آخر الطريق
على الضفة اليمنى من «بحر شبين» كان يقوم القصر الأبيض، كما يسميه أهل القرية والقرى المجاورة، وهو بيت مبنيٌّ على طراز بيوت المدن، تفصل بينه وبين الطريق العام حديقة كبيرة تحنو على حوافيها أشجار ذات ظلال وأريج.
في هذا القصر كان يقيم «عبد الرحمن بك»، وهو ضابط من ضباط الجيش القدماء له ماضٍ مجيد ووقائع مشهورة، فلما أسنَّ وقَعد هجر المدينة إلى الريف الهادئ، فاتخذ له بيتًا ومزرعة، وأقام حيث بنى القصر الأبيض في عزٍّ وجاه ومَنَعة.
وكان له ولد واحد أتاه على حين كبرة وهَرَم، فنشأ في الريف نشأة أهله، وتشرَّب من طباعهم وعاداتهم المأثورة، فلما بلغ السابعة بعث به أبوه إلى المدينة، فشدا من العلم ما شدا، ثم عاد ليقيم بجانب أبيه ويقوم على شئون مزرعته.
لم يكن في القرية كلها، ولا في القرى المجاورة، فتى أعزُّ على أهله وعلى جيرانه من «عابد» ابن عبد الرحمن بك. وكان فتًى ريان العود، ناضر الشباب، فيه دماثة الحضريِّ المتبدِّي وشهامة القروي المتحضر، وإنه لوحيد أبيه وسيد أمره، وأبوه سيد القرية العزيز الممنع.
وكان عابد في السابعة عشرة من عمره حين التقى بأمينة عينًا لعين، فوقع من نفسها ووقعت من نفسه؛ وكان جالسًا في خُص إلى جانب من مزرعة أبيه حين مرت به لأول مرة فأتبعها عينيه مأخوذًا، ومضت على وجهها مغضية من حياء وهي تتمتم بالتحية. وابتدأ للحب تاريخ …
لم يكن أبو أمينة من ضباط الجيش القدماء؛ نعم، ولا كان له تاريخ ووقائع يباهي بها ويفتخر، ولا كان يملك قصرًا ومزرعة؛ ولكن أمينة على ذلك قد استطاعتْ أن تغلب الفتى على نفسه وتملك قياده …
ولما التقيا من بعدُ على غفلة من العيون في ظل شجرة الصفصاف، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، نظر إليها ونظرت إليه، وكانت شفتها تختلج وفي عينيها عَبرة، ودنا منها ومد إليها يدًا، وامتدت يداها إليه ترده، وهمستْ: «عابد …!» وكأنما همَّت أن تقول شيئًا ثم أمسكتْ، وبرقتْ قطرات الدمع بين أهدابها، وتحدثت عينان إلى عينين. وأرخى الليل سدوله وما تزال أمينة في مجلسها وما يزال عابد؛ ثم نهضا فاتخذا طريقهما إلى القرية صامتين، يتبادلان لمسةً باليد كلما همت أن تجتاز قناة في طريقها بين الحقول؛ يهمُّ أن يعينها وتهمُّ أن تستعينه؛ ثم افترقا قبل أن يبلغا أول أبيات القرية وما سألها ولا أجابتْ …
وأوت أمينة إلى منامتها بجانب أخيها الصغير في دار أبيها يراوح القلق بين جنبيها؛ واتخذ عابد مقعده إلى جانب النافذة في غرفته من القصر الأبيض، يسرِّح عينيه في الفضاء المظلم الذي يغلف دور القرويين ويلفها في صمت موحش؛ وأشرق الصبح وما تزال وما يزال!
