اسْتِئْنَافُ السَّفَرِ
(١) خُطَّةٌ جَدِيدَةٌ
مَا كَانَ أَهْدَأَهَا لَيْلَةً، وَأَلْطَفَهُ نَسِيمًا! اطْمَأَنَّ بَالُ الْأُسْرَةِ بَعْدَ مَا لَقُوهُ مِنْ عَنَاءٍ.
أَمَّا «أَبُو الْغُصْنِ» فَكَانَ لَهُ شَأْنٌ آخَرُ، بَعْدَ أَنِ انْتَهَتْ رِحْلَتُهُ بِخَيْبَةٍ وَإِخْفَاقٍ لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهِمَا.
أَعَدَّ «أَبُو الْغُصْنِ» خُطَّةً جَدِيدَةً لِرِحْلَتِهِ، تُجَنِّبُهُ مَا لَقِيَهُ مِنْ مُزْعِجَاتٍ. لَمْ يَزِدْهُ الْإِخْفَاقُ إِلَّا إِصْرَارًا عَلَى إِنْجَازِ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنْ غَرَضٍ نَبِيلٍ، وَتَحْقَيقِ وَاجِبٍ إِنْسَانِيٍّ جَلِيلٍ، عَلَى يَدِ الْجِنِّيِّ: «أَبِي شَعْشَعٍ».
(٢) فِي صُحْبَةِ الْمِصْبَاحِ
أَدْرَكَ أَنَّ حِرْصَهُ عَلَى تَرْكِ «مِصْبَاحِ الْكَنْزِ» فِي الدَّارِ لِحَمَايَةِ أُسْرَتِهِ، كَانَ سَبَبًا فِيمَا اسْتَهْدَفَ لَهُ مِنْ أَخْطَارٍ. لَمْ يَجِدْ بُدًّا — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالْمِصْبَاحِ، عَلَى بُلُوغِ طَلِبَتِهِ.
(٣) حَدِيثُ «أَبِي النَّجَاءِ»
قَرَّرَ أَنْ يَصْحَبَ أُسْرَتَهُ مَعَهُ فِي رِحْلَتِهِ إِلَى بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ»، بَعْدَ أَنْ ضَمِنَ قُدْرَةَ الْمِصْبَاحِ عَلَى تَيْسِيرِ كُلِّ عَقَبَةٍ تَعْتَرِضُهُمْ.
طَلَعَ الصَّبَاحُ، ذَهَبَ «أَبُو الْغُصْنِ» لِيَسْتَشِيرَ «أَبَا النَّجَاءِ» فِيمَا اعْتَزَمَهُ: وَجَدَهُ جَالِسًا فِي فِنَاءِ الدَّارِ يَقْشُرُ الْجَوْزَ لِلْبَبْغَاءِ الَّتِي كَانَتْ جَاثِمَةً عَلَى كَتِفِهِ.
ابْتَدَرَهُ «أَبُو النَّجَاءِ» قَائِلًا: «مَا كَانَ أَشَقَّهَا سَفْرَةً، وَأَطْوَلَهَا رِحْلَةً!»
قَالَتِ الْبَبْغَاءُ «زُمُرُّدَةُ»: «كَانَتْ قِطْعَةً مِنَ الْعَذَابِ. لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلَا ارْتِيَابَ.»
قَالَ «أَبُو النَّجَاءِ»: «مَا أَبْعَدَ الشُّقَّةَ! مَا أَعْجَزَ الْجِمَالَ عَنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الشَّاسِعَةِ!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَتَعْنِي أَنَّ جَزِيرَةَ «أَبِي شَعْشَعٍ» بَعِيدَةٌ عَنَّا إِلَى هَذَا الْحَدِّ؟»
قَالَ «أَبُو النَّجَاءِ»: «لَا رَيْبَ فِي ذَلِكَ.»
قَالَتِ الْبَبْغَاءُ: «إِنَّهَا فِي أَقْصَى مَكَانٍ مِنَ الْمَعْمُورَةِ.»
سَكَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» لَحْظَةً. أَطَالَ التَّفْكِيرَ فِيمَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ مَعَ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ مِنْ مَتَاعِبَ وَأَهْوَالٍ.
(٤) عِتَابُ الْمِصْبَاحِ
كَانَ الْمِصْبَاحُ فِي جَيْبِ «أَبِي الْغُصْنِ». هَمَسَ الْمِصْبَاحُ فِي أُذُنِهِ فَجْأَةً. أَنْصَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى حَدِيثِ الْمِصْبَاحِ الْخَافِتِ. سَمِعَهُ يَقُولُ: «أَيْنَ مِنِّي أَنْتَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»؟ مَا بَالُكَ تُغْفِلُنِي، وَتُهْمِلُ مَشُورَتِي وَلَا تَسْتَعِينُنِي؟»
أَفَاقَ «أَبُو الْغُصْنِ» مِنْ تَفْكِيرِهِ الْعَمِيقِ. سَأَلَ الْمِصْبَاحَ: «كَيْفَ تَقُوُل؟ مَاذَا تَعْنِي؟»
أَجَابَهُ الْمِصْبَاحُ: «أَنَسِيتَ أَنَّ أَيَّ مَكَانٍ — فِي الْعَالَمِ — قَرِيبٌ مِنِّي، مَهْمَا بَعُدَتْ شُقَّتُهُ؟ أَنَسِيتَ قُدْرَتِي عَلَى اجْتِيَازِ أَبْعَدِ الْمَسَافَاتِ فِي أَقْصَرِ اللَّحَظَاتِ؟ أَنَسِيتَ أَنَّنِي قَادِرٌ عَلَى الِاضْطِلَاعِ بِحَمْلِ فَادِحِ الْأَثْقَالِ، فِي غَيْرِ كَلَالٍ وَلَا مَلَالٍ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «شُكْرًا لَكَ، يَا عَزِيزِي، شُكْرًا. مَا أَقْدَرَكَ عَلَى إِنْجَازِ مَا تَقُولُ!»
(٥) حَدِيثُ «رَبَابَةَ»
أَسْرَعَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى «رَبَابَةَ» يُبْلِغُهَا حَدِيثَ الْبَبْغَاءِ وَالْمِصْبَاحِ، وَيَسْتَشِيرُهَا فِي الْأَمْرِ.
قَالَتْ «رَبَابَةُ»: «الرَّأْيُ مَا تَرَى. هَيْهَاتَ أَنْ أُخَالِفَ لَكَ نُصْحًا.
لَكِنْ خَبِّرْنِي، يَا «أَبَا الْغُصْنِ»: هَلْ فَكَّرْتَ فِيمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَلَدَاكَ مِنْ أَخْطَارِ الطَّرِيقِ؟ أَلَا تَخْشَى أَنْ يَلْقَوْا مِثْلَ مَا لَقِيتَ فِي رِحْلَتِكَ الْمَاضِيَةِ مِنْ أَهْوَالٍ، وَمَتَاعِبَ ثِقَالٍ؟ أَلَمْ تَشْهَدْ: كَيْفَ صُدِمَ رَأْسُ تَابِعِكَ فِي نِهَايَةِ الرِّحْلَةِ؛ فَكَادَ يَتَحَطَّمُ لَوْلَا عِنَايَةُ اللهِ؟!»
قَالَ الْمِصْبَاحُ: «أَتَأْذَنِينَ لِي فِي أَنْ …»
لَمْ تَصْبِرْ عَلَيْهِ «رَبَابَةُ» حَتَّى يُتِمَّ جُمْلَتَهُ. قَاطَعَتْهُ — عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهَا — قَائِلَةً: «مِثْلُكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْذَانٍ. إِنَّ الْبَيَانَ لِيَعْجِزُ عَنْ وَصْفِ مَا غَمَرْتَنَا بِهِ مِنْ صَنِيعٍ. هَيْهَاتَ أَنْ نَنْسَى فَضْلَكَ وَمُعَاوَنَتَكَ مَدَى الْحَيَاةِ! لَكِنَّ طَرِيقَ السَّفَرِ — كَمَا تَعْلَمُ — وَمَشَقَّاتِهِ أَكْبَرُ مِمَّا نُطِيقُ، وَاجْتِيَازَ الْمَفَازَاتِ وَالصَّحَارَى الشَّاسِعَةِ مَطْلَبٌ بَعِيدُ التَّحْقِيقِ.»
سَكَتَ الْمِصْبَاحُ …
الْتَفَتَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى «رَبَابَةَ» قَائِلًا: «كَانَ يُسْعِدُنِي أَلَّا أُزْعِجَكِ بِهَذَا السَّفَرِ. لَوْلَا أَنَّ الْوَاجِبَ يَدْعُونِي إِلَيْهِ وَيَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، لَمَا نَقَلْتُ قَدَمًا عَنْ قَدَمٍ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «بَلَى. إِنَّهُ وَاجِبٌ حَتْمٌ أَدَاؤُهُ. لَا سَبِيلَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ، عَلَى أَيِّ حَالٍ. عَلَيْنَا أَنْ نُهَيِّئَ مُعِدَّاتِ السَّفَرِ.»
(٦) حَدِيثُ الصَّغِيرَيْنِ
دَخَلَ «جَحْوَانُ» وَ«جُحَيَّةُ».
قَالَ أَوَّلُهُمَا مُسَائِلًا: «أَيَّ مُعِدَّاتٍ تَعْنِي، يَا أَبَتَاهُ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «مُعِدَّاتِ السَّفَرِ أَعْنِي، يَا جَحْوَانُ.»
قَالَتْ «جُحَيَّةُ»: «أَيَّ سَفَرٍ تَعْنِي، يَا أَبِي؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَعْنِي السَّفَرَ إِلَى بَلَادِ «الْوَقْوَاقِ»، لِزِيَارَةِ صَدِيقِنَا الْكَرِيمِ: أَبِي شَعْشَعٍ.»
صَاحَ «جَحْوَانُ»: «مَا أَشْوَقَنِي إِلَى السَّفَرِ، يَا أَبَتَاهُ! بِرَبِّكَ إِلَّا مَا صَحِبْتَنِي مَعَكَ فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ.»
قَالَتْ «جُحَيَّةُ»: «جَزِيرَةُ «الْوَقْوَاقِ»؟ مَا أَظْرَفَ هَذَا الِاسْمَ! مَا أَجْمَلَ وَقْعَهُ، وَأَعْذَبَ جَرْسَهُ! مَا أَشْوَقَنِي إِلَى رُؤْيَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي طَالَمَا حَدَّثَتْنَا عَنْهَا الْأَسَاطِيرُ!»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لِيَكُنْ لَكُمَا مَا تُرِيدَانِ، يَا وَلَدَيَّ. سَتَصْحَبَانِنِي غَدًا — إِنْ شَاءَ اللهُ — إِلَى بِلَادِ الْوَقْوَاقِ.»
قَالَ وَلَدَاهُ فَرْحَانَيْنِ: «يَا لَهَا مِنْ سَفْرَةٍ مُمْتِعَةٍ شَائِقَةٍ! شُكْرًا لَكَ، يَا أَبَتَاهُ.»
