إنه أخي …
كان المطر ينهمر، والريح العاصف تقذف قطرات الماء إلى وجوه المارة وثيابهم فتغمض عيونهم، وهم يسيرون على حَيد الطريق في حذر ورقبة؛ خشية أن تنزلق أقدامهم فيتدحرجوا في الوحل، والسيارات منطلقة براكبيها من ذوي اليسار والنعمة، تقذف عجلاتها رشاش الماء على جانبيها فيصيب وجوه الناس وثيابهم، لا يكادون يدفعون عن أنفسهم شيئًا مما تقذفهم به الأرض أو تنالهم به السماء!
وكان الليل في أوله …
وفي منعطفٍ يُفضي إلى أربعة بيوت في حي «شبرا»، كان فتًى دون الثلاثين واقفًا تحت السماء وقفة مرتقب وعيناه معلقتان بنافذة مغلقة، لا يُزيد على أن يرفع إليها عينيه حينًا وإلى الطريق العام حينًا آخر، وهو واقف، والساعات تمضي، والمطر ينهمر، والريح تلطم وجهه بقطرات الماء، وفي يده ورقةٌ مطوية …
وكان بوابو البيوت الأربعة مجتمعين وراء أحد الأبواب، وبين أيديهم نار يصطلونها وهم يسمرون، وكان لكل أسرة من سكان البيوت الأربعة حظ من حديثهم وسمرهم، وهل يجتمع مثل هؤلاء إلا لمثل ذلك … وكانوا في غفلة عن الفتى، والفتى عنهم في غفلة …
وطال الانتظار بالفتى، ونال منه البرد القارس، ونفذ الماء من ثيابه إلى جسده، وكان شعره الأشعث يقطر ماءً على جبينه، فلم ينتبه إلا من بعد إلى هذه الشرفة التي تُلقي ظلالها على جانب من الطريق، فأوى إلى ظلها يحتمي من المطر والريح في هذه الليلة الباردة …
… لولا ثيابه الحائلة، ونظراته الضارعة، وذلك الفتورُ في عينيه، وهذا الشحوبُ في وجنتيه، ولولا هذه اللحية التي لم يمسسها حدُّ الموسى منذ أيام، لحسبه من يراه عاشقًا قد أضله هواه فأخرجه في هذا الجو العاصف يرجو موعدًا أو يتزوَّد بنظرة … ولكن على وجهه سِمات لا يكون مثلها في وجوه العشاق … فما هذه الورقة المطوية في يده …؟ فلعله رسول …!
وأخذته عيون البوابين وهم في حلقتهم يصطلون ويسمرون، فتهامسوا وضحكوا، وأحسَّ الفتى وقْع نظراتهم، فاستحيا، ثم تغافل ولوى عنقه …
لم يكن ذلك موقفه الأول؛ فقد طالما وقف «عباس» هذا الموقف من قبلُ … ولطالما امتد به الانتظار في هذا المنعطف ساعات، حتى إذا ما انفتحت النافذة المرموقة أسرع إلى الباب وصَعِدَ، أو كتب ورقة في حاجته فبعث بها مع البواب …
من أجل ذلك كان مألوفًا لسكان الحي أن يروه في موقفه ذلك، وأن يسكتوا، لا يحاول واحد منهم أن يعرف ما وراء هذا الموقف من سر، ولكن واحدًا منهم كان يزعم أنه يعرف فأسرَّ النبأ إلى البوابين الثلاثة …
وكانت الهواجس تهجس في ضمائر سكان البيوت الأربعة، فلكل واحد منهم مع أهله حديث عن هذا الفتى الذي لا يزال يتردد على هذا المنعطف حينًا بعد حين، لأمر يزعم كل واحد منهم لنفسه أنه يعرفه، وإن لم يتفق اثنان منهم عليه ماذا يكون …
وتناثرت الإشاعات ثم اجتمعت، فإذا على ألسنة السكان جميعًا خبر واحد، هو أن للسيدة فلانة سرًّا تحاول أن تخفيه إلا عن هذا الفتى وعن بواب دارها …
… لو وقف عباس مثل هذا الموقف كلَّ يوم مرات في غير هذا المنعطف ما أحسَّ به أحد ولا سأل عن خبره سائل، كم فتى، وكم فتاة، وكم رجلًا، وكم امرأة يمشون كل يوم، ويقفون، ويتواعدون، ويتلاقون على أعين الناس في الشوارع الحافلة، ثم يودِّع بعضهم بعضًا ويمضي لوجهه، فلا يثير أحد منهم فضول عابر ولا يسأل عن خبره سائل، ولكن هنا، في هذا المنعطف الذي يغلق بابه على بيوت أربعة قد تعارف سكانها فردًا فردًا فلا يكاد يخفى على أحدهم خبرُ جاره؛ هنا في هذا المنعطف كان وقوف عباس مثارَ فضول ومَبْعَث ريبة …
ولم يكن عباس عاشقًا، ولا رسولًا، ولكنه أخو السيدة فلانة زوجة الطبيب فلان … هل يصدق أحد …؟ إنها الحقيقة!
