جندي مرابط
«راجح! حبيبي! أرجوك … إن العدوَّ لا يرحم ولا يعفو؛ فلا تَرمِ بنفسك إليه … احرص على حياتك من أجلي يا حبيبي. عِشْ لي، أوْ لا، فاقتلني وأسدِل بيديك أجفاني قبل أن أرى فيك مثل مصارع أهلي وأهلك يا راجح!»
كانت «بدرية» تتحدث إلى فتاها وقد أمسكتْ بكلتا يديه، ورفعتْ إليه عينين مخضلَّتين بالدمع، وفي صوتها نبرة يأس وأسًى. كانت موقنة بأنه لن يستمع إليها، ولن يجيب، ولكن جذوة الحب التي تَؤجُّ في صدرها كانت تبعث في نفسها أثارةً من الرجاء.
واستمع إليها الفتى صامتًا وفي قلبه عواطف تصطرع، وفي رأسه خواطر تموج وتتدافع، وأوشك أن ينتكث عزمه حين التقت عيناه بعينيها الدامعتين، وأحسَّ شدَّ يديها على يديه كأنما تخشى أن يفرَّ إلى أجله قبل أن تُلقي إليه كلمة الوداع!
وبرز القمر من خلل أعذاق النخيل فألقى شعاعه على وجه الفتى والفتاة جالسين مجلسهما على مقربة من مضارب الحي، وقد سكن كل شيء منهما ومما حولهما، إلا قلبًا يَجفُّ وأنفاسًا تتردَّد …
وثابت إلى الفتى نفسه حين أذكرته صاحبته مصارعَ أهلها وأهله. لقد كان موشكًا أن يخور وتَضعُف عزيمته، ولكن ذكرى ما أصاب أهلها وأهله ووطنه … قد ردته إلى الرأي فاستعصم، وأفلَتَ من يَديْ صاحبته ووقف، وهتف: «نعم، ولكن دم آبائي يا بدرية، ودم أبيكِ، وشرف الوطن … كل أولئك يناديني، لقد أقسمت أن أنتقم أو أموت، وسأنتقم أو أموت … ويومئذ ألقى آبائي وآباءك، رافع الرأس فخورًا بما بذلتُ لأهلي ووطني، من دمي …»
وراح يدبُّ على رمال الصحراء، تحت ضوء القمر، وبندقيته على كتفه، لم يحاول أن ينظر إلى وراء فيودِّع الفتاة التي كان كلَّ شيء في دنياها وكانت، ومضى ليجيب داعي الوطن.
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، حين زحفت جنود إيطاليا من مربضها الذي ترابط فيه منذ سنوات على ساحل برقة، تحاول أن تبسط سلطانها على الجنوب كما بسطته على الشمال؛ لتعيد — فيما زعمتْ — إمبراطورية الرومان في جوف الصحراء، وتنشئ لها عرشًا من جريد النخل في ظلال أغصان الزيتون …
واصطرعت قوتان؛ أما إحداهما فتملك الحديد والنار وفي يدها السيف والذهب، وأما الأخرى فكانت تملك الإيمان بحق كل أمة من خلق الله في أن تحيا حياة كريمة على الأرض التي أنبتها الله فيها وأنبت آباءها وآباءهم من قبلُ على تسلسل الأجيال وتعاقب القرون …
… والتقى الجمعان، وترامى الفريقان بنبالهما، وسال الدم، وعقد الدخان ضبابةً سوداء فوق رءوس العسكرين، ودارت رحى المنون.
وانتبه راجح وبدرية ذات يوم من سكرتهما، فإذا هما وحيدان بين الأطلال الدارسة، فقد فقدت الفتاة أباها وعمها، وفقد الفتى عمه وأباه، وأقسم راجح من يومئذ قسمه وأبرم عزمه، لم يثنه عما أراد تشبث الفتاة به ولم يجدِ عليها …
ومضى الفتى لشأنه وخلَّف الفتاة في الحي تنتظر مآبه.
لم تهدأ ثائرة البادية يومًا، على حين قد خُيل للفاتح المغير أنه قد غَلب وتسلط، فإن جمرات تحت الضلوع لم تزل تبصُّ بصيصها حينًا بعد حين ثم تختفي، ولكنها لا تخبو.
وقاد راجح فرقته الصغيرة فمضى بها حتى أوى إلى غار في طريق الرائد والسابل والقافل، يتربَّص على حذر ورقبة، فما يمر به وليٌّ ولا عدوٌّ إلا برز له فعرَّفه نفسه وغايته وخيَّره بين عاقبتيه …
واستشرى أمرُ الفتى وقويَ سلطانه وعزَّ جنده، ووفدت إليه الوفود من أبناء البدو وأفلاذ الصحراء مذعنين لأمره مطيعين، وعقدوا له اللواء. وحار الأعداء حيرتهم فما عرفوا سبيلًا إليه ولا منجاةً منه، وإن لهم العدد والقوة والعتاد.
