ثمن الأمومة
في الطابق الرابع من الدار القائمة على حدود الصحراء من ضاحية حلوان، كانت تعيش وحيدة؛ ليس معها أم ولا أب، ولا زوج ولا ولد. لقد فارقها أبوها ولم تزل طفلة بعدُ، إلى حيث لا يرجع من يمضي، وفارقتْ هي أمها العجوز وأخاها، إلى حيث فرضتْ عليها «الوظيفة» أن تعيش غريبة منقطعة لتجد ما تعيش به. وما كان المرتب المحدود الذي تمنحها إياه «وزارة المعارف» في كل شهر ليُسعد فتاة في مثل سنها، ولكنها كانت به راضية سعيدة. وقد استطاعت على امتداد الزمن أن تُزيد دخْلها بضعة جنيهات في كل شهر، مما تحصل عليه من أجرة الإشراف على بعض تلميذاتها في دراستهن المنزلية؛ فتهيأ لها بذلك أن تنظم ميزانيتها الصغيرة تنظيمًا يكفل لها أن تستمرَّ على إعانة أمها العجوز بما ترسل إليها في كل شهر، وأن تدخر لنفسها شيئًا إلى شيء؛ ارتقابًا ليوم تأمله …
منذ بضع سنوات لم تغيِّر شيئًا من نظام حياتها ولم تحاول، هذا منزلها الذي تسكنه منذ هبطت المدينة، لم يتبدل شيء منه ولم يتبدل شيء منها. هنا الغرفة التي تأوي إليها إذا جنَّ الليل، وهنا الثويُّ الذي أعدته لاستقبال من يزورها فلم يطرقها فيه زائر قطُّ منذ كان، وهنا الشرفة التي ترتفق إليها بذراعها كلَّ مساء ساعة أو ساعات قبل أن تنام، تسرح النظر في الفضاء الغارق في ضوء القمر، أو تنقل الطرف بين النوافذ المضيئة، قانعةً في وحدتها الموحشة من سعادة الاجتماع بأُنس النظر … وهناك، على مدِّ البصر طفلٌ يقفز ويثب. هذا هو حيث تراه كلَّ مساء في مجلسها من الشرفة، جالسًا بين أبويه أو عابثًا لاهيًا يتوثَّب؛ إن بينها وبينه لسببًا قويًّا، إنها لتحبه كأنها ولدته، وإنها لتفتقده إذا غاب كأنها بعض أهله، وإنها لتتحدث إليه على البعد كأنه منها بمرأى ومسمع … ذلك صديقها في بلد لم تأنس فيه إلى صديق، أتُراه يعرفها ويعرف أين هو من نفسها …؟ أما هي فتعرفه عرفانَ الأخ والولد، وتعرف تاريخه وماضيه منذ كان، وقبل أن يكون …
مِن هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام، أبصرتْ أمه عروسًا في جلوتها، وأبصرتْ أباه؛ ومن هذه الشرفة نفسها رأته جنينًا في بطن أمه تخيط له قميصه ولفائفه؛ ومن هذه الشرفة جاءها البشير بمولده والناس نيام، ثم أبصرته ذات صباح طفلًا يحبو، ورأته من بعدُ غلامًا يقفز ويثب … ولكنه هو لم يعرفها بعدُ …!
هذه حياتها. أما نهارها فجهاد ودأب بلا وني، تُغادر بيتها في الصباح الباكر إلى مدرستها، وتغادر مدرستها إلى بيوت تلميذاتها، فإذا جنَّ الليل عادت؛ وأما ليلها فهذه الشرفة، وهذا الفضاء، وهذا الغلام؛ فإذا أوى الغلام إلى فراشه، واختفى القمر وراء السحاب، وأسدلت الستائر على النوافذ المضيئة؛ نهضت من مجلسها في الشرفة، فتفتح صندوقها وتحصي ما فيه ثم تَأوي إلى أحلامها.
ومضت بضع سنين قبل أن يجتمع في صندوقها ما كانت تؤمِّل أن يجتمع، وأيقنت بعد صبر طويلٍ أنها من اليوم الذي كانت ترقب على مقربة …
… وغربت الشمس ذات مساء ولم تَعُد إلى دارها، ثم عادت بعد العشية، واتخذت مجلسها من الشرفة وسرحت النظر، ولم يكن الطفل ثمة ولكنها لم تفتقده في غيبته، وأوت إلى فراشها ولكنها لم تنمْ حتى انتصف الليل، وتراءى لها الطفل في منامها وكان معه أبوه … ثم أصبحت …
وراحت تُعِدُّ عدة السفر إلى أمها تطلب مشورتها في أمر ذي بال …
وابتسمت أمها فرحانة، ثم غشيتها كآبةٌ وهتف بها هاتف، ثم عادت فابتسمت ونهضت إلى مُصلاها تناجي ربها وتدعوه لابنتها العزيزة أن يُتم لها ما تأمل …
وتغيرت الفتاة منذ اليوم وتبدلت وحشتها أُنسًا ومسرة، وهجرت الشرفة فلم تكن تغشاها إلا حين تكون على موعد ترقب له الطريق، وأنستْ غرفةُ الاستقبال بعد وحشة وطرقها الزائر المنتظر منذ سنين، وتعددتْ زيارته، وقالت له الفتاة ذات مساء وقد جلسا جنبًا إلى جنب في الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام وأشارت إلى بعيد: «انظر، إنه طفل ظريف!»