هذه السيدة التي يراها من يراها في أُبهتها كأنها أميرة، أختُ هذا الفتى البائس الشريد الذي يقف كل يوم هذا الموقف ساعات، تحت المطر الهاطل، وفي مهبِّ الريح السافية، وفي أتون الشمس المحرقة، يترقب اللحظة المناسبة ليكتب إليها فيعود له البواب فيضع في يده بضعة دراهم، ثم يمضي؛ ليعود بعد يوم، أو بعد ساعات، فيقف موقفه يترقب، وفي يده ورقة مطوية …
ماذا كان عباس في أوليته؟ وماذا صار …؟
لقد نشأ في بيت رفيع العماد، عالي الذرا، ثم كان له ولأخته ما خلف أبوهما من ثروة ومال، وكان تلميذًا في المدرسة يوم مات أبوه، وكانت أخته مسماة على الفتى الذي صارت له من بعد …
وآلت ثروة أبيه جميعًا إليه، وإنها لثروة، وهجر الفتى مدرسته ومضى على وجهه يبيع اللذات ويشتريها، ونصب له الشيطان حبائله من الفراغ والشباب والمال …
وانتقلت أخته إلى دار زوجها، وخلَّفت قصر أبيها بما فيه، ولكن قصر أبيه كان أضيق من أن يتسع له، فأغلق بابه ومضى يتنقَّل بين أندية اللهو ومجالي الهوى ومسارح الشباب، وبسط يده على موائد الشرب والقمار، وتقاذفته الأقدار، قدرٌ يُفضي إلى قدر، وأغمض عينيه وسبح في أوهامه، وطارت به أمانيه ثم سقطت، وفتَّح عينيه فإذا هو وحيد شريد صفر اليدين من المال والصحاب …
وذكر أخته بعد سنين من القطيعة، فراح يشكو إليها، ودمعت عينا السيدة رثاءً لأخيها وشفقة عليه، ثم ذهبت إلى صوانها ففتحته وعادت له بما تملك.
وخرج الفتى من مجلس أخته برأس مال صالح لو أنه أراد … وكان يريد، ولكنه رأى أن يودِّع ماضيه بليلة ساهرة من ليالي الهوى والشباب، ثم يصبح …
وأصبح … وعاد كما بدأ …
واستمرت الكرة تتدحرج …
وعاد «عباس» إلى أخته بعد شهر، وقال لها وقالت له … ونهضت إلى صوانها، ولكنها عادت في هذه المرة ويدها فارغة. وعاد زوجها من عمله، والتقى الثلاثة لقاء الأهل بعد فراق طويل … وأسرَّت الزوجة حديثًا إلى زوجها، وباحت له بما باحت وكتمت عنه ما كتمت … وأخذ الثلاثة في حديث طويل …
… وقال الزوج لصهره: «… نعم، مِني المال وعليك العمل، إنها تجارة رابحة، وإنك بها لخليقٌ أن تبلغ الغنى في سنوات لو أنك حرصت …»
وتعاهدا على الإخلاص والصدق، ووثَّقا عَقد الشركة بالأيمان، ودفع الزوج المال وخرج عباس لأمره … ولكنه لم يَعُد …
لولا الشهامة والبقيا لكانت القاضية بين الزوجين، ولولا دموعُ السيدة … وهمَّ الطبيب أن يرفع أمره إلى القضاء، ثم سكت، وماذا يردُّ عليه القضاءُ من ماله وإن غريمه لمفلسٌ لا يجد رمقه …؟
وصبر على غيظ، وسكتت زوجته على حسرة وخزي وألم …
وضاقت بالفتى أيامه، فعاد يتذكر أخته، وسعى إلى بابها وسأل، وكان زوجها في الدار، فتوارى الفتى يترقَّب، وطوى ورقةً مكتوبة ودفعها إلى البواب … وصار هذا شأنهما من بعد …
وكان يقصدها كلما ضاق به أمره، ليس بين المرة والمرة إلا أيام، فتعطف عليه أخته وتُنِيله، ثم تقاربت مواعيده حتى صار له راتب مفروض في كل يوم … وبصر به الطبيب مرة وهو خارج فأغضى كأنْ لم يره، وتجرَّأ الفتى من بعدُ فاستعلن وراح يطرق الباب حين يشاء من ليلٍ أو نهار يطلب ما يطلب، وترادفتْ مطالبه …
وضاق صدر الزوج ونفد احتماله، فتصبَّر، ثم علم من شئون عباس ما لم يكن يعلم، فغضب لنفسه …
لقد يكون من المحتمل أن يلقى الرجل ذا حاجة فيدفع إليه بعض ما يستعين به، ولقد يؤْثره على نفسه بما يمنحه، ولكن مَن ذا تطيب نفسه بأن يكون ما يدفع إلى ذي حاجة من ماله وسيلةً إلى اللهو الحرام …؟
هكذا قال الطبيب لنفسه فثارت ثائرته، إنه يَشقى ما يشقى في تحصيل هذا المال ليسعد به وليُسعد غيره، لا لينفقه عباس على موائد الشراب والقمار!
