، بَعْدَ مَا شَاهَدْتُهُ مِنْ كَرِيمِ شَمَائِلِكَ، وَنُبْلِ فَضَائِلِكَ. صَحَّ مَا تَوَقَّعْتُ. لَمْ يَخِبْ ظَنِّي. صَدَقَ تَأْمِيلِي فِيكَ.
لَكِنِّي بِرَغْمِ ثِقَتِي فِي أَمَانَتِكَ، رَأَيْتُ أَنْ أَحْتَاطَ لِلَّطوَارِئِ. خَشِيتُ أَنْ تُصْغِيَ إِلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. تَعَمَّدْتُ أَنْ أَكُونَ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْكَ. كُنْتُ مُتَحَفِّزًا لِمَنْعِكَ عَنْ قَطْفِ الثِّمَارِ، لَوْ أَنَّكَ هَمَمْتَ بِذَلِكَ.
(٣٢) فَضْلُ الْأَمَانَةِ
كَانَ مِنْ دَوَاعِي نَجَاحِكَ وَسَلَامَتِكَ، أَنْ تَعَفَّفْتَ عَنْ ثَمَرَاتِهَا وَتَوَرَّعْتَ. هَنِيئًا لَكَ مَا صَنَعْتَ. أَسْعَدَتْكَ أَمَانَتُكَ. أَنْقَذَتْكَ مِنْ شَرٍّ عَظِيمٍ. إِنَّهَا «شَجَرَةُ الشَّقَاءِ»، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». ثَمَرَاتُهَا تَحْوِي كُلَّ مَا يَفِيضُ بِهِ الْعَالَمُ مِنْ بَلَاءٍ وَشَرٍّ، وَأَذِيَّةِ وَضَرٍّ. لَمْ يَغْرِسْهَا غَارِسٌ، وَلَمْ يَزْرَعْهَا زَارِعٌ. لَمْ يَتَعَهَّدْهَا بِالسَّقْيِ سَاقٍ وَلَا بُسْتَانِيٌّ. لَمْ يُشْرِفْ عَلَى نَمَائِهَا إِنْسَانٌ. لَمْ يَفِ بِرَعَايَتِهَا كَائِنٌ كَانَ.
شَاءَتْ قُدْرَةُ اللهِ — سُبْحَانَهُ — أَنْ تَنْبُتَ وَحْدَهَا فِي عَالَمِ الْحَيَاةِ. سُحْقًا لَهَا. مَا أَتْعَسَهَا شَجَرَةً! مَا أَتْعَسَ جُنَاتَهَا، وَقَاطِفِي ثَمَرَاتِهَا.
كَمْ أَتْعَبَتِ الْمُخْلِصِينَ، وَسَمَّمَتْ حَيَاةَ الْكِرَامِ الْعَامِلِينَ! كَمْ بَذَلَ الْهُدَاةُ الْمُصْلِحُونَ مِنْ جُهُودٍ لِاجْتِثَاثِ أَصْلِهَا؛ وَإِزَالَتِهَا مِنَ الْوُجُودِ! ظَلَّتْ — بِرَغْمِ ذَلِكَ — دَانِيَةَ الْقُطُوفِ، مَوْصُولَةَ النُّمُوِّ؛ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ مِنْ ثَمَرَاتِهَا سَمٌّ قَاتِلٌ زُعَافٌ، يَتَوَارَى فِي طَيَّاتِهَا، وَيَكْمُنُ تَحْتَ قِشْرَتِهَا.
هَنِيئًا لَكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». مَا كَانَ أَكْرَمَ نَفْسَكَ، وَأَنْبَلَ سَجِيَّتَكَ! مَا كَانَ أَبْعَدَ نَفْسَكَ الرَّاضِيَةَ الْمَرْضِيَّةَ عَنِ الْأَثَرَةِ وَالْأَنَانِيَّةِ!
عَصَمَكَ اللهُ مِنَ السُّوءِ، وَنَجَّاكَ مِنَ الْأَذَى؛ بِفَضْلِ مَا أَسْبَغَ عَلَيْكَ مِنْ كَرِيمِ الْخِصَالِ وَنَبِيلِ الْخِلَالِ. قَنَاعَةٌ بِمَا قَسَمَ اللهُ. أَمَانَةٌ وَإِيمَانٌ. صَبْرٌ عَلَى مَكَارِهِ الزَّمَانِ. نَفْسٌ مُطْمَئِنَّةٌ صَابِرَةٌ، لَا تَشْعُرُ بِحَسْرَةٍ عَلَى مَا فَاتَ، وَلَا بِلَهْفَةٍ عَلَى مَا هُوَ آتٍ.