وترامت أخبار الفتى إلى فتاته، فرفعت عينيها إلى السماء تدعو الله مشفقة راجية.
وبث العدوُّ سراياه بين الكهوف والوديان يطلب أثره ويلتمس غِرته، وراحت الدبابات الإيطالية تطأ الأخبية وتجوس خلال الديار، وحلَّقت الطائرات تقذف اللهب وترمي بالصواعق، ومضت الكتائب المكتبة تحاصر القرى وتقطع الطريق؛ وانكشف المخبأ، ونشبت المعركة في ضوء الصبح، وكان ما لا بد أن يكون، وأمعن العدو قتلًا ومُثلةً حتى بلغ مبلغه، وتبدد الجيش الصغير الباسل وتقسمته بطونُ الأرض أشلاءً وجماجم … وعادت طائرات الجيش الظافر تحلِّق في سماوات القرى المغلوبة وترسل إليها التحيةَ قذائفَ من جماجم بنيها الشهداء …!
ولبس الحدادَ شعبٌ بأسره، وأحدَّتْ بدرية على فتاها كما أحدَّتْ على أبيها وعمها من قبل …
وفي بيت من الشعر إلى جانب الصحراء في شرق الإسكندرية، رأيتُ بدرية منذ بضع سنين …
كنت أصطاف يومئذ هناك، وكان بيتها على مقربة من داري، فإنها لتغدو عليَّ وتروح كل يوم لحاجتها بين البيت والسوق، فأراها …
لم أكن أعرف شيئًا عن ماضيها، ولم يحدثني أحد بخَبَرها، وإنها لواحدة من كثيرات من الأعراب المهاجرين من برقة قد ضربوا خيامهم هناك. ولكن مَرآها مع ذلك كان يثير في نفسي فضولًا عجيبًا، فما أكاد ألحظها قادمة من بعيد حتى تطيف بي خواطرُ وأسئلة لا أجد في نفسي جوابها، فأتبعها عينيَّ حتى تغيب …
كانت بزيها البدوي، وعينيها الساهمتين، وشفتيها المطبقتين أبدًا على ابتسامتها العابسة تمثالًا صامتًا يرمز إلى أبلغ معاني الوحشة واليأس والحرمان، حتى لا يكاد يملك من يراها إلا أن يتخشَّع ويصمت. وكان لها جمال، وفي سهوم عينيها سحر، وعلى جبينها طهر يتألَّق. وعلى أنها — فيما تبدو لمن يراها — قد جاوزت الأربعين، فقد كان لها روح الطفل وخفته …
وتكرر اصطيافي سنين عند هذا الساحل، وتعودتُ أن أراها، حتى لأفتقدها حين تغيب … وعرفتُ خبرها من بعد، فأعظمتُ وفاءها ورثيتُ لها.
لقد مضت بضع عشرة سنة منذ تلك الليلة التي خلَّفها فيها راجح ومضى لأمره يحاول أن يثأر لأبيه وأبيها ويستنقذ وطنه، ولكنها على كرِّ السنين لم تزل كأنها منه على ميعاد، وكأنما كان ما كان منذ ليالٍ، لم يزدها تعاقب السنين واختلاف الزمان وفراقُ الوطن إلا وفاءً لذكراه.
وجلتْ عن أرضها مُكرهةً فيمن جلا من عمومتها وبني أبيها، ولكن قلبها بقي هناك، حيث وقفتْ لآخر مرة تُتبعه عينيها وهو ماضٍ تَلفه رياحُ الصحراء في الليل القرِّ.
وغنيتْ بذكراه عن الأمل في لقياه منذ جاءها النبأ الفاجع، ونذرتْ نفسها للوفاء بعهده، فلم تتزوَّج ولم تخلع الحداد.
ونسيتْ ما كان من ماضيها ومن أيامها، إلا صورته وذكراه، وتأيمت العذراء ولما تخلع أبراد الشباب!
وكانت بدرية في فراشها ذات مساء من سنة ١٩٤٠، حين دَوتْ زمارة الإنذار بغارة إيطالية لأول مرة في الإسكندرية، تنذر أهل المدينة ليأخذوا أهبتهم للوقاية … وأشرق الصبح وقد هجر المدينةَ نصفُ أهلها فرارًا بأنفسهم من الموت. وحملتْ بدرية متاعها ومضت مع الناس تلتمس سبيلًا إلى النجاة.
يا رحمة الله للمسكينة مما يطاردها من أحداث الزمن!
وأعياها المسير، فحطَّتْ متاعها عن كاهلها وجلست تستريح على حَيدِ الطريق، ومر بها فوج من الجند فمدت عينيها تنظر …
لم يكن هؤلاء الجند من المصريين، نعم، ولم يكونوا من الإنجليز، ولكنهم طائفة من بدو الصحراء قد اتخذوا شعار الجندية واصطنعوا نظامها، وعليهم شارة الجند المحاربين …
ونظرت بدرية، فعرفتْ، فهتفتْ …
ولكن هتافها تلاشى في ضجة الناس وزحمة الطريق، ومضت تعدو في آثارهم وتركتْ متاعها تتقاذفه أقدامُ السابلة!
