حلم شاعر!
الليلة عيد مولده.
أولئك أصحابه وصواحبه قد أحاطوا به فرحين مهللين، يضيء البِشر في قسماتهم، وترفُّ على شفاههم بسمات الفرح والمسرة، قد تَنادوا إلى موعدهم ودعوه معهم إلى ناديهم؛ ليحتفلوا بعيد مولده.
وإنه لجالس بينهم ولكنه ليس منهم، إنهم هنا ولكنه هناك …!
… وفي يده زهرة يعبث بها … وضمها بين راحتيه ومال عليها برأسه. ما به أن يشمها، فإن عطرها ليأرج من حوله وينتشر، ولكنه ينظر ويفكر …
… وراحت أصابعه تنثرها ورقة ورقة تساقط عند قدميه وهو يعد، وعدَّ ثلاثين ورقة، ثم تعرت الزهرة من أوراقها إلا عودًا أخضر ليس له عطر ولا رواء، وهمس الشاعر: «هذه هي دنيانا …!» واختلجت شفتاه وأطرق، وعاد يعد الأوراق المنثورة تحت قدميه …
… ثلاثون ورقة … ذلك كل تاريخ الوردة، فما هي بعد الثلاثين إلا عودٌ ذابل مُتفتر وورقاتٌ منثورة على التراب، وكانت وردةً عطرة يعبق بأريجها الجو وتهفو إليها الزهرات الطيارة من فراش البستان … فماذا يكون هو بعد الثلاثين وقد غربت شمسها منذ ساعات …؟
وعاد ينظر إلى أصحابه وصواحبه، يبادلهم تحية بتحية وكلماتٍ بكلمات، لا يكاد يشعر أن هؤلاء جميعًا قد التقوا على ميعاد ليحتفلوا به في عيد مولده، فإن سيلًا من الخواطر والذكريات يتدافع في رأسه الساعة، فما يكاد يرى أو يسمع إلا نجوى نفسه وهمس أمانيه، وغامت على عينيه غائمةٌ فشطح إلى وادٍ بعيد، وأصحابه وصواحبه من المرح والبهجة لا يكادون يشعرون أنهم منه على بُعد بعيد وهو معهم؛ ومن أين لهم أن يحسُّوا ذلك وما اجتمعوا الليلة إلا حفاوةً بعيد مولده …؟
وأحسَّ الشاعر إحساس الوحدة، وإنه بين أصحابه وأصفى الناس له، فتركهم لما هم فيه وتركوه، وإن وجهًا في وجه، وإن ابتسامة تجاوب ابتسامة، وإن كلمة تُحيِّي وكلمة تَردُّ …
وانفضَّ السامر ومضى كلٌّ لوجهه، ومد الشاعر يده يصافحهم ويشكر لهم، ثم تفرقت بهم السبل …
… ووجد الشاعر نفسه وهو يمشي وحده في جنح الظلام، وأحسَّ الوحدة الرهيبة التي يعيش فيها منذ كان، فمضى يتحدث إلى نفسه وتحدِّثه، وخنقته العَبرة فأرسلها، ثم تتابعت عيناه. وعاد الزمان القهقرى ينشر على عينيه ماضيه ويُذكِّره أمانيه …
وقالت له نفسه: «هذا سبيلك فامضِ فيه على هدًى وبصيرة، وانظر ماذا أعددتَ لغد!»
وقال لنفسه: «وهل ترين الغدَ يا نفسُ إلا صورةً من أمس الذي كان؟ وهل ترينني في غدٍ غيرَ مَن أنا اليوم وغيرَ مَنْ كنتُ في الماضي …؟»
لقد تجاوز الثلاثين ولم يزل حيث كان يوم بدأ، فماذا يكون غيرَ الذي كان؟ وأوى إلى فراشه وأطفأ المصباح، ليقضي ما بقي من الليل يراوح بين جنبيه في فراش الوحدة لا يهدأ ولا يستقر!
كان شاعرًا بروحه وفطرته قبل أن يكون شاعرًا له لسان وبيان. نظر إلى الناس في دنياه فاستوعبهم بنظرة، ثم عاد ينظر إلى نفسه فلم يعرف أين هو من نفسه وأين هو من الناس، وشعر بالوحدة منذ شعر أنه يعيش في جماعة … وكان له خيال وفي نفسه أمل، فتوزعته دنياه ودنيا الناس، فلا هو عاش في دنيا الناس واحدًا منهم ولا هو عاش في دنياه وحده!
وألحَّت عليه ضرورات الحياة، فأبت عليه فطرة الشاعر أن يلتمس بعض وسائل الناس، فعاش من ضروراته وفطرته بين قوتين تتجاذبانه، لا سبيل إلى الخلاص منهما معًا إلا أن يعيش روحًا بلا جسد أو جسدًا بلا روح، وهيهات!
وفكَّر فيما خلق الله وفكر في نفسه، فكأن في كل ما يراه لسانًا يحدثه، وفي كل ما يسمعه معنًى يهتف به، وكأن في كل منظور حقيقةً غير منظورة لا تتكشَّف إلا لعينيه ولا يسمع نجواها أحدٌ غيره؛ فإن وراء الغمام طيوفًا تتخايل له في شكول وألوان، وإن في لمعان البرق ومضاتٍ من الإلهام، وإن في الصمت لكلامًا أبلغ من الكلام، وإن بين السماء والأرض لعوالم غير منظورة تُفضي إليه بأسرارها.
