الضيف الآخر
ودَّ توفيق لو يهجر المدينة وأهلها ويقطع صلته بالناس فترة من الزمان؛ فإنه ليجد لذة ويحسُّ أُنسًا أن يفارق هذه الصور التي يطالعها وتطالعه كل صباح ومساء؛ لقد أطافت به نوبةٌ من الضيق والملل حتى لا يلقى أهله إلا بوجه عابس وطلعة متجهمة، ودقَّ حسه حتى أصبح سريع التأثر قريب الانفعال، وكان في إجازة طويلة، والجو حار يهيج الأعصاب ويثير النفس ويبعث على السأم، وإنه ليعيش بين أهله ولكنه يشعر بالوحشة والانفراد؛ فلا طاقة له على البقاء في البيت ساعة من نهار، ولا يجد في النادي ما يسلِّي نفسه ويشغل فراغه؛ وقد هجره أصدقاؤه جميعًا إلى المصايف أو إلى بلادهم، وخلفوه ونفسه يصارع الهم والوهم والوحدة والألم …!
وتصورت في خياله القريةُ التي مسَّ ترابها جلده منذ ربع قرن، والتي لا يذكر — لبُعد العهد — متى هاجر أهله منها إلى المدينة؟ ولِمهْ …؟ لا شك أنه سيجد هناك من جِدة العيش وطرافته ما يحمل عن صدره أثقال الهموم، ويُهدي إلى نفسه الموحشة بعضَ الأُنس والهدوء والدعة.
وتراقصت أمام عينيه صورةٌ جذابة من حياة القرية ويُسر الحياة فيها بعيدًا عن أسر التقاليد وتكاليف الحضر، وحضرته ذكرياتٌ حلوة من زياراته القليلة لأخته في القرية، فذكر مجالسه مع شُبَّانها على حافة الساقية تحت شجرة التوت الغليظة تُساقط عليه ثمرًا شهيًّا، ورياضاته في جلبابه الفضفاض تحت المعطف الأبيض على شاطئ الترعة وبين الحقول، يتملَّى بجمال القرويات غاديات رائحات من الترعة وإليها أسرابًا أسرابًا يجررن الذيول ويحملن الجرار على رءوسهن ويهمسن بالغناء الساحر تسيل في نبراته الرقة والعذوبة والحنين. وذكر مجالس الأُنس والسمر في الليلة المقمرة على مصطبة الدار وحديثُ القرويين يتنقل في لذة وسحر بعيدًا عن التزويق والادِّعاء الفاخر … وزهته مظاهر التبجيل والاحترام التي تحيط به هناك!
وفي اليوم التالي كان القطار يغذُّ السير بتوفيق إلى القرية، وقد أشعل بين إصبعيه دخينة وسبح في أحلام لذيذة بهدوء القرية وسحر بناتها …
وتلقته أخته بالترحيب والعناق، وجلست إليه قليلًا تحدثه ويحدثها، ثم تركته لتهيئ له الطعام بيدها، طعامَ القرية الشهي الدسم اللذيذ. وتوافد عليه عارفوه وشبانُ أُسرته يحيُّونه ويتجاذبون وإياه أطراف الحديث، يقطعون بين فتراته بالتحية المكررة والسؤال عن الصحة والأحوال …!
وخرج معهم في العصر يطوف بأزقة القرية يتعرَّف الوجوه والأبنية، واخترق سبلًا وعرة بين الحفر وكومات السماد، وبيوتٍ متواضعة متقاربة كأنما تدانت للعناق! وانتهى به المطاف إلى دار له بها عهد؛ لأن صاحبها من ذوي قرابته؛ واجتمع لفيف من شبان القرية وشيوخها يبعثون التاريخ، ويتناولون أنباء القرية وحوادثها، وأنباء السياسة أيضًا؛ وإن لهم في السياسة لأحاديثَ لا تخلو من حكمة وبُعد نظر!