(٧) أَحْلَامُ الْبَهْجَةِ
«جُحَيَّةُ» وَ«جَحْوَانُ» يَحْلُمَانِ بِبِلَادِ «الْوَقْوَاقِ». يَتَمَنَّيَانِ لَوْ بَلَغَاهَا بَعْدَ لَحَظَاتٍ يَسِيرَةٍ. شَدَّ مَا امْتَلَأَ قَلْبَاهُمَا بِجَالِبَاتِ السُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ.
رَأَى «جَحْوَانُ» فِي مَنَامِهِ قُبَّرَةً تَطِيرُ مُحَلِّقَةً فِي الْجَوِّ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ. سَمِعَ الْقُبَّرَةَ تُحَيِّيهِ أَجْمَلَ تَحِيَّةٍ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّهَا قَادِمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ» لِتَسْتَعْجِلَ سَفَرَهُ إِلَيْهَا، حَيْثُ يَنْعَمُ بِرُؤْيَةِ مَا تَحْوِيهِ مِنْ طَرَائِفَ لَا تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ.
رَأَتْ «جُحَيَّةُ» فِي مَنَامِهَا شُحْرُورًا ظَرِيفًا يُغَرِّدُ — عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهَا — لَطَائِفَ مِنَ الْأَغَارِيدِ الرِّقَاقِ، تَشُوقُهَا إِلَى رُؤْيَةِ بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ».
(٨) عُصْفُورَانِ
فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، انْتَبَهَ الصَّغِيرَانِ مِنْ نَوْمِهِمَا. أَقْبَلَ كِلَاهُمَا يُحَدِّثُ صَاحِبَهُ بِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ، مِنْ بَهِيجِ الْأَحْلَامِ.
انْتَهَى الصَّغِيرَانِ مِنْ حَدِيثِهِمَا … لَاحَ لَهُمَا خُطَّافَانِ رَشِيقَانِ، يُحَلِّقَانِ فِي الْفَضَاءِ. خُيِّلَ إِلَيهِمَا أَنَّهُمَا قَدِمَا لِتَحِيَّتِهِمَا مِنْ بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ».
لَمْ يَتَمَالَكِ الصَّغِيرَانِ أَنْ صَاحَا مَدْهُوشَيْنِ: «هَا هُمَا ذَانِ عُصْفُورَانِ. مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ قَادِمَانِ. لَعَلَّهُمَا مِنْ بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ» آتِيَانِ.»
سُرْعَانَ مَا دَبَّتِ الْحَيَاةُ وَالْحَرَكَةُ فِي كُلِّ أَنْحَاءِ الدَّارِ. اشْتَغَلَ الْجَمِيعُ بِتَخَيُّرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ — فِي رِحْلَتِهِمُ الْوَشِيكَةِ — مِنْ مُعِدَّاتِ السَّفَرِ.
(٩) قُبَيْلَ السَّفَرِ
أَيُّهَا الْقَارِئُ الصَّغِيرُ: لَوْ أُتِيحَ لَكَ أَنْ تَرَى هَذَا الْمَشْهَدَ لَرَأَيْتَ عَجَبًا: «رَبَابَةُ» غَادِيَةٌ رَائِحَةٌ، تُرَتِّبُ كُلَّ شَيءٍ مِنْ أَثَاثِ الدَّارِ. تُغَطِّيهِ فِي عِنَايَةٍ وَاهْتِمَامٍ. تَحْزِمُ الْأَشْيَاءَ الثَّمِينَةَ تَتَفَقَّدُ الْمَخَازِنَ. تُعْطِي جَارَتَهَا مَفَاتِيحَ بَيْتِهَا، تَجْمَعُ خَدَمَ الدَّارِ. تَأْمُرُهُمْ بِإِطَاعَتِهَا وَتَنْفِيذِ إِشَارَتِهَا.
دَمَعَتْ عَيْنَا جَارَتِهَا «زُبَيْدَةَ».
كَانَ «أَبُو النَّجَاءِ» — كَمَا عَلِمْتَ — آيَةً فِي الطَّاعَةِ وَالصَّفَاءِ. لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي إِنْجَازِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِي غَيْرِ تَلَكُّؤٍ وَلَا إِبْطَاءٍ، وَلَا اعْتِرَاضٍ وَلَا وَنَاءٍ. كَانَ يُطِيعُ طَاعَةً عَمْيَاءَ.
•••
كَانَتْ «جُحَيَّةُ» تُقْبِلُ عَلَى دُمْيَتِهَا فَرْحَانَةً بِهَا، تُهَيِّئُ لَهَا مَتَاعَهَا وَسَرِيرَهَا.
(١٠) صِيَاحٌ وَضَوْضَاءُ
اسْتَثَارَتِ الْجَلَبَةُ وَالضَّوْضَاءُ فُضُولَ «الْعُكْمُوسِ» وَ«الْخَوَّارِ». بَعَثَتْ فِي قَلْبَيْهِمَا شَيْئًا مِنَ الْقَلَقِ. نَعَرَتِ الْبَقَرَةُ. نَهَقَ الْحِمَارُ.
صَاحَتِ الْبَبْغَاءُ «زُمُرُّدَةُ» تَزْجُرُهُمَا قَائِلَةً: «أَخْلِدَا إِلَى السُّكُونِ، أَيَّتُهَا الدَّابَّتَانِ. مَاذَا أَزْعَجَكُمَا وَأَقْلَقَ بَالَكُمَا؟ كُفَّا عَنِ الضَّوْضَاءِ وَالْجَلَبَةِ. صَهٍ أَيُّهَا الْأَبْلَهَانِ الْأَخْرَقَانِ! مَهٍ أَيُّهَا الطَّائِشَانِ الْحَمِقَانِ!»
(١١) الرَّحِيلُ
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» — حِينَئِذٍ — خَارِجَ الْبَيْتِ. كَانَ مَشْغُولًا بِإِعْدَادِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي رِحْلَتِهِ. عَادَ إِلَى الْبَيْتِ، وَعَلَى ثَغْرِهِ ابْتِسَامَةُ الرِّضَا وَالِابْتِهَاجِ بِمَا رَأَى مِنْ حَيَاةٍ شَامِلَةٍ، تَدِبُّ فِي أَنْحَاءِ الدَّارِ.
ذَهَبَ «أَبُو الْغُصْنِ» إِلَى الْبَقَرَةِ الشَّقْرَاءِ وَالْحِمَارِ. فَكَّهُمَا مِنْ مَرْبَطِهِمَا.
عَجِبَتْ «رَبَابَةُ» مِمَّا رَأَتْ. سَأَلَتْهُ فِي دَهْشَةٍ: «مَاذَا أَنْتَ صَانِعٌ بِهِمَا يَا «أَبَا الْغُصْنِ»؟ مَا أَظُنُّكَ تَنْوِي أَنْ تَأْخُذَهُمَا مَعَكَ لِيَصْحَبَاكَ فِي رِحْلَتِكَ الْبَعِيدَةِ!»
أَجَابَهَا «أَبُو الْغُصْنِ» بَاسِمًا: «لَا تَنْزَعِجِي، يَا عَزِيزَتِي. لَا بُدَّ مِنْ اصْطِحَابِهِمَا — فِي رِحْلَتِنَا — طَالَتِ الرِّحْلَةُ أَمْ قَصُرَتْ. إِنَّ مَا يَحْتِمُهُ عَلَيْنَا الْوَاجِبُ لَا سَبِيلَ إِلَى التَّخَلِّي عَنْهُ وَالتَّهَاوُنِ فِيهِ.»
(١٢) قَافِلَةُ السَّفَرِ
هَكَذَا ظَنَّ «جَحْوَانُ». لَهُ مَوْفُورُ الْعُذْرِ فِيمَا ظَنَّهُ!
أَيُّ مَنْظَرٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِ أَنْظَارُهُمْ عِنْدَمَا فُتِحَ بَابُ الْبَيْتِ؟! جَمْهَرَةٌ مِنَ الْخَيْلِ مُعَدَّةٌ لِلرُّكُوبِ. جَمْهَرَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ الْبِغَالِ وَالنِّيَاقِ وَالْجِمَالِ تَحْمِلُ الْخِيَامَ وَالْهَوَادِجَ. جَمْهَرَةٌ ثَالِثَةٌ مِنَ الْخَدَمِ تَتْبَعُهَا، يُزْعِمُ عَلَيْهِمْ شَيْخٌ رَائِعُ السَّمْتِ، أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ. هَكَذَا اجْتَمَعَ لِلْقَافِلَةِ كُلُّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مُعِدَّاتٍ لِسَفَرِهَا الطَّوِيلِ الشَّاقِّ، إِلَى بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ».
كَانَتْ صَيْحَاتُ «جَحْوَانَ» وَ«جُحَيَّةَ» تَنُمُّ عَلَى فَرْطِ سُرُورِهِمَا وَإِعْجَابِهِمَا بِذَلِكَ السَّفَرِ الْمُفَاجِئِ. ضَاعَفَ مِنْ سُرُورِهِمَا أَنَّهُمَا يُسَافِرَانِ فِي قَافِلَةٍ كَامِلَةِ الْمُعِدَّاتِ، لَا يَظْفَرُ بِمِثْلِهَا إِلَّا الْأُمَرَاءُ، وَكِبَارُ الْأَثْرِيَاءِ.
(١٣) الْوَدَاعُ الْأَخِيرُ
الْتَفَتَ «جَحْوَانُ» الْمَاكِرُ إِلَى حِمَارِهِ بَاسِمًا. قَالَ: «قَدْ يُسْعَدُ الْإِنْسَانُ بِرَفَاقَةِ الْحِمَارِ أَحْيَانًا.»
(١٤) بَيْنَ «زُمُرُّدَةَ» وَ«جَحْوَانَ»
قَالَتْ «زُمُرُّدَةُ» ﻟِ «جَحْوَانَ»: «صَدَقْتَ، يَا عَزِيزِي. وَقَدْ يُسْعَدُ الْحِمَارُ بِرَفَاقَةِ الْإِنْسَانِ، فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ!»
طَارَتْ «زُمُرُّدَةُ» هَبَطَتْ عَلَى الْهَوْدَجِ حَيْثُ حَلَّتْ «جُحَيَّةُ».