وتكشَّفت له الدنيا ونضت أستارها، فألهمته أن يُغنِّي …
وفاض ما في جنانه على لسانه سحرًا من النغم يعبِّر عن أخفى خفايا النفس وأعمق أسرار الحياة، ولكن ألحانه القدسية قد تلاشت أصداؤها في صخب الحياة وضجة الأحياء فلم يستمع إليه أحد؛ إذ كان يتحدث إلى الناس عن عالم لا يراه الناس، ولكن يراه هو وحده.
وضاق الشاعر بوحدته بين هؤلاء الناس وضاقت به دنياه، فاعتزم الخلاص … ولكن روحًا لطيفًا أطلَّ عليه من سماواته فثبَّت فؤاده …
وابتسمتْ له فابتسم، وعادت إلى الحياة نضرتها في عينيه، ووجد أُنسًا من وحشته حين أيقن أنه ليس وحيدًا في دنياه.
وعاد يغني … ولكن غناءه منذ اليوم ليس له وحده، فهو لحنٌ مؤلف من خفقات قلبين قد اجتمعا على أمل …
وغَنِيَ بها عن الناس وغنيتْ به، فما يهمه اليوم أن يسمع الناس ما يصدح به من أغاريد الحب أو يكون لها وحدها شدوه وغناؤه.
آه …! لشدَّ ما تقسو عليه دنياه!
كان ذلك منذ سنين. أما اليوم، فقد ضربت الأيام بينه وبينها بسور ليس له باب، وعاد إلى الحياة وحده، لا يدري من أمرها ولا تدري من أمره شيئًا …
… وأشرق الصبح عليه صبيحة عيد الميلاد، وما زال يراوح بين جنبيه في فراشه الوحدة ولم تغتمض عيناه.
ما هو؟ وأين هو؟ وما دنياه؟
إنه ليحسُّ من حوله فراغًا هائلًا ليس له قرار، وإن الوحدة لتكتنفه فما يشعر أن ثمة أحدًا بجانبه يفزع إليه ليؤنس وحشة قلبه، وإنه ليعيش من زحمة الحياة وصخب الأحياء في ضجة يموت فيها النغمُ ويتلاشى الصدى، ففيمَ العيش؟ وما جدواه؟ وإلى أي غاية يمضي؟
وعاد يلتمس الوسيلة إلى الخلاص …
وقالت له نفسه: «أتحسب يا صاحبي أنك قد فرغت من دنياك حين خلوت إلى نفسك؟ فما أنت بشاعر …! لئن كنت قد عِفتَ الحياةَ وكرهت المقام في دنياك لأمرٍ من أمور دنياك، إن الحياة ما تزال تطالبك بحقها عليك، فإنْ أديته وإلا فلست من شعرائها ولا كنت …
… ما الشعر إلا رسالة الحياة إلى الأحياء تعبِّر عن أسرار الحياة ومعانيها، وما هو إلا قبس من نور السماء يتنزل على قلب بشرٍ لتنير به السماءُ ما حوله من ظلمات البشرية، وما هو إلا إحساس زائد على إحساس الناس يُرى ما لا يَرى ذو عين ويسمعُ ما لا يَسمعُ ذو أذن، وما هو إلا وحيٌ يُوحى من وراء الغيب إلى إنسان تكون فيه زيادةٌ على الإنسانية، وما هو إلا إدراك كاملٌ يكشف عن مظاهر الجمال في الكون ويهدي إلى الحق والخير.
… أفتُراك يا صاحبي قد بلغت رسالة الشعر حين حسبت أنك قد فرغت من دنياك أم أنت …؟»
وأطرق الشاعر برهة يفكر ثم نهض لأمره …
بلى، إن عليه رسالة يؤديها وواجبًا ينهض له، فلا عليه من الناس حتى يبلغ، فإذا انتهى من أمره فإن نفسه له خالصةً يمضي بها حيث يريد.
وأماتَ في دخيلته دواعيَ النفس ونوازعَ الهوى ومضى لغايته …
وعاد يغنِّي … غير آمل ولا خائف، وما به من شيءٍ ضجرٌ ولا ملالة، وأنسَ وسمتْ روحه في آفاقها إلى ظل عرش الله حين قمع شهوات نفسه ونوازع هواه وآثر أن يكون نورًا يضيء للناس وهو يشتعل، فلقيت أغانيه من يسمع فيعي.
وأفاق الناس على لحن عُلوي ساحر يُنشده شاعر وهب نفسه للدعوة إلى الحق والفضيلة والجمال، ونظروا، فإذا هو هو، ولكنه صار شخصًا غير من كان، لا تتصباه المنى، ولا يعبث به هواه، وليس له في الحياة إلا هدف واحد يسعى إليه …
وجاءه المجد حين لا حاجة به إليه …
وأشارت إليه من النافذة بنان مخضوبة وتقول: «أئنه لهو؟» فكأن لم يرَ، وكأن لم يسمع …
وسعى ساعيها إليه يسأله: «أئنك لأنت …؟»
قال: «نعم، قد كان ذلك يومًا!»
وعلى باب الكوخ المنفرد على حدود العمران، جلس الشاعر على الرمل مرتفقًا إلى صخرة ناتئة، يسرح بصره في الفضاء الممتد إلى ما لا يبلغ النظر، وفي نفسه أُنس، وفي قلبه هدوء ورضًا واطمئنان، وعلى لسانه تسبيح وعبادة.
لقد كان في مجلسه ذلك بحيث لا تراه عين ولا تسمعه أذن، ولكنه لم يكن وحده؛ لأن الله معه.
واستيقظ الشاعر بعد غفوة، وابتسم …
لقد أدى رسالته، ولكنه لم يكن في أيِّ أيامه أكثرَ حبًّا للحياة منه يومئذ.
لقد تحقق حلمه بعد لأيٍ وَوَجَدَ تعبير رؤياه!