•••
بِمِثْلِ هَذِهِ السَّجَايَا فُتِنْتُ بِكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»، وَأَخَذْتُ نَفْسِي بِمُعَاوَنَتِكَ.
(٣٣) قَنَاعَةُ «أَبِي الْغُصْنِ»
إِنَّ ثَمَرَاتِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ — وَحْدَهَا — مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكَ. كُلُّ مَا عَدَاهَا — مِنَ الثَّمَرَاتِ الْأُخْرَى — مُبَاحٌ لَكَ. خُذْ مِنْهُ مَا تَشَاءُ. هُوَ حَلَالٌ لَكَ. اطْعَمْهُ لَذِيذًا هَنِيئًا. كُلْهُ سَائِغًا مَرِيئًا. وَهَبْتُ لَكَ — مَعَ هَذِهِ الْحَدَائِقِ الْيَانِعَةِ — كُلَّ مَا يَحْتَوِيهِ الْكَهْفُ مِنْ نَفَائِسِ الْكُنُوزِ!»
•••
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» — كَمَا عَلِمْتَ — مُتَرَفِّعًا، زَاهِدًا فِيمَا لَيْسَ لَهُ. لِذَلِكَ لَمْ يُرَحِّبْ بِهَذَا الْعَطَاءِ الْجَزِيلِ.
(٣٤) حَيَّ عَلَى الْعَمَلِ
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَا بَالُ السَّيِّدِ الْجَلِيلِ «أَبِي شَعْشَعٍ» يَفْتَنُّ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيَّ، وَيَغْلُو فِي مُكَافَأَتِي إِلَى هَذَا الْحَدِّ! مَا حَاجَةُ مِثْلِي إِلَى كُنُوزٍ وَنَفَائِسَ لَمْ يَبْذُلْ فِيهَا جُهْدًا يُسَوِّغُ لَهُ الظَّفَرَ بِهَا، وَالْحُصُولَ عَلَيْهَا! كَيْفَ يَفْرَحُ بِثَرْوَةٍ لَمْ يَكْسِبْهَا بِكَدِّهِ وَعَرَقِهِ؟ هَيْهَاتَ أَنْ يَشْعُرَ بِالسَّعَادَةِ الْحَقِّ مَنْ يُدْرِكُهَا دُونَ عَنَاءٍ، وَيَمْتَلِكُهَا بِلَا ثَمَنٍ! هَيْهَاتَ ذَلِكَ هَيْهَاتَ!
أَنْتَ أَعْرَفُ مِنِّي وَأَخْبَرُ. لَيْسَ فِي الْحَيَاةِ مَتَاعٌ حَقِيقِيٌّ دُونَ سَعْيٍ وَلَا عَمَلٍ. عَبَثٌ كُلُّ مَا عَدَا ذَلِكَ وَهُرَاءٌ. هَبَاءٌ فِي هَبَاءِ. رَمَادٌ يَذْرُوهُ الْهَوَاءُ.»
صَمَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» شَيْئًا. اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنِ اتَّخَذْتُ الْعَمَلَ — مُنْذُ نَشَأْتُ — دَأْبِي وَعَادَتِي، وَارْتَضَيْتُهُ قَانُونِي وَشِرْعَتِي، رَأَيْتُ فِيهِ — مُنْذُ عَقَلْتُ — ضَالَّتِي وَسَلْوَتِي، وَسُرُورِي وَبَهْجَتِي، وَأُنْسِي وَلَذَّتِي.
كَذَلِكَ كَانَ أَبِي مِنْ قَبْلُ. كَذَلِكَ نَشَّأَنِي — عَلَى غِرَارِهِ — مُنْذُ طُفُولَتِي. وَكَذَلِكَ أُنَشِّئُ ابْنِي وَابْنَتِي، وَمَنْ يَتْلُوهُمَا مِنْ ذُرِّيَّتِي.
(٣٥) مَطْلَبٌ يَسِيرٌ
حَسْبِي أَنْ يُعِينَنِي السَّيِّدُ الْجَلِيلُ عَلَى بِنَاءِ دَارِي وَاسْتِئْنَافِ تِجَارَتِي. عَلَيَّ — وَحْدِي — أَنْ أَسْتَرِدَّ مَا فَقَدْتُهُ بِعَوْنِ اللهِ وَهِمَّتِي، وَكَدْحِي وَمُثَابَرَتِي.»
