بَدْءُ السَّعَادَةِ
(١) حَدِيثُ نَفْسٍ
عَزِيزِيَ الْقَارِئَ:
مَا أَحْسَبُكَ فِي حَاجَةِ إِلَى وَصْفِ ابْتِهَاجِ «أَبِي الْغُصْنِ» حِينَ عَادَ إِلَى بَيْتِهِ — آخِرَ النَّهَارِ — مُنْتَصِرًا غَانِمًا، بَعْدَ أَنْ خَرَجَ فِي صَبَاحِهِ الْبَاكِرِ مَحْزُونًا مُتَأَلِّمًا.
كَانَ قَلْبُهُ يَخْفُقُ سُرُورًا. كَانَتْ بَغْلَتُهُ تَشْرَكُهُ فِي فَرَحِهِ، تَتَبَخْتَرُ وَهِيَ تَحْمِلُهُ. تَتَرَاقَصُ فِي مِشْيَتِهَا وَفْقَ نَبَضَاتِ قَلْبِهِ، وَاهْتِزَازِ سَاقَيْهِ، وَتَمَايُلِ جِسْمِهِ.
•••
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» لِنَفْسِهِ: «مَا أَشْوَقَنِي إِلَى لِقَائِكَ، يَا «عُكْمُوسُ»! مَا أَشْوَقَ أُذُنَيَّ إِلَى سَمَاعِ مَا مَيَّزَكَ اللهُ بِهِ مِنْ نَهِيقٍ آدَمِيٍّ، وَصَوْتٍ حِمَارِيٍّ! لَا رَيْبَ أَنَّكَ سَتَسْتَرْسِلُ فِي النَّهِيقِ، حِينَ تُبْصِرُ مَا أَفَاضَهُ اللهُ عَلَيَّ مِنْ ثَرَاءٍ عَظِيمٍ، وَخَيْرٍ عَمِيمٍ.
•••
أَيْنَ أَنْتَ، يَا «خَوَّارُ» لِتَرَى أَيُّ نِعْمَةٍ أَفَاضَهَا اللهُ عَلَيَّ؟ مَا كَانَ أَشَدَّ فَرَحَكَ لِمَا حَلَّ بِي مِنْ مَصَائِبَ وَآلَامٍ! شَدَّ مَا يُبَرِّحُ بِكَ الْحُزْنُ وَالشَّقَاءُ، حِينَ تَرَى مَا أَفَاءَهُ اللهُ عَلَيَّ مِنْ رَغَادَةٍ وَسَعَادَةٍ!»
(٢) شَكْوَى «رَبَابَةَ»
بَعْدَ قَلِيلٍ، اقْتَرَبَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ بَيْتِهِ. كَانَتْ بَغْلَتُهُ مِنْ ظُرَفَاءِ الْجِنِّ. شَكَرَ لَهَا «أَبُو الْغُصْنِ» صَنِيعَهَا، وَهُوَ يُوَدِّعُهَا.
اسْتَأَنَفَ «أَبُو الْغُصْنِ» سَيْرَهُ إِلَى بَيْتِهِ. كَانَتْ زَوْجَتُهُ «رَبَابَةُ» تَتَرَقَّبُ عَوْدَتَهُ بِفَارِغِ الصَّبْرِ. كَانَ قَلْبُهَا يَفِيضُ حُزْنًا وَأَلَمًا. أَسْرَعَتْ «رَبَابَةُ» إِلَيْهِ، حِينَ لَمَحَتْهُ قَادِمًا عَلَيْهَا.
رَآهَا تَسْتَقْبِلُهُ مَحْزُونَةَ الْقَلْبِ، شَاحِبَةَ الْوَجْهِ، بَاكِيَةَ الْعَيْنِ. ابْتَدَرَتْهُ مُسَائِلَةً: «مَاذَا أَطَالَ غَيْبَتَكَ، وَأَخَّرَ عَوْدَتَكَ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «كَيْفَ تَقُولِينَ؟ أَتُرَيْنَنِي تَأَخَّرْتُ؟»
قَالَتْ «رَبَابَةُ»: «أَتَظُنُّ غَيْرَ ذَلِكَ؟ أَلَمْ تَخْرُجْ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ؟ هَا أَنْتَ ذَا تَعُودُ مَعَ غُرُوبِهَا!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «شَدَّ مَا أَسْرَعَتْ شَمْسُ هَذَا النَّهَارِ بِالْغُرُوبِ! كَذَلِكِ تَقْصُرُ أَيَّامُ السَّعَادَةِ، وَتَطُولُ أَيَّامُ الشَّقَاءِ!»
فَرَكَ «أَبُو الْغُصْنِ» يَدَيْهِ. اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «نَعَمْ. نَعَمْ! إِنَّ فِي الْحَيَاةِ أَيَّامًا تَمُرُّ بِنَا فِي مِثْلِ سُرْعَةِ الْبَرْقِ!»