وأُعجب توفيق بحديثهم كما تُعجب بحديث الطفل؛ فأنصت إليه في لذة وأُنس، كما يستمع السائح المؤرخ إلى خرافيات دليله الجاهل عن سرِّ أبي الهول وأطياف وادي الملوك …!
وأديرت فناجين القهوة، وانعقدت في جو الغرفة سحائب الدخان، واشتدَّ الحر فأسال العرق على الجباه؛ وشعر توفيق أنه يكاد يختنق، وأن أعصابه تخونه، فهمَّ بالانصراف، ولكنهم ألحوا عليه أن يجلس فجلس.
وأخذوا في حديث الشياطين والجن، فراح كل واحد منهم يحدِّث بما سمع وما رأى، وتفننت عبقرية الجهل في اختراع القصص المروِّعة والروايات الغريبة، وطفقوا يعددون الشياطين بأسمائها وحوادثها وضحاياها … وأشار «الشيخ» بيده فأنصتوا ومالوا برءوسهم إليه، وقد أخذ شاربه يرقص وترتجف شفتاه في انفعال عصبي، وشرع يقص على الحاضرين قصة العفريت الذي كان يتسوَّر عليه البيت وهو شاب ليالي متتابعة، فيقاسمه طعامه وشرابه، وفراشه أيضًا، فلا ينصرف إلا مع أذان الفجر، والزنجيةِ الحسناء التي كانت تصحب العفريت ليالي، فتحتل موضعه من الفراش وتضطره أن يقضي الليل معقودة يداه خلف ظهره ورأسه بين ركبتيه إلى حائط الدار، ثم لا يفارقه العفريت وصاحبته قُبيل الصباح إلا بنفحة من دراهم أو عَصوين من نار تلهبان ظهره؛ جزاء رضاه أو سخطه على ما يصنعان …
وكان حديثًا غريبًا على الضيف، فحاول أن يُفلسف وينكر ويعلل، ولكنهم أنكروا منه ذلك، وطلبوا إليه التسليم أو يتعرض لغضب الشياطين وأذاهم؛ وكانت أعصابه مهيأة للتسليم فسكت. واستمروا يتحدثون …
وأحسَّ رعدةً خفيفة تتمشَّى في جسده، فسحب رجْليه في هدوء فدفنهما في أطراف ثيابه، وجمع يديه في حجره، ومال إلى المحدث يستمع إليه هادئًا منصتًا في شبه إيمان. لقد حطمت هذه الليلة الصاخبة أعصابه، وهاجت وساوسَ نفسه المريضة.
وانتهت السهرة، ولكن صاحبنا ظلَّ جامدًا في مكانه، لم يهم بالقيام حتى دعوه؛ فنهض كسلان متراخيًا يكاد يسقط من إعياء. وشيَّعوه إلى دار أخته وهو سارٍ بينهم يتعثَّر في أوهامه …
ووجد أهل البيت نيامًا فلم يبقَ ساهرًا في انتظار عودته إلا مصباحٌ ضئيل موقد في الردهة، يرقص لهبه على عزيف الهواء. وكان يعلم أنهم أعدُّوا له غرفة في الطبقة الثانية، فصعد في السُّلَّم بطيئًا متثاقلًا يتلفَّت بين الخُطا، والمصباح في يمينه. ودفع باب الغرفة بيسراه فسمع صوتًا يشبه أنين المستصرخ، فأدار ظهره في فزع ليرى مَن هناك، ولكنه لم يجد شيئًا؛ وعاد يدفع الباب، فسمع حشرجة خشنة، ثم ضحكة بشرية ناعمة …!
ووقف في وسط الغرفة يقلِّب بصره بين زواياها في رعب وفزع، وكانت به رغبة في التدخين، ولكنه لم يجرؤ أن يذهب إلى الغرفة الثانية — حيث أودع حقيبته — ليستحضر بعض التبغ. وخلع نعليه وهو جالس على حافة السرير ويداه ترتعشان، وأصواتٌ غريبة تتجاوب في أذنه فتفزعه وتسلبه الطمأنينة. ودفن نفسه في الفراش، واستلقى على ظهره وقلبه يدق دقات عنيفة، وكأن يدًا غليظة تقبض على عنقه، وأشباحًا خفية تُطيف به.
