زاهية
في القرية البعيدة الجاثمة على حدود الصحراء الغربية من صعيد مصر، جلست «نعيمة» ذات مساء بين لداتها من بنات القرية، تحدثهن حديثها عن القاهرة وما فيها من وسائل النعيم والترف، والتفَّ الفتيات حولها يستمعن إليها في شوق ولذة، وكأنما تحملهن بحديثها على أجنحة الطير إلى حيث يرين ما تقصُّ عليهن خبره من أسباب الملذات في القاهرة العظيمة، وكأنهن في مجلسهن ذلك على المصطبة حول نعيمة لا يستمعن إلى قصة تُقصُّ وخبر يُروى، ولكنهنَّ يرينَ وينعمنَ في الخيال بما لم ترَ عينٌ ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب فتاة من سكان هذه القرية الوادعة المطمئنة!
لم ترحل واحدة من سكان تلك القرية إلى القاهرة قبل أن ترحل إليها نعيمة، فما كانت تتحدث واحدة منهن عن القاهرة وما فيها إلا كما يروي الراوي قصةً من بنات أحلامه عن رحلة إلى بلاد بعيدة رحل إليها جده فيما غبر من السنين، ونعيمة نفسها لم تكن تطمع في الرحلة إلى القاهرة يومًا ما لولا المصادفة السعيدة …
يوم أرسل «الباشا» إلى أبيها يطلب إليه أن يرسلها إليه لتقوم على خدمة أولاده، حزن أبوها أشدَّ الحزن، وحمل من الهم ما لا طاقة له به، وتداعى أفرادُ الأسرة جميعًا إلى مؤتمر يداولون فيه الرأي ويوازنون بين النتائج، ثم لم يجدوا بدًّا من إجابة «الباشا» إلى ما طلب، وأنَّى لهم أن يخالفوه وهو سيدهم ومولاهم ومالك رقابهم؟ أليس هو مالك هذه القرية بما فيها ومن فيها …؟ كلهم أُجَرَاء يفلحون أرضه ويجهدون جهدهم في خدمته والتماس رضاه!
وها هي ذي نعيمة تعود إلى القرية بعد غياب طويل لتزور أهلها، ولكنها غير نعيمة التي يعرفها شبان القرية وبناتها، لقد عادت فتاةً أخرى. ذلك الثوب الأنيق، وهذا الوجه المشرق، وذلك الجسم الريان، وتلك الرشاقة الفاتنة … أين كان منها كل أولئك …؟ منذ عام، لم يكن واحد من فتيان القرية ينظر إلى نعيمة، أما اليوم … فما أجمل وما أشهى! إنها ملتقى الآمال ومعقد المنى، تشتجر حولها النظرات وتعترك القلوب … ليس في القرية كلها شاب واحد لا يطمح إلى نعيمة ويتمناها لنفسه!
… وجلستْ مجلسها ذلك بين رفيقات صباها تقصُّ عليهن، وكلهن معجب مفتون، ولكن «زاهية» كانت أكثرهنَّ إعجابًا وفتنة …
لقد كانت تستمع إلى حديث صاحبتها كأنها في حلم من الأحلام، وأسلمتْ نفسها إلى الأماني تطير على جناحيها من جو إلى جو مغردة طليقة؛ على أنها لم تكن تفكر في ملذات المدينة وما فيها من وسائل النعيم والترف، أكثرَ مما كانت تفكر في شأن نفسها حين تعود إلى القرية مثل عودة نعيمة: معززة مرعية تعترك حولها النظرات وتصطرع الأماني؛ حينئذٍ تستطيع أن تظفر بمن تحب وهي آمرة مطاعة!
كانت «زاهية» فتاةً في نضرة الشباب، ولها حظ من الجمال يحببها إلى كثير من فتيان القرية، على أن فتًى واحدًا من بين الجميع كان أدنى منزلة إلى قلبها: سرحان!
لم تكن تحبه حبَّ بنات المدن، فما يعرف بنات القرية هذا اللون من الحب ولا هن يجدن من أنفسهن جرأة عليه، ولكنها به جِدُّ معجبة، تجد في تذكُّره لذة، ويملأ نفسها غبطة ومسرة أن تروي عنه أو تستمع إلى أخباره، وهي مع ذلك لم تجلس إليه مرة، ولم تبادله كلمة، ولم يلتقيا في نظرة حب. أتُراه كان يعلم أن زاهية معجبة به؟ وهل كان له إليها هوًى ونزوع؟ من يدري …؟ أما هي فكانت تعلم من ذات نفسها ما لا يعلم أحد، فطالما صحبته في أحلامها ليالي عدة، وأرقتْ بذكراه في فراشها ليالي أكثر عددًا، وما كان لها في الحياة إلا أمنية واحدة، قريبةٌ على مد البصر، دانيةٌ كشعاع القمر على صفحة الغدير: هي أن تصير يومًا زوجة سرحان!