قَالَتْ «رَبَابَةُ» مُتَحَسِّرَةً: تَعْنِي أَيَّامَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءِ! أَيْنَ مِنَّا تِلْكَ الْأَيَّامُ؟ مَا أَظُنُّهَا تَعُودُ! لَكِنَّ أَيَّامَنَا — كَمَا تَرَى — مَلِيئَةٌ بِالشَّقَاءِ؛ فَهِي تَمُرُّ كَمَا تَمُرُّ الْأَعْوَامُ! أَلَا تَرَى مَا حَلَّ بِنَا مِنْ كَوَارِثَ وَأَحْدَاثٍ؟ أَلَا تَرَى كَيْفَ أَصْبَحَ بَيْتُنَا خَالِيًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؟ حَتَّى الْأَثَاثُ الْحَقِيرُ الَّذِي سَلِمَ لَنَا بَعْدَ الْحَرِيقِ، كَانَ نَصِيبُهُ أَنْ يُبَاعَ بِالْوَكْسِ، وَالثَّمَنِ الْبَخْسِ! أَلَا تَرَانَا فَقَدْنَا كُلَّ مَا فِي الدَّارِ؟
فَقَدْنَا الْغَالِيَ وَالْحَقِيرَ. فَقَدْنَا بَالِيَ الْحَصِيرِ، بَعْدَ أَنْ فَقَدْنَا نَفَائِسَ الْحَرِيرِ. ضَاقَتْ بِنَا الْحَيَاةُ! كَيْفَ نَنَامُ؟ لَمْ يَبْقَ لَنَا مِنْ فِرَاشٍ غَيْرُ الْأَرْضِ، وَلَا لِحَافٍ غَيْرُ السَّقْفِ. أَخَذَ «الْعُكْمُوسُ» كُلَّ مَا نَمْلِكُ. بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ قَلِيلَةٍ!»
(٣) مُفَاجَأَةٌ
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» يَسْتَمِعُ إِلَى قَوْلِهَا، بَاسِمَ الثَّغْرِ مُتَهَلِّلًا. شَغَلَهُ فَرَحُهُ بِمَا ظَفِرَ، عَنْ كُلِّ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ مَظَاهِرِ الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ. كَانَ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ، بِمَا أَحْرَزَهُ مِنْ فَوْزٍ وَانْتِصَارِ. كَانَ يَفْرُكُ يَدَيْهِ مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ.
دَهِشَتْ زَوْجَتُهُ مِمَّا يَبْدُو عَلَى أَسَارِيرِ زَوْجِهَا مِنْ فَرَحٍ وَابْتِهَاجٍ. اشْتَدَّ بِهَا الْعَجَبُ، حِينَ فَاجَأَهَا بِقَوْلِهِ: «شَدَّ مَا أَحْسَنَ «الْعُكْمُوسُ» إِلَيْنَا! مَا أَجْدَرَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَى مَا أَسْدَى مِنْ جَمِيلٍ؟ بَلَّغَنَا الْمُنَى، بَلْ فَوْقَ غَايَاتِ الْمُنَى. أَرَاحَنَا مِنْ هَمٍّ مُقِيمٍ، وَخَلَّصَنَا مِنْ أَثَاثٍ بَالٍ قَدِيمٍ!»
وَقَفَتْ «رَبَابَةُ» صَامِتَةً. لَمْ تَفْهَمْ مَا يَعْنِيهِ «أَبُو الْغُصْنِ».
اسْتَأْنَفَ زَوْجُهَا قَائِلًا: «أَيْنَ الْوَلَدَانِ؟ أَيْنَ «جُحَيَّةُ»؟ أَيْنَ «جَحْوَانُ»؟ مَاذَا صَنَعَ «الْعُكْمُوسُ» بِهِمَا؟ هَلْ جَرُؤَ عَلَى الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمَا؟»
كَانَتِ الْبَهْجَةُ طَاغِيَةً عَلَى «أَبِي الْغُصْنِ»، وَهُوَ يَسْتَمِعُ إِلَى شَكَاةِ زَوَجَتِهِ. بُهِتَتْ «رَبَابَةُ» مِنَ اسْتِخْفَافِهِ بِمَا يَغْمُرُهَا مِنْ مَصَائِبَ مُتَلَاحِقَةٍ!
أَقْبَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا تُسَائِلُهَا: «مَاذَا خَبَّلَ زَوْجِي؟! مَا بَالُهُ يَسْتَقْبِلُ الْمَأْسَاةَ الْخَانِقَةَ بِالْإِغْرَاقِ فِي الضَّحِكِ؟ أَيُّ هَذَيَانِ أَصَابَ الْمِسْكِينَ؟ تُرَى هَلْ أَذْهَلَتْهُ النَّكَبَاتُ الْمُتَلَاحِقَاتُ، فَالْتَاثَ عَقْلُهُ وَاخْتَلَطَ؟! وَارَحْمَتَاهُ لَهُ!»