كان عابد يعلم من نفسه ما يعلم الناس: أنه سيد نفسه، وأنه من المنزلة عند أبيه بحيث يحق له أن يتمنى وأن ينال ما يتمنى، ولكنه إلى ذلك كان يشعر في أعماقه أن القدر يتربص به ليحول بينه وبين أعز أمانيه. أتُراه يستطيع أن يقول ويكشف عن ذات نفسه؟ وماذا يقول أبوه ويقول الناس حين يصارحهم أنه يريد أن يتزوج أمينة؟
أمينة …؟! من تكون ومن يكون؟ هل هي إلا فتاة من فتيات يتمنين لو كنَّ من خدم القصر الأبيض؟ نعم، وإن أباها لواحد من عشرات يعيشون في ظل القصر الأبيض خَولًا وبطانة. إنه لسيدُ مَن يليه من الفلاحين ولكنه عبد سيده، وإنه ليملك دارًا وأفدنة كاسبة ولكنه مملوك؛ لأن القرية كلها ليس فيها إلا سيد واحد ومالك واحد …
كذلك كان عابد يفكر حين كانت أمينة راقدة في فراشها تفكر؛ وبكى الفتى حين تبيَّن موقفه، وتمنى لو كان واحدًا من سواد أهل القرية وله رأيه وإرادته ولم يكن السيدَ العاجز … وبكت الفتاة حين تبينت موقفها، ولكنها لم تتمنَّ شيئًا لأنها كانت عاجزة حتى عن التمني!
والتقيا ثانية، وقالت له وعيناها في عينيه: «سيدي …!»
وشدَّ على يديها فلم يدعها تُتم، وقال: «أمينة …! ناديني باسمي يا حبيبتي؛ لست سيدك اليوم، وإنك …»
ومال رأس على كتف، وامتزج الدمع بالدمع، وتروَّت الشفاه الظمأى، وتلاحقت الأنفاس المبهورة، وهمَّت أن تقول، وهمَّ أن يُجيب، وماتت الكلمات على شفاهٍ ترتجف، وتساءل قلب وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبَّت نسمة ندية فالتقى غصنان ثم افترقا، وتهامست زهرتان ثم أمسكتا، وأطلت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، ثم ازدحمت أعين النجوم على فتوق السحاب تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر، وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل ثم عاد فاستتر؛ وكان على الغصن قمرية تغني، وكان غناؤها خفقاتِ قلبين يتهامسان!
… وقام يودِّعها وقامت، وأتبعها عينيه حتى واراها الظلام، ثم قفل وفي قلبه نجوى وفي عينيه بريق وعلى شفتيه مذاق وفي أذنيه رنين!
وتتابعت لياليهما حافلة بأسباب الهناء والمسرة في غفلة العيون، لم يطَّلع على سرهما أحد إلا النجم والزهر وغِريدة الشجر، وطابت له الحياة وطابت لها، لولا حديثٌ بينه وبين نفسه يؤرِّقه كلما جنَّ الليل، ولولا وساوسها!
وأجمع رأيه على أمر … وكأنما كان المسكين يتعجَّل آخرة هنائه حين بدا له أن يكشف صدره لأمه ويستعينها …
وقالت أمه وفي عينيها دهشة وفي وجهها غضب: «أمينة …؟! أفأنت لمثلها يا عابد …؟»
وهتف الفتى في يأس: «أمي …!»
ولكن أمه لم تُجِبه وأجابه أبوه … هل رأيت قط قائدًا في هيئته العسكرية قافلًا من معركة بنصف جنوده …؟ كذلك كان موقف أبيه منه في ذلك اليوم!
وطأطأ الفتى رأسه يستمع إلى أبيه يحكم عليه باليأس والحرمان، ثم سقط على كرسيه باكيًا ومضى أبوه إلى غرفته.
لم يلتقِ عابد وأمينة منذ اليوم، وافترقا بلا وداع وما افترقا قبلها إلا على ميعاد؛ ولزم الفتى غرفته مطويًّا على آلامه، لا يرى أحدًا ولا يراه أحد، على حين كان ثلاثة نفر يعنيهم من أمره ما يشغلهم ليلَ نهار …
… أما واحدة فكان لها كل يوم مَغدى ومَرَاح في مواعيد راتبة إلى شجرة الصفصاف القائمة على حافة الغدير، تتروح عندها رَوحَ الماضي في خفقة الغصن ورفة الزهر وأرج النسيم، ثم تَروح وحيدةً دامعة العين …!