تلك أمنية كانت ثم اعترضت دونها الأقدار؛ فقد مات أبواها وهي سادرة في أحلام الشباب، سابحة في أوهام الحب. وكان صباح وكان مساء، فإذا هي وحدها في دنيا جديدة، ليس لها من يرعاها ويتولى أمورها غير ابن عمها «إبراهيم»، وكان صباح وكان مساء، وإذا ابن عمها وراعيها هو خطيبها وزوجها المنتظر!
لم تكن زاهية تحب ابن عمها إبراهيم، ولكنها لم تكن تبغضه، وما كان لها أن تبغضه وما أساء إليها قط، وإنه ليرعاها ويجهد جهده في خدمتها والسهر عليها، ومع ذلك لم يكن يسُرها أن تذكر أنه سيكون زوجها بعد قريب. أكان ذلك لأنه لم يصادفها عذراء القلب؟
وما كان إبراهيم ليفكر من قبلُ في زاهية، وما كان يخطر له على بال أن ستصيرُ زوجته؛ ولكن الأقدار قد فرضتها عليه بعد موت أبيها، فهو ابن عمها، وعليه وحده أن يتولى أمرها ويكون لها، ولكنه مع ذلك لم يكن ملحدًا في القدر الذي فرضها عليه، ولا ساخطًا على الحظ الذي ربطه إليها وربطها إليه، فإنه لرجل يدرك تبعات الرجولة وينهض بأعبائها!
… وجلست زاهية تستمع إلى حديث صديقتها نعيمة، وإن خيالها ليسافر بها ويئوب، وإن أمانيها لتتنقل بها في عوالم مليئة بالسحر والجمال والفتنة، وإن أحلامها القديمة التي هجرتها منذ خطبها إبراهيم، لتستيقظ في نفسها فجأة وتردها إلى ماضيها …
لم تكن كلُّ مزايا القاهرة عندها أن فيها تلك المباهج والملذات التي تفتنُّ نعيمة في وصفها، ولكن مزيتها الكبرى عند زاهية أنها تصنع الجمال الذي يسبي ويسحر ويصيد قلوب الشباب!
… وانفضَّ السامر، وأوت كل فتاة إلى دارها لتَسْتَتِمَّ في أحلامها ما سمعت في يقظتها، ولكن زاهية باتت ليلتها ساهرة لم يغمض لها جفن ولم يزرها الكرى، تراوح بين جنبيها على الفراش اليابس في القاعة الدافئة، وحولها أكداس الحصيد، وقفة الدقيق، وقِدْر الطعام، وفي زاوية القاعة نعجة تجترُّ …
وبدا لزاهية من أحوالها في تلك الليلة ما لم يبدُ لها في يوم من أيامها، وأحسَّت في نفسها إحساسًا قويًّا أنها شقية ومحرومة وبائسة، وتبرمت بنفسها وبما حولها تبرمًا لا طاقة معه على الاحتمال؛ فأخذت تفكر تفكيرًا جديدًا لعلَّ مثله لم يخطر على بال واحدة من سكان القرية جميعًا قبل زاهية …
صاحت الديكة على سطوح المنازل، وعوت الكلاب تنبح كل غادٍ ورائح، وثغت الشاء، وخار الثور، واستيقظت القرية كلها مع أول شعاعة من شعاعات النهار، وقامت زاهية من مرقدها متثاقلة تتثاءب وتتمطى، ونفض الكون ظلماتِ الليل عن كاهله، فمحت آية النهار ما كان يعتمل في رأس زاهية من أفكار سود، فأقبلت على عملها كشأنها كل يوم.
وسمعتْ طَرْقًا على الباب، فمضت إليه تفتحه في حركة آلية كشأنها كلَّ صباح؛ لتستقبل خطيبها إبراهيم، وكانت لهما حاجة في الحقل، فصحبته خطوة إلى خطوة.
واجتازا طرقات القرية صامتين، يسوق إبراهيم ماشيته، وتحمل زاهية مِكتلًا على رأسها وقد تلفعتْ من البرد بلفاع قديم أسود.