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «لَكَ مَا تُرِيدُ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». مَا رَأَيْتُ أَصْدَقَ مِنْكَ حُكْمًا، وَأَوْفَرَ مُرُوءَةً وَأَصْدَقَ عَزْمًا! شَأْنُ الرَّجُلِ الْحَقِّ … يُؤْثِرُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ عَلَى الرَّاحَةِ وَالتَّبَطُّلِ. يَرَى فِي عَنَاءِ الْعَمَلِ لَذَّةً يَتَضَاءَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهَا كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ لذَائِذَ وَمَسَرَّاتٍ، وَمَبَاهِجَ فَاتِنَاتٍ. يَلْتَمِسُ الْعَوْنَ مِنَ اللهِ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ.
لَا زَالَتِ الْأَيَّامُ تَزِيدُنِي بِكَ ثِقَةً وَإِعْجَابًا. إِنَّ كُلَّ مَا تَنَالُهُ مِنْ نَجَاحٍ — مَهْمَا عَظُمَ — قَلِيلٌ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا مَيَّزَكَ اللهُ بِهِ مِنْ أَصَالَةِ رَأْيٍ وَفَطَانَةٍ، وَصَبْرٍ عَلَى الْمَكَارِهِ وَأَمَانَةٍ.
لَكَ مَا تُرِيدُ. لَنْ أَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْعَمَلِ. لَنْ أَقِفَ فِي سَبِيلِ رَغْبَتِكَ، وَتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِكَ. خُذْ مِنْ هَذَا الْكِيسِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَالٍ، لِتُعِيدَ بِنَاءَ بَيْتِكَ. أَمَّا تِجَارَتُكَ؛ فَإِنِّي سَاهِرٌ عَلَيْهَا وَرَاعِيهَا، وَقَائِمٌ بِحِرَاسَتِهَا وَمُتَوَلِّيهَا.»
(٣٦) شُكْرٌ وَتَقْدِيرٌ
ابْتَهَجَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِمَا سَمِعَ. لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَشْكُرُ صَاحِبَهُ بَعْدَ مَا أَسْدَاهُ إِلَيْهِ مِنْ فَضْلٍ. لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ قَالَ: «أَنَّى يُتَاحُ لِي أَنْ أَجِدَ السَّبِيلَ إِلَى شُكْرِكَ، عَلَى مَا بَذَلْتَ لِي مِنْ مَعُونَةٍ وَفَضْلٍ جَزِيلٍ!»
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «خَيْرُ مَا تُقَدِّمُهُ إِلَيَّ مِنْ شُكْرٍ: أَنْ يُحَالِفَكَ التَّوْفِيقُ فِي عَمَلِكَ. خَيْرُ مَا يَبْهَجُنِي: أَنْ يَنْجَحَ سَعْيُكَ، وَتَعْمُرَ الْبَهْجَةُ خَاطِرَكَ.
فِي سَعَادَةِ أَمْثَالِكَ — مِنَ السَّرَاةِ الْأُمَنَاءِ، الشَّاكِرِينَ الْأَوْفِيَاءِ — انْتِصَارٌ لِلْمُثُلِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الْعَالِيَةِ، وَابْتِهَاجٌ لِكُلِّ مَنْ يَقْدُرُ كَرِيمَ الْخِلَالِ، وَصَالِحَ الْأَعْمَالِ.»
(٣٧) وَطَنُ «أَبِي شَعْشَعٍ»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «هَلْ لِي أَنْ أَطْمَعَ فِي رُؤْيَتِكَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ الْيَوْمِ؟»
لَاذَ «أَبُو شَعْشَعٍ» بِالصَّمْتِ. لَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَالَ لَهُ مُتَمَهِّلًا مُسْتَأْنِيًا: «سَأَبْذُلُ إِمْكَانِي فِي تَحْقِيقِ رَغْبَتِكَ. لَا تَنْسَ أَنَّ جَزِيرَةَ «الْوَقْوَاقِ» وَطَنِي. أَشْغَالِي فِيهَا تَسْتَغْرِقُ وَقْتِي كُلَّهُ. أَنَا أَزُورُ هَذَا الْكَهْفَ بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ، كُلَّمَا وَجَدْتُ فُسْحَةً تُتِيحُ لِي أَنْ أَسْتَرِيحَ قَلِيلًا مِمَّا أُكَابِدُ طُولَ الْعَامِ مِنْ عَمَلٍ مُثْقِلٍ مُرْهِقٍ يَسْتَدْعِيهِ وَاجِبِي، لِإِنْجَازِ مَا وَكَلَهُ اللهُ إِلَيَّ مِنْ أَعْبَاءِ الْحُكْمِ فِي جَزِيرَةِ «الْوَقْوَاقِ».