… وأما اثنان فرجل وامرأة في خريف الحياة يتشاوران في أمر وحيدهما الذي يوشك أن يُضله الحب عن رشاده فيهوي إلى عار الأبد!
أربعة أشقياء لو شاءوا لاستقامت لهم الحياة واستقاموا لها فسعدوا، وضعتهم التقاليدُ بين شِقيْ رَحًى طحون توشك أن تحطمهم حطمةَ الموت فلا نجاة!
وضاق الفتى بنفسه وضاقت به نفسه، ولم يُطق الصبرَ بعدُ، فأجمع أن يكون سيدَ نفسه فلا يستمع إلى قول أحد، وأزمع العصيان …
وذات صباح، التقى عابد وأمينة على ميعاد في القرية القائمة على الضفة الثانية من النهر، وكان ثمةَ فتيان من أصدقاء عابد ينتظران مقدم الفتى وفتاته وقد أعدَّا عدتهما لأمر …
وفي المساء عاد الفتى إلى قريته وعادت الفتاة، وقد اتخذ كل منهما طريقًا غير الطريق التي سلكها صاحبه، فكأنْ لم يلتقيا ولم يتراءيا وجهًا لوجه، وإنهما لمجتمعان رأيًا إلى رأي وقلبًا إلى قلب، وقد وثَّقتْ ما بينهما منذ اليوم آصرةٌ جديدة لا سبيل إلى انفصامها؛ فقد أصبح عابد وأمينة زوجين وشهد الشاهدان … ولم يدرِ أبوه ولم تدرِ أمه …!
وقسَّم الفتى أوقاته، فلأمينة نصف نهاره ونصف ليله، يتناجيان ويتشاكيان ويتمنيان المنى؛ ولأبيه وأمه ما بقي من أيامه ولياليه، فارغة من البشاشة، خاليةً من الأُنس والمسرة!
ومضتْ أشهر قبل أن يحدس أبوه أن في الأمر سرًّا فيستدعيه إليه متحببًا ليستلَّ خبيئة صدره، وخُيل إلى الفتى أن أباه قد بلغه النبأ؛ فاستعلن بسره وهتك الستر المسدل بينه وبين الحقيقة، ولو شاء لبقي الحجاب مسدلًا لا تنفذ من ورائه عينان!
وتهالك أبوه في مقعده وطأطأ رأسه، وجاشت نفسه بآلامه، وتحيرت دمعتان في عيني الرجل الذي لم يبكِ قط؛ ووقف الفتى رافع الرأس وفي عينيه بريق الإرادة الصارمة، ونظرت إليه أمه فأطالت النظر ثم هتفت في ضراعة: «عابد!»
وظل الفتى صامتًا لا تطرف عيناه، فلو أن القدر كان يتحدث بلسان أمه حين تحدثتْ لَمَا استطاعت أن تحمله على رأي جديد!
وبلعتْ أمه ريقها وابتسمت، وأشرقت في وجهها مسحة هدوء ظاهر، ثم أردفتْ: «أجادٌّ أنتَ فيما تقول يا عابد …؟»
وضحك الفتى ساخرًا، وأجاب: «نعم، وقد كان ما لا سبيل إلى دفعه بعد!»
ووقفت الأم، ثم تقدمت في خطوات ثابتة حتى وضعت يدها على كتفه، وقالت في لهجة الأمر والثقة: «قد كان ذلك حقك يا عابد لو أن الأمر على ما ظننت … ولكنك لن تفعل …!»
وابتعد الفتى مغضبًا وهو يقول: «بل قد فعلتُ، وإنها لزوجتي ولو …»
وقاطعته قائلة: «… ولو كانت أختك …!»