(١٥) فِي الطَّرِيقِ
الصَّهِيلُ — كَمَا تَعْلَمُ — أُسْلُوبُ الْجَوَادِ الَّذِي أَلِفَهُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ حَاجَتِهِ إِلَى سَمَاعِ الْغِنَاءِ، كُلَّمَا اشْتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الطَّرَبِ. لَعَلَّ الْجَوَادَ الذَّكِيَّ أَرَادَ أَنْ يَتَمَتَّعَ رِفَاقُهُ مِنَ الْجِمَالِ بِمَا وَهَبَ اللهُ رَائِدَ قَافِلَتِهِمْ مِنْ حَلَاوَةِ الصَّوْتِ وَبَدِيعِ الْإِنْشَادِ، وَرَائِعِ الْغِنَاءِ؛ لِيُسَهِّلَ عَلَيْهِمْ عَنَاءَ السَّفَرِ، وَيُنْسِيَهُمْ مَتَاعِبَ الطَّرِيقِ. فَهِمَ الرَّائِدُ مَا يَعْنِيهِ الْجَوَادُ الصَّاهِلُ. أَسْرَعَ الرَّائِدُ إِلَى تَلْبِيَةِ رَجَائِهِ. أَصْلَحَ أَوْتَارَ الْعُودِ: عَزَفَ عَلَيْهَا بَدَائِعَ مِنْ أَنْغَامِهِ وَأَغَارِيدِهِ، وَفُنُونًا مِنْ أَرَاجِيزِهِ وَأَنَاشِيدِهِ. خَتَمَهَا بِالْأُرْجُوزَةِ التَّالِيَةِ:
(١٦) رِحْلَةٌ بَهِيجَةٌ
سَارَتِ الْقَافِلَةُ عَلَى تَوْقِيعِ أَنْغَامِ الرَّائِدِ الْعَذْبَةِ. سُرْعَانَ مَا أَنْسَاهَا رَائِعُ الْغِنَاءِ، مَا تُكَابِدُ فِي سَفَرِهَا مِنْ عَنَاءٍ. كَانَتِ الرِّحْلَةُ — لِحُسْنِ الْحَظِّ — حَافِلَةً بِفُنُونٍ مِنَ الْبَهْجَةِ وَالطَّرَافَةِ، زَاخِرَةً بِأَلْوَانٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالثَّقَافَةِ.
أَيُّهَا الصَّدِيقُ الصَّغِيرُ: مَا أَظُنُّكَ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَزِيدٍ فِي وَصْفِ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُمْتِعَةِ. أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَتْبَعَ الرَّاحِلِينَ بِفِكْرِكَ، وَتُسَايِرَهُمْ بِخَيَالِكَ؛ فِي عَالَمِهِمُ الْفَسِيحِ، الْحَافِلِ بِأَشْتَاتِ الْبَدَائِعِ الْمُتَجَدِّدَةِ، وَرَوَائِعِ الْمَنَاظِرِ الْمُتَفَرِّدَةِ.
(١٧) حُبُّ الْمَعْرِفَةِ
غَمَرَتِ الْبَهْجَةُ قَلْبَيْ «جَحْوَانَ» وَ«جُحَيَّةَ». حَبَّبَتْ إِلَيْهِمَا أَنْ يُتَابِعَا كُلَّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ أَعْيُنُهُمَا مِنْ مَنَاظِرَ فَاتِنَةٍ مُعْجِبَةٍ. لَمْ يَكُفَّا عَنْ سُؤَالِ أَبِيهِمَا عَنْ كُلِّ مَا اسْتَثَارَ إِعْجَابَهُمَا. مِمَّا غَمَضَ عَنْهُمَا، وَدَقَّ عَلَى فَهْمِهِمَا.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» يُرَحِّبُ بِأَسْئِلَتِهِمَا، وَلَا يَدَّخِرُ وُسْعًا فِي تَحْقِيقِ رَغَبَاتِهِمَا، تَشْجِيعًا لَهُمَا عَلَى الِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ فِي تِلْكَ السِّنِّ الْبَاكِرَةِ، الَّتِي تَخْتَزِنُ الَّذَاكِرَةُ فِيهَا كُلَّ مَا يَمُرُّ بِهَا مِنْ دُرُوسِ الْحَيَاةِ وَتَجَارِبِهَا، وَمَبَاهِجِهَا وَمَتَاعِبِهَا، لِتَنْتَفِعَ — فِي قَابِلِ أَعْوَامِهَا — بِمَا حَصَّلَتْهُ فِي مَاضِي أَيَّامِهَا.
كَانَتْ «رَبَابَةُ» مَسْرُورَةً بِمَا يَغْمُرُ قَلْبَيْ صَغِيرَيْهَا مِنْ بَهْجَةٍ وَإِينَاسٍ. كَانَتْ تَهْتَزُّ عَلَى نَاقَتِهَا، غَارِقَةً فِي أَحْلَامِهَا السَّعِيدَةِ، قَرِيرَةَ الْعَيْنِ بِمَا تَرَاهُ عَلَى مَلَامِحِ وَلَدَيْهَا مِنْ دَلَائِلِ السُّرُورِ، وَأَمَارَاتِ الْمَرَحِ وَالْحُبُورِ.
كَانَ أَوَّلَ مَا يَشْغَلُ «جَحْوَانَ» وَ«جُحَيَّةَ» أَنْ يُعْنَى كِلَاهُمَا بِدَابَّتَيْهِمَا. كَانَتْ «جُحَيَّةُ» تُسْرِعُ — فِي نِهَايَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ السَّفَرِ إِلَى بَقَرَتِهَا الشَّقْرَاءِ، وَمَعَهَا كُومَةٌ مِنَ الْحَشَائِشِ الْخُضْرِ. كَانَ أَخُوهَا جَحْوَانُ لَا يُقَصِّرُ فِي إِحْضَارِ الْعَلَفِ لِلْحِمَارِ.
(١٨) بَرَاعَةُ الْبَبْغَاء
كَانَتْ «زُمُرَّدَةُ» لَا تَكَادُ تُفَارِقُ الْقَافِلَةَ. كَانَتْ تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَتَطِيرُ مِنْ هَوْدَجٍ إِلَى هَوْدَجٍ.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» شَدِيدَ الْإِعْجَابِ بِالْبَبْغَاءِ الذَّكِيَّةِ الْبَارِعَةِ. كَانَتْ لَا تَكُفُّ عَنْ مُدَاعَبَتِهِمْ وَتَسْلِيَتِهِمْ طُولَ رِحْلَتِهِمْ.
طَالَمَا قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» لِنَفْسِهِ: «لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَبْغَاءُ إِنْسَانًا، لَكَانَتْ مُحَدِّثَةً مَاهِرَةً، خَبِيرَةً بِطَبَائِعِ النُّفُوسِ.»
(١٩) مَفَازَةٌ قَاحِلَةٌ
ظَلَّتِ الْقَافِلَةُ تُوَاصِلُ سَيْرَهَا. بَلَغَتِ الْقَافِلَةُ مَفَازَةً كَبِيرَةً. رَأَوْا فَضَاءً فَسِيحًا، وَأُفُقًا رَحِيبًا.
كَانَ الْأَمَلُ وَالشُّعُورُ بِالْوَاجِبِ يَعْمُرَانِ قَلْبَ «أَبِي الْغُصْنِ». كَانَا يُجَدِّدَانِ مِنْ قُوَّتِهِ، وَيُقَوِّيَانِ مِنْ عَزْمَتِهِ. كَانَ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَأَنَّ الثَّوَابَ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ.
بَعْدَ يُومَيْنِ ظَهَرَ لَهُمْ فِي الْأُفُقِ خَطٌّ أَخْضَرُ، بَيْنَ الرَّمْلِ الْأَصْفَرِ وَالسَّمَاءِ الزَّرْقَاءِ. دَلَّ الْقَافِلَةَ عَلَى مَكَانِ الْفُنْدُقِ الْمُعَدَّ لِإِقَامَتِهَا.
(٢٠) الْوَاحَةُ الْمَسْحُورَةُ
كَانَتِ الْوَاحَةُ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا رِحْلَةُ «أَبِي الْغُصْنِ» مِنْ أَجْمَلِ مَا رَآهُ مِنَ الْوَاحَاتِ فِي حَيَاتِهِ، عَلَى كَثْرَةِ أَسْفَارِهِ وَرِحْلَاتِهِ.
لَا تَنْسَ أَنَّ الْوَاحَاتِ فِي الصَّحْرَاءِ كَالْجَزَائِرِ فِي الْبِحَارِ، تَخْتَلِفُ مِسَاحَاتُهَا وَمَوَاقِعُهَا سَعَةً وَجَمَالًا.
(٢١) طُيُورُ الْبُحَيْرَةِ
أَلْقَى الْمِصْبَاحُ شَبَكَةً فِي الْبُحَيْرَةِ. عَادَ بِهَا زَاخِرَةً بِجَمْهَرَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ أَسْرَابِ الْبَطِّ وَطُيُورِ الْمَاءِ وَالْبَرِّ، وَدَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَا وَفَدَ عَلَيْهَا — مِنَ الْأَدْغَالِ وَالْأَحْرَاجِ — مِنْ صِغَارِ الدَّوَاجِنِ وَكِبَارِهَا، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الطُّيُورِ.
كَانَ — فِي الْحَقِّ — صَيْدًا عَظِيمًا! كَانَتْ مُفَاجَأَةً مُسْتَمْلَحَةً!
(٢٢) جِسْمُ الْجَرَادَةِ
عَجِبَ «جَحْوَانُ» حِينَ رَأَى الْجَرَادَةَ أَوَّلَ مَا رَآهَا.
قَالَ لِأُخْتِهِ «جُحَيَّةَ»: «تَأَمَّلِي هَذِهِ الْجَرَادَةَ الْعَجِيبَةَ، يَا أُخْتَاهُ.»
قَالَ «جَحْوَانُ»: «قَدَمَا نَعَامَةٍ. بَطْنُ عَقْرَبٍ. ظَهْرُ ثُعْبَانٍ. تَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ!»
اشْتَدَّ بِهِمَا الْعَجَبُ حِينَ رَأَيَا «أَبَا النَّجَاءِ» يَسْتَطِيبُ لَحْمَ الْجَرَادِ وَيَسْتَمْرِئُهُ.
انْدَفَعَا يَتَسَاءَلَانِ: «كَيْفَ يَسْتَسِيغُهُ طَعَامًا وَيَلتَهِمُهُ الْتِهَامًا؟»
•••
(٢٣) قَلَقٌ وَنَدَمٌ
ابْتَهَجَ كُلُّ مَنْ فِي الْقَافِلَةِ، مَا عَدَا «أَبَا الْغُصْنِ». كَانَ يَشْغَلُهُ التَّفْكِيرُ فِي إِنْقَاذِ الدَّابَّتَيْنِ التَّاعِسَتَيْنِ مِمَّا حَلَّ بِهِمَا مِنْ بَلَاءٍ. كَانَ شُعُورُهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ وَاجِبُهُ الْإِنْسَانِيُّ النَّبِيلُ يَمْلَأُ قَلْبَهُ الرَّحِيمَ.
كَانَ يُنْسِيهِ مَا عَدَاهُ. كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ بَلَغَ بِلَادَ «الْوَقْوَاقِ» بَعْدَ لَحَظَاتٍ، حَيْثُ يَلْقَى «أَبَا شَعْشَعٍ» — فِي عَاصِمَتِهَا: «عَبْقَرٍ» — فَيُعِيدُ لِلدَّابَّتَيْنِ سِيرَتَهُمَا الْأُولَى.