لَمْ تَفُهْ «رَبَابَةُ» بِشَيْءٍ يَنُمُّ عَلَى مَا يُسَاوِرُهَا مِنْ قَلَقٍ وَانْزِعَاجٍ. اعْتَصَمَتْ «رَبَابَةُ» بِالتَّجَلُّدِ وَالصَّبْرِ. لَمْ تَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَتْ: «الْوَلَدَانِ فِي بَيْتِ «زُبَيْدَةَ». جَزَاهَا اللهُ خَيْرًا بِمَا صَنَعَتْ. أَشْفَقَتْ عَلَيْهِمَا. آوَتْهُمَا فِي بَيْتِهَا. تَكَفَّلَتْ بِإِطْعَامِهِمَا. وَالْعِنَايَةِ بِأَمْرِهِمَا.»
•••
نَظَرَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى زَوْجَتِهِ فِي حُنُوٍّ وَإِشْفَاقٍ. شَكَرَ لَهَا صَبْرَهَا وَاحْتِمَالَهَا لِمَا مَرَّ بِهَا مِنْ أَحْدَاثٍ قَاهِرَاتٍ، وَأَزَمَاتٍ عَاصِفَاتٍ. كَادَ دَمْعُ الْفَرَحِ يَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «انْتَهَى عَهْدُ الْمَصَائِبِ وَالْمِحَنِ، يَا «رَبَابَةُ». لَا بُؤْسَ بَعْدَ الْيَوْمِ وَلَا شَجَنَ. لَا شَقَاءَ — إِنْ شَاءَ اللهُ — وَلَا حَزَنَ. طَرَقَتِ السَّعَادَةُ بَابَنَا، وَاسْتَقَرَّتْ فِي دَارِنَا!»
(٤) فَرْحَةُ «رَبَابَةَ»
نَظَرَتْ «رَبَابَةُ» إِلَى مَا جَلَبَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ مَالٍ وَفِيرٍ. شَهِدَتْ مِصْدَاقَ مَا يَقُولُ. اشْتَدَّ فَرَحُهَا بِمَا رَأَتْ. سَأَلَتْهُ مُتَعَجِّبَةً: «مَنْ ذَا الَّذِي أَدْخَلَ السَّعَادَةَ عَلَيْنَا؟ أَيُّ نَفْسٍ كَرِيمَةٍ سَاقَهَا اللهُ إِلَيْنَا؟ مَنْ ذَا الَّذِي أَقْرَضَكَ هَذَا الْمَالَ؟»
(٥) فَضْلُ «أَبِي شَعْشَعٍ»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «الْمَالُ مَالُنَا، لَا يَخُصُّ أَحَدًا غَيْرَنَا. لَنْ يُطَالِبَنَا أَحَدٌ بِرَدِّ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ مِنْهُ.»
سَأَلَتْهُ «رَبَابَةُ»: «خَبِّرْنِي؟ كَيْفَ حَصَلْتَ عَلَيْهِ؟»
قَالَ: «هُوَ مِنْحَةٌ مِنْ ضَيْفِنَا «أَبِي شَعْشَعٍ» أَسْدَاهَا إِلَيْنَا جَزَاءَ مَا أَسْلَفْتُهُ مِنْ جَمِيلٍ. بَذَلَهَا مُكَافَأَةً لِي عَلَى أَنْ أَنْقَذْتُ حَيَاتَهُ مِنَ الْغَرَقِ، لَيْلَةَ أَمْسِ.
لَمْ تَقِفْ مُسَاعَدَتُهُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ. أَضَافَ إِلَيْنَا فَضْلًا آخَرَ: مَنَحَنِي قُوَّةً أُخْرَى. سَتَعْرِفِينَ نَبَأَهَا، مَتَى حَانَ وَقْتُهَا. لَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكِ الْآنَ. لَوْ تُرِكَ لِيَ الْأَمْرُ، أَفْضَيْتُ إِلَيْكِ بِكُلِّ شَيْءٍ. أُخِذَتْ عَلَيَّ الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ، أَلَّا أُفْشِيَ — مِمَّا عَلِمْتُ — سِرًّا.
حَسْبُكِ — يَا «رَبَابَةُ» — مَا سَمِعْتِ. لَا تَسْأَلِينِي أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتِ. لَا تَنْسَيِ الْحِكْمَةَ الْقَائِلَةَ: «مَا كُلُّ مَا يُعْرَفُ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ، وَلَا كُلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ جَاءَ أَوَانُهُ، وَلَا …» أَكْمَلَتْ «رَبَابَةُ» الْحِكْمَةَ قَائِلَةً: «وَلَا كُلُّ مَا جَاءَ أَوَانُهُ حَضَرَ أَهْلُهُ!»
(٦) أَثَاثٌ جَدِيدٌ
رَأَيَا أَمَامَ الْبَابِ رَجُلَيْنِ ظَرِيفَيْنِ — فِي مِثْلِ لَوْنِ الْآبَنُوسِ — فِي يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا صُنْدُوقٌ صَغِيرٌ مِنْ خَشَبِ الصَّنْدَلِ. تَوَجَّهَ الرَّجُلَانِ إِلَى «أَبِي الْغُصْنِ» بِالتَّحِيَّةِ. رَدَّ عَلَيْهِمَا «أَبُو الْغُصْنِ» أَحْسَنَ رَدٍّ. وَضَعَ الرَّجُلَانِ الصُّنْدُوقَيْنِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْبَابِ.