وسكت عابد، وجحظت عيناه مدهوشًا؛ واسترسلت أمه: «… بلى، إنها أختك يا عابد؛ لقد رضعتما من ثدي واحدة دهرًا طويلًا يا بني من طفولتك؛ أتُراك تريد أن تتزوج أختك يا عابد …؟»
ودار رأس الفتى وأوشك أن يسقط، وتهاوى على كرسيه لا يكاد يعي، وغشي عينيه الدمع …
وبدأ منذ اليوم تاريخ جديد. أما الفتى فراح يعالج نفسه بالصمت والوحدة لعله أن ينسى، ولكن صورتها ما برحتْ تتخايل لعينيه في فنون وألوان. لقد استطاع أن يقهر نفسه على السلوان ويسومها الرضا، ولكنه لم يستطع أن يتصامَّ عن تأنيب الضمير ووخز الندم، كلما تذكَّر أن أمينة أخته، وأنه نال منها ما لا ينال الأخ من أخته وترك لها خزي الدهر وعار الأبد، فلا كان لها منه حفاظ الأخ ولا وفاء الحبيب …!
… هذا واحد؛ وأما الأب والأم فراحا يدبِّران أمرهما قبل أن ينتقض غزْلهما، وإنهما ليحسان حينًا بعد حين آلامًا مُرة من قسوة ما نال وحيدهما العزيز المرجو؛ فذهبا يُعدان العدة لتزويجه قبل أن ينتكس ويعاوده مرضه …!
… وأما هي … وأما هي فكانت بين مَغْداها ومَرَاحها كل يوم إلى شجرة الصفصاف ما تزال تأمل أملًا، أملًا يلوح ويخفى كما يتراءى القمر بين قطع السحاب ثم يتوارى، ولكنه أمل يمسك عليها نفسها … وبلغها النبأ أخيرًا، وعرفت أن فتاها يوشك أن يتخذ له أهله زوجةً ثانيةً، وارتكضتْ أحشاؤها تنبئها نبأً آخر …
وانتهت آمالها إلى فكرة واحدة، هي أن يظل أمرها وأمر صاحبها سرًّا مكتومًا فلا يطَّلع على غيبهما أحد؛ فما كان لها أن ترضى بأن تقف في سبيل سعادته وإنها لتهواه؛ ولكن من أين لها …؟ من أين لها أن تُخفي خبيئة بطنها إن استطاعت أن تُخفي خبيئة صدرها …؟ آه …! ألِمثل هذه الخاتمة الأليمة كانت تلك البداية السعيدة …؟
وتخيلتْ ما تخيلتْ من أمرها في غدٍ، فاستراحت نفسها إلى كل ما ينالها في ذات نفسها، ولكنها لم تُطقْ أن تتخيل حبيبها مضغة الأفواه وسخرية الشفاه!
وتمثَّلت أباها الشيخ وأخاها الصغير، أفتُراهما يصدِّقان أنها زوجه وأنه لم يَنل منها في مأثم؟ فكيف أذنتْ لنفسها في ذلك على غير علم منهما ولا إرادة …؟
وتوزعتها الأفكار وتنازعتها نوازع الخير والشر، ولكن فكرة واحدة ظلت ماثلة في نفسها تعصمها من الطيش والضلال: هي أن تُجنب حبيبها كلَّ ما يكدر عيشه أو ينغِّص عليه مسراته الباقية …!
وكانت القرية ساطعة الأنوار احتفالًا بعرس عابد، حين كانت أمينة تدرع الظلماء في طريق لا تعرف لها غاية!
وأصبحت القرية بعد ليلة ساهرة تبحث عن أمينة فلم يُعرف لها خبر؛ ولكن سرها ظل مكتومًا كما أرادت فلم يطَّلع عليه أحد؛ لأن الثلاثة الذين يعرفونه لم يكن يسُرهم أن يعرفه أحد!
وراح أبوها وذوو قرابتها يتقصَّصُون الخبر ويتتبعون الأثر، فلم يبلغوا إلى غاية؛ وذهب الناس في الحدس مذاهب، ولكن أحدًا منهم لم يبلغ من سوء الظن أن يتهم أمينة تهمة تنال من شرفها؛ إذ كانت عندهم فوق الظنون والريب؛ فاتهموا بها وَحشَ الفلاة وموج البحر ولم يتهموها؛ وأقاموا لها مأتمًا وقرءوا القرآن!