(٢٤) رِسَالَةٌ كَرِيمَةٌ
كَانَتِ الْبَبْغَاءُ مُسْتَخْفِيَةً مُنْذُ وَصَلَتِ الْقَافِلَةُ إِلَى تِلْكَ الْأَنْحَاءِ. الْآنَ عَادَتِ الْبَبْغَاءُ إِلَيْهِمْ، وَسَلَّمَتْ عَلَيْهِمْ. اسْتَقَرَّتِ الْبَبْغَاءُ عَلَى كَتِفِ «أَبِي الْغُصْنِ». قَدَّمَتْ لَهُ بِطَرَفِ مِنْقَارِهَا رِسَالَةً مِنْ أَوْرَاقِ الذَّهَبِ، مُحَلَّاةً بِالْيَاقُوتِ وَالْمَاسِ.
أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ الْجِنِّيَّ «أَبَا السَّمَعْمَعِ» الَّذِي لَقِيتَهُ فِي الْكَهْفِ: كَانَ يَحْمِلُ — عَلَى كَتِفِهِ — الْحَيَّةَ الَّتِي أَلْقَتْ إِلَيْكَ ﺑِ «مِصْبَاحِ الْكَنْزِ».
هَا أَنَا ذَا أُرْسِلُهُ إِلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِيَنْقُلَكَ إِلَى قَصْرِ «الْوَقْوَاقِ»؛ حَيْثُ تَجِدُ مِئَاتٍ مِنْ أَتْبَاعِي يَتَفَانَوْنَ فِي طَاعَتِكَ، وَلَا يَتَوَانَوْنَ عَنْ تَلْبِيَةِ إِشَارَتِكَ.
أَعْفَيْتُكَ — مُنْذُ الْيَوْمِ — مِنْ كِتْمَانِ السِّرِّ الَّذِي عَاهَدْتَنِي عَلَى كِتْمَانِهِ مِنْ قَبْلُ. يَسُرُّنِي أَنَّكَ وَفَيْتَ بِوَعْدِكَ، وَبَرَرْتَ بِعَهْدِكَ؛ فَلَمْ تُطْلِعْ أَحَدًا عَلَى السِّرِّ.
آنَ لَكَ أَنْ تُفْضِيَ بِهِ إِلَى مَنْ تَشَاءُ مِنْ أَهْلِكَ؛ لِيَتَعَرَّفُوا مَا مَيَّزَكَ اللهُ بِهِ مِنْ صَفَاءٍ وَمَحَبَّةٍ لِلْخَيْرِ، وَيُطَالِعُوا — فِي قِصَّتِكَ — مِثَالًا كَرِيمًا لِلْمُرُوءَةِ وَالصَّفْحِ، وَمُقَابَلَةِ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ. سَأَلْقَاكَ بَعْدَ أَيَّامٍ. حَفِظَكَ اللهُ وَرَعَاكَ، وَأَدَامَكَ وَأَبْقَاكَ، لِصَدِيقِكَ الَّذِي لَا يَنْسَاكَ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «شُكْرًا لِلْوَفِيِّ الْكَرِيمِ: أَمِيرِ الْجِنِّ «أَبِي شَعْشَعٍ». فَلْيَكُنْ لَهُ مَا يُرِيدُ.»
(٢٥) فِي قَصْرِ «عَبْقَرٍ»
سُرْعَانَ مَا نَقَلَهُمْ «أَبُو السَّمَعْمَعِ» إِلَى جَزِيرَةِ الْغَرَائِبِ، وَمَوْطِنِ الْعَجَائِبِ: جَزِيرَةِ «عَبْقَرٍ»: عَاصِمَةِ بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ».
حَانَتْ مِنْ «أَبِي الْغُصْنِ» الْتِفَاتَةٌ. رَأَى «رَبَابَةَ» عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ. كِلَاهُمَا مَدْهُوشٌ مِنَ النُّقْلَةِ الْمُفَاجِئَةِ الَّتِي لَمْ تَسْتَغْرِقْ سِوَى لَحَظَاتٍ.
اسْتَقَرَّتْ «زُمُرُّدَةُ» عَلَى كَتِفِ «أَبِي الْغُصْنِ». قَالَتْ: «مَرْحَبًا بِكُمْ، يَا رِفَاقُ. طَائِفَةٌ تَنْتَظِرُكُمْ مِنْ عَجَائِبِ «عَبْقَرٍ»: عَاصِمَةِ «الْوَقْوَاقِ»: غَدِيرٌ سَيَّارٌ، يَنْسَابُ بَيْنَ الْوُرُودِ وَالْأَزْهَارِ، وَيَتَخَلَّلَ الْخَمَائِلَ وَالْأَشْجَارَ. عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنَ الْغَدِيرِ زَرِيبَةٌ فَاخِرَةٌ أُعِدَّتْ لِلْبَقَرَةِ وَالْحِمَارِ.»
جَلَسَ «أَبُو الْغُصْنِ» وَزَوْجَتُهُ وَوَلَدَاهُ فِي رُوَاقٍ فَاخِرٍ، عَلَى أَرَائِكَ ذَهَبِيَّةٍ، مُحَلَّاةٍ بِأَنْفَسِ اللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ.
(٢٦) عَلَى الْمَائِدَةِ
حَانَ مَوْعِدُ الطَّعَامِ. شَعَرُوا بِالْجُوعِ. أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ خَادِمٌ يَرْتَدِي ثِيَابًا حَرِيرِيَّةً مُفَضَّضَةً، يَدْعُوهُمْ إِلَى مَائِدَةٍ حَافِلَةٍ بِأَشْهَى أَلْوَانِ الطَّعَامِ.
جَلَسُوا يَأْكُلُونَ وَيَسْتَمِعُونَ إِلَى رَوَائِعَ مِنْ مُوسِيقَى «عَبْقَرٍ»، وَيُنْصِتُونَ إِلَى أَغَارِيدَ بَارِعَةِ الْأَلْحَانِ، وَأَنَاشِيدَ رَائِعَةِ الْأَنْغَامِ، تَسْمَعُهَا آذَانُهُمْ، وَلَا تَرَاهَا أَعْيُنُهُمْ. رَأَوْا سَقْفَ الْحُجْرَةِ يُضِيءُ جَنَبَاتِهَا وَأَرْجَاءَهَا، بِمَا يُرْسِلُهُ عَلَيْهَا مِنْ أَشِعَّةٍ رَقِيقَةٍ، أَبْهَى مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَأَسْنَى مِنْ أَضْوَاءِ الْقَمَرِ.
(٢٧) أَلْوَاحُ السِّيمَى
سَمِعُوا صَوْتًا مُوسِيقِيًّا عَذْبَ النَّبَرَاتِ، بَارِعَ النَّغَمَاتِ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْوَجَازَاتِ الْمَكْتُوبَةَ. تَمَّ لَهُمْ بِذَلِكَ: بَهْجَةُ الْفَمِ بِلَذَائِذِ مَا يَأْكُلُ. نِعْمَةُ الْعَيْنِ بِبَدَائِعِ مَا تَقْرَأُ. سُرُورُ الْأُذُنِ بِلَطَائِفِ مَا تَسْمَعُ، حِمَايَةُ الْمَعِدَةِ مِنْ الِانْدِفَاعِ فِي الْتِهَامِ الطَّعَامِ.
تَعَلَّمَ الصَّغِيرَانِ — مِمَّا قَرَآهُ وَسَمِعَاهُ — أَضْرَارَ التُّخَمَةِ. عَرَفُوا كَيْفَ يَجْنِي الْإِفْرَاطُ فِي الطَّعَامِ عَلَى ذَوِي النَّهَمِ وَالشَّرَهِ، فَيُمْرِضُهُمْ وَيُسْلِمُهُمْ إِلَى الضَّعْفِ وَالْهُزَالِ.
انْتَهَوْا مِنَ الطَّعَامِ. جَلَسُوا يَشْهَدُونَ بَدَائِعَ مِنَ الْقِصَصِ، مُصَوَّرَةً وَقَائِعُهَا أَمَامَهُمْ فِي مِثْلِ أَلْوَاحِ «السِّيمَى» الَّتِي نَشْهَدُهَا — فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ — بَيْنَ فَاجِعَةٍ وَمَأْسَاةٍ. وَضَاحِكَةٍ وَمَلْهَاةٍ، وَهَارِجَةٍ وَمَسْلَاةٍ.
تَعَاقَبَتْ أَلْوَاحٌ أُخَرُ، تُرِيهِمْ فُنُونًا مِمَّا تَفِيضُ بِهِ بِلَادُ «الْوَقْوَاقِ»، وَحَاضِرَتُهَا «عَبْقَرٌ» مِنْ آيَاتٍ بَاهِرَاتٍ، وَمَشَاهِدَ فَاتِنَاتٍ.
(٢٨) الْمِخْدَعُ الْمَاسِيُّ
قُدِّمَتْ لَهُمُ الْقِرْفَةُ وَالزَّنْجَبِيلُ فِي أَكْوَابٍ مِنَ اللَّآلِئِ الثَّمِينَةِ، لَا عَهْدَ لِأَحَدٍ بِرُؤْيَةِ أَمْثَالِهَا!
قُدِّمَتِ الْأَكْوَابُ اللُّؤْلُؤِيَّةُ عَلَى أَطْبَاقٍ مَصُوغَةٍ مِنْ نَفَائِسِ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ!
(٢٩) عَاقِبَةُ الْكَذِبِ
أَمْسَكَ «جَحْوَانُ» بِأَحَدِ الْأَكْوَابِ يَتَأَمَّلُ بَدِيعَ صُنْعِهِ. سَقَطَ الْكُوبُ مِنْ يَدِهِ وَتَحَطَّمَ. انْتَهَرَهُ أَبُوهُ لِإِهْمَالِهِ.
قَالَ «جَحْوَانُ»: «أَنَا لَمْ أَكْسِرِ الْكُوبَ، يَا أَبِي.» مَا إِنْ أَتَمَّ «جَحْوَانُ» كِذْبَتَهُ، حَتَّى ظَهَرَ — أَمَامَهُمْ، عَلَى لَوْحِ «السِّيمَى» — فِي صُورَةِ قِرْدٍ صَغِيرٍ! كَانَ وَجْهُهُ فِي مِثْلِ لَوْحِ الْآبَنُوسِ.
ابْتَدَرَتْهُ «زُمُرُّدَةُ» قَائِلَةً: «أَرَأَيْتَ — يَا «جَحْوَانُ» — عَاقِبَةَ الْكَذِبِ؟ مَا أَجْدَرَ الْكَذَّابَ أَنْ يُمْسَخَ قِرْدًا!»
تَفَزَّعَ «جَحْوَانُ» مِمَّا رَأَى. صَرَخَ قَائِلًا: «قُبِّحَ الْكَذِبُ وَالْكَذَّابُ! لَمْ يَكْسِرِ الْكُوبَ إِلَّا أَنَا. لَمْ يَكْسِرْهُ أَحَدٌ سِوَايَ.»
•••
مَا إِنْ أَتَمَّ «جَحْوَانُ» قَوْلَتَهُ، حَتَّى عَادَتْ صُورَتُهُ عَلَى لَوْحِ «السِّيمَى» إِلَى أَبْهَى مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ.