قَالَ أَحَدُهُمَا: «مَرْحَى. مَرْحَى. هَا هُوَ ذَا الْأَثَاثُ. مَا أَبْدَعَهُ!»
قَالَ الْآخَرُ: «بَخٍ. بَخٍ. إِلَيْكُمَا الْبَضَائِعَ، مَا أَجْمَلَهَا!»
قَبْلَ أَنْ يَتَفَوَّهَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، ابْتَدَرَهُ الرَّجُلَانِ يَقُولَانِ: «حَذَارِ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». لَا نُرِيدُ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا. خَيْرُ مَا تُسْدِيهِ إِلَيْنَا مِنْ جَمِيلٍ: أَنْ تَقَرَّ عَيْنًا، وَتَنْعَمَ بَالًا. عِمْ ظَلَامًا، يَا «أَبَا الْغُصْنِ».»
تَوَارَى الرَّجُلَانِ فِي الْحَالِ.
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» لِزَوْجَتِهِ «رَبَابَةَ»: «سَتَرَيْنَ بَعْدَ حِينٍ، جَوَابَ مَا تَسْأَلِينَ.»
(٧) فَرْحَةُ «زُبَيْدَةَ»
قَدِمَتْ «زُبَيْدَةُ» وَمَعَهَا «جَحْوَانُ» وَ«جُحَيَّةُ». قَالَتْ لَهُمَا «زُبَيْدَةُ» مَسْرُورَةً: «أَعْدَدْتُ الْمَائِدَةَ. هَلُمَّا إِلَى دَارِي. هِيَ لَكُمَا دَارٌ وَمَقَرٌّ، لَنْ تَبْرَحَاهَا أَوْ يَبْتَسِمَ لَكُمَا الزَّمَانُ، وَيَرْجِعَ لَكُمَا الْغِنَى كَمَا كَانَ.»
اشْتَدَّ إِعْجَابُ «أَبِي الْغُصْنِ» بِصَفَاءِ قَلْبِهَا، وَنَقَاءِ سَرِيرَتِهَا. قَالَ لَهَا: «شُكْرًا لَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ وَتَصْنَعِينَ. يَسُرُّنِي أَنْ أَقُولَ لَكِ: إِنَّ عَهْدَ السَّعَادَةِ مِنَّا قَرِيبٌ، إِنْ شَاءَ اللهُ.»
أَخْرَجَ «أَبُو الْغُصْنِ» كِيسًا مَمْلُوءًا دَنَانِيرَ. أَفْرَغَ فِي إِحْدَى يَدَيْ جَارَتِهِ نِصْفَ مَا فِي الْكِيسِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَتَعْرِفِينَ «أَبَا شَعْشَعٍ» الَّذِي نَزَلَ ضَيْفًا عَلَيْنَا أَمْسِ؟ شُكْرًا لَهُ. وَهَبَ لِي مِلْءَ هَذَا الْكِيسِ ذَهَبًا، لِأُعِيدَ بِنَاءَ بَيْتِي. عَلَى الرُّحْبِ وَالسَّعَةِ أَقْبَلُ ضِيَافَتَكِ!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَغْنَى مِنَ الْخَلِيفَةِ: رَأْسِ الْأَغْنِيَاءِ. أَكْرَمُ مِنْ «حَاتِمٍ»: رَمْزِ الْكُرَمَاءِ. أَذْكَى مِنْ «إِيَاسٍ»: قُدْوَةِ الْأَذْكِيَاءِ. أَفْصَحُ مِنْ «سَحْبَانَ»: إِمَامِ الْفُصَحَاءِ.»
(٨) فَرْحَةُ الْوَلَدَيْنِ
رَأَى وَلَدُهُ «جَحْوَانُ» الصُّنْدُوقَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحْضَرَهُمَا الرَّجُلَانِ.
صَاحَ «جَحْوَانُ» مُبْتَهِجًا: «يَا لَهُمَا مِنْ صُنْدُوقَيْنِ بَدِيعَيْنِ؟ هَلْ أَعْطَاكَهُمَا الضَّيْفُ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «نَعَمْ. أَرْسَلَهُمَا إِلَيْنَا هَدِيَّةً.»