وسمع عابد النبأ فخمَّن ما كان، وأقام مأتمها في قلبه ولم يزل صدى أغاني العرس في أذنيه!
لم يسعد عابد بزواجه كما رجا أهله، ولم ينسَ؛ وعاش كما قُدر له أن يعيش: بين حطام الأمل ولوعة الذكرى ولذع الندم، وصباح ومساء، ونجم ينير ونجم يغور، والحياة هي الحياة، إلا ما تُجدُّ له الذكرى من الألم وعذاب القلب ووخز الضمير!
ومضت بضع عشرة سنة، ولم يزل عابد كعهده يوم كان؛ لم يغيِّره الشيب الباكر شيئًا ولم تقوَ الأيام أن تمحو آلامه. على أنه اليوم يعيش سيدَ نفسه في القصر الأبيض؛ فقد آل إليه القصر والمزرعة بعد وفاة أبيه وأمه، وعقمتْ زوجه فلم تقدر أن تمنحه الولد، كما عقمت من قبل فلم تقدر أن تمنحه الحب؛ وعاش وعاشت كما يعيش الضيفُ في غير أهله، فليس بينهما شابكةٌ من حب تُخفف عنه، ولا رابطة من أمل تُقربها إليه؛ فلولا هذه الخادمة الصغيرة التي ترعاه وتلبِّي نداءه وتبسم له، لكانت حياته جحيمًا لا طاقة عليها ولا صبر معها. وقد جاء بهذه الخادم إلى القصر الأبيض بعضُ أصحاب عابد القدماء من فتيان القرية، يسأله أن يستخدمها ويؤويها؛ ومنذ ذلك اليوم اصطفاها عابد لخدمته الخاصة، فليس لها من عمل في القصر إلا خدمته والترويح عنه، وليس لأحد غيره عليها من حق.
وأحلَّ عابدٌ خادمته الجديدة «زهيرة» محلًّا من الكرامة لا يحل مثله الخدم في بيوت السادة؛ فقد أحس في نفسه منذ رآها عاطفةً تفرض عليه نوعًا من الرقة في معاملتها، ورأى في عينيها بريقًا من الإخلاص يقتضيه لها نصيبًا من الرعاية؛ وكانت صموتًا مطيعة لا تسبق إلى عمل في غير وقته ولا تؤخِّرُه، وكأنما صنعتْ لها روحها ابتسامتها الدائمة فلا تُرى إلا ضاحكة السن، تطل من عينيها نفسٌ راضية تنشر حولها جوًّا من الطمأنينة والسعادة.
لم يكن ذلك إحساس عابد وحده حين ينظر إلى زهيرة، ولكنه كان شعور الكافة من أصدقائه القليلين الذين يزورونه في قصره. على أنها كانت إلى جانب ما تتمتع به من الحظوة عند سيدها ومن شعور العطف عند أصدقائه تحسُّ شيئًا من الألم لسوء ما تعاملها به سيدتها، فلم تكن تلقاها إلا عابسة أو صاخبة، ولم تكن حالها مع سائر الخدم في القصر خيرًا من حالها مع سيدتها، فقد كانت عندهن في موضع التهمة في أمانتها؛ فكثيرًا ما اختفتْ أشياء من أشياء سيدها لم تكن تبلغ إليها يد غير يدها؛ ولكن سيدها كان من حُسن الظن بها بحيث يتأتى لها أن تمد يدها إلى ما تشاء من ماله؛ فكيف يتهمها بمنديل، أو خاتم، أو صورة تختفي، أو زجاجة عطر …؟
بمثل هذا كانت تتهمها خادمات القصر، ولو شئن لاتهمنها تهمةً أخرى يبلغن بها الرضا من نفس سيدتهن الغيور …!