•••
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «حَانَ الْوَقْتُ الَّذِي أُكَاشِفُكُمْ فِيهِ بِمَا حَفَزَنِي إِلَى الْقِيَامِ بِهَذِهِ الرِّحْلَةِ. أَلْقُوا إِلَيَّ بِأَسْمَاعِكُمْ.»
أَقْبَلَتْ «رَبَابَةُ» وَوَلَدَاهَا يُنْصِتُونَ إِلَيْهِ. قَرَأَ عَلَيْهِمْ «أَبُو الْغُصْنِ» كِتَابَ أَمِيرِ الْجِنِّ، شَفَعَهُ بِقِصَّةِ الدَّابَّتَيْنِ. كَانَتْ أَعْجَبَ قِصَّةٍ سَمِعُوهَا، فِي أَغْرَبِ بِلَادٍ شَهِدُوهَا.
مَا إِنْ أَتَمَّ قِصَّتَهُ حَتَّى صَاحَتِ الْبَبْغَاءُ قَائِلَةً: «صَدَقْتَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — فِي كُلِّ مَا حَكَيْتَ.»
تَحَيَّرَ الْجَمِيعُ مِمَّا رَأَوْا وَسَمِعُوا.
(٣٠) أَسَفٌ وَاعْتِذَارٌ
صَاحَ «جَحْوَانُ» قَائِلًا: «مَا أَشْوَقَنِي إِلَى لِقَاءِ الْحِمَارِ!»
سَأَلَهُ «أَبُو الْغُصْنِ»: «لِمَاذَا، يَا جَحْوَانُ!»
قَالَ: «أُرِيدُ أَنْ أَلْتَمِسَ مِنْهُ الصَّفْحَ عَمَّا بَدَرَ مِنِّي. أَنَا قَصَّرْتُ فِي أَدَاءِ وَاجِبِي نَحْوَهُ مَرَّتَيْنِ. فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى: تَأَخَّرْتُ فِي تَقْدِيمِ الْعَلَفِ فِي مَوْعِدِهِ. فِي الثَّانِيَةَ: لَمْ أُقَدِّمْ لَهُ مَاءً صَافِيًا نَقِيًّا. شَدَّ مَا يَحْزُنُنِي مَا أَسْلَفْتُ إِلَيْهِ مِنْ إِسَاءَةٍ.»
سَأَلَهُ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَيُّ إِسَاءَةٍ أَسْلَفْتَهَا. يَا جَحْوَانُ؟»
قَالَ: «كَانَ يَحْلُو لِي — بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ — أَنْ أُدَاعِبَهُ بِطَرَفِ الْعَصَا. كُنْتُ أُوهِمُهُ أَنَّنِي سَأَضْرِبُهُ بِهَا.
شَدَّ مَا يُؤْسِفُنِي أَنْ أَسَأْتُ إِلَى صَدِيقِي الْحِمَارِ. لَنْ يَهْدَأَ لِي بَالٌ وَلَنْ يَقَرَّ لِي قَرَارٌ، قَبْلَ أَنْ أَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِصَادِقِ النَّدَمِ وَالِاعْتِذَارِ!»
قَالَتْ «جُحَيَّةُ» مُتَأَلِّمَةً: «مَا أَجْدَرَنِي أَنْ أَعْتَذِرَ إِلَى صَدِيقَتِي الْبَقَرَةِ. كُنْتُ أَسْخَرُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. كُنْتُ أُلَقِّبُهَا بِالْبَقَرَةِ الْعَجُوزِ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «الْآنَ تَأْسَفَانِ عَلَى مَا أَسْلَفْتُمَا مِنْ إِسَاءَةٍ إِلَى الْحَيَوَانِ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمَا أَنَّهُ إِنْسَانٌ؟! كَانَ أَكْرَمَ لَكُمَا وَأَخْلَقَ بِكُمَا أَلَّا تَقْصُرَا عَطْفَكُمَا عَلَى الْإِنْسَانِ دُونَ الْحَيَوَانِ.»
تَحَيَّرَ الصَّغِيرَانِ. لَمْ يَدْرِيَا: كَيْفَ يُجِيبَانِ، وَبِأَيِّ حُجَّةٍ يَعْتَذِرَانِ!
رَأَتْ «رَبَابَةُ» حَيْرَتَهُمَا وَاضْطِرَابَهُمَا. قَالَتْ «رَبَابَةُ» لَهُمَا: «لَا رَيْبَ — يَا عَزِيزَيَّ — أَنَّ عَلَيْنَا لِلْحَيَوَانِ دَيْنًا عَظِيمًا. لَا تَنْسَيَا أَنَّهُ يَخْدُمُنَا وَيَنْفَعُنَا، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الشَّكْوَى، عَجْزَهُ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ!»
(٣١) عَهْدٌ وَمِيثَاقٌ
قَالَ «جَحْوَانُ»: «عَلَيَّ عَهْدٌ — مُنْذُ هَذِهِ السَّاعَةِ — وَمِيثَاقٌ: أَلَّا أُسِيءَ إِلَى حِمَارٍ أُصَادِفُهُ — بَعْدَ الْيَوْمِ — وَأَلَّا أَهُمَّ بِضَرْبِهِ إِذَا رَكِبْتُهُ.»
كَانَ «جَحْوَانُ» — وَهُوَ يَنْطِقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ — يَقْتَرِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنَ الْبَابِ، وَخَلْفَهُ «جُحَيَّةُ».
انْدَفَعَ كِلَاهُمَا إِلَى الْخَارِجِ، تَحْدُوهُمَا رَغْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَحْفِزُهُمَا هَدَفٌ وَاحِدٌ، هُوَ الِاعْتِذَارُ إِلَى صَاحِبَيْهِمَا.
أَقْبَلَ «جَحْوَانُ» عَلَى حِمَارِهِ يُقَبِّلُ رَأْسَهُ.
انْدَفَعَتْ «جُحَيَّةُ» تُحَيِّي بَقَرَتَهَا، وَتُقَبِّلُ رَقَبَتَهَا.
قَالَ «جَحْوَانُ» لِحِمَارِهِ، وَهُوَ يُعَانِقُهُ: «عُذْرًا وَصَفْحًا، أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْعَزِيزُ. هَا أَنَا ذَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ بُشْرَى خَلَاصِكَ مِنْ مِحْنَتِكَ، وَقُرْبَ عَوْدَتِكَ إِلَى آدَمِيَّتِكَ.»
أَقْبَلَتْ «جُحَيَّةُ» عَلَى الْبَقَرَةِ تُلَاطِفُهَا قَائِلَةً: «هَا أَنَا ذَا جِئْتُ أَحْمِلُ إِلَى بَقَرَتِي الْعَزِيزَةِ بُشْرَى سَعَادَتِهَا، وَقُرْبَ اسْتِرْدَادِ آدَمِيَّتِهَا.»
(٣٢) دُمُوعُ الْفَرَحِ
نَظَرَتِ الدَّابَّتَانِ إِلَى الصَّغِيرَينِ مَدْهُوشَتَيْنِ، تَرَقْرَقَ الدَّمْعُ فِي أَعْيُنِهِمَا حِينَ رَأَتَا «جَحْوَانَ» وَ«جُحَيَّةَ» يَبْذُلَانِ جُهْدَيْهِمَا فِي مُلَاطَفَتِهِمَا وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمَا.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» وَ«رَبَابَةُ» يُتَابِعَانِ وَلَدَيْهِمَا مُعْجَبَيْنِ بِمَا يَفِيضُ بِهِ قَلْبَاهُمَا مِنْ عَطْفٍ وَمَحَبَّةٍ.
(٣٣) فُنُونٌ مِنَ الْغَرَائِبِ
لَبِثَتِ الْأُسْرَةُ أَيَّامًا تَتَنَقَّلُ بَيْنَ بِلَادِ «الْوَقْوَاقِ» وَحَاضِرَتِهَا: «عَبْقَرٍ». كَانَتْ تَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ طَرَائِفَ لَا تُحْصَى، وَغَرَائِبَ لَا تُسْتَقْصَى.
عُنِيَتِ الْبَبْغَاءُ، وَصَاحِبُهَا «أَبُو النَّجَاءِ»، بِشَرْحِ عَجَائِبِ مَا يَشْهَدُونَ: فَوَّارَاتٌ يَقْذِفُ مَاؤُهَا — فِي كُلِّ فُوَّهَةٍ مِنْهَا — بِاللَّهَبِ وَالثَّلْجِ مَعًا. نَارُهَا لَا تُحْرِقُ مَنْ يَمَسُّهَا. جَلِيدُهَا لَا يُؤْذِي مَنْ يَلْمُسُهُ.
لَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَتِهِمَا حِينَ رَأَيَا كُلَّ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ فِي جَزِيرَةِ «عَبْقَرٍ» مِنْ جَمَادٍ وَنَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ. لَا تَسَلْ عَنْ إِعْجَابِهِمَا بِمَا سَمِعَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ، وَقِصَصِ الْوَرُودِ وَالْأَزْهَارِ، وَغِنَاءِ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ!
كَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا رَأَيَاهُ: عِنَبُ «الْوَقْوَاقِ»، حَيَّاهُمَا بِأَغَارِيدِهِ الرِّفَاقِ. رَدَّدَ النَّسِيمُ أَنَاشِيدَهُ، وَشَدْوَهُ وَتَغْرِيدَهُ.
(٣٤) فُنُونٌ مِنَ الرِّيَاضَةِ
حُبِّبَ إِلَيْهِمَا مِنْ فُنُونِ الرِّيَاضَةِ وَالتَّسْلِيَةِ: رُكُوبُ الْبَجَعِ. مُسَابَقَةُ الْحَلَزُونِ. مُتَابَعَةُ الطَّيْرِ فِي طَيَرَانِهِ. الِاسْتِمَاعُ إِلَى أَنْغَامِ الرَّوْضِ وَأَلْحَانِهِ. كَانَ مِنْ أَحَبِّ الْأَمَانِيِّ إِلَى قَلْبَيْهِمَا أَنْ تَمْتَدَّ إِقَامَتُهُمَا، وَيَطُولَ بَقَاؤُهُمَا فِي جَزِيرَةِ «عَبْقَرٍ»: عَاصِمَةِ «الْوَقْوَاقِ»، لِمَا تَحْوِيهِ مِنْ مَبَاهِجَ وَمَسَرَّاتٍ.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» وَ«رَبَابَةُ» عَلَى الْعَكْسِ مِنْ وَلَدَيْهِمَا. لَمْ تَشْغَلْهُمَا لِذَائِذُ مَا يُحِيطُ بِهِمَا عَنِ التَّفْكِيرِ فِي إِنْجَازِ مُهِمِّهِمَا، وَأَدَاءِ وَاجِبِهِمَا. كَانَا يَتَعَجَّلَانِ الْأَيَّامَ؛ لِيُخَلِّصَا «الْعُكْمُوسَ» وَ«الْخَوَّارَ» مِنْ مِحْنَتَيْهِمَا، وَيُعِيدَاهُمَا إِلَى صُورَتَيْهِمَا.