(٣٨) نَائِبُ الْجِنِّيِّ
سَتَجِدُ مَنْ يَقُومُ عَنِّي بِإِنْجَازِ مَطَالِبِكَ، وَتَحْقِيقِ رَغَبَاتِكَ. سَتَجِدُهُ أَمَامَكَ كُلَّمَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ. سَتَرَى فِيهِ مُرْشِدًا وَمُعِينًا، وَصَاحِبًا وَفِيًّا أَمِينًا. إِنَّهُ «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ» الَّذِي قَدَّمَ نَفْسَهُ إِلَيْكَ. وَعَرَضَ خِدْمَتَهُ عَلَيْكَ.»
عَقَّبَ الْمِصْبَاحُ عَلَى قَوْلِ «أَبِي شَعْشَعٍ»، قَائِلًا: «سَتَرَى — فِي قَابِلِ الْأَيَّامِ — مِصْدَاقَ مَا سَمِعْتَ، يَا أَبَا الْغُصْنِ.»
اسْتَأْنَفَ «أَبُو شَعْشَعٍ» قَائِلًا: «وَهَبْتُ لَكَ مِصْبَاحَ الْكَنْزِ؛ لِيَكُونَ عَوْنًا صَادِقًا، وَنَاصِحًا أَمِينًا. سَتَرَاهُ — كُلَّمَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ — طَوْعَ أَمْرِكَ، وَرَهْنَ إِشَارَتِكَ. حَسْبُكَ أَنْ تَلْمُسَهُ بِيَدِكَ، ثُمَّ تَأْمُرَهُ بِمَا تَشَاءُ. لَنْ يَتَرَدَّدَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي تَحْقِيقِ كُلِّ مَا تُرِيدُ.
(٣٩) قُوَّةُ الْمِصْبَاحِ
كُنْ عَلَى ثِقَةٍ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — أَنَّنِي لَمْ أُعْطِكَ هَذَا الْمِصْبَاحَ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَثِقْتُ بِحِكْمَتِكَ، وَأُعْجِبْتُ بِشَجَاعَتِكَ، وَأَيْقَنْتُ بَتَبَصُّرِكَ وَنَزَاهَتِكَ. فِي قُدْرَتِكَ — مُنْذُ الْيَوْمِ — أَنْ تُعَاقِبَ بِهَذَا الْمِصْبَاحِ مَنْ تَشَاءُ، وَتُؤَدِّبَ مَنْ تُرِيدُ. لَا تَنْسَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتِمُّ — عَلَى يَدِ الْمِصْبَاحِ — لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِدْرَاكِهِ إِلَّا فِي جَزِيرَةِ عَبْقَرٍ.»
(٤٠) نَصِيحَةُ «أَبِي شَعْشَعٍ»
أَرَادَ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنْ يُعَاوِدَ الشُّكْرَ. ابْتَدَرَهُ «أَبُو شَعْشَعٍ» قَائِلًا: «عُدْ إِلَى بَيْتِكَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — رَاشِدًا سَالِمًا، كَاسِبًا غَانِمًا. نَصِيحَتِي إِلَيْكَ أَلَّا تُطْلِعَ أَحَدًا عَلَى سِرِّكَ، وَأَلَّا تُفْضِيَ لِإِنْسَانٍ بِدِخْلَتِكَ. حَذَارِ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدٌ مَصْدَرَ فَلَاحِكَ، وَسِرَّ نَجَاحِكَ. لَا تَنْسَ الْحِكْمَةَ الْمَأْثُورَةَ: «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ.» بِهَذَا وَحْدَهُ تَأْمَنُ مَكْرَ الْحَاقِدِينَ، وَتَسْلَمُ مِنْ كَيْدِ الْحَاسِدِينَ.
- أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَعْتَصِمَ بِالصَّبْرِ، فَيَحْزِمَ أَمْرَهُ، وَيَكْتُمَ سِرَّهُ.