وبلغتْ زهيرة سن الشباب، ونضجت أنوثتها، وكان لها جمال خَلْق إلى جمال الخُلق وطيب المعاشرة. وبلغت الجفوة بينها وبين سيدتها حدًّا بعيدًا، فلولا الكبرياء لصرختْ في وجهها المرأة العقيم: «لماذا أنتِ هنا يا فاجرة …!» ولكنها كانت تصطنع كل يوم سببًا غير السبب الحقيقي لتنشئ بينها وبين الخادم معركة …!
وأخفتْ زهيرة عن سيدها كلَّ ما تحسُّ به من الإذلال والمهانة في غيبته!
ثم كان صباح، ودخلت زهيرة مخدع سيدها توقظه وتقرِّب إليه فطوره، وأبطأت في غرفته قليلًا ثم خرجت لشأن من شأن الخدم، واستقبلتها سيدتها بالباب مَغيظة، ونشبت معركة، وانهالت على الخادم اللطماتُ والشتائم!
ووثب عابد عن فراشه وخرج إليهما يستنبئ النبأ، وصكت مسمعيه عبارةٌ نابية، وسمع بأذنيه التهمةَ التي تناله وتنال الفتاةَ في وقتٍ معًا، وعرف أين تبلغ الغيرة من قلب المرأة التي لم تُرزق نعمةَ الحب … وثارت ثائرته!
ونظرت الفتاة إلى وراء فأبصرتْ سيدها، فانبجست من عينيها الدموع وعلا نحيبها وأوشكت أن تسقط، وتناولها عابد بين يديه فألقت رأسها على صدره وهي تنتفض … وطار طائر الحلم عن رءوس ثلاثة …
… أما الرجل فكان من ثورة الغضب بحيث يوشك أن يسفك دمًا … لقد سمع بأذنيه التهمة التي تناله في عِرضه وإنه ليعرف نفسه …
… وأما المرأة فقد أصبح ظنها يقينًا حين أبصرتْ فتاةً بين ذراعيْ رجلٍ قد احمرتْ عيناه واختلجت أصابعه …
… وأما الفتاة فقد نسيتْ أين هي بين الرجل وزوجه، فتتابعتْ أنفاسها مبهورة تحاول أن تُلقي في وجه المرأة التي تتهمها في عِرضها بالكلمة التي لا يثبت لها جنانُ امرأة حين تسمعها …!
ووقف الخدم ينظرن ويسمعن ويتوقعن أن يشهدن فضيحة!
وقالت المرأة إلى زوجها وقد اجتمع في صوتها قسوةُ البغض وعنف الغيرة إلى ضعف الأنوثة: «كذلك تفعل على أعيننا جميعًا ولا تستحيي …! هذه الفاجرة، لا تجمعني وإياها دار …!»
وعلا نشيج الفتاة وهمَّت أن تتكلم، وزادت لصوقًا بصدر الرجل … ونظر إليها عابد نظرة جمعتْ له الزمان في لحظة فِكر، وكأنما خُيل إليه من ماضيه صورة، وتتابعت الذكريات على عينيه يمد بعضها بعضًا، ورجع القهقرى إلى ماضيه؛ وتمثلت لعينيه فتاةٌ كانت له يومًا وكان لها ثم افترقا، ولم يكن لها ذنب إلا أنها من طبقةٍ غير طبقة السادة، وكفَّرتْ راضيةً عن ذنبها وعن ذنبه ومضت من وجهه، لتدع له أن يستمتع بالحياة على ما يشاء …
… وهذه فتاةٌ أخرى، كل ذنبها أنها من طبقةٍ غير طبقة السادة، وأنها استحقتْ عطفه؛ يراد أن يطردها لتمضي على وجهها وتدع لامرأة أخرى أن تستمتع بالحياة على ما تشاء …
وأراح على كتف الفتاة يدًا ترتجف وقال في هدوء: «لا تراعي يا فتاة … إن كان لا بد أن تذهب واحدة فلتبقيْ أنتِ …!»
وتخلصت الفتاة من بين يديه ورفعتْ إليه عينين ضارعتين يبرق فيهما الدمع، ثم أطرقتْ وأرسلتْ عينيها؛ واستدار الرجل يريد أن يأوي إلى غرفته، واستوقفته الفتاة: «سيدي …!»