مَرَّ — عَلَى بَقَائِهِمَا فِي الْجَزِيرَةِ — أُسْبُوعٌ. فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، جَلَسَ «أَبُو الْغُصْنِ» مُفَكِّرًا فِي مَصِيرِ الشَّقِيَّيْنِ. لَمَسَتْ أَنَامِلُهُ «مِصْبَاحَ الْكَنْزِ» بِغَيْرِ اكْتِرَاثٍ.
لَمْ يَنْتَظِرِ الْمِصْبَاحُ سُؤَالَهُ. ابْتَدَرَهُ الْمِصْبَاحُ قَائِلًا: «قَرَّ عَيْنًا، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». اطْمَئِنَّ بَالًا. حَانَ الْوَقْتُ لِإِنْجَازِ رَغْبَتِكَ، وَتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِكَ. هَا هُو ذَا: رَئِيسُنَا — «أَمِيرُ الْجِنِّ» — قَادِمًا عَلَيْكَ.»
•••
طَرْقَةٌ قَوِيَّةٌ: «تِمْ … تِمْ …!»
تَنَبَّهَ مَنْ فِي الْقَصْرِ إِلَى حُضُورِ أَمِيرِ الْجِنِّ.
(٣٥) قُضَاةُ «عَبْقَرٍ»
حَانَتْ سَاعَةُ اللِّقَاءِ. أَقْبَلَ الْحَاجِبُ، فِي يَدِهِ عَصًا مِنَ الْعَاجِ. دَعَا «أَبَا الْغُصْنِ» وَأَصْحَابَهُ لِلْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْ قُضَاةِ «عَبْقَرٍ». لَبَّى الْجَمِيعُ دَعْوَةَ الْحَاجِبِ. تَبِعَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» وَ«رَبَابَةُ» وَوَلُدَاهُمَا، وَحِمَارُهُمْ وَبَقَرَتُهُمْ.
مَشَى خَدَمُ الْقَصْرِ فِي أَثَرِهِمْ يَرْتَدُونَ أَنْفَسَ الْحُلَلِ، بَيْنَ صُفْرٍ وَخُضْرٍ.
مَثَلُوا جَمِيعًا فِي دَارِ الْقَضَاءِ. كَانَ الرَّئِيسُ «أَبُو شَعْشَعٍ» — صَاحِبُ النَّظْرَةِ الثَّاقِبَةِ وَالْوَجْهِ الْبَهِيَّ — يَتَوَسَّطُ قُضَاةَ «عَبْقَرٍ». كَانَتِ الرَّهْبَةُ تَسُودُ الْمَكَانَ.
كَانَ «أَبُو الْغُصْنِ» وَ«رَبَابَةُ» يَتَقَدِّمَانِ الْجَمِيعَ. ابْتَدَرَهُمَا الرَّئِيسُ بِالتَّرْحِيبِ وَالتَّحِيَّةِ حِينَ رَآهُمَا. عَرَفَهُ «أَبُو الْغُصْنِ». لَمْ تَغِبْ عَنْهُ صُورَتُهُ. كَانَ قَرِيبَ الشَّبَهِ بِمَنْ رَآهُ فِي الْكَهْفِ الْمَسْحُورِ.
لَمْ تَعْرِفْهُ «رَبَابَةُ» وَوَلَدَاهَا. رَأَيَاهُ — مِنْ قَبْلُ — فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ فَقِيرٍ. الْآنَ يَبْدُو أَمَامَهُمْ فِي صُورَةٍ أُخْرَى: صُورَةِ قَاضٍ مَهِيبِ الطَّلْعَةِ، رَائِعِ السَّمْتِ، مَوْفُورِ الشَّبَابِ. عَقَدَتِ الدَّهْشَةُ أَلْسِنَتَهُمْ حِينَ رَأَوْهُ. أَدْرَكَ أَمِيرُ الْجِنِّ حَيْرَتَهُمْ.
(٣٦) حِوَارُ «أَبِي شَعْشَعٍ»
غَمَرَهُمْ أَمِيرُ الْجِنِّ بِبَشَاشَتِهِ وَلُطْفِهِ. ابْتَدَرَهُمْ قَائِلًا: «مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيتُمُ الشَّيْخَ الْهَرِمَ: أَبَا شَعْشَعٍ!»
«جَحْوَانُ» لَا يَكَادُ يُصَدِّقُ مَا تَسْمَعُهُ أُذُنَاهُ. «جَحْوَانُ» يَقُولُ: «يَا لَلْعَجَبِ. أَأَنْتَ أَبُو شَعْشَعٍ؟!»
سَكَتَ أَمِيرُ الْجِنِّ لَحْظَةً.
ابْتَسَمَ «جَحْوَانُ» قَائِلًا: «كَانَ «أَبُو شَعْشَعٍ» — حِينَ رَأَيْتُهُ — شَيْخًا هَرِمًا طَاعِنًا فِي السِّنِّ، دَمِيمَ الْخِلْقَةِ! أَمَّا أَنْتَ …!»
قَالَتْ «رَبَابَةُ»: «هَيْهَاتَ أَنْ تَخْفَى مَلَامِحُ السَّيِّدِ الْجَلِيلِ عَلَى مَنْ رَأَى ضَيْفَ الْأَمْسِ، وَقَاضِيَ الْيَوْمِ: عَيْنَاكَ عَيْنَاهُ. سِيمَاكَ سِيمَاهُ. لَكَ بَشَاشَتُهُ وَإِشْرَاقُ مُحَيَّاهُ! هَيْهَاتَ أَنْ نَنْسَى فَضْلَكَ عَلَيْنَا، وَمَا أَسْلَفْتَهُ مِنْ إِحْسَانٍ إِلَيْنَا.»
جَمْجَمَ «أَبُو شَعْشَعٍ». قَالَ دُونَ أَنْ يَسْمَعَهُ أَحَدٌ: «يَا لَكِ مِنْ سَيِّدَةٍ وَفِيَّةٍ، كَرِيمَةٍ ذَكِيَّةٍ!»
الْتَفَتَ إِلَى «أَبِي الْغُصْنِ» قَائِلًا: «تَكَلَّمْ، يَا صَدِيقِي، مَاذَا تُرِيدُ مِنِّي؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي غَيْرِ تَرَدُّدٍ: «أُرِيدُ مَعُونَتَكَ لِتُخَفِّفَ مِنَ الْحَمَاقَةِ الَّتِي ارْتَكَبْتُهَا. يُؤْسِفُنِي أَنْ لَيْسَ لِي حِيلَةٌ فِي رَدِّ مَا فَعَلْتُ إِذَا خَذَلَتْنِي مَعُونَتُكَ.»
شَخَصَ «أَبُو شَعْشَعٍ» بِنَظْرَتِهِ النَّفَّاذَةِ إِلَى الدَّابَّتَيْنِ. قَالَ: «كَلَّا، لَا تَنْدَمْ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — عَلَى مَا فَعَلْتَ. مَا أُرَاكَ أَسْرَفْتَ فِي قَسْوَتِكَ، وَلَا غَلَوْتَ فِي عِقَابِكَ. أَنَا أَعْرِفُ مَا تُرِيدُ. لَا حَاجَةَ إِلَى مَزِيدٍ.»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ» مُتَشَفِّعًا: «حَسْبُ التَّاعِسَيْنِ مَا أَصَابَهُمَا مِنْ عِقَابٍ. مَا أَجْدَرَهُمَا بِصَفْحِكَ!»
(٣٧) نِهَايَةُ الشَّقَاءِ
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «أَتَظُنُّهُمَا تَابَا عَنِ الشَّرِّ، وَكَفَّا عَنِ الْأَذِيَّةِ؟»
قَالَ «أَبُو الْغُصْنِ»: «أَغْلَبُ الظَّنِّ أَنَّهُمَا تَابَا وَأَنَابَا.»
قَالَ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَا دُمْتَ تَرَى ذَلِكَ؛ فَلْيَكُنْ لَكَ مَا تُرِيدُ!»
أَشَارَ «أَبُو شَعْشَعٍ» إِلَى الدَّابَّتَيْنِ: جَمْجَمَ أَلْفَاظًا غَرِيبَةً مِنَ السِّحْرِ بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ. عَادَ الْمَسْحُورَانِ إِلَى صُورَتِهِمَا الْأُولَى. تَبَدَّلَتْ فَرْوَتَاهُمَا. تَحَوَّلَتْ هَيْئَتَاهُمَا. زَايَلَتْهُمَا الْحِمَارِيَّةُ وَالْبَقَرِيَّةُ. عَادَا إِلَى صُورَتِهِمَا الْآدَمِيَّةِ.
مَا إِنْ رَأَى الشَّقِيَّانِ هَذِهِ الْخَاتِمَةَ السَّعِيدَةَ حَتَّى فَاضَ قَلْبَاهُمَا بِشُكْرِ «أَبِي شَعْشَعٍ». اسْتَشْعَرَا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، ذَرَفَتْ أَعْيُنُهُمَا الدُّمُوعَ، وَهِيَ دَلِيلُ التَّوْبَةِ كَمَا تَعْلَمُ.
نَظَرَ إِلَيْهِمَا «أَبُو الْغُصْنِ» فِي دَهْشَةٍ. لَمْ يَكَدْ يَعْرِفُهُمَا. خُيِّل إِلَيْهِ أَنَّهُمَا شَخْصَانِ آخَرَانِ.
سَأَلَهُ «أَبُو شَعْشَعٍ»: «مَاذَا بِكَ، يَا أَبَا الْغُصْنِ؟»
سَكَتَ «أَبُو الْغُصْنِ». عَقَدَتِ الدَّهْشَةُ لِسَانَهُ. لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ.
سَأَلَهُ أَمِيرُ «عَبْقَرٍ» بَاسِمًا: «أَيُدْهِشُكَ مَا تَرَاهُ عَلَى أَسَارِيرِ صَاحِبَيْكَ مِنَ الْوَدَاعَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ؟ سَلْهُمَا يُنْبِئَاكَ عَنْ سِرِّ تَحَوُّلِهِمَا مِنَ السُّخْطِ إِلَى الرِّضَى!»
(٣٨) شُكْرُ «الْعُكْمُوسِ»
لَمْ يَنْتَظِرِ «الْعُكْمُوسُ» سُؤَالَ «أَبِي الْغُصْنِ». لَمْ يُطِقْ صَبْرًا عَلَى السُّكوِتِ بَعْدَ أَنِ اسْتَرَدَّ آدَمِيَّتَهُ، ابْتَدَرَهُ قَائِلًا: «شُكْرًا لَكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». أَصْبَحْتُ الْيَوْمَ خَلْقًا آخَرَ. لَمْ أَعُدْ ذَلِكَ الْمَاكِرَ الْخَبِيثَ الَّذِي أَفْسَدَهُ النَّهَمُ وَالْجَشَعُ وَالتَّفَانِي فِي جَمْعِ الْمَالِ. لَقِيتُ جَزَائِيَ الْعَادِلَ حِينَ لَبِسْتُ جِلْدَ الْحِمَارِ: ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الْوَدِيعِ الصَّابِرِ. كَانَ لِهَذَا الْقِصَاصِ أَحْمَدُ الْأَثَرُ فِي نَفْسِي. عَرَفْتُ قِيمَةَ الْأَمَانَةِ وَالشَّرَفِ. ظَلِلْتُ طَوَالَ الْعَامِ حِمَارًا شَرِيفًا. مَا أَجْدَرَنِي أَنْ أَنْتَفِعَ بِهَذَا الدَّرْسِ! مَا أَجْدَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي رَجُلًا شَرِيفًا!