- الثَّانِي: أَنْ يُوَاصِلَ الْجِدَّ وَيَفْرُغَ لِعَمَلِهِ، دُونَ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى الْوَرَاءِ؛ حَتَّى لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ طُلَّابَ الْكَنْزِ، فَيُمْسَخَ صَخْرَةً كَمَا مُسِخُوا.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لَعَلَّكَ تُشِيرُ إِلَى طُلَّابِ الْكَنْزِ الَّذِينَ حَدَّثَتْنَا عَنْهُمْ قِصَّةُ؟ عَجَائِبِ الدُّنْيَا الثَّلَاثِ!»
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «لَسْتُ أَعْنِي غَيْرَهُمْ. فَكَيْفَ عَرَفْتَ سِرَّهُمْ؟!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «كَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنَّ جَدِّيَ: «جَحْوَانَ» سَمِعَ هَذِهِ الْأُسْطُورَةَ الرَّائِعَةَ مِنْ صَدِيقِهِ «خُرَافَةَ». اشْتَدَّ بِهَا إِعْجَابُ جَدِّي. كَتَبَهَا بِيَدِهِ. أَهْدَاهَا إِلَى وَلَدِهِ: «ثَابِتٍ». اشْتَدَّ بِهَا إِعْجَابُ أَبِي. كَانَتْ مِنْ أَنْفَسِ مَا خَلَّفَهُ لِي. كَانَ لِقِرَاءَتِهَا أَحْمَدُ الْأَثَرِ فِي نُفُوسِنَا جَمِيعًا. أُعْجِبَ بِهَا وَلَدَايَ وَزَوْجَتِي، كَمَا أُعْجِبَتْ بِهَا «زُبَيْدَةُ» جَارَتِي.»
•••
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مُنْذُ مِائَةِ عَامٍ، لَقِيتُ «خُرَافَةَ» كَمَا لَقِيتُكَ، وَسَقَيْتُهُ مِنْ مَاءِ الْحَوْضِ كَمَا سَقَيْتُكَ. لَقِيتُ — مِنْ قَبْلِهِ — الْقَاصَّةَ الْمُبْدِعَةَ «شَهْرَزَادَ»، وَسَقَيْتُهَا مِنْ هَذَا الْحَوْضِ الرَّوِيِّ. أَهْدَيْتُ كِلَيْهِمَا — فِيمَا أَهْدَيْتُ — قِصَّةَ: «عَجَائِبِ الدُّنْيَا الثَّلَاثِ»، تَقْدِيرًا لَهُمَا، وَإِعْجَابًا بِفَنِّهِمَا.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «كَانَ مِنْ نَكَبَاتِ الْحَرِيقِ أَنِ احْتَرَقَتِ الْقِصَّةُ، فِيمَا احْتَرَقَ مِنْ أَثَاثِ الْبَيْتِ.»
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»، وَالْبَسْمَةُ لَا تُفَارِقُ شَفَتَيْهِ: «لَا عَلَيْكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». سَتَرَى — عِنْدَ عَوْدَتِكَ إِلَى بَيْتِكَ — مَخْطُوطًا جَدِيدًا، بَدِيلًا مِنَ الْمَخْطُوطِ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ الْحَرِيقُ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «خَبِّرْنِي — يَا سَيِّدِي — كَيْفَ أَشْكُرُكَ؟»
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «خَيْرُ مَا تُقَدِّمُهُ إِلَيَّ مِنْ شُكْرٍ أَنْ تَنْتَفِعَ بِمَا تَحْوِيهِ تِلْكَ الْقِصَّةُ الْفَرِيدَةُ مِنْ رَوَائِعِ الْكَلِمِ، وَنَفَائِسِ الْحِكَمِ.
لَا تَنْسَ قَوْلَ «الدَّرْوِيشِ» لِطَالِبِ الْكَنْزِ: «إِنَّ حُسَّادَكَ لنْ يَكُفُّوا عَنْ تَعْوِيقِكَ، كُلَّمَا اقْتَرَبْتَ مِنَ الْكَنْزِ تَعْلُو صَيْحَاتُهُمْ، مُتَأَجِّجَةً بِالْغَضَبِ صُدُورُهُمْ، تُنَادِيكَ بَيْنَ مُشَجِّعٍ وَمُخَذِّلٍ، وَمُحَبِّذٍ وَمُعَذِّلٍ، تُحَذِّرُكَ مِنْ هَوْلِ مَا أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، تَارَةً تَتَوَعَّدُكَ، وَتَارَةً تَرْجُوكَ.
