بعد الأوان
يا لله! وفي الدنيا هذا الجمال؟
فتاة، وما أعرف مثلها فيمن رأيت …
أتُراها كانت تعرف أين هي من أحلام فتيان الحي؟
وكان لها من جاه أبيها جمالٌ إلى جمال، فاجتمعت لها أسباب الفتنة والإغراء … ورآها صديقي فتبدل غير ما كان، وإنه لشاب وإنها لفتاة …
وجاءني ذات مساء وفي عينيه دموع … يا لي مما أرى! صديقي يبكي! هذا الذي كنت أظنه لا يحمل من هم الدنيا إلا مثلَ ما تحمل نعله من تراب الأرض! يا عجبًا!
وفتحتُ له صدري فأوى إليه، ومضى يحدثني بخبره: «… وما يليق أن أبقى بعد اليوم عَزبًا … وقد جاوزتُ الخامسة والعشرين.»
وابتسمتُ، فما سمعت صديقي يتحدث من قبلُ عن الزواج بمثل هذا الجد؛ لقد استطاعت امرأة واحدة أن تحمله على رأيٍ لم يكن واحد من أصحابه جميعًا يستطيع أن يحمله على الإيمان به، ويا طالما قلنا ويا طالما أجاب …
ومضى صديقي في حديثه: «وأجمعتُ أمري على أن تكون لي؛ فما يرضيني أن لي بها كلَّ متاع الدنيا، لقد وجدتها وهي حسبي من دنياي …!
وراح الرسول عن أمري يؤامرها ويرودُ لي الطريق، وكتم عنها اسمي وخبري ومكاني بين الناس، فما كان إلا أن سألته: وكم يبلغ مرتبه في الشهر؟
وأجابها الرسول، فضحكت ساخرة وقالت: اثنيْ عشر جنيهًا؟ يا له من عروس! فكم يعطي الطباخ وكم يعطي السواق …؟
وعاد إليَّ الرسول بجوابها …!»
وأطرق صديقي برهة، ثم رفع رأسه وشفته تختلج وفي عينيه بريق. وابتسمتُ ثانية، وقلت: «فما غَضبك يا صديقي مما قالت؟ إن لها في الحياة ميزانها الذي تقيس به أقدار الرجال، وإن للحياة موازينها، فما ضَرك أن تكون في ميزانها ما تكون وأنت أنت؟ إن معك الشباب والقوة، وإن لك غدًا يبتسم ويرفُّ، وإن دمًا في أعراقك يتحدث به التاريخ؛ فهل يخدعك عن كل أولئك أن فتاة تقول …؟»
وأمسكتُ عن تمام الحديث، فقد رأيت في عينيْ صاحبي ما قطعني وردني إلى الصمت.
وعاد إلى حديثه: «وددتُ يا صاحبي لو لم يكن كل أولئك وكانت هي …!»
ورأيتني منه على حالٍ لا يجدي معها إلا أن أسكت، فسكتُّ. وودعني صديقي بالوجه الذي لقيني به، ومضى لشأنه.
يا للشباب من سلطان الحب!
ولقيته بعد ذلك مرات، ولكنه كان شابًّا غير مَن أعرف.
هذا الذي كان لا يعرف من فروض الحياة على الحي إلا أن يبتسم ويضحك، ويعبث بكل شيء ويسخر من كل شيء، قد عاد في عبوسه وتزمُّتِه وصرامة نظرته إلى الحياة خَلقًا آخر؛ يا عجبًا! أين صار مما كان؟
تمرُّ به الجميلة الفاتنة قد أخذتْ زُخرفها وازَّيَّنتْ، فما تظفر منه إلا بالنظرة العابرة!
ويسمع النكتة البِكْر تضجُّ لها جنبات المجلس بالضحك والتهليل، فما تنال منه إلا بسمة خاطفة!
وتتداعى أمانيُّ الشباب في معترك الحديث من حوله، فما تسمع منه إلا أنةً خافتة.
ويتبارى الفتيان فيما يحكون من أقاصيص الحب وغزوات الشباب، فما ترى على وجهه من دلائل يقظة الوجدان إلا سبحةً لطيفة من سبحات الذكرى، ثم خَفقةَ طَرفٍ وخَلجةَ شفة.
ثم يسمع أحاديث الزواج والخطبة … فتراه كما ترى جنديًّا في إجازة يتلقى أخبار معركة حربية مظفرة، وبينه وبين الميدان أبعاد وأبعاد!
تُرى ماذا يتوقع أن يسمع؟
شيء واحد لم يغيِّره الزمن من أخلاق صاحبي: هو سخاؤه وبذله، فما عرفت في أصحابي من قبلُ ومن بعد أكرمَ يدًا منه بما يملك!