شُكْرًا لَكَ — يَا «أَبَا الْغُصْنِ» — إِذْ أَعْطَيْتَنِي دَرْسًا قَاسِيًا لَا أَنْسَاهُ. إِلَيْكَ يَرْجِعُ الْفَضْلُ فِي أَنْ أَكُونَ الْيَوْمَ غَيْرِي بِالْأَمْسِ. انْقَلَبَ حِقْدِي حُبًّا، وَمَضَرَّتِي نَفْعًا، وَطَمَعِي قَنَاعَةً وَزُهْدًا. شَدَّ مَا تَبَدَّلَتْ نَفْسِي! مَا أَشْوَقَنِي إِلَى التَّعْجِيلِ بِرَدِّ مَا اغْتَصَبْتُهُ مِنْ مَالِكَ إِلَيْكَ. سَتَرَانِي — مُنْذُ الْيَوْمِ — مِنْ أَوْفَى أَصْدِقَائِكَ قَلْبًا، وَأَشَدِّهِمْ حُبًّا، وَأَكْثَرِهِمْ إِخْلَاصًا، وَأَعْظَمِهِم نَفْعًا.»
(٣٩) شُكْرُ «الْخَوَّارِ»
قَالَ «الْخَوَّارُ»: «شُكْرًا لَكَ، يَا «أَبَا الْغُصْنِ». مَا أَنْسَ لَا أَنْسَ مَا أَسْدَيْتَهُ إِلَيَّ مِنْ فَضْلٍ عَظِيمٍ. كَانَ لِمَا أَلْحَقْتَ بِي مِنْ قِصَاصٍ أَحْمَدُ الْأَثَرِ فِي تَبْدِيلِ طَبْعِيَ الشَّرِسِ الْجَامِحِ، وَتَوْجِيهِهِ إِلَى الرَّحْمَةِ وَحُبُّ الْخَيْرِ. أَنَا — مُنْذُ الْيَوْمِ — طَوْعُ أَمْرِكَ وَرَهْنُ إِشَارَتِكَ. أَنْتَ قَيَّدْتَنِي بِإِحْسَانِكَ، وَطَوَّقْتَنِي بِكَرَمِكَ. سَأَظَلُّ أَسِيرَ فَضْلِكَ مَا دُمْتُ حَيًّا.»
(٤٠) دُعَابَاتٌ مُسْتَمْلَحَةٌ
قَالَ «جَحْوَانُ» وَ«جُحَيَّةُ»، وَهُمَا يَنْظُرَانِ إِلَى «الْعُكْمُوسِ» مُتَخَابِثَيْنِ: «لَا بَأْسَ إِذَا فَقَدْنَا حِمَارًا نَافِعًا!»
أَجَابَهُمَا «الْعُكْمُوسُ» ضَاحِكًا: «يَاهْ! لَنْ تَخْسِرَا بِهَذَا شَيْئًا. لَكُمَا أَنْ تَرْكَبَا فَوْقَ ظَهْرِي، مَتَى شِئْتُمَا!»
ابْتَدَرَاهُ ضَاحِكَيْنِ: «عَلَى أَيِّ حَالٍ، أَحْبَبْنَا «الْعُكْمُوسَ» حِمَارًا، أَكْثَرَ مِمَّا أَحْبَبْنَاهُ إِنْسَانًا!»
ضَحِكَ قُضَاةُ «عَبْقَرٍ» مِنْ دُعَابَةِ الصَّغِيرَيْنِ. قَالَ لَهُمَا أَمِيرُ الْجِنِّ: «هَوِّنَا عَلَيْكُمَا. سَأُعَوِّضُكُمَا خَيْرًا مِمَّا فَقَدْتُمَا.»
الْتَفَتَ «أَمِيرُ الْجِنِّ» إِلَى «أَبِي النَّجَاءِ» قَائِلًا: «أَلَا تَرْغَبُّ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى عَرْشِكَ الَّذِي فَقَدْتَهُ، جَزَاءَ ظُلْمِكَ وَجَبَرُوتِكَ؟ الْآنَ أَصْفَحُ عَنْكَ، جَزَاءَ خِدْمَتِكَ وَطَاعَتِكَ، بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ تَوْبَتُكَ وَخَلَصَتْ نِيَّتُكَ. الْآنَ أُعِيدُ إِلَيْكَ الْقُوَّةَ وَالْمُلْكَ. عُدْ إِلَى بَلَدِكَ آمِنًا، يَا «أَبَا النَّجَاءِ». حَذَارِ أَنْ تَتَنَكَّبَ سَبِيلَ الرِّفْقِ وَالْعَدَالَةِ مَرَّةً أُخْرَى.»
شَكَرَ لَهُ «أَبُو النَّجَاءِ» صَفْحَهُ وَكَرَمَهُ.
(٤١) رَجَاءُ «زُمُرُّدَةَ»
أَسْرَعَتْ «زُمُرُّدَةُ» إِلَى أَمِيرِ الْجِنِّ قَائِلَةً: «لَا أُرِيدُ أَنْ أَعُودَ آدَمِيَّةً كَمَا كُنْتُ. بِرَبِّكَ إِلَّا مَا أَبْقَيْتَنِي طَائِرَةً، كَمَا أَنَا. لَا أَكْتُمُ أَنَّنِي شَعَرْتُ بِالسَّعَادَةِ مُنْذُ انْتَقَلْتُ — مِنْ عَالَمِ الْأَنَاسِيِّ — إِلَى عَالَمِ الطَّيْرِ الرَّحْبِ، مُحَلِّقَةً فِي الْجَوِّ، طَائِرَةً بَيْنَ الْأَشْجَارِ، مُتَنَقِّلَةً مِنْ فَنَنٍ إِلَى فَنَنٍ، فِي ابْتِهَاجٍ وَإِينَاسٍ. مَا أَزْهَدَنِيَ الْآنَ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى عَالَمِ النَّاسِ.
لَا. لَا …! هَا … هَا! لَا تَسْلُبْنِي — يَا أَمِيرَ الْجِنِّ — جَنَاحَيَّ وَمِنْقَارِي، وَمَخَالِبِي وَأَظْفَارِي. لَا تَحْرِمْنِي تَاجِيَ الْأَحْمَرَ الْبَاهِيَ، وَرِيشِيَ الْأَخْضَرَ الزَّاهِيَ. لَا تَنْزِعْ خَيْرَ حُلَّةٍ أَرْتَدِيهَا، وَأَخْتَالُ فِيهَا. مَا أَسْعَدَنِي أَنْ أَطِيرَ فِي الْفَضَاءِ، أُغَنِّي وَأُثَرْثِرُ كَمَا أَشَاءُ!»
قَالَ أَمِيرُ الْجِنِّ: «لَكِ مَا تَشَائِينَ يَا «زُمُرُّدَةُ». ابْقَيْ بَبْغَاءَ كَمَا تُرِيدِينَ.»
(٤٢) حَوْضُ «عَبْقَرٍ»
أَشَارَ أَمِيرُ الْجِنِّ إِلَى نَافُورَةٍ كَبِيرَةٍ، يَتَحَدَّرُ مَاؤُهَا صَافِيًا نَقِيًّا، فِي حَوْضٍ كَبِيرٍ، شَبِيهٍ بِالْحَوْضِ الَّذِي رَآهُ «أَبُو الْغُصْنِ» فِي الْكَهْفِ الْمَسْحُورِ.
•••
انْدَفَعَ الْجَمِيعُ إِلَى حَوْضِ «عَبْقَرٍ»، يَغْمِسُونَ فِيهِ أَنَامِلَهُمْ فَرْحَانِينَ.
مَا كَانَ أَسْعَدَ «أَبَا الْغُصْنِ» وَ«رَبَابَةَ» إِذْ ضَمِنَا وِقَايَةَ وَلَدَيْهِمَا مِنَ الْآلَامِ وَالْمَرَضِ، وَحِفْظَهُمَا مِنَ الضَّنَى وَالسَّقَمِ، وَتَبَارِيحِ الْأَلَمِ! أَنْسَتْهُمُ الْخَاتِمَةُ السَّعِيدَةُ مَا لَقُوهُ طَوَالَ حَيَاتِهِمْ مِنْ أَشْجَانٍ، وَمَتَاعِبَ وَأَحْزَانٍ.
(٤٣) الْعَفْوُ عَنِ الْمُتَصَافِعِينَ
لَمْ تَنْسَ «رَبَابَةُ» أَنْ تَطْلُبَ مِنْ أَمِيرِ «عَبْقَرٍ» أَنْ يَشْمَلَ بِرِعَايَتِهِ أُولئِكَ الْمُتَصَافِعِينَ مِنْ لُصُوصِ الصَّحْرَاءِ.
لَمْ يَتَرَدَّدْ أَمِيرُ الْجِنِّ فِي إِجَابَتِهَا إِلَى طِلْبَتِهَا، وَتَحْقِيقِ رَغْبَتِهَا.
أَعْفَى لُصُوصَ الصَّحْرَاءِ مِنَ التَّصَافُعِ وَالرَّقْصِ. لَمْ يَقِفْ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ. أَضْفَى عَلَيهِمْ بِرَّهُ وَعَطْفَهُ، وَصَفْحَهُ وَلُطْفَهُ. كَفَلَ لَهُمْ حَيَاةً كَرِيمَةً وَأَرْضَاهُمْ، وَأَسْعَدَهُمْ وَأَغْنَاهُمْ. مَنَحَهُمْ دَسْكَرَةً كَبِيرَةً، بِمَا تَحْوِيهِ مِنْ مُعِدَّاتِ الْحَرْثِ وَالزَّرْعِ وَقُطْعَانِ الْمَاشِيَةِ. كَانَ هَذَا آخِرَ عَهْدِ الْأَشْقِيَاءِ بِالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ.
(٤٤) هَدَايَا أَمِيرِ الْجِنِّ
أَغْدَقَ أَمِيرُ الْجِنِّ عَلَى ضُيُوفِهِ — مِنْ هَدَايَا «عَبْقَرٍ» — نَفَائِسَ لَا تُحْصَرُ. أَوْدَعَ هَدَايَاهُ فِي صَنَادِيقَ كَبِيرَةٍ مِنْ خَشَبِ الصَّنْدَلِ وَاللَّيْمُونِ وَالسَّاجِ، مُحَلَّاةٍ بِالْيَاقُوِتِ، مُطَعَّمَةٍ بِالْعَاجِ.