وكان يعلم أنه ليس فوق السطح غير أكداس من الحطب والوقود، ولكنه أحس دبيب أقدام، وسمع أصواتًا غريبة هامسة ليست من صوت البشر! أتُراه أغضب الشياطين فأرسلوا إليه عفريتًا ينتقم منه …؟
وضاقت أنفاسه، واضطرب فكره، واشتدَّ ضغط الوهم على صدره، وهمَّ أن يصرخ ويستنصر، ولكن صوته احتبس ولم يتحرك لسانه. وشُبه له أنه يرى شبحًا من الضباب في شكلٍ غير إنساني — وإن كان يمشي على رجْلين — ينسلُّ من النافذة مع ضوء القمر، ويشير إليه بالصمت في إنذار وتهديد …!
وسحب الغطاء يخفي عينيه في حركة آلية، لكنه أحسَّ شيئًا باردًا يلمس أطراف قدميه، فاستوى جالسًا وأفلتت منه صرخة مخنوقة، وتوارت الأشباح فلم يُبْصِرْ شيئًا، ولكن همهمة غير مفهومة، ودبيبًا وهمسًا، وأصواتًا غريبة، كانت تصكُّ أذنه من بعيد. واستلقى ثانية على الفراش وهو يحدِّق في الحائط الذي أمامه تحديق الخائف المذعور، فقد أبصر ظلًّا أسود مطبوعًا عليه، يحرِّك رأسه ويشير بيديه كأنه يتحدَّث إلى شخص بعيد؛ وودَّ توفيق أن ينظر وراءه ليرى ما هنالك، ولكنه خاف. واستمرَّ الهمس والدبيب يرنَّان في أذنيه، وتتراقص الرؤى والأشباح أمام عينيه، فلم ينمْ ليلته. وفي الصباح — مع أول خيط من ضوء النهار — كان جالسًا في فراشه يصفق بيديه في عنف يستدعي الخادم. ودخلت أخته تحيِّيه، فراعها ما رأت في وجنتيه من صفرة الخوف وإعياء السهر، فقالت له: «توفيق، ماذا بك؟»
– «لا شيء، ولكني مسافر اليوم فأعدِّي لي ركوبة إلى المحطة!»
– «مسافر؟ ولكنك عرَّفتني أمس أنك قد تمكث لدينا شهرًا، فلماذا غيرت رأيك؟»
– «لا شيء، لا شيء، قلت لك لا شيء! إن حقيبتي في الغرفة الثانية.»
وآلمتها لهجته فمطت شفتيها آسفة وخرجت تنفِّذ ما أمر به، ثم عادت تسأله: «حدثني يا توفيق، هل تألَّمت من شيء هنا؟»
– «لا، ولكني لم أخبر أمي أمس بأني مسافر، فأخشى أن يقلقها غيابي أو يؤلمها؛ لذلك سأعود.»
– «ليتك لم تحضر يا توفيق!» وانصرفت لبعض شأنها.
وحين تناول توفيق حقيبته من حيث وضعها أمس، أفلتت منها ورقة، فظنها سقطت منه ودسها في جيبه قبل أن يقرأها.
ولما جلس في القطار، وضع يده في جيبه ليُخرج شيئًا، فعثر بالورقة ونشرها بين أصابعه يقرؤها … وضحك توفيق وشاع في وجهه السرور حين عرف ما هناك؛ لقد كانت أخته تربي له ماعزة ولودًا، فكتبت له هذه الورقة أمس تخبره أن في ضيافة ماعزته فوق السطح جديًا فلا يفزعه دبيبهما، ريثما تردُّ الجدي إلى صاحبه في الصباح!
لقد خاف توفيق وفزع ليلته؛ لأنه كان يظن أنه وحده ضيف البيت …