قَالَتْ «جُحَيَّةُ»: «لِمَاذَا لَا تَفْتَحُهُمَا، يَا أَبَتَاهُ؟»
حَسْبُنَا الْيَوْمَ أَنْ نُمْتِعَ أَنْفُسَنَا بِمَا هَيَّأَهُ اللهُ لَنَا مِنْ مَبَاهِجَ وَمَسَرَّاتٍ. جَارَتُنَا الْكَرِيمَةُ اخْتَارَتْنَا لَهَا ضُيُوفًا. شُكْرًا لَهَا، شُكْرًا لَهَا. مَا أَجْدَرَنَا بِتَلْبِيَةِ دَعْوَتِهَا، وَقَبُولِ ضِيَافَتِهَا؟»
(٩) دِينَارٌ ذَهَبِيٌّ
أَعَادَ «أَبُو الْغُصْنِ» دَنَانِيرَهُ إِلَى الْكِيسِ. سَقَطَ مِنْهَا دِينَارٌ عَلَى الْأَرْضِ. انْقَضَّ عَلَيْهِ «جَحْوَانُ»؛ كَمَا يَنْقَضُّ قِطٌّ عَلَى فَأْرٍ! ظَلَّ يُدَوِّرُهُ أَسْرَعَ تَدْوِيرٍ أَمَامَ عَيْنَيْ أُخْتِهِ: «جُحَيَّةَ».
لَهُ الْعُذْرُ فِي فَرَحِهِ: مَرَّتْ عَلَيْهِمَا الْأَيَّامُ السَّابِقَةُ لَمْ يَشْهَدَا فِيهَا قِطْعَةً وَاحِدَةً مِنَ الذَّهَبِ.
(١٠) نَوْمٌ هَنِيٌّ
ظَلَّ مِصْبَاحُ الْكَنْزِ فِي مَكَانِهِ مِنْ جَيْبِ «أَبِي الْغُصْنِ» صَامِتًا سَاكِنًا. مَا كَانَ الْمِصْبَاحُ لِيَتَدَخَّلَ إِلَّا إِذَا جَدَّ الْجِدُّ وَاحْتَاجَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى مُعَاوَنَتِهِ.
بَعْدَ قَلِيلٍ أَحَسَّ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنَّهُ فِي حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَى الرَّاحَةِ بَعْدَ مَا لَقِيَهُ فِي يَوْمِهِ مِنَ التَّعَبِ. اسْتَلْقَى عَلَى الْحَصِيرِ الَّذِي أَعَدَّتْهُ «رَبَابَةُ» لنَوْمِهِ. قَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَارْتَاحَ بَالُهُ. أَسْلَمَ عَيْنَيْهِ لِلْكَرَى مَسْرُورًا.
(١١) حَدِيثُ الْمِصْبَاحِ
الصُّبْحُ طَلَعَ. أَرْسَلَتْ شَمْسُ الصَّبَاحِ أَوَّلَ أَشِعَّتِهَا الذَّهَبِيَّةِ عَلَى الْكَوْنِ. نَفَذَتْ شُعَاعَةٌ مِنْ ثَنَايَا النَّافِذَةِ. سَمِعَ «أَبُو الْغُصْنِ» صَوْتًا خَافِتًا يَهْمِسُ فِي أُذُنِهِ: «انْهَضْ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». طَلَعَ النَّهَارُ. حَسْبُكَ نَوْمًا، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». لَا تُعَوِّدْ نَفْسَكَ الْكَسَلَ. لَا تَسْتَسْلِمَ للنَّوْمِ وَالرَّاحَةِ. إِنَّهُمَا — كَمَا تَعْلَمُ — آفَةُ النَّجَاحِ، وَبَاعِثُ الْإِخْفَاقِ. انْهَضْ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — إِنْ كُنْتَ لَا تَزَالُ عَازِمًا عَلَى بِنَاءِ بَيْتِكَ وَتَنْظِيمِهِ.»
(١٢) عِتَابٌ رَقِيقٌ
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» مُسْتَغْرِقًا فِي لَذِيذِ أَحْلَامِهِ. أَيْقَظَهُ هَمْسُ الْمِصْبَاحِ. تَلَفَّتَ لِيَرَى مَصْدَرَ الصَّوْتِ الَّذِي يُعَاتِبُهُ وَيَحْفِزُهُ لِلْعَمَلِ. لَمْ يَجِدْ أَحَدًا. أَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الرَّاحَةَ، وَيَسْتَسْلِمَ إِلَى النَّوْمِ.
•••
عَاوَدَهُ هَمْسُ الْمِصْبَاحِ. كَانَ — عَلَى خُفُوتِهِ — يُشْعِرُ سَامِعَهُ أَنَّهُ وَاجِبُ الطَّاعَةِ، لَا سَبِيلَ إِلَى مُخَالَفَتِهِ.
أَنْصَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «كَيْفَ لَا تَعْرِفُنِي، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيتَنِي. أَنَا «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ» صَاحِبُكَ الْأَمِينُ، وَمُرْشِدُكَ الَّذِي لَا يَخُونُ. حَيَّ عَلَى الْعَمَلِ. انْهَضْ مِنْ فِرَاشِكَ. حَسْبُكَ نَوْمًا يَا «أَبَا الْغُصْنِ».»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» لِنَفْسِهِ: «وَيْ! إِنِّي لَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ «أَبُو شَعْشَعٍ» أَهْدَى إِلَيَّ سَيِّدًا مُطَاعًا، لَا خَادِمًا مُطِيعًا. لَكِنَّهُ — عَلَى كُلِّ حَالٍ — نَاصِحٌ أَمِينٌ، لَا يَتَوَخَّى غَيْرَ نَفْعِي وَهِدَايَتِي. لَيْسَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ طَاعَتِهِ، وَتَلْبِيَةِ نُصْحِهِ وَمَشُورَتِهِ.»
(١٣) بَعْدَ أَسَابِيعَ
نَهَضَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ نَوْمِهِ. بَدأَ يَوْمَهُ بِالصَّلَاةِ وَالشُّكْرِ لِخَالِقِهِ، عَلَى مَا مَنَحَهُ مِنْ سَعَادَةٍ وَتَوْفِيقٍ. انْصَرَفَ إِلَى إِعْدَادِ الْعُمَّالِ وَالصُّنَّاعِ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ عَلَى أَحْسَنِ طِرَازٍ.
بَعْدَ سِتَّةِ أَسَابِيعَ تَمَّ نِصْفُ الْبَيْتِ؛ بِرَغْمِ مَا بَذَلَهُ مِنْ جُهُودٍ مُضْنِيَةٍ. ضَاقَ صَدْرُ «أَبِي الْغُصْنِ». كَانَ مُتَحَفِّزًا لِاسْتِئْنَافِ تِجَارَتِهِ. نَدَّتْ مِنْهُ أَنَّةُ مَحْزُونٍ.
قَالَ هَامِسًا: «مَنْ لِي بِمَنْ يُرْشِدُنِي إِلَى وَسِيلَةٍ لِتَنْشِيطِ هؤُلَاءِ الْعُمَّالِ؛ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ مِنْ إِتْمَامِ الْبِنَاءِ؟»
(١٤) بِنَاءُ الدَّارِ
عَاوَدَهُ الصَّوْتُ الْهَامِسُ يَقُولُ: «كَيْفَ هَذَا؟ أَنَسِيتَ «مِصْبَاحَ الْكَنْزِ»؟ لَوْ طَلَبْتَ نُصْحَهُ، لَمَا طَالَتْ حَيْرَتُكَ. لَوِ اسْتَعَنْتَ بِهِ لَأَسْعَفَكَ بِمَا تُرِيدُ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»؟ «مَا بَالُكَ لَمْ تُخْبِرْنِي بِذَلِكَ مَا دُمْتَ قَادِرًا عَلَيْهِ؟»
قَالَ الْمِصْبَاحُ: «كَيْفَ، وَأَنْتَ لَمْ تَطْلُبْ مِنِّي شَيْئًا؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «هَا أَنَا ذَا أَلْتَمِسُ مِنْكَ أَنْ تَبْذُلَ جُهْدَكَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ بِأَسْرَعِ مَا تَسْتَطِيعُ.»
قَالَ الْمِصْبَاحُ: «لَبَّيْكَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — لَبَّيْكَ. لَنْ تَرَى مِنِّي إِلَّا مَا يَسُرُّكَ.»
أَرْسَلَ الْمِصْبَاحُ أَشِعَّةً نَارِيَّةً أَلْهَبَتْ نُفُوسَ الْعُمَّالِ وَالصُّنَّاعِ، وَمَلَأَتْهُمْ نَشَاطًا وَقُوَّةً. طَغَتْ عَلَيْهِمْ مَوْجَةٌ مِنَ الْحَمَاسَةِ وَالتَّفَانِي فِي الْإِخْلَاصِ. انْدَفَعُوا يَتَسَابَقُونَ — فِي الْعَمَلِ — وَيَتَنَافَسُونَ. انْهَمَكَ الْبَنَّاءُونَ فِي إِقَامَةِ الْبِنَاءِ، وَالنَّجَّارُونَ فِي قَطْعِ الْخَشَبِ وَتَفْصِيلِهِ. أَسْرَعَ الْحَدَّادُونَ وَالنَّقَّاشُونَ وَالْمُنَجِّدُونَ — وَمَنْ إِلَيْهِمْ — يُبَارِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
لَوْ رَأَيْتَهُمْ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ الصَّغِيرُ — حَسِبْتَ أَنَّكَ تَرَى خَلِيَّةَ نَحْلٍ دَائِبَةً عَلَى الْعَمَلِ فِي نَشَاطٍ يَتَضَاءَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِ كُلُّ نَشَاطٍ.
لَعَلَّكَ تَعْجَبُ — وَحَقَّ لَكَ أَنْ تَعْجَبَ — إِذَا قُلْتُ لَكَ: إِنَّ الْبِنَاءَ تَمَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. اسْتَطَاعَ الْعُمَّالُ أَنْ يُنْجِزُوا فِي سَاعَاتٍ ثَلَاثٍ مَا كَانُوا يُنْجِزُونَهُ فِي سِتَّةِ أَسَابِيعَ.
•••
قَالَ الْمِصْبَاحُ بِصَوْتِهِ الْهَادِئِ اللَّطِيفِ: «كَانَتْ — فِي الْحَقِّ — مُهِمَّةً شَاقَّةً مُتْعِبَةً؛ لَكِنَّهَا تَمَّتْ — وَالْحَمْدُ للهِ — عَلَى خَيْرِ مَا يُرَامُ.»
(١٥) فَضْلُ الْمِصْبَاحِ
لَهُمُ الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ. قُوَّةُ الْمِصْبَاحِ بَدَّلَتِ الْمَأْلُوفِ لَدَيْهِمْ! قَرَّبَتْ مَا صَعُبَ عَلَيْهِمْ. ذَلَّلَتِ الْمُحَالَ. أَنَالَتْهُمْ مَا لَا يُنَالُ. حَقَّقَتْ لَهُمْ بَعِيدَ الْآمَالِ.
(١٦) تَأْثِيثُ الْبَيْتِ
جَلَسَ «أَبُو الْغُصْنِ» مُطْرِقًا. فَرَكَ جَبِينَهُ مُسْتَغْرِقًا فِي أَفْكَارِهِ. أَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُسَائِلُهَا: «مَاذَا أَنَا صَانِعٌ الْآنَ؟»
أَجَابَهُ الْمِصْبَاحُ فِي سُخْرِيَةٍ بَاسِمَةٍ، مَمْزُوجَةٍ بِالدُّعَابَةِ وَالتَّوَدُّدِ: «الْأَثَاثُ عِنْدَكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»! أَتُرَاكَ نَسِيتَهُ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَيَّ أَثَاثٍ تَعْنِي؟»
أَجَابَهُ الْمِصْبَاحُ ضَاحِكًا: «الْأَثَاثُ الَّذِي أَهْدَاكَهُ صَاحِبُكَ «أَبُو شَعْشَعٍ». كَيْفَ نَسِيتَهُ، يَا مُنْكِرَ الْجَمِيلِ؟!»
تَذَكَّرَ «أَبُو الْغُصْنِ» هَدِيَّةَ «أَبِي شَعْشَعٍ». أَسْرَعَ إِلَى الصُّنْدُوقِ. فَتَحَهُ أَمَامَ زَوْجَتِهِ وَجَارَتِهِ وَوَلَدَيْهِ.
لَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَتِهِمْ حِينَ أَبْصَرُوا أَثَاثَ بَيْتٍ كَامِلٍ. كَانَ أَثَاثًا عَجِيبًا. كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الصِّغَرِ. كَانَ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِلُعَبِ الْأَطْفَالِ الصَّغِيرَةِ.
•••
حَسِبَتْ «رَبَابَةُ» أَنَّ زَوْجَهَا يَعْرِضُ لُعَبًا لِوَلَدَيْهِ: «جَحْوَانَ» وَ«جُحَيَّةَ».
رَأَتْ غَيْرَ مَا حَسِبَتْهُ رَأَتْ زَوْجَهَا يُخْرِجُ مِنَ الصُّنْدُوقِ أَرِيكَةً صَغِيرَةً فِي مِثْلِ طُولِ الْأَنْمُلَةِ، ثُمَّ يَضَعُهَا — وَمَظَاهِرُ الْجِدِّ مُرْتَسِمَةٌ عَلَى مُحَيَّاهُ — فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ حُجْرَةِ الِاسْتِقْبَالِ!
الْجَمِيعُ يَتَضَاحَكُونَ مِمَّا يَرَوْنَ. سُرْعَانَ مَا انْقَلَبَتْ سُخْرِيَتُهُمْ دَهْشَةً، وَتَبَدَّلَتْ دُعَابَتُهُمْ حَيْرَةً.
رَأَوْا تِلْكَ الْأَرِيكَةَ الْمُتَنَاهِيَةَ فِي الصِّغَرِ تَكْبَرُ، ثُمَّ تَكْبَرُ … وَلَا تَزَالُ تَكْبَرُ حَتَّى يَبْلُغَ حَجْمُهَا مِسَاحَةَ الْمَكَانِ الَّذِي أَعَدَّهُ لَهَا فِي رُكْنِ حُجْرَتِهِ.
هَكَذَا صَنَعَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِجَمِيعِ مَا فِي الصُّنْدُوقِ مِنْ قِطَعِ الْأَثَاثِ رَاكَ نَسِيتَهُ !« أَبَا الْغُصْنِ » الْأثََاثُ عِنْدَكَ، وَأَبْسِطَةِ وَرُفُوفٍ وَأَصْوِنَةٍ وَمَكَاتِبَ وَوَسَائِدَ وَأَغْطِيَةٍ وَأَكْسِيَةٍ وَآنِيَةٍ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَدَوَاتِ الدَّارِ وَأَثَاثِهَا.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» يُخْرِجُ الْقِطْعَةَ — مِنَ الصُّنْدُوقِ الصِّغِيرِ — وَيَضَعُهَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَعَدَّهُ؛ فَلَا تَلْبَثُ أَنْ تُصْبِحَ فِي الْحَجْمِ الَّذِي أَرَادَهُ لَهَا.
ضَاقَ الْبَيْتُ — عَلَى سَعَتِهِ — بِمَا احْتَوَاهُ الصُّنْدُوقُ مِنْ أَثَاثٍ بَاهِرِ الصُّنْعِ. فَاضَ الْأَثَاثُ عَنْ حَاجَتِهِ: ضَاقَتْ بِهِ حُجُرَاتُ الْبَيْتِ عَلَى سَعَتِهَا. أَوْدَعَ بَاقِيَهُ فِي سَرَادِيبِ الْبَيْتِ وَمَخَازِنِ الْقَمْحِ وَمُسْتَوْدَعِ الْمُهْمَلَاتِ. كَانَتْ أَجْزَاءُ الْأَثَاثِ غَايَةً فِي الْإِبْدَاعِ وَالْفَخَامَةِ: مَادَّةً وَصُنْعًا، مَخْبَرًا وَمَنْظَرًا، نَفَاسَةً وَمَظْهَرًا. كَانَتْ جَدِيرَةً بِمَا ظَفِرَ بِهِ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ عَيْشٍ رَغِيدٍ، وَحَظٍّ مُوَفَّقٍ سَعِيدٍ.
قَالَتْ «جُحَيَّةَ» مُتَأَلِّمَةً: «أَيْنَ أُرْجُوحَتِي وَأُرْجُوحَةُ أَخِي، يَا أَبَتَاهُ؟ كَيْفَ أَغْفَلَهُمَا جَالِبُ الْأَثَاثِ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «هَذَا ذَنْبٌ غَيْرُ مُغْتَفَرٍ! كَيْفَ تُنُوسِيَتْ أُرْجُوحَتَاكُمَا؟»
أَسْرَعَ «جَحْوَانُ» وَ«جُحَيَّةُ» إِلَى الصُّنْدُوقِ الصِّغِيرِ بَاحِثَيْنِ عَمَّا بَقِيَ فِيهِ. وَجَدَا سِلْكَيْنِ دَقِيقَيْنِ — مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ — نَسِيَ أَبُوهُمَا أَنْ يُخْرِجَهُمَا مِنَ الصُّنْدُوقِ. أَنْعَمَ الْوَلَدَانِ النَّظَرَ فِيهِمَا. وَجَدَاهُمَا عَلَى هَيْئَةِ أُرْجُوحَتَيْنِ مُتَنَاهِيَتَيْنِ فِي الصِّغَرِ، تَأَنَّقَ صَانِعُهُمَا فِي إِبْدَاعِهِمَا.
قَرَأَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى إِحْدَاهُمَا: أُرْجُوحَةَ «جَحْوَانَ»، وَعَلَى الْأُخْرَى: أُرْجُوحَةَ «جُحَيَّةَ». نُقِشَتِ الْجُمْلَتَانِ بِحُرُوفٍ دَقِيقَةٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الثَّمِينِ.
أَدْرَكَ «أَبُو الْغُصْنِ» — بِذَكَائِهِ وَفِطْنَتِهِ، وَتَجْرِبَتِهِ وَمَرَانَتِهِ — أَنَّهُمَا أُرْجُوحَتَا وَلَدَيْهِ. صَعِدَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ مِنَ الْخَشَبِ. عَلَّقَ طَرَفَيِ الْأُرْجُوحَتَيْنِ الصَّغِيرَتَيْنِ فِي مِسْمَارَيْنِ مُثَبَّتَيْنِ فِي الْحَائِطِ.
سَأَلَتْ «جُحَيَّةَ» أَبَاهَا: «أَيُّ شَيْءٍ هَذَا، يَا أَبَتَاهُ؟»
•••
هَمَسَ «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ»؛ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: «مَا أَعْجَبَ ذَكَاءَكَ! صَدَقْتَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». هِيَ — كَمَا تَخَيَّلْتَ — زَهْرَةُ الْأَمَلِ. الْأَمَلُ — كَمَا تَعْلَمُ — نُورٌ إِلَهِيٌّ، يَغْمُرُ النَّفْسَ؛ فَتَرَى فِيهِ عَزَاءَ الْمَنْكُوبِينَ، وَرَجَاءَ الْمَغْلُوبِينَ، وَسَلْوَةَ الْبَائِسِينَ، وَبَلْسَمَ الْمَجْرُوحِينَ!»
•••
رَفَعَهَا «أَبُو الْغُصْنِ» نَحْوَ السَّمَاءِ. نَادَى زَوْجَتَهُ «رَبَابَةَ»، وَوَلَدَهُ «جَحْوَانَ»، وَابْنَتَهُ «جُحَيَّةَ». جَلَسُوا حَوْلَهُ يُشَاطِرُونَهُ مَا فَاضَ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ الْفَرَحِ، وَيُرَدِّدُونَ دَعَوَاتِهِ الَّتِي ابْتَهَلَ بِهَا إِلَى اللهِ، فِي الْأُغْنِيَةِ التَّالِيَةِ: