عَوْدَةُ «الْخَوَّارِ»
(١) حَادِثٌ لَا يُنْسَى
مَرَّتِ الْأَيَّامُ. ظَهَرَ «الْخَوَّارُ». لَقِيَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي طَرِيقِهِ مُصَادَفَةً.
لَعَلَّكَ لَمْ تَنْسَهُ، أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَزِيزُ. لَعَلَّكَ لَمْ تَنْسَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ الدَّمِيمَ، ذَا الْعَيْنَيْنِ الْخَضْرَاوَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ الْغَلِيظَتَيْنِ.
لَعَلَّكَ لَا تَزَالُ تَذْكُرُ كَيْفَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ، وَالرُّعْبُ وَالْهَلَعُ، حِينَ الْتَقَتْ عَيْنَاهُ الزُّمُرُّدِيَّتَانِ بِعَيْنَيْ «أَبِي شَعْشَعٍ» الزَّرْقَاوَيْنِ الْيَاقُوتِيَّتَيْنِ. لَعَلَّكَ لَمْ تَنْسَ كَيْفَ غَلَبَهُ الْجُبْنُ، فَلَاذَ بِالْفِرَارِ. كَانَ حَادِثًا لَا يُنْسَى!
(٢) حِوَارٌ سَاخِرٌ
الْتَقَى «أَبُو الْغُصْنِ» ﺑِ «الْخَوَّارِ».
ابْتَدَرَهُ «الْخَوَّارُ» يَسْأَلُهُ مُتَخَابِثًا: «هَا هَا! كَيْفَ أَنْتَ؟ أَيْنَ صَاحِبُكَ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَيَّ صَاحِبٍ تَعْنِي؟»
قَالَ «الْخَوَّارُ»: «مَا عَنَيْتُ غَيْرَ الشَّيْخِ الطَّاعِنِ فِي السِّنِّ، الْمُتَنَاهِي فِي الدَّمَامَةِ وَالْقِصَرِ. كَانَ يَتَعَشَّى مَعَكَ، حِينَ قَدِمْتُ عَلَيْكَ فِي بَيْتِكَ لِأُعَاتِبَكَ فِي أَمْرِ الْعُكْمُوسِ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «الْآنَ عَرَفْتُ مَنْ تَعْنِيهِ. مَا أَفْدَحَ خَسَارَتَكَ، حِيَنَ حُرِمْتَ لِقَاءَهُ. فَاتَكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، يَا خَوَّارُ.»
قَالَ «الْخَوَّارُ»: «أَهُوَ مِنْ زُمَلَائِنَا وَأَبْنَاءِ مِهْنَتِنَا؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» مُتَهَكِّمًا: «هُوَ خَبِيرٌ بِالدَّقِيقِ، بَارِعٌ فِي الْغَرْبَلَةِ، يَعْرِفُ كَيْفَ يَفْصِلُ الْحَبَّةَ الْجَيِّدَةَ مِنَ الْحَبَّةِ الْفَاسِدَةِ! سَافَرَ مُنْذُ حِينٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ.»
اطْمَأَنَّ «الْخُوَّارُ» لِسَفَرِ «أَبِي شَعْشَعٍ». تَطَلَّقَ وَجْهُهُ سُرُورًا وَبِشْرًا.
سَأَلَهُ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَتَقُولُ: تَرَدَّى فِي بِئْرٍ؟»
هَا أَنْتَ ذَا تَرى — يَا عَزِيزِي — أَنَّهُ لَا يَنْجَحُ فِي الْحَيَاةِ إِلَّا أَفَاضِلُ النَّاسِ وَأَشْرَافُهُمْ مِنْ أَمْثَالِي وَأَمْثَالِكَ. بَارَكَ اللهُ فِيكَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — وَأَعَادَ إِلَيْكَ ثَرْوَتَكَ الْمَفْقُودَةَ كَامِلَةً، بَلْ مُضَاعَفَةً.
شَدَّ مَا أَسْعَدَنِي مَا أَظْفَرَكَ اللهُ بِهِ مِنْ رَغَادَةٍ وَهَنَاءَةٍ. خَبِّرْنِي، أَيُّهَا الْأَخُ الْعَزِيزُ: أَلَسْتَ فِي حَاجَةِ إِلَى مَالٍ؛ فَأُقَدِّمَهُ إِلَيْكَ شَاكِرًا مَسْرُورًا. مِثْلُكَ — يَا أَخِي — بِكُلِّ فَضْلٍ جَدِيرٌ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي نَفْسِهِ: «بَخٍ بَخٍ، أَيُّهَا الْمُخَادِعُ الْكَبِيرُ. هَكَذَا يُقْبِلُ النَّاسُ عَلَى مَعُونَتِكَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — كُلَّمَا ازْدَدْتَ عَنْهُمْ غِنًى. فإِذَا شَعَرُوا — يَوْمًا — بِحَاجَتِكَ إِلَيْهِمْ وَلَّوْا عَنْكَ مُدْبِرِينَ، وَنَفَرُوا مِنْكَ هَارِبِينِ.»
(٣) أَقْدَاحٌ مَسْمُومَةٌ
أَلَحَّ «الْخَوَّارُ» عَلَى «أَبِي الْغُصْنِ» أَنْ يَتَفَضَّلَ بِقَبُولِ دَعْوَتِهِ إِلَى الْغَدَاءِ.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» وَاثِقًا مِنْ غَدْرِ «الْخَوَّارِ» وَسُوءِ نِيَّتِهِ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي قَبُولِ دَعْوَتِهِ. ضَاعَفَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ حَذَرِهِ وَيَقَظَتِهِ، حَتَّى لَا يَأْخُذَهُ عَدُوُّهُ عَلَى غِرَّتِهِ.
اسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى «الْخَوَّارِ». اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ. كَادَ قَلْبُهُ يَنْشَقُّ مِنَ الْغَيْظِ. لَمْ يَدْرِ كَيْفَ عَجَزَ السَّمُّ الزُّعَافُ عَنْ قَتْلِ غَرِيمِهِ!
سَأَلَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» عَنْ سَبَبِ غَضَبِهِ.
قَالَ «الْخَوَّارُ»: «كَيْفَ تَنْسَى إِسَاءَتَكَ إِلَيَّ؟»
سَأَلَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» مُتَعَجِّبًا: «مَا أَذْكُرُ أَنَّنِي أَسْلَفْتُ إِلَيْكَ إِسَاءَةً طُولَ حَيَاتِي!»
قَالَ «الْخَوَّارُ»: «لِمَاذَا أَحَبَّكَ النَّاسُ وَأَبْغَضُونِي؟ لِمَاذَا خَصُّوكَ بِالْمَدِيحِ وَشَتَمُونِي؟ لِمَاذَا يُحَالِفُكَ الْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ، وَيُلَاحِقُنِي الْخِذْلَانُ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ؟ كَيْفَ يَظَلُّ هَذَا دَأْبِي وَدَأْبُكَ مُنْذُ طُفُولَتِنَا إِلَى الْيِوْمِ؟! ذَلِكَ سِرُّ كَرَاهِيَّتِي لَكَ، وَحَفِيظَتِي عَلَيْكَ. هَكَذَا نَشَأَ بُغْضُكَ فِي قَلْبِي، مُنْذُ نَشْأَتِنَا الْأُولَى، إِلَى أَنْ بَلَغْنَا سِنَّ الْفُتُوَّةِ، وَالشَّبَابِ وَالْقُوَّةِ.
لَمْ أَجِدْ شِفَاءً لِنَفْسِي — مِنْ حِقْدِهَا عَلَيْكَ — فِي غَيْرِ إِحْرَاقِ دَارِكَ، وَمَخْزَنِ تِجَارَتِكَ. لَكِنْ حَدَثَ وَاحَسْرَتَاهُ، عَكْسُ مَا أَتَمَنَّاهُ! كُتِبَتْ لَكَ السَّلَامَةُ، وَنَجَوْتَ مِنَ الْإِفْلَاسِ. ضُوعِفَتْ ثَرْوَتُكَ، وَسَمَا قَدْرُكَ بَيْنَ النَّاسِ.
كَيْفَ أُقَاوِمُ هَذَا الْبَلَاءَ، وَأُخَلِّصُ نَفْسِي مِنْ جَحِيمِ الشَّقَاءِ. أَعْدَدْتُ لَكَ سَمًّا نَاقِعًا، تَكْفِي قَطْرَةٌ مِنْهُ لِقَتْلِ فِيلٍ. مَا أَدْرِي كَيْفَ سَلِمْتَ، بَعْدَ مَا تَجَرَّعْتَهُ مِنَ السَّمِّ؟ لَوْ أَنَّ لَكَ مَعِدَةَ نَعَامَةٍ لَمَا نَجَوْتَ. كَيْفَ، وَأَنْتَ إِنْسَانٌ؟! هَنِيئًا لَكَ النَّجَاةُ مِنْ هَلَاكٍ مُحَقَّقٍ. لَا رَيْبَ أَنَّ اللهَ يَرْعَاكَ، وَيَحْفَظُكَ بِعَنَايَتِهِ وَيَتَوَلَّاكَ!»
(٤) حُلَّةُ الْهَلَاكِ
اسْتَأْنَفَ «الْخَوَّارُ» قَائِلًا: «عُدْ إِلَى بَيْتِكَ سَالِمًا غَانِمًا، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». اغْفِرْ لِي مَا هَمَمْتُ بِهِ مِنْ إِيذَائِكَ. عُدَّ إِلَى سَابِقِ وُدِّكَ وَصَفَائِكَ. تَقَبَّلَ هَذِهِ الْحُلَّةَ النَّفِيسَةَ؛ عَرْبُونًا لِقَابِلِ وُدِّنَا، وَصَادِقِ إِخَائِنَا.»
مَشَى «الْخَوَّارُ» إِلَى صِوَانٍ قَرِيبٍ. فَتَحَ الصِّوَانَ. أَخْرَجَ مِنْهُ حُلَّةً فَخْمَةً. تَظَاهَرَ بِالِابْتِسَامِ. كَانَ الْحِقْدُ يَكَادُ يَأْكُلُ قَلْبَهُ.
كَانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: «أَمَا وَاللهِ لَنْ تَعُودَ سَالِمًا إِلَى بَيْتِكَ. لَنْ تُخْفِقَ مُحَاوَلَتِي — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — أَبَدًا. الْآنَ يَلْتَهِبُ جِسْمُكَ بِفَضْلِ هَذِهِ الْحُلَّةِ الْقَاتِلَةِ، كَمَا يَلْتَهِبُ عُودُ الثِّقَابِ! الْآنَ يَحْتَرِقُ جِسْمُكَ كَمَا احْتَرَقَ بَيْتُكَ!»
لَمْ يَنْخَدِعْ «أَبُو الْغُصْنِ» بِمَا يُبْدِيهِ «الْخَوَّارُ» مِنْ بَشَاشَةٍ زَائِفَةٍ. أَدْرَكَ أَنَّ فِي طَيِّ الْهَدِيَّةِ، مَكِيدَةً مَسْتُورَةً خَفِيَّةً.
سُرْعَانَ مَا اشْتَعَلَتِ الْحُلَّةُ، وَأَحْرَقَتْ أَنَامِلَ «الْخَوَّارِ». تَمَلَّكَ «الْخَوَّارَ» الذُّهُولُ. صَرَخَ مُسْتَنْجِدًا. كَانَ صِيَاحُهُ أَشْبَهَ بِخُوَارِ الْبَقَرِ.
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مَا أَجْدَرَ «الْخَوَّارَ» أَنْ يَكُونَ بَقَرَةً. لَعَلَّ ضَرَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى نَفْعٍ، كَمَا حَدَثَ لِصَاحِبِهِ «الْعُكْمُوسِ».»
أَمْسَكَ بِالْمِصْبَاحِ هَامِسًا: «مَا أَحْوَجَنِي إِلَى تَحْقِيقِ هَذَا الرَّجَاءِ!»
(٥) الْبَقَرَةُ الْجَدِيدَةُ
أَتْرُكُ لَكَ — أَيُّهَا الصَّدِيقُ الصَّغِيرُ — أَنْ تُمَثِّلَ لِنَفْسِكَ شُعُورَ «الْخَوَّارِ» حِينَ وَجَدَ نَفْسَهُ يَتَحَوَّلُ بَقَرَةً تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، بَعْدَ أَنْ كَانَ إِنْسَانًا يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ!
(٦) عُقْدَةُ النَّقْصِ
كَانَ «الْخَوَّارُ» — عَلَى حَقَارَةِ نَفْسِهِ — مَعْرُوفًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَعَارِفِيهِ بِفَرْطِ الصَّلَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالْإِسْرَافِ فِي الزَّهْوِ وَالْكِبْرِيَاءِ.
لَا تَعْجَبْ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَزِيزُ — مِنَ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ: الْعُجْبِ وَالضَّعَةِ. إِنَّهُمَا — عَلَى تَنَاقُضِهِمَا — قَلَّ أَنْ يَفْتَرِقَا.
تَسْأَلنِي عَنْ سِرِّ ذَلِكَ. إِلَيْكَ جَوَابَ مَا سَأَلْتَ: إِذَا كَمُلَتْ مَزَايَا إِنْسَانٍ وَفَضَائِلُهُ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّظَاهُرِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ. إِذَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ نَقْصًا أَوِ اعْوِجَاجًا، اضْطُرَّ إِلَى مُعَالَجَتِهِ وَتَقْوِيمِهِ. إِذَا عَجَزَ عَنْ إِصْلَاحِ عَيْبِهِ، اضْطُرَّ إِلَى مُدَارَاتِهِ وَسَتْرِهِ.
مَا أَكْثَرَ مَا يَدْفَعُهُ الشُّعُورُ بِالنَّقْصِ إِلَى التَّحَلِّي بِمَا لَيْسَ فِيهِ، حِينَئِذٍ يَلْجَأُ إِلَى الزَّهْوِ وَالْخُيَلَاءِ، يُضِيفُ إِلَى نَقِيصَةِ الضَّعْفِ نَقِيصَةَ الْكِبْرِيَاءِ. كَانَ يُعَانِي نَقْصًا وَاحِدًا: أَصْبَحَ يُعَانِي نَقِيصَتَيْنِ. كَانَ عَيْبُهُ مُنْفَرِدًا، أَصْبَحَ مُزْدَوِجًا.
إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ حِينَ قَالَ: «مَا تَزَيَّدَ مُتَزَيِّدٌ إِلَّا لِنَقْصٍ فِيهِ!» يَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّفُ الزِّيَادَةَ، وَلَا يَتَظَاهَرُ بِأَكْثَرَ مِنْ حَقِيقَتِهِ، إِلَّا إِذَا شَعَرَ بِنَقْصِهِ وَعَجْزِهِ.
فِي هَذَا الْمَعْنَى، يَقُولُ شَاعِرُنَا الْعَظِيمُ «أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ»:
(٧) مِقْوَدُ الْبَقَرَةِ
نَعُودُ بِكَ — أَيُّهَا الْقَارِئُ الْعَزِيزُ — إِلَى «أَبِي الْغُصْنِ»، وَصَاحِبِهِ «الْخَوَّارِ»؛ لِنُتِمَّ مَا بَدَأَنَاهُ مِنْ حَدِيثٍ.
مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، تَوَارَى «الْخَوَّارُ» مِنَ الْوُجُودِ. حَلَّتْ مَكَانَهُ بَقَرَةٌ شَقْرَاءُ، مُعْجِبٌ لَوْنُهَا، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.
•••
تَحَفَّزَ «الْخَوَّارُ» لِلِانْتِقَامِ.
أَدْرَكَ «أَبُو الْغُصْنِ» مَا يَدُورُ بِخَاطِرِهِ مِنْ نَوَازِعِ الشَّرِّ. تَلَفَّتَ «أَبُو الْغُصْنِ» حَوْلَهُ. رَأَى حَبْلًا فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الدَّارِ. لَعَلَّ «الْخَوَّارَ» أَحْضَرَهُ لِيَكْتِفَهُ بِهِ، إِذَا حَانَتِ الْفُرْصَةُ.
فَرِحَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِالْعُثُورِ عَلَى الْحَبْلِ. شَدَّهُ إِلَى عُنُقِ «الْخَوَّارِ»؛ شَدَّهُ فِي عُنُقِ الْبَقَرَةِ الْخَوَّارَةِ، عَلَى الْأَصَحِّ! هَمَّ «الْخَوَّارُ» أَنْ يَضْرِبَ «أَبَا الْغُصْنِ»، لِفَرْطِ حِقْدِهِ عَلَيْهِ. خَشِيَ الْعَاقِبَةَ. كَانَ مَا حَلَّ بِهِ مِنْ عِقَابٍ كَافِيًا لِزَجْرِهِ …
مَا أَعْجَبَ مَا حَدَثَ! مُنْذُ لَحَظَاتٍ، كَانَتِ الْبَقَرَةُ الْخَوَّارَةُ إِنْسَانًا يَجْمَعُ بَيْنَ الْقَسوَةِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْعَوَاقِبِ. شَدَّ مَا تَغَيَّرَ طَبْعُهَا الْآنَ، بَعْدَ أَنِ انْتَقَلَتْ مِنَ الْآدَمِيَّةِ إِلَى الْبَقَرِيَّةِ. أَصْبَحَتْ بَقَرَةً وَادِعَةً تَتَدَبَّرُ الْعَوَاقِبَ، وَتَحْسِبُ لِكُلِّ شَيْءٍ حِسَابَهُ.
صَلَحَ «الْخَوَّارُ»؛ كَمَا صَلَحَ — مِنْ قَبْلِهِ — «الْعُكْمُوسُ»، بَعْدَ أَنْ خَرَجَ كِلَاهُمَا مِنَ الْآدَمِيَّةِ إِلَى الْحِمَارِيَّةِ وَالْبَقَرِيَّةِ. انْقَلَبَ شَرُّهُمَا خَيْرًا، وَضَرَرُهُمَا نَفْعًا!
(٨) فَرْحَةُ الْأُسْرَةِ
شَعَرَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِاشْمِئْزَازٍ، حِينَ تَمَثَّلَ الْجُبْنَ وَالسَّمْنَ وَالْقِشْدَةَ تُصْنَعُ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ!
كَتَمَ «أَبُو الْغُصْنِ» اشْمِئْزَازَهُ وَلَمْ يُعْلِنْهُ. قَالَ لِنَفْسِهِ: «إِنَّهُ شُعُورٌ شَخْصِيٌّ، لَيْسَ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ أَنْقُلَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ يَشْرَكُونِي فِيهِ. لَوْ تَبَيَّنَ النَّاسُ حِكْمَةَ اللهِ — سُبْحَانَهُ — حِينَ حَجَبَ عَنْهُمْ مَصَائِرَهُمْ، لِضَاعَفُوا الشُّكْرَ عَلَى رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ.
كَمْ مِنْ أَشْيَاءَ حَجَبَتْهَا أَسْتَارُ غَيْبِ اللهِ عَنْ عِلْمِنَا، رَحْمَةً بِنَا! لَوْ كُشِفَتْ لَنَا مَصَائِرُهَا قَبْلَ أَوَانِهَا، لَأَصْبَحَتْ حَيَاتُنَا جَحِيمًا!»
•••
أَقْبَلَتْ «جُحَيَّةُ» عَلَى الْبَقَرَةِ تَتَعَهَّدُهَا بِالْعِنَايَةِ. أَقْبَلَ «جَحْوَانُ» عَلَى الْحِمَارِ يَتَعَهَّدُهُ بِالرِّعَايَةِ. تَعَلَّمَتْ «جُحَيَّةُ» مِنْ «زُبَيْدَةَ» كَيْفَ تُعِدُّ الْعَلَفَ، وَتُنَظِّفُ الزَّرِيبَةَ، وَتَجْلُبُ الْحَشَائِشَ الْخُضْرَ إِلَيْهَا.
كَانَ مِنْ دَوَاعِي الْبَهْجَةِ وَالِانْشِرَاحِ أَنْ تَنْشَطَ الطِّفْلَةُ الصَّغِيرَةُ — كُلَّ صَبَاحٍ — إِلَى الْعِنَايَةِ بِالدَّابَّةِ الْكَبِيرَةِ، فِي سُرُورٍ وَارْتِيَاحٍ!
كَانَتِ الْبَقَرَةُ لَا تُخْفِي إِعْجَابَهَا بِالطِّفْلَةِ الْكَرِيمَةِ وَشُكْرَهَا. اشْتَدَّ أُنْسُ الْبَقَرَةِ بِصَاحِبَتِهَا. أَقْبَلَتْ عَلَيْهَا تَمُدُّ رَأْسَهَا، وَتَضَعُهُ مُتَلَطِّفَةً عَلَى كَتِفِ حَارِسَتِهَا، وَتُعْلِنُ — بِخُوَارِهَا الْعَالِي — شُكْرَهَا.
لَمْ يَكُنْ لِلْبَقَرَةِ وَسِيلَةٌ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ ابْتِهَاجِهَا وَعِرْفَانِهَا بِجَمِيلِهَا — بَعْدَ أَنْ حُرِمَتِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَلَامِ — غَيْرَ الْخُوَارِ.
•••
بَعْدَ قَلِيلٍ، الْتَقَى «الْعُكْمُوسُ» وَ«الْخَوَّارُ». سُرْعَانَ مَا تَبَادَلَا نَظَرَاتِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ. كَأَنَّمَا تَبَيَّنَ كِلَاهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ رُبَّمَا كَانَ مِثْلَهُ إِنْسَانًا، انْتَقَلَ — بِسِحْرِ سَاحِرٍ — إِلَى غَيْرِ صُورَتِهِ، وَتَبَدَّى عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ. لَكِنَّهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ الْكَلَامِ. أَنَّى لَهُمَا أَنْ يَتَعَرَّفَ كِلَاهُمَا مَا يَدُورُ بِذِهْنِ صَاحِبِهِ.
عَلَى تَوَالِي الْأَيَّامِ جَمَعَتْ بَيْنَهُمَا الْأُلْفَةُ شَيْئًا فَشَيْئًا. حَلَّ الْإِينَاسُ مَحَلَّ الْوَحْشَةِ. أَصْبَحَا يَلْتَقِيَانِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْيَانِ. تَزَايَل الْأَسْفُ مِنْهُمَا وَالْأَلَمُ. حَلَّ مَكَانَهُمَا الرِّضَى؛ بِمَا قَضَى اللهُ بِهِ وَقَسَمَ. اسْتَسْلَمَا لِمَصِيرَيْهِمَا. مَرَنَا عَلَى أُلْفَةِ حَيَاتِهِمَا.
كَثِيرًا مَا عَلَا — فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ — نَهِيقُ الرِّضَى، وَخُوَارُ الشُّكْرِ فِي وَقْتٍ مَعًا! مَا أَصْدَقَ الْمُتَنَبِّي، فِي قَوْلِهِ:
(٩) بَعْدَ عَامٍ
عَاشَ «أَبُو الْغُصْنِ» بَعْدَ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ، هَادِئَ النَّفْسِ نَاعِمَ الْبَالِ سَارَتْ أُمُورُهُ عَلَى مَا يُرَامُ، قُرَابَةَ عَامٍ.
حَالَفَهُ التَّوْفِيقُ، نَمَتْ ثَرْوَتُهُ. اتَّسَعَتْ تِجَارَتُهُ. أَصْبَحَ مِنْ كِبَارِ أَغْنِيَاءِ عَصْرِهِ. أَقْبَلَ عَلَيْهِ الدَّهْرُ أَيَّمَا إِقْبَالٍ. ابْتَسَمَ لَهُ عَابِسُ الْآمَالِ.
أَتَظُنُّه — بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ — كَانَ أَسْعَدَ حَالًا، وَأَقَرَّ عَيْنًا وَأَهْدَأَ بَالًا؟
سَتَقُولَ أَيُّهَا الصَّدِيقُ الصَّغِيرُ: «لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ وَلَا مِرَاءَ. مَاذَا يُرِيدُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ — بِفَضْلِ السَّاحِرِ الْجِنِّيِّ الْكَرِيمِ — فَوْقَ مَا يَتَمَنَّاهُ مِنْ سَعَادَةٍ وَهُدُوءِ بَالٍ؟ مَاذَا يُؤَمِّلُ، بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ أَسْبَابُ الرَّخَاءِ وَجَالِبَاتُ الْبَهْجَةِ وَالْهَنَاءِ؟»
(١٠) دَوَاعِي الْهُمُومِ
لَعَلَّكَ تَدْهَشُ إِذَا قُلْتُ لَكَ: إِنَّ «أَبَا الْغُصْنِ» — بِرَغْمِ هَذَا كُلِّهِ — كَانَ كَاسِفَ الْبَالِ، مُنَغَّصَ الْقَلْبِ، شَارِدَ اللُّبِّ. ضَيِّقَ الصَّدْرِ، كَثِيرَ الْحَسْرَةِ، سَاهِمَ النَّظْرَةِ!
تُرَى: مَا سَبَبُ انْقِبَاضِهِ وَهُمُومِهِ، وَمَصْدَرُ انْزِعَاجِهِ وَمَبْعَثُ وُجُومِهِ؟! كَانَ مُتَأَلِّمًا لِمَا أَصَابَ غَرِيمَيْهِ: «الْعُكْمُوسَ» وَ«الْخَوَّارَ» عَلَى يَدَيْهِ. كَانَ مَحْزُونًا لِمَا حَلَّ بِهِمَا، بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُمَا لُؤْمُهُمَا وَشَرَاسَتُهُمَا وَسُوءُ طَبْعِهِمَا إِلَى عِدَادِ الدَّوَابِّ. كَانَ مَأْلُومًا لِفَقْدِهِمَا، وَحِرْمَانِهِمَا تَفْكِيرَهُمَا، وَحُرِّيَتَهُمَا وَنُطْقَهُمَا.
لَمْ يَكُنْ أَحَدُ مِنَ النَّاسِ — عَدَا «أَبَا الْغُصْنِ» عَارِفًا بِسِرِّهِمَا وَحَقِيقَةِ أَمْرِهِمَا. كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» — كَمَا عَلِمْتَ — وَاسِعَ الصَّدْرِ، رَاضِيَ النَّفْسِ، لَا تَنَالُ مِنْهُ الْخُطُوبُ وَالْمَصَائِبُ مَنَالًا. لَكِنَّهُ كَانَ — عَلَى ذَلِكَ — يَقِظَ الضَّمِيرِ، مُرْهَفَ الْحِسِّ، مُسْتَوْفِزَ الشُّعُورِ.
كَانَ يُحِبُّ الْخَيْرَ لِلنَّاسِ. كَانَ يَحْتَمِلُ الْأَذَى فِي سَبِيلِ إِسْعَادِهِمْ. كَانَ لَا يَجْزَعُ لِمَا يَحُلُّ بِهِ مِنْ كَوَارِثَ وَمِحَنٍ، بِقَدْرِ مَا كَانَ يَشْتَدُّ بِهِ الْجَزَعُ إِذَا أَصَابَ غَيْرَهُ أَقَلُّ أَذًى.
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَتَجَاوَزْتَ عَنْ مَكْرِهِمَا، وَتَغَاضَيْتَ عَنْ إِسَاءَتِهِمَا؟ مَا كَانَ أَجْدَرَكَ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى مَأْلُوفِ عَادَتِكَ، فَتَأْخُذَهُمَا بِالْحُسْنَى، وَتُعَامِلَهُمَا بِالصَّفْحِ، وَتَدْفَعَ السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ، وَتُقَابِلَ الْإِسَاءَةَ بِالتَّجَاوُزِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ؟! هَلَّا قَابَلْتَ النِّعْمَةَ بِالصَّفْحِ وَالشُّكْرِ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الْأَذَى وَالضَّرِّ؟»
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى حَقٍّ فِيمَا رَآهُ. كَانَ الْعَامُ الَّذِي قَضَاهُ التَّاعِسَانِ — فِي حَظِيرَةِ الدَّوَابِّ — تَأْدِيبًا رَادِعًا، بِمَا أَسْلَفَاهُ مِنْ ذَنْبٍ.
لَوْ كَانَ صَلَاحُ أَمْرِهِمَا فِي مَقْدُورِ «أَبِي الْغُصْنِ» أَوْ «مِصْبَاحِ الْكَنْزِ» لَمَا قَصَّرَ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي إِعَادَةِ التَّعِيسَيْنِ إِلَى الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، بَعْدَ انْقِضَاءِ سَاعَةٍ، أَوْ بَعْضِ يَوْمِ. لَكِنْ هَيْهَاتَ ذَلِكَ هَيْهَاتَ! مَا أَيْسَرَ إِلْحَاقَ الْأَذَى، وَمَا أَصْعَبَ تَدَارُكَ آثَارِهِ! مَا أَيْسَرَ الْوُقُوعَ فِي الْخَطَأِ، وَمَا أَصْعَبَ تَلَافِيَهُ!
كَانَتْ عَوْدَةُ الْمَسْحُورَيْنِ إِلَى صُورَتِهِمَا الْأُولَى تَقْتَضِيهِ أَنْ يُسَافِرَ إِلَى «أَبِي شَعْشَعٍ» فِي جَزِيرَةِ «عَبْقَرٍ». لَكِنْ: أَيْنَ مِنْهُ جَزِيرَةُ «عَبْقَرٍ»؟ دُونَ بُلُوغِهَا مَصَاعِبُ وَأَهْوَالٌ.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» يَتَرَقَّبُ زِيَارَةَ «أَبِي شَعْشَعٍ» عَلَى غَيْرِ طَائِلٍ. كَانَتْ كُلُّ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِهِ تَزِيدُهُ إِيلَامًا وَتَعْذِيبًا. كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ»، لِيَلْتَمِسَ مِنْ صَاحِبِهِ «أَبِي شَعْشَعٍ» أَنْ يُعِيدَ الْمَسْحُورَيْنِ إِلَى صُورَتَهِمَا الْأُولَى، بِفَضْلِ مَا أُوتِيَ مِنْ قُدْرَةٍ عَلَى السِّحْرِ. عَزَمَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى السَّفَرِ.
أَعَدَّ لَهُ «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ» حِصَانًا فَخْمًا مُطَهَّمًا، مُسْرَجًا مُلْجَمًا، وَجَمَلًا كَبِيرًا قَوِيًّا، عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُ — فِي رِحْلَتِهِ — مِنْ زَادٍ وَمَتَاعٍ. أَعَدَّ لَهُ — إِلَى ذَلِكَ — حَارِسًا صَحِيحَ الْبِنْيَةِ، فَارِعَ الطُّولِ.
•••
لَمْ يَنْسَ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنْ يُعْطِيَ «رَبَابَةَ» «مِصْبَاحَ الْكَنْزِ» لِيَحْمِيَهَا، بَعْدَ أَنِ الْتَمَسَ مِنْهُ أَنْ يَحْرُسَهُ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، وَيَرْعَاهُ عَلَى الْبُعْدِ، كَمَا كَانَ يَرْعَاهُ عَلَى الْقُرْبِ.
(١١) «الْمَيْدَانُ»
خَرَجَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنَ الْمَدِينَةِ، يَحْرُسُهُ تَابِعُهُ «أَبُو النَّجَاءِ»، الَّذِي أَرْسَلَهُ «أَبُو شَعْشَعٍ». أَخَذَا يَجِدَّانِ فِي السَّيْرِ …
لَمْ يَتَوَانَ «أَبُو النَّجَاءِ» فِي إِحْضَارِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَفُرُشٍ.
•••
نَعُودُ إِلَى «رَبَابَةَ» … شَعَرَتْ — بَعْدَ سَفَرِ زَوْجِهَا — بِوَحْشَةٍ شَدِيدَةٍ. قَضَتْ يَوْمَهَا — عَلَى غَيْرِ عَادَتِهَا — مُتَأَلِّمَةً مَحْزُونَةً.
•••
•••
•••
(١٢) حَدِيثُ الْبَبْغَاءِ
نَعُودُ إِلَى «أَبِي الْغُصْنِ». اسْتَسْلَمَ لِنَوْمٍ هَنِيءٍ. لَمْ يُكَدِّرْهُ إِلَّا فَرْطُ شَوْقِهِ وَحَنِينِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدَيْهِ، طَلَعَ النَّهَارُ، اسْتَأْنَفَ سَيْرَهُ إِلَى غَايَتِهِ، أَقْبَلَ اللَّيْلُ. أَعَدَّ «أَبُو النَّجَاءِ» لِصَاحِبِهِ وَدَابَّتَيْهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. ظَلَّ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا خَمْسَةً.
الصَّوْتُ يَقُولُ: «أَيَّ نَبَأٍ تُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَهُ عَنْكَ إِلَى أُسْرَتِكَ؟ أَتَحِيَّةَ الصِّبَاحِ تُرِيدُ؟ أَمْ تَحِيَّةَ الْمَسَاءِ؟ خَبِّرْنِي: أَيَّ التَّحِيَّتَيْنِ أُبَلِّغُهُمْ؟ لَعَلَّكَ تُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ إِلَيْهِمْ كِلْتَيْهِمَا؟ قُلْ، فَأَنَا أَسْمَعُ. كُنْ عَلَى ثِقَةٍ أَنِّي مُؤَدِّيَةٌ رِسَالَتَكَ إِلَيْهِمْ، وَسَلَامَكَ عَلَيْهِمْ. أَنَا مُسَافِرَةٌ إِلَى «الْكُوفَةِ» — بَعْدَ قَلِيلٍ — فَنَاقِلَةٌ إِلَيْهِمْ مَا تَسْتَوْدِعُنِيهِ مِنْ تَحِيَّةٍ، وَمَا تُحَمِّلُنِيهِ مِنْ هَدِيَّةٍ.»
قَالَتِ الْبَبْغَاءُ: «لَكَ مَا تُرِيدُ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». سَأُنْجِزُ طَلِبَتَكَ. لَنْ أُخَالِفَ لَكَ أَمْرًا، وَحَقِّ زُمُرُّدَةَ!»
لَمْ يَدْرِ «أَبُو الْغُصْنِ» مَاذَا تَعْنِيهِ الْبَبْغَاءُ بِهَذَا الِاسْمِ الْجَدِيدِ.
سَمِعَ الْبَبْغَاءَ تَسْتَأْنِفُ قَائِلَةً: «مَهْمَا يَكُنْ مِنْ أَمْرٍ، فَأَنَا أُحَذِّرُكَ مِنْ «الرَّكَّاكِ» وَ«الْوَكْوَاكِ»! كِلَاهُمَا شِرِّيرٌ فَتَّاكٌ، يَتَوَخَّى ضَرَّكَ وَيَسْعَى إِلَى أَذَاكَ، وَيَتَرَبَّصُ بِكَ الْهَلَاكَ.»
هَمَّ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنْ يَسْأَلَهَا عَنِ «الرَّكَّاكِ» وَ«الْوَكْوَاكِ»: مَنْ هُمَا؟ مَا شَأْنُهُ بِهِمَا؟
سَمِعَ الْبَبْغَاءَ تَقُولُ: «يَا «أَبَا الْغُصْنِ»: كُنْ عَلَى حَذَرٍ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ. أَنْتَ فِي أَخْطَرِ بُقْعَةٍ مِنَ الصَّحْرَاءِ.
«الْمَيْدَانُ»: اسْمُ هَذَا الْمَكَانِ.»
انْطَلَقَتِ الْبَبْغَاءُ إِلَى غَايَتِهَا مُحَلِّقَةً فِي الْجَوِّ، هَائِمَةً فِي الْفَضَاءِ.
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي نَفْسِهِ: «الرَّكَّاكُ، الْوَكْوَاكُ: مَنْ هُمَا؟ مَتَى أَرَاهُمَا؟ مَا بَالُ الْبَبْغَاءِ تُحَذِّرُنِي كَيْدَهُمَا، وَتُخَوِّفُنِي شَرَّهُمَا وَأَذَاهُمَا؟ لِمَاذَا كَانَ «الْمَيْدَانُ» — فِي الصَّحْرَاءِ — أَخْطَرَ مَكَانٍ؟ أَتُرَاهُ مَأْوَى عِصَابَةٍ مِنْ أَشْرَارِ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ؟»
ثَقُلَ التَّعَبُ عَلَيْهِ. أَسْلَمَ لِلنَّوْمِ عَيْنَيْهِ. كَانَ قَدِ انْقَضَى — عَلَى رِحْلَةِ «أَبِي الْغُصْنِ» — خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَامِلَةً …
(١٣) فَزَعُ «رَبَابَةَ»
نَعُودُ إِلَى بَيْتِهِ: نَرَى «رَبَابَةَ» مُتَأَلِّمَةً مَحْزُونَةً، لَا يَشْغَلُهَا عَنْ زَوْجِهَا شَيْءٌ مِمَّا يُحِيطُ بِهَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَجَالِبَاتِ الْهَنَاءِ.
دَهِشَتْ «رَبَابَةُ» مِمَّا يَنْبَعِثُ مِنْ أَضْوَائِهِ الْقَوِيَّةِ. تَعَاظَمَتْهَا الْحَيْرَةُ حِينَ سَمِعَتِ الْمِصْبَاحَ يَقُولُ، فِي أُسْلُوبٍ فَصِيحٍ، عَذْبِ النَّبَرَاتِ، وَاضِحِ الْكَلِمَاتِ: «أَنَا مَحْزُونٌ. أَنَا مَهْمُومٌ.»
تَفَزَّعَتْ «رَبَابَةُ» مِمَّا سَمِعَتْ. لَمْ يَكُنْ لَهَا عَهْدٌ بِحَدِيثِ الْمِصْبَاحِ مِنْ قَبْلُ. نَسِيَ «أَبُو الْغُصْنِ» أَنْ يُخْبِرَ «رَبَابَةَ» — قُبَيْلَ سَفَرِهِ — بِمَا يَتَمَيَّزَ بِهِ «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ» مِنْ قُدْرَةٍ عَلَى الْكَلَامِ.
لَمْ تُعَتِّمْ «رَبَابَةُ» أَنِ اسْتَرَدَّتْ شَجَاعَتَهَا. سَأَلَتِ الْمِصْبَاحَ عَمَّا يَعْرِفُهُ مِنْ أَخْبَارِ زَوْجِهَا. قَالَ الْمِصْبَاحُ: «حَسْبُكِ — يَا «رَبَابَةُ» — أَنْ تَنْظُرِي إِلَى صَفْحَةِ الْحَائِطِ لِتَرَيْ فِيهَا كُلَّ مَا تُفَكِّرِينَ فِيهِ.»
مَا إِنْ أَتَمَّ الْمِصْبَاحُ قَوْلَتَهُ، حَتَّى رَأَتْ «رَبَابَةُ» … وَيَا مَا أَعْجَبَ مَا رَأَتْ: كَأَنَّمَا انْشَقَّتِ الْحَائِطُ. ارْتَسَمَ أَمَامَهَا مَشْهَدٌ عَجِيبٌ أَشْبَهُ مَا يَكُونُ بِمَا نَشْهَدُهُ عَلَى أَلْوَاحِ «السِّيمَى» فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ! تَمَثَّلَ لَهَا مَا لَمْ يَدُرْ فِي خَاطِرِهَا: رَأَتْ زَوْجَهَا رَاقِدًا — كَمَا حَدَّثْتُكَ مِنْ قَبْلُ — عَلَى سَرِيرٍ مِنَ الْقَشِّ، خَارِجَ خَيْمَتِهِ فِي الْعَرَاءِ. رَأَتْ حَوْلَهُ عِصَابَةً مِنْ لُصُوصِ الصَّحْرَاءِ.
كُلُّ مَا حَوْلَهُ كَانَ هَادِئًا مُسْتَسْلِمًا لِلنَّوْمِ سَاكِتًا، مَا عَدَا «أَبَا النَّجَاءِ»: حَارِسَهُ الْيَقِظَ الْأَمِينَ. شَدَّ «أَبُو النَّجَاءِ» جَمَلَ «أَبِي الْغُصْنِ» وَحِصَانَهُ إِلَى الْوَتِدِ الَّذِي أَحْكَمَ دَقَّهُ فِي الْأَرْضِ. شَدَّ نَفْسَهُ إِلَى جِوَارِهِمَا.
أَخْشَى مَا أَخْشَاهُ أَنْ يَعُودَ الرَّسُولَانِ اللَّذَانِ أَوْفَدُوهُمَا لِأَخْذِ الْفِدْيَةِ — مِنْ بَيْتِ «أَبِي الْغُصْنِ» — وَأَيْدِيهِمَا خَالِيَةٌ مِنَ الْمَالِ. ذَلِكَ يُغْضِبُ اللُّصُوصَ عَلَى «أَبِي الْغُصْنِ»، وَيَدْفَعُهُمْ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ.»
أَجَابَتْهَا النَّعَامَةُ الْأُخْرَى: «صَدَقْتِ، يَا «أُمَّ رَأْلٍ»! لَا شَكَّ فِي أَنَّ «الرَّكَّاكَ» وَ«الْوَكْوَاكَ» يَقْتَرِبَانِ الْآنَ مِنْ مَدِينَةِ «الْكُوفَةِ»، حَيْثُ تُقِيمُ أُسْرَةُ «أَبِي الْغُصْنِ».
قَالَتِ الْأُولَى: «لَعَلَّهُمَا يَجِدَانِ الْفِدْيَةَ الَّتِي يَطْلُبَانِهَا، يَا «أُمَّ الْهَيْقِ»! لَعَلَّهُمَا — إِذَا ظَفِرَا بِهَا — لَا يُلْحِقَانِ الْأَذَى بِضَيْفِنَا الْكَرِيمِ.»
قَالَتِ الثَّانِيَةُ: «تُرَى هَلْ يَلْحَقُ الْأَذَى أَبَا النَّجَاءِ؟»
قَالَتِ الْأُولَى: «أُخْتِي حَدَّثَتْنِي أَنَّ «أَبَا النَّجَاءِ» لَنْ يَلْحَقَهُ أَذًى كَبِيرٌ.»
سَأَلَتْهَا صَاحِبَتُهَا: «عَنْ أَيِّ أُخْتَيْكِ تَتَحَدَّثِينَ؟ «أُمُّ التَّرِيكَةِ» تَعْنِينَ، أُمْ «ذَاتَ الظَّلِيمِ» تَقْصِدِينَ؟»
أَجَابَتْهَا الْأُولَى: «أُمُّ التَّرِيكَةِ أَعْنِي.»
سَأَلَتْهَا: «بِمَاذَا أَخْبَرَتْكِ أُمُّ التَّرِيكَةِ؟»
سَرَتْ فِي جِسْمِ «أَبِي النَّجَاءِ» رِعْدَةٌ أَرْعَشَتْ كُلَّ جَارِحَةٍ فِيهِ. لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ. مَا أَظُنُّ أَحَدًا يَرْتَاحُ إِلَى هَذَا الْمَصِيرِ الْمُزْعِجِ، عَلَى أَيِّ حَالٍ.
أَعَادَ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي نَوْمِهِ الْمُضْطَرِبِ وَأَحْلَامِهِ الْمُتَقَطِّعَةِ، مَا كَانَ يَهْذِي بِهِ مَنْ أَسْمَاءِ: «رَبَابَةَ» وَ«جَحْوَانَ» وَ«جُحَيَّةَ».
قَالَتِ الثَّانِيَةُ: «صَدَقْتِ، يَا «أُمَّ رَأْلٍ». حَدِّثَتْنِي أُخْتِي «أُمُّ التَّرِيكَةِ» أَنَّ رِيحَ السَّمُومِ تَهُبُّ بَعْدَ قَلِيلٍ. لَسْتُ أَدْرِي: كَيْفَ يُطِيقُهَا؟! مَا أَحْسَبُهُ قَادِرًا عَلَى احْتِمَالِهَا. لَا بُدَّ أَنَّهُ هَالِكٌ إِذَا بَقِيَ فِي هَذَا الْمَكَانِ.»
قَالَتِ الْأُولَى: «مَاذَا عَلَيْنَا إِذَا جَلَبْنَا لَهُ الْهَوَاءَ بِأَجْنِحَتِنَا؟»
أَجَابَتْهَا الثَّانِيَةُ: «الصَّوَابُ مَا رَأَيْتِ.»
هَكَذَا شَهِدَتْ «رَبَابَةُ» بِعَيْنَيْهَا وَسَمِعَتْ بِأُذُنَيْهَا كُلَّ مَا حَدَثَ. أَلْجَمَهَا الْخَرَسُ! كَادَتْ «رَبَابَةُ» تَصْعَقُ مِنْ هَوْلِ مَا رَأَتْ. لَكِنَّ حِرْصَهَا عَلَى سَلَامَةِ زَوْجِهَا سُرْعَانَ مَا أَعَادَ إِلَيْهَا مَا احْتَبَسَ مِنْ صَوْتِهَا، وَرَجَعَ لَهَا مَا فَقَدَتْهُ مِنْ وَعْيِهَا.
انْبَعَثَتْ صَرَخَاتُ الْأَلَمِ مِنْ فِيهَا مُدَوِّيَةً فِي كُلِّ مَكَانٍ: «الْغَوْثَ الْغَوْثَ. النَّجْدَةَ النَّجْدَةَ. إِلَيَّ — يَا «زُبَيْدَةُ» — إِلَيَّ!»
مَا إِنْ رَفَعَتْ صَوْتَهَا بِالِاسْتِغَاثَةِ حَتَّى اسْتَخْفَى الْمَشْهَدُ عَنْ عَيْنَيْهَا، كَمَا تَسْتَخْفِي رُؤْيَا النَّائِمِ عَنْ عَيْنِ الْحَالِمِ.
أَسْرَعَتْ «زُبَيْدَةُ» إِلَى «رَبَابَةَ». رَأَتْ جَارَتَهَا يَكَادُ الذُّهُولُ وَالْخَبَالُ يَسْتَوْلِيَانِ عَلَيْهَا. سَأَلَتْهَا عَنْ مَصْدَرِ فَزَعِهَا وَسِرِّ انْزِعَاجِهَا.
قَصَّتْ «رَبَابَةُ» عَلَيْهَا مَا شَهِدَتْهُ — مُنْذُ لَحْظَةٍ — فِي جُمَلٍ مُتَقَطِّعَةٍ. رَوَتْ لَهَا مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ زَوْجُهَا مِنْ مَصَائِبَ وَمَهَالِكَ وَأَخْطَارٍ، فِي أَرْضِ «الْمَيْدَانِ»: أَخْطَرِ مَكَانٍ فِي الصَّحْرَاءِ. لَمْ تَكْتُمْ مَا سَمِعَتْهُ مِنْ حَدِيثِ النَّعَامَتَيْنِ: «أُمِّ رَأْلٍ» وَ«أُمِّ الْهَيْقِ».
عَلَى أَثَرِ هَذِهِ الضَّجَّةِ، اسْتَيْقَظَ الصَّغِيرَانِ: «جَحْوَانُ» وَ«جُحَيَّةُ». شَارَكَا أُمَّهُمَا وَجَارَتَهُمَا فِي بُكَائِهِمَا، عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ بِمَا يَحْزُنُهُمَا وَيُبْكِيهِمَا.
اسْتَأْنَفَتْ «رَبَابَةُ» حَدِيثَهَا بَاكِيَةً. قَالَتْ: «لَكَ اللهُ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». أَيُّ خَطْبٍ دَهَاكَ؟ أَيُّ مُصَابٍ أَلَمَّ بِكَ؟ هَلْ نَسِيَكَ «أَبُو شَعْشَعٍ» أَمْ شَغَلَتْهُ الشَّوَاغِلُ عَنْ حِمَايَتِكَ؟»
(١٤) الْمُتَصَافِعُونَ
أَقْبَلَتِ الْبَبْغَاءُ «زُمُرُّدَةُ» الْخَضْرَاءُ. اسْتَقَرَّتْ عَلَى طَرَفِ النَّافِذَةِ. كَانَتِ النَّافِذَةُ مَفْتُوحَةً. قَالَتِ الْبَبْغَاءُ: «كَلَّا؛ كَلَّا، لَا تَجْزَعِي، لَا تَيْأَسِي، يَا «أُمَّ جَحْوَانَ». عَلَيْكِ بِالصَّبْرِ. لَا فَائِدَةَ مِنَ الشَّكْوَى.
أَعِيرِينِي سَمْعَكِ، يَا «رَبَابَةُ». انْتَبِهِي لِمَا أَقُولُ: سَيَطْرُقُ بَابَ دَارِكِ الْآنَ، فَاتِكَانِ جَرِيئَانِ — مِنْ لُصُوصِ الصَّحْرَاءِ — هُمَا: «الرَّكَّاكُ» وَ«الْوَكْوَاكُ». سَيَطْلُبَانِ مِنْكِ فِدْيَةً. لَا تَخَافِي وَلَا تَجْزَعِي. الْتَفِتِي إِلَى اللِّصَّيْنِ قَائِلَةً: ارْقُصْ، يَا «رَكَّاكُ»! ارْقُصْ، يَا «وَكْوَاكُ»! ارْقُصَا وَتَدَافَعَا، اشْتَبِكَا مَعًا وَتَوَاقَعَا. ارْقُصَا، أَيُّهَا الشَّقِيَّانِ. تَصَافَعَا أَيُّهَا الشِّرِّيرَانِ. لَا تَكُفَّا عَنِ الْمُرَاقَصَةِ وَالْمُصَافَعَةِ لَحْظَةً وَاحِدَةً!»
لَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ «رَبَابَةَ» وَوَلَدَيْهَا وَجَارَتِهَا حِينَ شَهِدُوا مِنْ «زُمُرُّدَةَ» مَا شَهِدُوا.
•••
بَعْدَ قَلِيلٍ لَمَحَتْ «رَبَابَةُ» رَجُلَيْنِ يَتَّجِهَانِ نَحْوَ بَابِ الْبَيْتِ؛ كَأَنَّ وَجَهَيْهِمَا وَجْهَا مَصْلُوبَينِ. رَأَتِ اللِّصَّيْنِ — اللَّذَيْنِ تَحَدَّثَتْ عَنْهُمَا الْبَبْغَاءُ «زُمُرُّدَةُ» — يَقِفَانِ أَمَامَ بَابِ الدَّارِ. تَحَقَّقَ لَهَا صِدْقُ مَا سَمِعَتْهُ مِنَ الْبَبْغَاءِ.
فَاجَأَتْهُمَا قَائِلَةً: «لَا مَرْحَبًا بِكُمَا وَلَا أَهْلًا. جِئْتُمَا دَارِي تَسْأَلَانِ أَنْ أَدْفَعَ فِدْيَةً لَكُمَا أَفْتَدِي بِهَا زَوْجِي «أَبَا الْغُصْنِ»! أَلَيْسَ لِهَذَا جِئْتُمَا؟»
دَهِشَ اللِّصَّانِ مِنْ هَوْلِ الْمُفَاجَأَةِ.
اسْتَأْنَفَتْ «رَبَابَةُ» قَائِلَةً: «أَلَا تُحِبَّانِ الرَّقْصَ، أَيُّهَا الشَّقِيَّانِ؟» زَمْجَرَ اللِّصَّانِ، جَرَحَتْ كِبْرِيَاءَهُمَا سُخْرِيَةُ «رَبَابَةَ» وَاسْتِهْزَاؤُهَا بِهِمَا.
أَرَادَا أَنْ يَنَالَاهَا بِالْأَذَى. لَمْ تَدَعْ لَهُمَا الْفُرْصَةَ لِتَحْقِيقِ مَا يُرِيدَانِ. أَمْسَكَتْ «مِصْبَاحَ الْكَنْزِ» بِيَدِهَا قَائِلَةً: «ارْقُصْ يَا «رَكَّاكُ» ارْقُصْ يَا «وَكَّوَاكُ». ارْقُصَا مَعًا، أَيُّهَا الشَّقِيَّانِ. تَصَافَعَا سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ. وَقِّعَا — بَعْدَ ذَلِكُمَا — عَلَى أَكْتَافِكُمَا سَاعَةً أُخْرَى بِعَصَوَيْكُمَا، وَفْقًا لِحَرَكَاتِ رَقْصَتَيْكُمَا!»
قَالَتِ الْبَبْغَاءُ «زُمُرُّدَةُ» الْخَضْرَاءُ: «مَا بَالُكِ تَنْسَيْنَ بَقِيَّةَ الْعِصَابَةِ؟ لِمَاذَا حَرَمْتِهِمْ أَنْ يَرْقُصُوا كَمَا يَرْقُصُ الزَّمِيلَانِ، ثُمَّ يَتَصَافَعُوا كَمَا يَتَصَافَعَانِ؟»
قَالَتْ «رَبَابَةُ»: «نِعْمَ مَا تَقْتَرِحِينَ! مَا أَعْدَلَ مَا تَطْلُبِينَ! نَعَمْ فَلْيَرْقُصْ جَمِيعُ لُصُوصِ الصَّحْرَاءِ مَعَ هَذَيْنِ الضَّيْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. لِيَتَصَافَعُوا سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ. لِيُوَقِّعُوا سَاعَةً أُخْرَى بِعِصِيِّهِمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ.»
•••
مَا إِنْ أَتَمَّتْ «رَبَابَةُ» كَلَامَهَا حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ عَاتِيَةٌ عَاصِفَةٌ — مِنَ الصَّحْرَاءِ — عَلَى الْمَدِينَةِ، حَامِلَةً مَعَهَا لُصُوصَ «الْمَيْدَانِ»، كَمَا تَحْمِلُ الرِّيحُ أَوْرَاقَ الشَّجَرِ. انْهَمَكُوا جَمِيعًا فِي الرَّقْصِ، بَعْدَ أَنْ أَلْقَتْ بِهِمُ الْعَاصِفَةُ الْهَوْجَاءُ أَمَامَ الدَّارِ.
(١٥) عَوْدَةُ «أَبِي الْغُصْنِ»
حَمَلَتِ الرِّيحُ «أَبَا الْغُصْنِ» فِيمَنْ حَمَلَتْهُ. وَضَعَتْهُ مُتَرَفِّقَةً إِلَى جِوَارِ «رَبَابَةَ». ابْتَهَجَتْ «رَبَابَةُ» لِمَقْدَمِ زَوْجِهَا. سَرَّى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهَا مَا كَانَتْ تَحْمِلُهُ مِنْ هُمُومٍ وَأَحْزَانٍ. رَحَّبَتْ بِزَوْجِهَا أَكْرَمَ تَرْحِيبٍ.
قَالَتْ لِلُّصُوصِ، وَهِي مُمْسِكَةٌ بِالْمِصْبَاحِ: «ارْقُصُوا … ارْقُصُوا … ارْقُصُوا أَيُّهَا الضُّيُوفُ الْأَعِزَّاءُ. وَاصِلُوا الرَّقْصَ — عَلَى رِمَالِ الصَّحْرَاءِ — إِلَى أَنْ تَمُوتُوا!»
حَذَا اللُّصُوصُ حَذْوَ زَعِيمَيْهِمُ: «الرَّكَّاكِ» وَ«الْوَكْوَاكِ». ظَلُّوا يَرْقُصُونَ عَلَى نَغَمَاتِ مِزْمَارٍ وَعُودٍ وَآلَاتٍ أُخْرَى، تَسْمَعُ الْآذَانُ نَغْمَتَهَا، وَلَا تَسْتَطِيعُ الْعُيُونُ رؤْيَتَهَا.
تَوَلَّى لُصُوصُ «الْمَيْدَانِ» عَنْ بَيْتِ «أَبِي الْغُصْنِ». سَارُوا — فِي طَرِيقِهِمْ — إِلَى الصَّحْرَاءِ رَاقِصِينَ، مُتَدَافِعِينَ مُتَصَافِعِينَ.
قَالَتِ الْبَبْغَاءُ «زُمُرُّدَةُ»: «بَلَغْتِ الْمَدَى، يَا «رَبَابَةُ»، وَفُزْتِ بِكُلِّ مَا تَرُومِينَ!»
«رَبَابَةُ» صَحَتْ مِنْ تَفْكِيرِهَا. حَلَّ بُكَاءُ الْفَرَحِ — بِنَجَاةِ زَوْجِهَا — مَحَلَّ بُكَاءِ الْحُزْنِ عَلَى تَعَرُّضِهِ لِلْهَلَاكِ.
لَمْ يَكُنْ تَأَثُّرُ «أَبِي الْغُصْنِ» وَاخْتِلَاطُ الدَّهْشَةِ وَالْفَرَحِ فِي نَفْسِهِ، بِأَقَلَّ مِنْ دَهْشَةِ «رَبَابَةَ» وَفَرَحِهَا.
انْدَفَعَ الْوَلَدَانِ إِلَى أَبِيهِمَا. أَلْقَيَا بِنَفْسَيْهِمَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ. كَانَ الْخَوْفُ لَا يَزَالُ يَسْرِي فِي أَوْصَالِهِمَا وَعُرُوقِهِمَا، مِنْ هَوْلِ مَا رَأَيَاهُ، وَغَرَابَةِ مَا سَمِعَاهُ.
حَمَلَتِ الْعَاصِفَةُ إِلَى الْبَيْتِ كُلَّ مَا اصْطَحَبَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي رِحْلَتِهِ: عَادَتْ بِالْفَرَسِ وَالْجَمَلِ وَالْخَيْمَةِ جَمِيعًا.
حَمَلَتِ الْعَاصِفَةُ — فِيمَا حَمَلَتْهُ — حَارِسَهُ الْأَمِينَ «أَبَا النَّجَاءِ». قَذَفَتْ بِهِ مِنَ النَّافِذَةِ. اصْطَدَمَ بِهَا رَأْسُهُ صَدْمَةً يَسِيرَةً.