وتحدَّث إلى زوجته بما في نفسه، وإن كلماته لترتجف من الغضب، واستمعت زوجته إليه مطرقة، ثم خلت إلى نفسها لتبكي …
ولم يكفَّ عباس ولم تحرمه أخته، وعاد الأمر بينها وبين أخيها سرًّا كما بدأ، واستمرأ المرعى فكشف الحجاب … وكان ما تنيله معروفًا ونافلة فعاد ضريبةً مفروضة، وتكررت مطالبه وكثر مطلوبه، وألحَّ إلحاح الجابي على مدينٍ مُماطل …!
وتعوَّد سكان الحي أن يروه كل يوم مرة أو مرات في موقفه ذاك ذليلًا ناكس الرأس وعيناه إلى النافذة، أو إلى الباب، حتى إذا أمكنته الفرصةُ وثب فكان على باب أخته، فحينًا يكون الأمر بينهما تشكيًا واعتذارًا، وحينًا يكون تهديدًا وصخبًا وضجة؛ وهمَّ بأخته مرة يحاول أن يضربها لتعطيه … تعطيه من مال زوجها ما يعينه على ثمن الشراب، وتكاليف الشباب، ثم يتركها لأحزانها ويمضي لهواه …
وضاقت به أخته كما ضاق به زوجها من قبل …
وقالت له مرة وفي عينيها دموع: «عباس، ليتني كنت أستطيع! ولكني لا أطيق أن أخون زوجي في ماله، وإني لأستطيع أن أعطيك ما تستعين به على العيش، ولكني لا أعطيك للشراب والقمار …!»
وضحك الفتى ساخرًا وقال: «الشراب والقمار …! تريدين أن تربيني …؟ إذن فأنتِ لا تمنعين المال عني للعجز والحاجة، ولكنك تحاولين تأديبي …!»
وبرقت عيناه وأطلت منهما نفس شريرة، فتراجعت أخته مذعورة تطلب الحماية في متاع الدار، ووثب عليها فصرخت، ثم خرج غاضبًا …
وطال حديث الناس عن السيدة المصونة، وقالوا ما قالوا، وتناولتها الريب والظنون؛ وبلغها ما يقول الناس فزادت همًّا على هم …
وأوصت البواب أن يرده إذا رآه وأن يحول بينها وبينه، وكانت في حال من الغضب خَيلت إليها أنها تستطيع أن تنسى أن لها أخًا …
… وجاء الفتى إلى موعده، وكان زوجها في الدار …
ذلك يومَ كان المطر ينهمر، والريح العاصف تلطم الوجوه بقطرات الماء، وعجلات السيارات في سرعتها تقذف رشاشها إلى وجوه الناس وثيابهم. وظل الفتى في موقفه ينتظر غفلةً ليصعد إلى أخته …
وكف المطر، وهدأت الريح، وانفتح الباب، وخرج الطبيب لبعض عمله، فتسلل عباس إلى الدار …
ومضت لحظاتٌ قبل أن يسمع البواب من يناديه، فصَعِدَ، وقالت السيدة في غضب وثورة: «ألم أطلب إليك … ألم آمرك أن تمنعه …؟»
وأطاع البواب فهمَّ بالفتى ليطرده، ونشبت معركة …
وبلغت الضجة آذان الناس في بيوتهم، وخُيل إلى بعضهم أنهم يسمعون استغاثة، واجتمع على باب الدار رجال … وشق الشرطيُّ طريقه إلى المعركة، ووضع يده في عنق الفتى، والبوابون الأربعة من ورائه يدفعونه بعنف، ولم تجد السيدة ما تقوله فتوارت معقولة اللسان …
وهبط الشرطي بالفتى إلى الشارع، وأحاط به الناس، وراح الفتى يحاول الخلاص صاخبًا حينًا وضارعًا حينًا آخر …
ورفع عينيه إلى النافذة فرآها تطل كاسفة ممتقة الوجه …
ورفع الناس عيونهم فرأوها، وقال البواب: «لقد أمرتني أن أدعو له الشرطة، إنه لا يكف عن مضايقتنا ليل نهار …!»
وقال الفتى بذلة: «اسألها يا سيدي، إنها … إنها لا تريد …»
وقالت السيدة وصوتها يقطر أسى: «دعوه …!»
وغضب من غضب من الرجال وثارت غيرته، وذهبت أنفسهم مذاهب من الريبة وسوء الظن، وأطل الفضولُ من نوافذ البيوت الأربعة … وتوقَّع الجيران أن يشهدوا فضيحة … وظنوا الظنون …
وعاد الفتى يتوسل، والبواب يتشدَّد، ويد الشرطي في عنق الفتى وعيناه إلى هناك … وعادت السيدة تقول في ضراعة: «دعوه، أرجو أن تتركه يا سيدي، إنه … إنه أخي …»
وأُغلقت النوافذ المفتوحة، وتوارت الرءوس المطلة، ومضى الشرطي والبواب بالفتى، وجلس الجيران يتهامسون. وكانت سيدة تجلس وراء النافذة وحدها، في وجهها أظفار دامية، وفي عينيها على الرجل الذي أدماها دموع …!