وانقطع بها الطريق فما بلغتْ ولا بلغ صوتها مَن يسمع، وكأنما كانت تنادي مُنادى من التاريخ يفصلها منه بضعةَ عشر عامًا من عمر الزمان!
وهامت المسكينة على وجهها ذاهلة لا تكاد تعي شيئًا مما ترى أو تسمع، ليس لها هدف فيما تسعى ولا غايةٌ فيما تسير.
وأعيت بعد جهد فسقطت في الطريق ليس لها حس ولا حركة ولا مظهرٌ من مظاهر الحياة، ثم أفاقت لتسأل نفسها ويسألها الناس عن شأنها فلا تكاد تجد الجواب.
وتتابعت على عينيها ذكريات الماضي يومًا يومًا منذ كانت إلى أن صارت … ونظرت يمنة ويسرة ثم انطلقت تعدو …
وعرفتْ بعد لأيٍ أين تقصد، فمضت في طريقها …
والتقى في خيمة الضابط المشرف على فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء شخصان لم يتراءيا وجهًا لوجه منذ بضع عشرة سنة، أما أحدهما ففتاة في الأربعين قد تقنعت بلفاع أسود حائلٍ وعليها ثوب مرقوع، وترفُّ على فمها ابتسامةٌ لم تنفرج عن مثلها شفتاها منذ سنين. وأما الآخر فرجل أشمط مخددَ الوجه في جبينه شجةٌ ملمومة، يلبس حُلة عسكرية وعلى رأسه طربوش بدوي غليظ يكبس أذنيه ويتدلى زره على قفاه …
وقالت الفتاة: «راجح!»
وغصت بريقها وتسابقت بوادرها على خديها.
وقال الرجل: «لم أكن أظن أن أراكِ ثانية يا بدرية!»
وتنفس نفسًا عميقًا، ومال بوجهه قليلًا يحاول أن يُخفي دمعة همَّت أن تقطر!
وكان الضابط المشرف جالسًا إلى منضدة في صدر الخيمة يسمع تناجيهما وعلى شفتيه ابتسامة الغبطة والرضا.
وعادت بدرية تقول: «راجح!»
ورَبَتَ راجح على كتفها وهو يبتسم، وقال: «لا تخشيْ بعد اليوم شيئًا يا بدرية، لن نفترق طويلًا بعدُ، لقد دنا اليوم الذي أرتقب يا عزيزتي من زمان، لأغسل الدم بالدم، وأنتقم، ويومئذ نعود أعزة إلى الوطن الذي أُكرهنا على هجرانه، ويومئذ …»
وطأطأت بدرية رأسها من حياء، واسترجعتْ أمانيَّ عاشت بها حينًا وعاش فتاها، وسرحا بأفكارهما إلى بعيد، إلى حيث كان الملتقى كلَّ مساء، تحت ضوء القمر، وفي ظلال النخيل الشاخصة على مقربة من مضارب الحي، يتساقيان المنى ويتناجيان نجوى الشباب، وابتسم، وابتسمت …
ودوَّى بوق المعسكر يدعو فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء إلى نوبتهم في العمل، فهبَّ راجح واقفًا ومضى إلى واجبه تتبعه عينان تفيضان بالحب والحنان، ولسانٌ يخافت بالنجوى والدعاء …
… كان ذلك بالإسكندرية في صيف سنة ١٩٤٠ …
وفي ليلة من ليالي البدر في ربيع سنة ١٩٤٥، وعلى بُعد أميال إلى الغرب من مدينة الإسكندرية، كان رجل وامرأة جالسين في ظل جذع من جذوع النخل على مقربة من مضارب الحي، يتذاكران الماضي ويخافتان بالنجوى …
وفي المدينة، على بُعد ساعات من الحي، كان المذياع يتحدث إلى الناس حديثًا يترقبونه منذ بعيد مشوقين إليه، موقنين به قبل أن يكون كأنْ قد كان …
… وراح المذيع يصف مصرع «موسوليني» في «ميلانو» ويقصُّ عاقبة أمره، وتجاوز خيالُ السامعين حدودَ الزمان والمكان فكأنْ قد رأوه في آخر مشاهده مصلوبًا على السارية في الميدان منكسًا قد تدلَّى رأسه إلى الأرض كأنما يبحث في التراب عن مجده الذي كان …!
وقال راجح وقد جاءه النبأ: «لو كان بيدي …!»
قالت بدرية: «فهل كان ذلك إلا بيديك وأيدي إخوتك وأبناء عمومتك من أعراب البادية …؟ لقد كان سهمك هو الذي نفذ إلى حُشاشته قبل أن يُجهز عليه قومه!»