ونظر حيث أشارت فتاته، وقال: «نعم، وأظرفُ منه أن تكوني أمه!»
وطأطأت الفتاة رأسها وتضرجت وجنتاها وسبحت في حلم لذيذ، وتراءى لها غلام يقفز ويثب بين أبيه وأمه، في مثل مجلسهما من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام!
وجلست الفتاة وصاحبها يتبادلان الرأي ذات مساء، وقال لها: «… وإني لأتمنى ألا توافق الحكومة على بقائك في العمل بعد الزواج؛ لتكوني لي وحدي!»
وقالت: «ولكن أمي …»
وأجابها: «وعليَّ أن تكون أمك راضية سعيدة.»
واطمأنت الفتاة وسُرِّي عنها ما كان يقلقها منذ أيام، وجلست إلى مكتبها تكتب إلى الحكومة تلتمس الإذن في الزواج.
ولم يطلْ بهما الانتظار، ولم يقلقهما جواب الحكومة، فقد كانت متوقعة من قبلُ ألا يؤذن لها، وكانت مطمئنة إلى وعد خطيبها بأن يُرضي أمها.
وراح الفتى والفتاة يُعدان العدة ليوم قريب.
وانتقلت إلى بيت زوجها، وشهدها صواحبها عروسًا في جلوتها، وشهدتْ نفسها؛ وكانت النوافذ المضيئة ترمي أشعتها إلى بعيد، وكان في الشرفات العالية التي يكتنفها الظلام عيونٌ تنظر …
… ومضت أشهر، ونظر الجيران فإذا هي جالسة إلى جانب النافذة تخيط قمصانًا ولفائف، وفي هدأة الليل والناس نيام حلَّ على الأسرة ضيف جديد، وارتفع صوته يعلن البشرى بمقدمه …
ثم استيقظت المرأة من الحلم الذي ضرب على آذانها عامًا وبعض عام، ونظرتْ فإذا هي وطفلها وحطام من الذكريات، ولم يكن الرجل ثمة ولم يكن الصندوق …
وقبَّلت فتاها في جبينه وقالت وفي عينيها دموع: «لا عليك يا بني، لقد خسرتُ الرجل ولكني كسبتك، فليذهب أبوك حيث يشاء، ولتبقَ لي أنت!»
وخرجت تلتمس الرزق، واتخذت طريقها إلى المدرسة، ولكن المدرسة كانت قد أغلقتْ أبوابها.
وسعت إلى رئيس الديوان تلتمس الشفعاء إليه ليردها إلى عملها، فأغلق دونها بابه، ووقفت في مفترق الطريقين تنظر، ثم سلكت إحداهما …
وعاد الرئيس من الديوان إلى داره، وانفتح باب السيارة ونزل، وسبقته إلى الباب امرأة. وهمَّ حاجبه أن يمنعها ثم كفَّ.
وهتفت المرأة في ضراعة: «سيدي، عزمت عليك بحق أولادك إلا ما وصلتَ عيشي بالوظيفة، إنني أُم!»
قال: «ولكنك خُيرتِ من قبلُ بين الوظيفة والأمومة فاخترتِ أن تكوني أُمًّا، فهيهات …!»
وبرقت المرأة وصرخت في غيظ: «ولكنك أنت أيضًا رضيت أن تكون أبًا في أسرة، وأن تكون لك مع ذلك وظيفة في الديوان … فلِمَ لا خُيرت أنت …؟ كن أبًا، أو كن رئيسًا في الديوان، إن صحَّ ألا يجتمعا …!»
وسكت رئيس الديوان فلم يُجِب، وهتف هاتف من وراء حجاب: «ولكن ثمن الأمومة أغلى …»
… ودخل رئيس الديوان داره وأغلق بابه ليجلس بين زوجه وولده فيقص قصته، ومضت امرأةٌ على وجهها بائسة ذليلة لتدفع وحدها ثمن الأمومة الغالي!