حَذَارِ أَنْ تُفْصِحَ لَهَا عَنْ مَكْنُونِ سِرِّكَ، وَتَشْرَحَ لَهَا مَا خَفِيَ مِنْ أَمْرِكَ. حَذَارِ أَنْ تَعْبَأَ بِهَا، أَوْ تَأْبَهَ لَهَا. أَغْمِضْ عَنْهَا الْعَيْنَيْنِ. أَصِمَّ دُونَهَا الْأُذُنَيْنِ. حَذَارِ أَنْ تَلْتَفِتَ إِلَى الْوَرَاءِ، حَتَّى لَا تُمْسَخَ صَخْرَةً صَمَّاءَ!
لَا تَنْسَ أَنَّ السَّعِيدَ السَّعِيدَ مَنْ يُصِمُّ أُذُنَيْهِ عَنْ سَمَاعِ لَغْوِهِمْ، وَالشَّقِيَّ الشَّقِيَّ مَنْ يَحْفِلُ بِهُرَائِهِمْ، أَوْ يَلْتَفِتُ إِلَى عُوَائِهِمْ!»
انْقُلْ حِكْمَةَ الدَّرْوِيشِ هَذِهِ إِلَى وَلَدَيْكَ، وَإِلَى كُلِّ مَنْ تَلْقَى مِنَ النَّاسِ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «شُكْرًا لَكَ. أَلْفُ شُكْرٍ عَلَى مَا أَسْدَيْتَ إِلَيَّ مِنْ فَضْلٍ وَبِرٍّ.»
(٤١) الْوَقْتُ
رَنَّ فِي الْفَضَاءِ صَوْتٌ رَائِعُ النَّغَمِ، فَاتِنُ الْأَدَاءِ. أَنْصَتَ إِلَيْهِ «أَبُو الْغُصْنِ» وَهُوَ يَقُولُ:
•••
•••
(٤٢) خَارِجَ الْكَنْزِ
تَوَارَى «أَبُو شَعْشَعٍ» كَمَا تَوَارَتْ مَعَهُ الْأَزْهَارُ وَالثِّمَارُ، وَحَوْضُ الْمَاءِ وَالْحَدِيقَةُ وَالْأَطْيَارُ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ عَجَائِبِ الْفِرْدَوْسِ الَّذِي رَآهُ «أَبُو الْغُصْنِ».
سَادَ الْكَهْفَ ظَلَامٌ دَامِسٌ. عَادَ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَهُ.
•••
هَمَسَ «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ» بِصَوْتٍ خَافِتٍ. قَالَ: «أَلَمْ تُدْرِكْ قِيمَةَ الْوَقْتِ؟ مَاذَا تَنْتَظِرُ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»؟ مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْبَقَاءِ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُوحِشِ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «صَدَقْتَ. فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى الْخُرُوجِ؟»
قَالَ لَهُ الْمِصْبَاحُ: «أَنَسِيتَ الْمِفْتَاحَ الذَّهَبِيَّ الَّذِي أَلْقَتْ بِهِ الْحَيَّةُ إِلَيْكَ؟»
تَعَجَّبَ «أَبُو الْغُصْنِ». لَمْ يَدْرِ كَيْفَ نَسِيَ الْمِفْتَاحَ، مَعَ قُوَّةِ ذَاكِرَتِهِ. أَسْرَعَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى الْبَابِ فَفَتَحَهُ، ثُمَّ خَرَجَ.
•••
تَذَكَّرَ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنَّهُ نَسِيَ الْمِفْتَاحَ فِي ثَقْبِ الْبَابِ دَاخِلَ الْكَنْزِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، كَمَا نَسِيَهُ خَارِجَ الْبَابِ قَبْلَ دُخُولِهِ.
هَمَّ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الْكَنْزِ، لِيَسْتَرِدَّ الْمِفْتَاحَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ. أُقْفِلَ الْبَابُ — فِي الْحَالِ — بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مِفْتَاحٍ!
•••
رَأَى «أَبُو الْغُصْنِ» — أَمَامَ بَابِ الْكَهْفِ — بَغْلَةً مُسْرَجَةً، مُلْجَمَةً. أَدْرَكَ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنَّ «مِصْبَاحَ الْكَنْزِ» أَعَدَّهَا لَهُ. لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يَشْكُرَ لِلْمِصْبَاحِ هَدِيَّتَهُ.
رَكِبَ الْبَغْلَةَ إِلَى دَارِهِ. انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا.