بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي
(١) اسْتِئْنَافُ الْعَمَلِ
مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، هَدَأَ بَالُ «أَبِي الْغُصْنِ». انْتَظَمَتْ أَعْمَالُهُ. ارْتَاحَ خَاطِرُهُ. سَكَنَ بَلْبَالُهُ. حَالَفَهُ النَّجَاحُ مُطَّرِدًا مُتَتَابِعًا.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» — كَمَا رَأَيْتَ — عَاقِلًا شَرِيفًا مَشْغُوفًا بِالْعَمَلِ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَرْضَى أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى سِوَاهُ. لَمْ يَكُنْ يَرَى نَفْسَهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ ﺑِ «مِصْبَاحِ الْكَنْزِ». ادَّخَرَ الْمِصْبَاحَ لِلنَّوَائِبِ وَالْمَآزِقِ الْحَرِجَةِ الَّتِي لَا يُجْدِي فِيهَا غَيْرُهُ.
لَمْ يَنْسَ فَضْلَ جَارَتِهِ «زُبَيْدَةَ». كَافَأَهَا — عَلَى مَعُونَتِهَا وَإِخْلَاصِهَا — بِأَنْ عَهِدَ إِلَيْهَا بِالْإِشْرَافِ عَلَى تِجَارَتِهِ الْوَاسِعَةِ، الَّتِي اسْتَرَدَّتْ شُهْرَتَهَا. لَمْ تَلْبَثْ أَنْ زَادَتْ أَعْمَالُهَا، وَزَادَ عُمَّالُهَا، حَتَّى أَصْبَحَتْ أَكْبَرَ مَحَلٍّ تِجَارِيٍّ فِي بَلَدِهِ.
•••
هَكَذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ وَلِزَوْجَتِهِ وَوَلَدَيْهِ وَجَارَتِهِ كُلُّ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءَةِ؛ بِفَضْلِ صَبْرِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَحَزْمِهِ وَمُثَابَرَتِهِ!
(٢) عَوْدَةُ «الْعُكْمُوسِ»
نَعُودُ الْآنَ إِلَى «الْعُكْمُوسِ»! إِنَّ فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ لَتَفْكِهَةً لِلنَّفْسِ، وَتَرْوِيحًا لِلْقَلْبِ. لَنْ نَسْتَطِيعَ أَنْ نَذْكُرَ «أَبَا الْغُصْنِ» دُونَ أَنْ نَذْكُرَ إِلَى جَانِبِهِ ذَلِكَ «الْعُكْمُوسَ»!
ذَا صَبَاحٍ، قَالَ «الْعُكْمُوسُ» فِي نَفْسِهِ: «تُرَى مَاذَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ «أَبِي الْغُصْنِ» وَقِرْدِهِ الصَّغِيرِ الَّذِي ضَرَبَ أُذُنِي بِمِغْرَفَتِهِ؟ إِنَّ بَيْعَ أَثَاثِهِ الْبَالِي لَمْ يَفِ بِنِصْفِ دَيْنِي. مَاذَا عَلَيَّ إِذَا عَاوَدْتُ الْكَرَّةَ، لَعَلِّي أَظْفَرُ بِجَدِيدٍ عِنْدَهُ فَأَبِيعَهُ، لِيُؤَدِّيَ بَعْضَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ!»
(٣) حَيْرَةٌ وَحَسْرَةٌ
أَيْنَ الْبَيْتُ الْمُهَدَّمُ الْخَرِبُ؟ لَا سَبِيلَ إِلَى الْعُثُورِ عَلَيْهِ. تَحَوَّلَ إِلَى سُوقٍ تِجَارِيَّةٍ كَبِيرَةٍ، فِي قَصْرٍ فَاخِرٍ؛ لَا مَثِيلَ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ. خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ مَكَانَ الْبَيْتِ.
رَجَعَ «الْعُكْمُوسُ» إِلَى نَفْسِهِ يُسَائِلُهَا: «أَيْنَ بَيْتُ غَرِيمِي؟ كَانَ فِي هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ. وَا عَجَبًا! كَيْفَ امَّحَى أَثَرُهُ؟ أَتُرَانِي ضَلَلْتُ الطَّرِيقَ. أَتُرَانِي أَخْطَأْتُ مَوْقِعَهُ؟»
كَانَ عَلَى حَقٍّ فِي حَيْرَتِهِ وَضَلَالِهِ! لَهُ الْعُذْرُ فِي سُؤَالِهِ!
بُهِتَ «الْعُكْمُوسُ» حِينَ رَآهُ. فَتَحَ مُتَحَيِّرًا فَاهُ. جَحَظَتْ عَيْنَاهُ. ارْتَفَعَ — مِنَ الدَّهْشَةِ — حَاجِبَاهُ. تَقَلَّصَتْ شَفَتَاهُ. انْتَصَبَتْ أُذُنَاهُ؛ كَأَنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَتَلَقَّفَ بِهِمَا الْأَخْبَارَ وَيَتَسَمَّعَ الْأَنْبَاءَ؛ لَعَلَّهُ يَعْرِفُ كَيْفَ تَبَدَّلَ حَالُ «أَبِي الْغُصْنِ» مِنْ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلَى الثَّرَاءِ وَالْعِزِّ.
رَأَى مَا اسْتَجَدَّ فِي دُكَّانِ غَرِيمِهِ مِنْ نَفِيسِ الْبَضَائِعِ الْمُكَدَّسَةِ. كَادَ قَلْبُهُ يَنْخَلِعُ. انْقَلَبَ ازْدِرَاؤُهُ وَتَنَكُّرُهُ إِجْلَالًا وَإِكْبَارًا.
(٤) تَحِيَّةٌ حَاقِدَةٌ
بُدِّلَ مِنْ هَيْئَتِهِ وَسَحْنَتِهِ. حَلَّتِ ابْتِسَامَتُهُ مَكَانَ عُبُوسِهِ وَجَهَامَتِهِ. تَوَجَّهَ إِلَى «أَبِي الْغُصْنِ» يَسْأَلُهُ مُتَوَدِّدًا: «سُعِدَ يَوْمُكَ. عَزَّ قَوْمُكَ. كَيْفَ حَالُكَ. يَا أَبَا الْغُصْنِ؟»
أَجَابَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» سَاخِرًا: «حَالِي كَمَا تَرَى، يَا عُكْمُوسُ!»
(٥) بَقِيَّةُ الدَّيْنِ
قَالَ «الْعُكْمُوسُ» مُتَلَطِّفًا: «هَلْ أَجِدُ مِنْ وَقْتِ سَيِّدِي «أَبِي الْغُصْنِ» مَا يَسْمَحُ لِي بِأَنْ أُذَكِّرَهُ بِمَا بَقِيَ لِي عَلَيْهِ مِنْ دَينٍ تَفِهٍ يَسِيرٍ؟»
قَالَ «الْعُكْمُوسُ»: «بَقِيَّةَ الدَّيْنِ الَّذِي اقْتَرَضْتَهُ مِنِّي.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَلَمْ تَحْجِزْ عَلَى أَثَاثِ الدَّارِ؟»
قَالَ «الْعُكْمُوسُ»: «عَفْوًا، يَا سَيِّدِي «أَبَا الْغُصْنِ»، عَفْوًا. الْحَجْزُ لَمْ يَفِ بِدَيْنِكَ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ …!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «عَلَى الْعَكْسِ مِمَّاذَا؟ لَعَلَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ: إِنَّ بَيْعَ الْأَثَاثِ قَدْ زَادَ فِي دَيْنِي وَلَمْ يَنْقُصْهُ!»
حَسِبَهُ «الْعُكْمُوسُ» جَادًّا. لَمْ يَفْطُنِ الْغَبِيُّ إِلَى تَهَكُّمِهِ. قَالَ: «عَجَبًا، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»! كَيْفَ يَغِيبُ عَنْ ذَكَائِكَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ؟
الْأَثَاثُ الْبَالِي لَمْ يَكُنْ لِيَصْلُحَ لِأَدَاءِ الدَّيْنِ، إِذَا بَقِيَ عَلَى حَالِهِ، بِغَيْرِ إِصْلَاحٍ! كَانَ عَلَيَّ أَنْ أَتَعَهَّدَهُ بِالْإِصْلَاحِ أَوَّلًا؛ حَتَّى أَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ! أَنْفَقْتُ — فِي سَبِيلِ ذَلِكَ — خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ دِينَارًا.»
تَوَقَّفَ «الْعُكْمُوسُ» عَنِ الْكَلَامِ لَحْظَةً. سَعَلَ مَرَّتَيْنِ. كَادَ يَغَصُّ بِرِيقِهِ. اسْتَرَدَّ جُرْأَتَهُ وَصَفَاقَتَهُ. اسْتَأْنَفَ قَائِلًا: «كَلَّفَنِي نَقْلُ الْأَثَاثِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ!» تَقَاضَانِي مَنْدُوبُ الْقَاضِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ أُخْرَى، هِيَ رُسُومُ الْقَضِيَّةِ. أَنْتَ تَرَى أَنَّ مَجْمُوعَ مَا أَنْفَقْتُهُ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ دِينَارًا.
أَتَعْلَمُ: بِكَمْ دِينَارًا بَاعَ الدَّلَّالُ أَثَاثَكَ؟ بِخَمْسِينَ دِينَارًا فَقَطْ، لَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ. هَا أَنْتَ ذَا تَرَى أَنَّ دَيْنَكَ زَادَ وَلَمْ يَنْقُصْ! زَادَ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، تُضَافُ إِلَى مِائَتَيِ الدِّينَارِ الَّتِي بَقِيَتْ عَلَيْكَ قَبْلَ بَيْعِهِ. أَصْبَحَ الدَّيْنُ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَمِائَتَيْنِ.
•••
غَيْرُ «أَبِي الْغُصْنِ» كَانَ يَتَمَلَّكُهُ الْغَضَبُ مِنْ إِسْرَافِ «الْعُكْمُوسِ» فِي مُغَالَطَتِهِ وَسُوءِ نِيَّتِهِ، وَتَمَادِيهِ فِي تَغَفُّلِهِ وَالتَّظَاهُرِ بِصَدَاقَتِهِ. لَكِنَّ «أَبَا الْغُصْنِ» — كَمَا عَرَفْتَ — كَانَ أَرْحَبَ أُفُقًا، وَأَكْبَرَ عَقْلًا، وَأَوْفَرَ حِلْمًا، مِنْ أَنْ يَضِيقَ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الصَّغَائِرِ.
أَتَعْرِفُ كَيْفَ أَجَابَ الْمُغَالِطَ الْكَبِيرَ؟
أَجَابَهُ فِي سُخْرِيَةٍ بَاسِمَةٍ: «كَيْفَ تُرِيدُنِي عَلَى أَنْ أَدْفَعَ الدَّيْنَ نَاقِصًا؟!»
قَالَ «الْعُكْمُوسُ»: «بَارَكَ اللهُ فِيكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»، مَاذَا تَعْنِي؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ كَامِلًا. لَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ ثَمَنِ الْإِهَانَةِ الَّتِي أَلْحَقَهَا وَلَدِي بِكَ. لَا بُدَّ مِنْ مُكَافَأَةِ الدَّلَّالِ الَّذِي بَاعَ الْأَثَاثَ.
يُضَافُ إِلَى هَذَا تَقْدِيرُ مَا أَنْفَقْتَ — مِنَ الْوَقْتِ — فِي الذِّهَابِ وَالْعَوْدَةِ بَيْنَ بَيْتَيْنَا، وَالذِّهَابِ وَالْعَوْدَةِ بَيْنِ بَيْتِكَ وَدَارِ الْقَضَاءِ. أَنَسِيتَ أَنَّكَ أَلْقَيْتَ عَلَيَّ التَّحِيَّةَ وَتَفَضَّلْتَ بِالسَّلَامِ؟ أَنَسِيتَ أَنَّكَ دَعَوْتَ لِي بِالْخَيْرِ؟ كَيْفَ نَسِيتَ هَذِهِ الْمَحَامِدَ؟ إِنَّهَا دُيُونٌ أَسْلَفْتَهَا إِلَيَّ.
كَيْفَ نَسِيتَ أَنْ تُقَاضِيَنِي عَلَيْهَا أَجْرًا تُضِيفُهُ إِلَى مَا عَلَيَّ مِنْ دَيْنٍ؟ شَدَّ مَا أَسْرَفْتَ فِي كَرَمِكَ، يَا «عُكْمُوسُ»! بَقِيَ أَمْرٌ خَطِيرٌ، نَسِيتَ أَنْ تُطَالِبَنِي بِهِ. لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ تَجَاوَزْتَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِثَمَنِهِ؟»
•••
مَا أَعْجَبَ غَبَاءَ «الْعُكْمُوسِ»! خَيَّلَ إِلَيْهِ طَمَعُهُ أَنَّ غَرِيمَهُ جَادٌّ فِيمَا يَقُولُ.
انْدَفَعَ يَسْأَلُهُ: «مَاذَا نَسِيتُ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»؟ بَارَكَ اللهُ فِي وَفَائِكَ، وَأَدَامَ عَلَيَّ نِعْمَةَ إِخَائِكَ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ أَثَاثَ بَيْتِي لَا يَصْلُحُ لِأَدَاءِ شَيْءٍ يَسِيرٍ مِنْ دَيْنِكَ، شَعَرْتَ بِصَدْمَةٍ مُفَاجِئَةٍ كَادَتْ تُودِي بِحَيَاتِكَ. لَا شَكَّ عِنْدِي فِي أَنَّ هَذِهِ الصَّدْمَةَ أَسْلَمَتْكَ إِلَى الْمَرَضِ. كَمْ دَفَعْتَ ثَمَنًا لِأَطِبَّائِكَ؟ كَمْ أَنْفَقْتَ ثَمَنًا لِدَوَائِكَ؟ أَلَيْسَتْ هَذِهِ دُيُونًا عَلَيَّ؟ كَيْفَ نَسِيتَ أَنْ تُطَالِبَنِي بِهَا؟»
اشْتَدَّ فَرَحُ «الْعُكْمُوسِ» بِمَا سَمِعَ. امْتَلَأَ قَلْبُ الْغَبِيِّ لَهْفَةً وَطَمَعًا. نَسِيَ أَنَّ غَرِيمَهُ يَسْخَرُ مِنْهُ. انْطَلَقَ يَلْهَجُ بِشُكْرِ «أَبِي الْغُصْنِ» وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. أَسْرَفَ فِي الدُّعَاءِ، مُتَمَادِيًا فِي الرَّجَاءِ.
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «حَسْبُكَ ثَنَاءً وَدُعَاءً — يَا «عُكْمُوسُ» — حَتَّى لَا يَزِيدَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِمَّا زَادَ!»
•••
أَذْهَلَ «الْعُكْمُوسَ» الطَّمَعُ. أَضَلَّهُ الْحِرْصُ وَالشَّرَهُ. صَدَّقَ مَا سَمِعَ. انْدَفَعَ يَقُولُ: «كَلَّا، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». أَنْتَ جَدِيرٌ بِأَكْثَرَ مِمَّا قُلْتُ. لَنْ أَتَقَاضَى أَجْرًا عَلَى ثَنَائِي. أَنَا أَتَجَاوَزُ لَكَ عَنْ ثَمَنِ دَعَوَاتِيَ الْأَخِيرَةِ. لَكِنْ خَبِّرْنِي، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»: مَتَى تُؤَدِّي إِلَيَّ كُلَّ هَذِهِ الدُّيُونِ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أُعْطِيكَهُ عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ أَمَامَ الْقَاضِي؟!»
قَالَ «الْعُكْمُوسُ»: «مَا حَاجَتُنَا إِلَى الْقَاضِي بَعْدَ أَنْ غَمَرْتَنِي بِكَرَمِكَ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لَا بُدَّ لِي مِنْ أَنْ أُبَرِّئَ ذِمَّتِي أَمَامَ اللهِ، وَأَمَامَ نَفْسِي، وَأَمَامَكَ، وَأَمَامَ الْقَاضِي، وَأَمَامَ النَّاسِ جَمِيعًا!»
انْخَدَعَ «الْعُكْمُوسُ» بِقَوْلِ «أَبِي الْغُصْنِ». اشْتَدَّ فَرَحُهُ بِمَا سَمِعَ. ذَهَبَ مَعَهُ إِلَى دَارِ الْقَضَاءِ.
(٦) حِوَارُ الْقَاضِي
مَثَلَ الْغَرِيمَانِ أَمَامَ الْقَاضِي.
سَأَلَ الْقَاضِي عَنْ جَلِيَّةِ الْخَبَرِ. شَرَحَ «الْعُكْمُوسُ» قَضِيَّتَهُ مَعَ غَرِيمِهِ.
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَرَأَيْتَ كَيْفَ يُقَرِّرُ دَائِنِي أَنَّ دَيْنِي لَمْ يَنْقُصْ — بَعْدَ أَنْ بَاعَ أَثَاثِي — بَلْ زَادَ؟»
قَالَ الْقَاضِي: «أَيُّ عَجَبٍ فِي هَذَا؟ أَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ أَصْلَحَ الْأَثَاثَ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لَا تَنْسَ — يَا فَخْرَ الْقَضَاءِ، وَنِبْرَاسَ الْعَدَالَةِ، وَمِرْآةَ الْحَقِّ — أَنَّهُ أَصْلَحَ الْأَثَاثَ لِنَفْسِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَلَمْ يُصْلِحْهُ مِنْ أَجْلِ فَائِدَتِي أَنَا.»
قَالَ الْقَاضِي: «هَذَا مَوْضِعُ بَحْثٍ وَنَظَرٍ.»
قَالَ «الْعُكْمُوسُ»: «لَوْ لَمْ يَضْطَرَّنِي إِلَى الْحَجْزِ عَلَى أَثَاثِ بَيْتِهِ وَأَخْذِهِ، لَمَا كُنْتُ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِصْلَاحِهِ.»
قَالَ الْقَاضِي: «الْعُكْمُوسُ عَلَى حَقٍّ فِيمَا يَقُولُ.»
•••
طَالَ الْحِوَارُ.
ابْتَسَمَ «أَبُو الْغُصْنِ» قَائِلًا: «أَتَرْضَى أَنْ أُعْطِيَهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ؟»
(٧) دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
قَالَ «الْعُكْمُوسُ»: «أُقْسِمُ بِاللهِ: إِنَّنِي صَادِقٌ غَيْرُ حَانِثٍ فِي كُلِّ مَا قَرَّرْتُهُ أَمَامَ الْقَاضِي. أَنَا أَدْعُو اللهَ أَنْ يَمْسَخَنِي حِمَارًا إِذَا كُنْتُ كَذَبْتُكُمَا كَلِمَةً وَاحِدَةً، مِمَّا رَوَيْتُهُ لَكُمَا!»
•••
أَمْسَكَ «أَبُو الْغُصْنِ» ﺑِ «مِصْبَاحِ الْكَنْزِ»، يَسْتَعِينُهُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَغْبَتِهِ.
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَا أَحْوَجَنِي إِلَى حِمَارٍ لِحَمْلِ بَضَائِعِي وَحَمْلِي! لَعَلَّ اللهَ يَمْسَخُكَ حِمَارًا — أَيُّهَا الشَّقِيُّ — مَا دُمْتَ تُقْسِمُ بِهِ كَاذِبًا!»
لَمْ يَتَمَالَكِ الْقَاضِي أَنْ يَضْحَكَ مِنَ الْمُدَاعَبَةِ الْجُحَوِيَّةِ الظَّرِيفَةِ.
•••
لَكِنْ حَدَثَ مَا لَيْسَ فِي الْحِسْبَانِ: كَفَّ الْقَاضِي عَنِ الضَّحِكِ. انْقَلَبَتِ الدُّعَابَةُ الْحُلْوَةُ جِدًّا مَرِيرًا.
أَبْصَرَ الْقَاضِي أُذُنَيِ «الْعُكْمُوسِ» تَمْتَدَّانِ حَتَّى تُصْبِحَا فِي طُولِ أُذُنَيِ الْحِمَارِ، وَقَدَمَيْهِ تَكْتَسِيَانِ شَعْرًا، وَتَبْدُوَانِ فِي مِثْلِ سَاقَيِ الْحِمَارِ! عَجَبٌ عَاجِبٌ! عَجَبٌ عَاجِبٌ!
ذُعِرَ الْقَاضِي، أَقْبَلَ الْقَاضِي عَلَى «أَبِي الْغُصْنِ» مُتَحَبِّبًا. قَالَ: «لَا رَيْبَ عِنْدِي أَنَّكَ رَجُلٌ شَرِيفٌ صَادِقٌ. لَا شَكَّ فِي أَنَّ غَرِيمَكَ خَادِعٌ كَاذِبٌ. لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُمْسَخْ حِمَارًا. حَسْبُكَ أَنْ أَتَاحَ اللهُ لَكَ مَرْكَبًا يَحْمِلُكَ إِلَى بَيْتِكَ. اذْهَبْ إِلَى دَارِكَ رَاشِدًا آمِنًا، فِي حَلِّكَ وَتَرْحَالِكَ!»
ابْتَسَمَ «أَبُو الْغُصْنِ» مُتَهَكِّمًا. قَالَ: «شُكْرًا لَكَ — أَيُّهَا الْإِمَامُ الْعَادِلُ — عَلَى تَلَطُّفِكَ. لَكِنْ لَا مَنَاصَ لِي مِنْ إِيدَاعِ مَا بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ دَيْنِ «الْعُكْمُوسِ». لَا بُدَّ أَنْ تُعْطِيَهُ إِيَّاهُ، مَتَى طَلَبَهُ مِنْكَ. الْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. هَذَا دَيْنٌ لَهُ عَلَيَّ، لَا مَفَرَّ مِنْ أَدَائِهِ.»
حَاوَلَ «الْعُكْمُوسُ» أَنْ يَتَكَلَّمَ. أَعْجَزَهُ الْكَلَامُ. تَحَوَّلَ كَلَامُهُ نَهِيقَ حِمَارٍ أَصِيلٍ فِي حِمَارِيَّتِهِ! لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مَاذَا قَال «الْعُكْمُوسُ».
لَعَلَّ «أَبَا الْغُصْنِ» وَحْدَهُ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُفَسِّرَ لَنَا خوَاطِرَ ذَلِكَ الْحِمَارِ، لَوِ اسْتَعَانَ بِذَكَائِهِ، أَوِ اسْتَعَانَ بِمِصْبَاحِهِ. لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ.
قَالَ الْقَاضِي: «كُنْ مُطْمَئِنًّا، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». لَنْ تَخْرُجَ هَذِهِ الدَّنَانِيرُ مِنْ يَدِي إِلَّا إِذَا عَادَ «الْعُكْمُوسُ» إِلَى طَلَبِهَا.»
اسْتَأْذَنَ «أَبُو الْغُصْنِ» الْقَاضِيَ فِي الْعَوْدَةِ. أَذِنَ الْقَاضِي لَهُ شَاكِرًا مُتَوَدِّدًا.
أَمْسَكَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِزِمَامِ حِمَارِهِ الْآدَمِيِّ الْخَبِيثِ، بَعْدَ أَنْ سَحَرَهُ «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ». خَرَجَ بِهِ إِلَى الطَّرِيقِ. أَتَمَّ اللهُ نَصْرَهُ عَلَى الشِّرِّيرِ.
(٨) جَزَاءُ الْعِصْيَانِ
اعْتَلَى ظَهْرَ الْحِمَارِ. هَمَّ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بَيْتِهِ. حَاوَلَ الشَّقِيُّ أَنْ يَتَخَابَثَ. انْطَلَقَ يَقْفِزُ وَيَجْمَحُ وَيَرْفُسُ بِقَدَمَيْهِ، وَيَمْشِي عَامِدًا فِي طَرَائِقَ وَعْرَةٍ مُلْتَوِيَةٍ. شَهِدَ الْقَاضِي عِنَادَ الْحِمَارِ وَتَمَرُّدَهُ. أَعْطَى «أَبَا الْغُصْنِ» عَصًا لِيَقَوِّمَ بِهَا اعْوِجَاجَ حِمَارِهِ.
(٩) مُنَاجَاةُ «أَبِي الْغُصْنِ»
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» يُحَدِّثُ نَفْسَهُ مُبْتَهِجًا. كَانَ يَقُولُ: «مَا أَعْجَبَ شَأْنَكَ، وَأَغْرَبَ أَمْرَكَ، أَيُّهَا «الْعُكْمُوسُ»! مَا أَعْظَمَ نَفْعَكَ حِمَارًا، وَأَشَدَّ ضَرَرَكَ إِنْسَانًا! الْآنَ اسْتَقَامَتْ مِشْيَتُكَ. اعْتَدَلَ سَيْرُكَ. حَسُنَتْ سِيرَتُكَ. لَيْتَكَ وُلِدْتَ حِمَارًا تَنْفَعُ النَّاسَ، وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِمْ مَتَاعِبَ الْحَيَاةِ، بِمَا تُسْلِفُهُ إِلَيْهِمْ مِنْ مَعُونَةٍ صَادِقَةٍ.
مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ أُذُنَيْكَ الطَّوِيلَتَيْنِ قَدِ انْسَجَمَتَا حِينَ حَلَلْتَ فِي الصُّورَةِ الْحِمَارِيَّةِ، بَعْدَ أَنِ اشْتَدَّ تَنَافُرُهُمَا حِينَ كُنْتَ فِي الصُّورَةِ الْآدَمِيَّةِ. كُنَّا نَنْفُرُ مِنْ صَوْتِكَ الْحِمَارِيِّ الْمُنْكَرِ، لِشُذُوذِهِ. كُنَّا نَسْتَنْكِرُهُ لِبَشَاعَتِهِ. أَمَّا الْآنَ، فَنَرَاهُ شَيْئًا طَبِيعِيًّا، لِانْسِجَامِهِ وَأُلْفَتِهِ.»
(١٠) مُنَاجَاةُ «الْعُكْمُوسِ»
كَانَ ﻟِ «الْعُكْمُوسِ» حَدِيثٌ آخَرُ. كَانَ يُنَاجِي نَفْسَهُ مَهْمُومًا مَحْزُونًا. كَانَ يَقُولُ: «تُرَى إِلَى أَيِّ غَايَةٍ يَنْتَهِي مَصِيرُ أَهْلِي وَبَيْتِي؟ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُمْ سَيَسْلُكُونَنِي فِي عِدَادِ الْهَالِكِينَ، وَيَنْتَقِلُ مَالِي إِلَى أَيْدِي الْوَرَثَةِ الْخَاطِفِينَ. لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ وَلَا مِرَاءَ. لَيْسَ لِي زَوْجٌ وَلَا وَلَدٌ. آهِ لَوْ كُنْتُ أَدْرِي!»
(١١) حِكْمَةٌ غَالِيَةٌ
فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، جَمَعَ «الْعُكْمُوسُ» حِكْمَةَ الْحَيَاةِ وَعِبْرَتَهَا. جَمَعَهَا فِي قَوْلِهِ: «آهِ لَوْ كُنْتُ أَدْرِي!»
صَدَقَ «الْعُكْمُوسُ». مَا أَظُنُّهُ حَفَلَ بِالصِّدْقِ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ.
أَوْدَعَ «الْعُكْمُوسُ» تِلْكَ الْحِكْمَةَ الذَّهَبِيَّةَ الْخَالِدَةَ، أَبْدَعَ مَا فِي الْحَيَاةِ مِنْ مَعَانٍ وَغَايَاتٍ! كَمْ فِي الْحَيَاةِ مِنْ وَيْلَاتٍ وَمَصَائِبَ، كَانَ الْمَرْءُ يَسْتَطِيعُ اجْتِنَابَهَا، لَوْ كَانَ يَدْرِي آخِرَتَهَا، وَيَعْرِفُ مَغَبَّتَهَا! كَمْ مِنْ فَوَائِدَ وَمَنَافِعَ كَانَ الْمَرْءُ يَسْتَطِيعُ اجْتِنَاءَهَا وَالظَّفَرَ بِهَا؛ لَوْ كَانَ يَدْرِي عُقْبَاهَا وَغَايَتَهَا!
الطَّالِبُ الْكَسْلَانُ. لَوْ كَانَ يَدْرِي مَصِيرَهُ، تَمَثَّلَ حَيَاتَهُ الْقَابِلَةَ الْجَافَّةَ، حَافِلَةً بِالشَّقَاءِ، مُفْعَمَةً بِالْكَوَارِثِ، يَسُودُهَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَيُسَيْطِرُ عَلَيْهَا الْبُؤْسُ وَالْحِرْمَانُ.
الْمُسِيءُ لَوْ كَانَ يَدْرِي مَصِيرَهُ، تَمَثَّلَ لِعَيْنَيْهِ مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ جَزَاءٍ، فَكَفَّ عَنْهَا لِيَتَجَنَّبَ الْكَوَارِثَ الَّتِي يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لَهَا. الْكَاذِبُ لَوْ كَانَ يَدْرِي عَاقِبَةَ كَذِبِهِ. الظَّالِمُ لَوْ كَانَ يَدْرِي عَاقِبَةَ بَغْيِهِ. الشَّرِهُ لَوْ كَانَ يَدْرِي عَاقِبَةَ طَمَعِهِ. الْبَخِيلُ لَوْ كَانَ يَدْرِي عَاقِبَةَ حِرْصِهِ … لَوْ كَانَ هؤُلَاءِ يَدْرُونُ، لَكَفَّ كُلُّ مِنْهُمْ عَنْ رَذِيلَتِهِ، وَاسْتَقَامَ عَلَى فَضِيلَتِهِ.
•••
لَوْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ يَدْرِي عَاقِبَةَ اجْتِهَادِهِ. لَوْ كَانَ الصَّابِرُ يَدْرِي عَاقِبَةَ صَبْرِهِ. لَوْ كَانَ الْأَمِينُ يَدْرِي عَاقِبَةَ أَمَانَتِهِ. لَوْ كَانَ الْمُحْسِنُ يَدْرِي عَاقِبَةَ إِحْسَانِهِ. لَوْ كَانَ الصَّادِقُ يَدْرِي عَاقِبَةَ صِدْقِهِ.
لَوْ دَرَى هؤُلَاءِ جَمِيعًا عَاقِبَةَ أَعْمَالِهِمْ، إِذَنْ ضَاعَفُوا جُهُودَهُمْ، وَاسْتَزَادُوا مِنْ فَضَائِلِهِمْ، وَتَخَلَّصُوا مِنْ نَقَائِصِهِمْ، وَاسْتَكَثَرُوا مِنْ مَحَامِدِهِمْ.
(١٢) جَارُ «الْعُكْمُوسِ»
اقْتَرَبَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ بَيْتِهِ. لَقِيَهُ «أَبُو عَلِيٍّ» فِي طَرِيقِهِ. ابْتَدَرَهُ بِالتَّحِيَّةِ. رَدَّ عَلَيْهِ «أَبُو الْغُصْنِ» تَحِيَّتَهُ بِأَحْسَنَ مِنْهَا.
كَانَ «أَبُو عَلِيٍّ» يَسْكُنُ بِجِوَارِ «الْعُكْمُوسِ». كَانَ إِعْجَابُهُ بِمَحَامِدِ «أَبِي الْغُصْنِ» لَا يَقِلُّ عَنْ سُخْطِهِ عَلَى مَسَاوِئِ «الْعُكْمُوسِ».
فَرِحَ «الْعُكْمُوسُ» بِلِقَاءِ «أَبِي عَلِيٍّ». رَأَى فِي لِقَائِهِ مُفَاجَأَةً سَارَّةً، تُخَفِّفُ مِنْ كُرْبَتِهِ، وَتُهَوِّنُ مِنْ مُصِيبَتِهِ. ابْتَدَرَ «أَبَا عَلِيٍّ» بِالتَّحِيَّةِ.
يَا لِشَقَائِهِ وَخَيْبَتِهِ، وَأَلَمِهِ وَحَسْرَتِهِ! أَرَادَهَا تَحِيَّةً نَاطِقَةً، فَإِذَا هِيَ صَيْحَةٌ نَاهِقَةٌ. أَعْجَزَتْهُ عَنِ الْكَلَامِ حِمَارِيَّتُهُ، بَعْدَ أَنْ فَارَقَتْهُ آدَمِيَّتُهُ.
قَالَ «أَبُو عَلِيٍّ»: «مَا أَعْجَبَ حِمَارَكَ الْجَدِيدَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»؟ وَيْ وَيْ! أَغْرَبُ حِمَارٍ رَأَيْتُهُ. أَنْكَرُ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ. صِيَاحُهُ يُذَكِّرُنَا بِنَهِيقِ «الْعُكْمُوسِ» كَمَا تُذَكِّرُنَا صُورَتُهُ بِهِ!»
صَمَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَنِ الْكَلَامِ. لَمْ يَزِدْ عَلَى ابْتِسَامٍ.
اسْتَأْنَفَ «أَبُو عَلِيٍّ» قَائِلًا: «طَالَمَا دَعَوْنَا اللهَ أَنْ يُرِيحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ مِنْ شَرِّ هَذَا الشَّرِهِ الْقَاسِي، الَّذِي يَسْتَغِلُّ فَقْرَ دَائِنِهِ أَشْنَعَ اسْتِغْلَالٍ. فَلَا يَتَوَرَّعُ عَنِ التَّفَنُّنِ فِي سَرِقَةِ مَالِهِ، بِمَا يُضَاعِفُهُ مِنْ رِبًا فَاحِشٍ. شَدَّ مَا يُدْهِشُنِي أَلَّا تَكُفَّ عَنْ مُعَامَلَتِهِ، بَعْدَ مَا لَقِيتَ مِنْ فُنُونِ إِسَاءَتِهِ، وَضُرُوبِ أَذِيَّتِهِ!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»، فِي تَهَكُّمٍ بَاسِمٍ: «لَعَلَّكَ قَسَوْتَ عَلَيْهِ فِي حُكْمِكَ! عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنَا لَا أُخَالِفُكَ فِي أَنَّهُ سَلَكَ — فِي مُعَامَلَتِي — أَسْوَأَ السُّبُلِ. لَمْ يَتْرُكْ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْقَسْوَةِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَالسَّرِقَةِ؛ إِلَّا سَلَكَهَا، فِي غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا حَيَاءٍ.»
اشْتَدَّ غَيْظُ «الْعُكْمُوسِ» مِمَّا سَمِعَ. قَفَزَ بِصَاحِبِهِ قَفْزَةً كَادَتْ — لَوْلَا لُطْفُ اللهِ — تُسْقِطُهُ عَلَى الْأَرْضِ.
كَانَ لَا بُدَّ مِنْ عِقَابِهِ عَلَى إِسَاءَتِهِ، حَتَّى لَا يَتَمَادَى فِي حَمَاقَتِهِ. ابْتَدَرَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» بِضَرْبَةٍ مِنْ عَصَاهُ، رَجَعَتْهُ إِلَى هُدَاهُ. سَكَنَتْ ثَائِرَةُ «الْعُكْمُوسِ». أَدَّبَتْهُ الْعَصَا بَعْدَ أَنْ عَجَزَ عَنْ تَأْدِيبِهِ الْحِلْمُ. كَانَ لهَا مِثْلُ السِّحْرِ فِي تَقْوِيمِ اعْوِجَاجِهِ. وَكَفِّهِ عَنْ تَمَادِيهِ فِي عِنَادِهِ وَلَجَاجِهِ.
اسْتَأْنَفَ «أَبُو الْغُصْنِ» قَائِلًا: «صَدَقْتَ — يَا أَخِي — فِي حُكْمِكَ عَلَى «الْعُكْمُوسِ». مَا أَضْيَعَ الْحِلْمَ وَأَعْجَزَهُ عَنْ تَقْوِيمِ بَعْضِ الْأَشْرَارِ، مِمَّنْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِصْلَاحِ حَالِهِ وَإِيقَاظِ ضَمِيرِهِ بِغَيْرِ الْعِقَابِ الرَّادِعِ. انْظُرْ إِلَى هَذَا الْحِمَارِ الشَّرِسِ الْعَنِيدِ: كَيْفَ أَغْرَاهُ الْحِلْمُ وَأَدَّبَتْهُ الْعَصَا! هَيْهَاتَ — يَا أَخِي — أَنْ تَسْتَقِيمَ الْحَيَاةُ بِغَيْرِ قِصَاصٍ!»
قَالَ «أَبُو عَلِيٍّ»: «الْحَقُّ مَعَكَ يَا «أَبَا الْغُصْنِ»! لِكُلِّ طَبْعٍ مَا يُلَائِمُهُ.»
بُهِتَ «الْعُكْمُوسُ» حِينَ كَشَفَتَ لَهُ الْعَصَا عَجْزَهُ وَنَقْصَهُ. تَيَقَّظَ ضَمِيرُهُ النَّائِمُ عَلَى صَوْتِهَا، وَاسْتَقَامَ اعْوِجَاجُهُ بِفَضْلِهَا. خَذَلَهُ ضَعْفُهُ، وَأَقْعَدَهُ عَجْزُهُ. لَمْ يَجِدْ فِي غَيْرِ الِاسْتِسْلَامِ وَالْخُضُوعِ مُنْقِذًا لَهُ مِنْ آلَامِ الضَّرْبِ.
افْتَرَقَ الصَّدِيقَانِ. وَاصَلَ كِلَاهُمَا سَيْرَهُ إِلَى غَايَتِهِ.
مَشَى «الْعُكْمُوسُ» — فِي ذِلَّةٍ وَمَهَانَةٍ، وَخُضُوعٍ وَاسْتِكَانَةٍ — حَتَّى بَلَغَ بَيْتَ «أَبِي الْغُصْنِ».
(١٣) الْحِمَارُ الْجَدِيدُ
لَا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ «رَبَابَةَ» وَوَلَدَيْهَا، حِينَ رَأَوُا الْحِمَارَ الْجَدِيدَ. قَالَتْ «رَبَابَةُ»: «مَا كَانَ أَحْوَجَنَا إِلَى حِمَارٍ كَهَذَا، يَحْمِلُ ثِيَابَنَا إِلَى الْمَغْسَلِ!»
قَالَتْ «زُبَيْدَةُ»: «ويَجُرُّ عَرَبَةَ الْبَضَائِعِ الصَّغِيرَةَ.»
قَالَتْ «جُحَيَّةُ»: «وَيَحْمِلُنِي عَلَى ظَهْرِهِ، فِيمَا يَحْمِلُ مِنْ أَثْقَالٍ. إِنَّهُ — كَمَا تَرَوْنَ — حِمَارٌ قَوِيٌّ نَشِيطُ!»
قَالَ «جَحْوَانُ»، وَهُوَ يُلَوِّحُ بِعَصَاهُ فِي وَجْهِهِ: «أَنَا الَّذِي يَسُوقُهُ بِهَذِهِ الْعَصَا.»
عَرَفَ «الْعُكْمُوسُ» — مِمَّا سَمِعَ — بَرْنَامَجَ الْعَمَلِ الْيَوْمِيِّ. الَّذِي لَا مَنَاصَ لَهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ وَأَدَائِهِ.
الْتَفَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى وَلَدَيْهِ قَائِلًا: «لَا تَنْسَوْا أَنَّ الرِّفْقَ بِالْحَيَوَانِ، أَوَّلُ وَاجِبَاتِ الْإِنْسَانِ.»
ابْتَهَجَ «الْعُكْمُوسُ» بِنَصِيحَةِ «أَبِي الْغُصْنِ». شَعَرَ بِالرَّاحَةِ تَسْرِي فِي أَعْمَاقِ نَفْسِهِ، حِينَ سَمِعَهُ يَنْصَحُ وَلَدَهُ «جَحْوَانَ» وَبِنْتَهُ «جُحَيَّةَ» بِالتَّلَطُّفِ مَعَ حِمَارِهِ، وَيَنْهَاهُمَا عَنْ ضَرْبِهِ وَإِيذَائِهِ. اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ حِينَ سَمِعَ «أَبَا الْغُصْنِ» يَقُولُ: «إِنَّ الرِّفْقَ بِالْحَيَوَانِ، وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ.»
أَمَرَّ الصَّغِيرَانِ أَيْدِيَهُمَا عَلَى شَعْرِ «الْعُكْمُوسِ» مُتَحَبِّبَيْنِ إِلَيْهِ مُتَوَدِّدَيْنِ. فَاضَ قَلْبُ «الْعُكْمُوسِ» عِرْفَانًا بِجَمِيلِهِمَا. وَابْتِهَاجًا بِصَنِيعِهِمَا. أَوْسَعَاهُ تَرْبِيتًا وَنَقْرًا. أَوْسَعَهُمَا ثَنَاءً وَشُكْرًا.
(١٤) نَشِيدُ الْأَخَوَيْنِ
ابْتَهَجَ «الْعُكْمُوسُ» لِحَدِيثِهِمَا. طَرِبَ لِأَغَانِيهِمَا، وَهُمَا يُنْشِدَانِ، وَيَتَغَنَّيَانِ بِأَعْذَبِ الْأَلْحَانِ.
«جُحَيَّةُ» تَقُولُ:
«جَحْوَانُ» يَقُولُ:
«جُحَيَّةُ»، وَ«جَحْوَانُ» يُنْشِدَانِ:
ابْتَهَجَ الْحِمَارُ، وَابْتَهَجَ مَعَهُ كُلُّ مَنْ فِي الدَّارِ. أَصْبَحَ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — أَهْلًا لِإِعْجَابِ الْجَمِيعِ، لَا غَرَابَةَ فِي ذَلِكَ. أَصْبَحَ شَيْئًا آخَرَ. كَانَ مِثَالَ الشَّرَاسَةِ وَالْعُنْفِ، أَصْبَحَ مِثَالَ السَّلَاسَةِ وَاللُّطْفِ. أَصْبَحَ مُتَأَنِّقًا تَزْهُوهُ نَظَافَتُهُ، وَتُمَيِّزُهُ وَدَاعَتُهُ وَدَمَاثَتُهُ.
كَانَ الْقِصَاصُ شِفَاءً لَهُ مِنْ قَسْوَتِهِ، وَهِدَايَةً لَهُ مِنْ شَقَاوَتِهِ. حَسْبُهُ الْآنَ مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ حَمِيدِ الصِّفَاتِ.
بَالَغَ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي الْعِنَايَةِ بِحِمَارِهِ، أَعَدَّ لَهُ — فِي بَيْتِهِ — مَخْزَنًا مَمْلُوءًا بِالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ. لَمْ يُقَصِّرْ فِي مُلَاطَفَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
لَوْ سَأَلَ «الْعُكْمُوسَ» سَائِلٌ: مَاذَا يَنْقُصُهُ مِنَ السَّعَادَةِ؟ إِذَنْ قَالَ إِنَّ أَسْعَدَ مَا يُسْعِدُ حِمَارًا مِثْلَهُ، لَوِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْسَى أَنَّهُ إِنْسَانٌ!
(١٥) قَالَتْ «زُبَيْدَةُ»
أَقْبَلَ «الْعُكْمُوسُ» عَلَى الْحَشَائِشِ يَرْعَاهَا — فِي فِنَاءِ الدَّارِ — فِي هُدُوءٍ وَاطْمِئْنَانٍ. كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ غِطَاءٌ طَوِيلٌ. جَلَسَ عَلَيْهِ «جَحْوَانُ» وَ«جُحَيَّةُ».
بَعْدَ قَلِيلٍ قَدِمَتْ «زُبَيْدَةُ» مِنَ الْخَارِجِ قَائِلَةً: «أَتَعْلَمَانِ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» وَيَا «أُمَّ جَحْوَانَ» — أَنَّ «الْعُكْمُوسَ» مَاتَ!»
رَفَعَ «الْعُكْمُوسُ» رَأْسَهُ حِينَ سَمِعَ النَّبَأَ. نَصَّ أُذُنَيْهِ. أَرْهَفَهُمَا؛ لِيُصْغِيَ إِلَى كُلِّ كَلِمَةٍ تَفُوهُ بِهَا.
ثَارَ «الْعُكْمُوسُ» حَانِقًا. صَيَّحَ نَاهِقًا. اسْتَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ الْيَأْسُ، حِينَ سَمِعَ النَّبَأَ، مَدَّ إِحْدَى سَاقَيْهِ. تَفَزَّعَ وَتَلَوَّى. تَقَلَّصَ وَتَحَوَّى. كَأَنَّمَا كَانَ يُعْلِنُ — بِذَلِكَ — احْتِجَاجَهُ وَسُخْطَهُ عَلَى مَا سَمِعَ. أَخَلَّتِ الْحَرَكَةُ الْمُفَاجِئَةُ بِتَوَازُنِ الْأَخَوَيْنِ. كَادَا يَهْوِيَانِ.
أَمْسَكَا بِأُذُنَيْهِ مُتَشَبِّثَيْنِ بِكُلِّ مَا فِيهِمَا مِنْ قُوَّةٍ.
(١٦) خَوَاطِرُ حِمَارٍ!
أَفَاقَ الْحِمَارُ مِنْ صَدْمَةِ الْمُفَاجَأَةِ. عَاوَدَهُ الْهُدُوءُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، بَعْدَ أَنِ اسْتَرَاحَ إِلَى الْيَأْسِ. قَالَ فِي نَفْسِهِ: «وَاحَسْرَتَا عَلَيَّ، لَمْ يَبْقَ لِي مِنْ مَزَايَا الْأَنَاسِيِّ إِلَّا الْقُدْرَةُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْكَلَامِ، وَإِدْرَاكِ مَعَانِيهِ، وَفَهْمِ مَرَامِيهِ. لَكِنْ؛ مَاذَا يُجْدِي الْإِدْرَاكُ وَالْفَهْمُ مَعَ الْخَرَسِ وَالْعَجْزِ؟ أَيُّ انْتِفَاعٍ لِي بِمَا يَجُولُ فِي نَفْسِي مِنْ مَعَانٍ وَخَوَاطِرَ، مَا دُمْتُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْإِفْصَاحِ وَالتَّعْبِيرِ؟!»
أَقْبَلَ «الْعُكْمُوسُ» عَلَى نَفْسِهِ يُحَدِّثُهَا. قَالَ: «حِينَ كُنْتُ إِنْسَانًا، كَانَتْ لِي فِي الْحَيَاةِ آمَالٌ وَمَطَامِعُ لَا حَدَّ لَهَا. أَلَيْسَ مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الزُّهْدُ عَلَى نَفْسِي — بَعْدَ أَنْ زَايَلَتْنِي آدَمِيَّتِي — فِي كُلِّ مَبَاهِجِ الْحَيَاةِ وَلَذَائِذِهَا. لَمْ يَبْقَ لِي مَأْرَبٌ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ. الْآنَ عَرَفْتُ: كَيْفَ غَنِيَتِ الْحَمِيرُ بِأَكْلِهَا وَشُرْبِهَا وَنَوْمِهَا، عَنْ كُلِّ مَا تَحْوِيهِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَمَبَاهِجِ الْحَيَاةِ، مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ!»
عَادَ الْحِمَارُ إِلَى حَشَائِشِ الْأَرْضِ، يَلْتَهِمُهَا قَرِيرَ الْعَيْنِ مَسْرُورًا. رَاحَ يُحَرِّكُ ذَيْلَهُ لِيَطْرُدَ بِهِ الذُّبَابَ. الْتَذَّ طَعَامَهُ وَاسْتَهْنَأَهُ. أُعْجِبَ بِهِ وَاسْتَمْرَأَهُ.
مِنْ عَجِيِبِ الْمُفَارَقَاتِ، أَنَّهُ لَمْ يَسْتَرِدَّ أَنَاتَهُ وَفِطْنَتَهُ، وَهُدُوءَهُ وَحِكْمَتَهُ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ فَقَدَ إِرَادَتَهُ، وَسُلِبَ إِنْسَانِيَّتَهُ، وَأَلِفَ حِمَارِيَّتَهُ!