الْتَفَتَ أَمِيرُ الْجِنِّ إِلَى «جَحْوَانَ» قَائِلًا: «أَفِي قُدْرَتِكَ أَنْ تَحْمِلَ كُلَّ هَذِهِ النَّفَائِسِ إِلَى بَيْتِكَ؟»
قَالَتْ «جُحَيَّةُ»: «مَا أَحْسَنَ أَنْ يَأْذَنَ أَمِيرُ الْجِنِّ بِنَقْلِهَا إِلَى بَيْتِنَا عَلَى جَمْهَرَةٍ مِنَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ!»
قَالَ «جَحْوَانُ»: «ذَلِكَ رَأْيٌ سَدِيدٌ، يَا أُخْتِي. إِذَا تَفَضَّلَ أَمِيرُ الْجِنِّ بِتَحْقِيقِهِ، كَسَبْنَا الْهَدَايَا وَالدَّوَابَّ الَّتِي تَحْمِلُهَا.»
ابْتَدَرَهُمَا أَمِيرُ الْجِنِّ قَائِلًا: «لَكُمَا مَا تُرِيدَانِ!»
مَا أَسْرَعَ مَا رَأَوْا قَافِلَةً كَبِيرَةً، تَخْرُجُ مِنْ قَصْرِ «عَبْقَرٍ»؛ مُعَدَّةً لِحَمْلِ الْأُسْرَةِ الْجُحَوِيَّةِ وَضَيْفَيْهَا وَهَدَايَاهُمْ.
(٤٥) مُفَارَقَةُ الْمِصْبَاحِ
كَانَ صَوْتَ «مِصْبَاحِ الْكَنْزِ.»
ابْتَدَرَهُ «أَبُو الْغُصْنِ» شَاكِرًا لَهُ مَا أَسْدَاهُ إِلَيْهِ مِنْ مُسَاعَدَةٍ كَرِيمَةٍ. عَنَّ ﻟِ «أَبِي الْغُصْنِ» خَاطِرٌ نَبِيلٌ. قَالَ لِنَفْسِهِ: «مَا أَجْدَرَنِي بِرَدِّ الْمِصْبَاحِ إِلَى أَمِيرِ الْجِنِّ! مَا أَجْدَرَنِي أَلَّا أُعَوِّلَ عَلَى أَحَدٍ غَيْرِي.
مَا أَجْدَرَنِي بِالِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْسِي، دُونَ أَنْ أَسْتَعِينَ بِقُوَّةٍ سِوَى قُوَّتِي. لَوْ بَقِيَ «مِصْبَاحُ الْكَنْزِ» مَعِي، لَمْ آمَنْ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيَّ الضَّعْفُ، كَمَا تَغَلَّبَ عَلَيَّ مِنْ قَبْلُ، فَتُغْرِينِي قُوَّتُهُ بِأَنْ أَدْفَعَ الْإِسَاءَةَ بِمِثْلِهَا. كَلَّا! لَنْ أَلْتَمِسَ الْعَوْنَ — فِي حَيَاتِي — إِلَّا مِنَ اللهِ وَحْدَهُ. هُوَ حَسْبِي، وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى، ونِعْمَ النَّصِيرُ.»
تَوَجَّهَ «أَبُو الْغُصْنِ» بِالرَّجَاءِ إِلَى أَمِيرِ الْجِنِّ أَنْ يَسْتَرِدَّ وَدِيعَتَهُ النَّفِيسَةَ بَعْدَ أَنْ ضَاعَفَ لَهُ الثَّنَاءَ وَالشُّكْرَ. اشْتَدَّ إِعْجَابُ أَمِيرِ الْجِنِّ، بِمَا شَهِدَهُ مِنْ حِكْمَةِ «أَبِي الْغُصْنِ»، وَرَجَاحَةِ عَقْلِهِ، وَبُعْدِ نَظَرِهِ.
(٤٦) أَلَمُ الْفِرَاقِ
حَانَتْ سَاعَةُ الرَّحِيلِ.
شَهِدَ أَمِيرُ الْجِنِّ دَمْعَةً تَتَرَقْرَقُ فِي عَيْنِ «أَبِي الْغُصْنِ». أَدْرَكَ أَمِيرُ الْجِنِّ مَا يَدُورُ بِنَفْسِ «أَبِي الْغُصْنِ» مِنْ أَلَمٍ لِفِرَاقِهِ. قَالَ لَهُ يُطَمْئِنُهُ: «لَا تَأْسَ وَلَا تَحْزَنْ، يَا صَدِيقِيَ الْعَزِيزَ. عُدْ إِلَى بَيْتِكَ غَانِمًا مَسْرُورًا. لَنْ نَفْتَرِقَ بَعْدَ الْيَوْمِ. أَنْتَ أَخِي مَدَى الْحَيَاةِ! سَتَجِدُنِي مَعَكَ كُلَّمَا أَرَدْتَ. ذَلِكَ وَعْدٌ أَخَذْتُ بِهِ نَفْسِي: سَتَرَى «أَبَا شَعْشَعٍ» يَطْرُقُ بَابَكَ — بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ — وَيَحُلُّ فِي بَيْتِكَ ضَيْفًا. إِنَّ رُؤْيَتَكَ تُسْعِدُنِي، وَتُرَفِّهُ عَنِّي وَتَبْهَجُنِي. إِنَّ لِقَاءَكَ يُهَوِّنُ عَلَيَّ مَا أَرَاهُ — فِي غَيْرِكَ — مِنْ جُحُودٍ وَعُقُوقٍ، وَإِهْدَارٍ لِلْحُقُوقِ.»
(٤٧) رَغْبَةُ «أَبِي النَّجَاءِ»
حَانَ مَوْعِدُ الْعَوْدَةِ، فُتِنَ «أَبُو النَّجَاءِ» بِمَا رَآهُ مِنْ شَمَائِلِ «أَبِي الْغُصْنِ». آثَرَ أَنْ يَقْضِيَ مَعَهُ مَا بَقِيَ مِنْ حَيَاتِهِ. زَهِدَ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى عَرْشِهِ.
اسْتَأْذَنَ أَمِيرَ الْجِنِّ فِي أَنْ يَكْفُلَ لَهُ تَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ فِي الْبَقَاءِ إِلَى جِوَارِ «أَبِي الْغُصْنِ». كَبُرَ عَلَى «أَبِي النَّجَاءِ» فِرَاقُ «جُحَيَّةَ» وَ«جَحْوَانَ».
أُعْجِبَ أَمِيرُ الْجِنِّ بِوَفَائِهِ. لَمْ يَتَرَدَّدُ فِي تَحْقِيقِ رَجَائِهِ. طَلَبَ أَمِيرُ الْجِنِّ إِلَى «أَبِي السَّمَعْمَعِ» أَنْ يَحْمِلَهُمْ إِلَى «الْوَاحَةِ الْمَسْحُورَةِ»، لِيُعُودُوا مِنْ حَيْثُ جَاءُوا.
لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ فِي الْقَافِلَةِ. لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا غَيْرُ نِهِيقِ الْحِمَارِ وَخُوَارِ الْبَقَرَةِ.
تَوَثَّقَتْ أَوَاصِرُ الْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ، بَعْدَ أَنْ بَلَغُوا وَطَنَهُمْ.
عَاشَ الْجَمِيعُ أَصْفِيَاءَ مُؤْتَلِفِينَ، خُلَصَاءَ مُتَحَابِّينَ!
(٤٨) عَرْضٌ مَرْفُوضٌ
عَرَضَ «أَبُو الْغُصْنِ» عَلَى جَارَتِهِ «زُبَيَدَةَ» أَنْ تَخْتَارَ أَحَدَ صَاحِبَيْهِ زَوْجًا لَهَا، بَعْدَ أَنْ عَادَ إِلَى كِلَيْهِمَا ثَرَاؤُهُ وَذَكَاؤُهُ. لَمْ تَسْتَجِبْ «زُبَيْدَةُ» إِلَى اقْتِرَاحِهِ. لَعَلَّهَا نَفَرَتْ مِنَ الزَّوَاجِ بِرَجُلٍ كَانَ حِمَارًا أَوْ بَقَرَةً!
آثَرَتْ «زُبَيْدَةُ» أَنْ تَبْقَى إِلَى جَانِبِ «جَحْوَانَ» وَ«جُحَيَّةَ». كَانَتْ لَهُمَا أُمًّا ثَانِيَةً، لَا تُقَصِّرُ فِي الْعِنَايَةِ بِهِمَا، وَلَا تَدَّخِرُ جُهْدًا فِي إِسْعَادِهِمَا.
(٤٩) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ
عَاشَ الْجَمِيعُ فِي دَعَةٍ وَسَكِينَةٍ، وَأَمْنٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، تَغْمُرُهُمُ الْهَنَاءَةُ وَالرَّغَادَةُ، وَتُرَفْرِفُ عَلَيْهِمْ أَعْلَامُ السَّعَادَةِ، تَرَعْرَعَ «جَحْوَانُ» وَ«جُحَيَّةُ» فِي ظِلَالِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْفُتُوَّةِ. حَقَّقَ لَهُمْ أَمِيرُ الْجِنِّ مَا وَعَدَ. كَانَ يَبْسُطُ حِمَايَتَهَ عَلَى الْجَمِيعِ.
كَانَ يَزُورُهُمْ — بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ — فِي صُورَةِ شَيْخٍ هَرِمٍ. كَانَتْ أَيَّامُ زِيَارَتِهِ لِلْأُسْرَةِ أَفْرَاحًا وَأَعْيَادًا، وَبَهْجَةً وَإِسْعَادًا.
•••
اسْتَرَدَّ «الْعُكْمُوسُ» وَ«الْخَوَّارُ» كُلَّ مَا فَقَدَا مِنْ مَالِهِمَا، اسْتَعَادَا ثَرْوَتَهُمَا مِمَّنِ اغْتَصَبَهَا. اسْتَرَدَّ «الْعُكْمُوسُ» مِنَ الْقَاضِي مِائَتَي الدِّينَارِ.
•••
عَاشَ «أَبُو الْغُصْنِ» وَ«رَبَابَةُ» عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ السِّنِينَ، مُمَتَّعَيْنِ بِوَلَدَيْهِمَا، سَعِيدَيْنِ بِوَفَاءِ جَارَتِهِمَا.
كَانَ الزَّوْجَانِ لَا يَكُفَّانِ عَنْ تَوْصِيَةِ وَلَدَيْهِمَا بِالْمُثَابَرَةِ وَالدُّءُوبِ.
كَانَ آخِرُ وَصِيَّةٍ فَاهَ بِهَا «أَبُو الْغُصْنِ»: «الْعَمَلَ. الْعَمَلَ. حَيَّ عَلَى الْعَمَلِ!»
كَانَ آخِرُ وَصِيَّةٍ نَطَقَتْ بِهَا «رَبَابَةُ»: «الْوَاجِبَ. الْوَاجِبَ. حَيَّ عَلَى الْوَاجِبِ!»