وترادفت الأعوام ولم يتزوج صديقي … ولم تتزوج صاحبته. أتُراها كانت تعلم من خبره ما أعلم؟ ومن أين لها …؟ وإن لصاحبي من الكبرياء ما يمنعه أن يلتمس إليها الوسيلة بعدما كان … وإن الخُطاب لتزدحم أقدامهم على بابها فما تعرف كم ردتْ بالخيبة والخذلان!
أم تُراها تعرف اسمه؟ هذا الذي لا تذكر من صفاته — إن ذَكرتْ — إلا أنه شاب يبلغ دخْله في الشهر اثنيْ عشر جنيهًا، بعث إليها مرة يخطبها فردته … وكم في الأمة من شبان يبلغ دخلهم ما يبلغ دخله، وحسبُه هذا تعريفًا بين آلاف من النكرات!
ولكن صديقي اليوم في منصب رفيع، لقد سما به جِده وعمله إلى ما لم يبلغ أحدٌ من نظرائه، أتُراه يوازن اليوم بين ماضيه وحاضره؟
لقد مضى خمس عشرة سنة منذ تلك الليلة التي زارني فيها صديقي يشكو إليَّ ما يشكو ويبثني نجواه.
ياه …! ما أسرع ما تمرُّ السنون … أين أنا اليوم مما كنت يومئذ؟
لقد كنت يومئذ فتًى في باكر الشباب لم يجرِ حدُّ الموسى على عارضه بعدُ، وإنني اليوم لزوج وأب، وإن في رأسي لشعرات بِيضًا ما إن يخفيها ميلُ الطربوش ولا صنعةُ الحلاق …!
وصديقي لم يزل عَزبًا … صديقي الذي كان يخشى أن تفوته سن الزواج منذ خمس عشرة سنة!
أين هو اليوم؟ وأين حاضره من ماضيه؟
لقد ضربتْ بيني وبينه ضرباتُ الدهر فلم ألقه منذ أعوام، وددتُ لو أعرف مِن خبره!
وخرجتُ ذات يوم من داري على ميعاد، فإني لَفي طريقي إذ لقيته … وأقبلتُ عليه وأقبل عليَّ، وهممتُ أن أسأله حين بادرني بقوله: «إنني أدعوك بعد غد إلى داري …»
– تدعوني …؟
– نعم، لقد اتفقنا أن يكون الزفاف بعد غد!
– بِمنْ؟
– وهل حسبتَني أرضى يومًا أن لي بها كلَّ متاع الدنيا؟ إنها هي … لقد ضرب القدر بيننا موعدًا فلم يخلفه. إن لكل شيء أوانه!
… وكما جلس صديقي مني مجلسه ذات مساء منذ خمس عشرة سنة ليحدثني بخبره كان مجلسه الليلة مِني …
وكان في عينيه بريق غير البريق، ولصوته لحن ورنين، وفي عينيه دموع، وكانت الكلمات ترتعش على شفتيه؛ لأن فيها نبضاتِ قلبٍ حي. وصعَّدتُ نظري إليه فرأيت في فوديه شعرات سوداء في شعر أبيض، كأنما بقيتْ لتشير إلى أنه ما زال هنا بقية من شباب … ومضى صديقي في حديثه: «… ولم يَعُد إليها رسولي منذ كان ما كان، وما عرفت اسمي ولا جاءها خبرٌ من خبري بعد، وكأنما كان يدخرها لي القدر، فلم تتزوج، وارتدَّ الخطاب جميعًا عن بابها مخذولين، وآن الأوان …
هل جاءك يا صديقي أن مرتبي في الشهر قد بلغ اليوم خمسين جنيهًا غير ما أكسب من أعمالي الخاصة …؟ وبعثتُ إليها رسولًا آخر يؤامرها للمرة الثانية …»
وضحك صديقي ضحكة مرحة ثم عاد يقول: «أتذكر ليلةَ جلستُ إليك أحدثك مثل حديث الليلة، منذ … منذ كم؟
… وقالت للرسول وقال لها، ثم سألته: وكم دخْل صاحبك في الشهر؟
فأجابها … وكان القدر قد هيأ أسبابه، فأجابت … وزرتها من بعد، وتم الاتفاق!»
قلت لصاحبي: «فهل عرفتْ هي أنك أنت أنت … هل عرفتْ أنك سعيتَ لخطبتها مرة منذ خمس عشرة سنة فردتك؟»
فقال: «وماذا يعنيني عرفتْ أو لم تعرف؟ حسبي أنها اليوم لي، وأن ما أردته قد كان!»
ووجد المسكين تعبير رؤياه بعد خمس عشرة سنة من عمر الشباب، ووجدتْ تعبير أمانيها؛ وباعت المسكينة شبابها وشبابه بثمن بخس، حين تأبتْ عليه ومعه حرارة الشباب، ونضارة العمر، وسعادةُ الحب؛ لترضاه من بعدُ وهو شبابٌّ مُدبر، ونجم آفل، وشعلةٌ إلى رماد …!