وعاد إليها، فأردفتْ: «إنني ذاهبةٌ لأمي …!»
– «أمك …؟»
– «نعم …!»
– «لم أكن أعلم قبل اليوم أن لك أُمًّا …!»
– «ولا أبًا …!»
قالتها الفتاة وعلى شفتيها ابتسامةٌ كاسفة وأرخت أهدابها في انكسار ومذلة!
وابتسمتِ الزوجة في كبرياء وسخرية وهي تستمع إلى ما يدور بين الرجل وفتاته من حديث.
قال عابد: «ولكنك لم تخبريني من قبل …!»
– «كذلك علمتني أمي؛ لقد كان حسبُها أن تعيش ابنتها في دارك، لتراك صباح مساء وتسمع منك، فتحدث أمها عنك كلما لقيتها، فكأنْ قد رأتْ أمُّها وقد سَمعت …!»
وخنقتها دموعها فأمسكتْ، وعاد جسدها ينتفض، وغامتْ على عيني الرجل ضبابة، وخُيل إليه أنه لم يسمع شيئًا مما ألقي إليه ولم يفهم، ثم خُيل إليه كأنْ قد سمع أكثر مما قيلَ، وفهم. وكأنما أخذته غفوة وهو يقظان، وتراءت له صور غير ما يرى، وتكاثفتْ على عينيه الضبابةُ فحالتْ بينه وبين ما يرى من الأشياء الماثلة، وأخذه دُوار، وتخاذلتْ ركبتاه وهمَّ أن يسقط، وأسرعتْ إليه زوجه في ذُعر تحاول أن تسنده، وهتفت الفتاة مرتاعة: «أبي …!»
وشهق الرجل شهقة ردَّته إلى الحياة لحظة، وبرق في وجه الفتاة، وتراخت ذراعا المرأة التي تسنده، فَهوى … ثم استفاق!
إذن فهي ابنته …! وعرف كلٌّ من السيدة والفتاة أين هي من صاحبتها على التحديد وأين هي من سيد هذا القصر …!
وفي كوخ منفرد على حدود العمران، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، كان اثنان جالسين يتحدثان في همس، وثمة فتاةٌ على مقربة تُصغي إليهما في شوق ولهفة، تحاول أن تعرف قصةً بدأتْ قبل أن تُولد ولم تنتهِ إلى نهايتها بعدُ …
… وقال عابد: «إذن فلم تُرضعني أمك كما زعموا؟»
قالت أمينة: «ومن أين لها وقد ماتت أمي قبل أن يُبنى القصر الأبيض؟ ومن أين لك؟ لقد خلفتني أمي قبل أن أُتم الرضاع فلم ألقم بعدها ثديًا قط؛ وجاءت بك سيدتي وأنت غلام تسابق الفراش بين نوار الحقل، وكنتُ أدعوك سيدي!»
فابتسم عابد وقال: «ولكنك لن تَدعيني بهذا الاسم!»
ومال رأس على كتف، وامتزج دمع بدمع، وتروتْ شفاه ظمأى، وتلاحقتْ أنفاس مبهورة، وهمَّت أن تقول، وهمَّ أن يُجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلبٌ وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبَّتْ نسمة ندية فالتقى غصنان، وتهامست زهرتان، وأطلت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، ثم ازدحمت أعين النجوم على فتوق الخباء تنظر، ثم انقشع السحاب وبرز القمر، وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل …
واتخذا طريقهما إلى شجرة الصفصاف يجددان العهد ويبعثان الذكرى، ومشيا صامتين يتبعهما ظلهما ويتبادلان لمسة باليد كلما همَّتْ أن تجتاز قناةً في طريقهما بين الحقول، يهم أن يعينها وتهم أن تستعينه؛ وعاد الماضي كما بدأ، وتعاهدا لا يفترقان في هذه المرة حتى يبلغا آخر الطريق، وعادت البهجة إلى القصر الأبيض ورفَّ النورُ من شرفاته!