وأشرفا على الحقول المزروعة تهتز فيها سنابل القمح الخضراء على سوقها الدقيقة كما تتكسر أمواج البحر على الشاطئ هادئة لينة، وتبرق قطرات الندى على أوراق البرسيم صافية كحبات اللؤلؤ، ويفوح العطر من زهر الفول عبقًا ريان، والفتى والفتاة يسيران في طريقهما على حافة القناة.
ومدَّ إبراهيم نظره إلى بعيد يتبيَّن فتاة مقبلة عليهما، وكانت هي نعيمة … وأحسَّت زاهية شيئًا يجيش في أعماقها حين رأت خطيبها يُقبل على الفتاة مبتسمًا، وفي عينيه بريق زعمتْ زاهية لنفسها أنها تفهم معناه!
واجتمعت في صدرها الوساوس، ونهشتها عقارب الحقد والغيرة حين ملأت عينيها من الفتاة، وقد خلع الصباح على وجهها من رُوائه وإشراقه …
لم تكن زاهية تحب إبراهيم حبَّ الأَثَرَة، ولكنها مع ذلك لم تكن تحب أن ينظر إلى غيرها هذه النظرة التي رأتها في عينيه وهو يحيِّي نعيمة؛ وودت في تلك اللحظة لو أمكنتها الفرصة لتثأر وتنتقم …!
آه! لو أقبل «سرحان» في تلك اللحظة! إذن لأذاقت زاهية إبراهيمَ مرارة الغيرة في ابتسامة وتحية ناعمة تقدمهما إلى سرحان!
وانطوت على آلامها تفكِّر في أمرها وتلتمس الوسائل لتحقيق أمانيها، وعادت الخواطر المظلمة إلى رأسها، وتناهبتها الأفكار السود، وتمثلتْ لها نعيمة في ذلك الثوب الأنيق، وهذا الوجه المشرق، وذلك الجسم الريان، وتلك الرشاقة الفاتنة؛ وعاد حديث المساء الذاهب يرنُّ في أذنيها موسيقيًّا عذبًا يصور لها القاهرة بما فيها من النعيم والملذات، القاهرة التي تصنع للعذارى الجمالَ الذي يسبي ويسحر ويصيد قلوب الشباب ويحقق مستحيلات الحب. وأجمعتْ قلبها على أمر …!
وسافرت زاهية في اليوم التالي إلى القاهرة، ليس معها بعد أجرة السفر إلا دراهمُ معدودة، وصُرَّةٌ قد جمعتْ فيها ثيابها وما تملك؛ ولم تُجدِ ضراعةُ إبراهيم ولا وسائله في استبقائها شيئًا، وما أصاخت إلى ندائه ونصائحه، وخلفته وراءها يبكي خطيبته وابنة عمه، وشرفه الذي عرَّضته للهوان بسفرها وحدها إلى القاهرة تبتذل نفسها في خدمة الناس غير مضطرة ولا مقهورة!
وعاد الفتى وحده إلى الدار ذليلًا منكسرًا تَفِيض نفسه بالسخط والألم، ويَجِيش قلبه بالحب العميق لزاهية، الحبِّ الذي لم يكشفه في نفسه ولم يعرفه إلا بعد رحيلها. حبٌّ مشفقٌ يائس ذليل، تشوبه مرارة الغيظ وثورة الحقد والبغضاء!
ووصلت زاهية إلى القاهرة!
وَيْ! هذا شيء لم تحدِّثها به نعيمة ولم يخطر لها في بال: هؤلاء الناس يتزاحمون بالمناكب في الطريق رائحين غادين … هذه السيارات تتلاحق في الشوارع ممتلئة وفارغة … هذه القصور شامخة باذخة على كل باب بوَّاب … هؤلاء النساء، وهؤلاء الرجال، وهؤلاء الغلمان منطلقون في طريقهم لا يحيِّي أحدٌ أحدًا، ولا يحدِّث جار جارًا، ولا ينظر مقيم في وجه غريب … هذه الشوارع متقاطعة متشابكة، أينما ولَّت وجهها وجدت طريقًا ووجدت ناسًا لا تعرف أين يقصدون ولا من أين يقدمون!
أهذه هي القاهرة …؟ لقد حسبتْ زاهية يوم جلست نعيمة تحدثها حديثها عن القاهرة أنها ستهبط جنة الخلد يوم تهبط إلى القاهرة، فتجد كل شيء مهيأً لسعادتها …
… ومضت تضرب في الأرض وتشقُّ طريقها في زحمة الحياة!
وأحسَّت القرية الصغيرة فَقدَ واحدة من بناتها، ولكن إبراهيم كان أكثر الجميع إحساسًا بذلك، ولما همَّت نعيمة بالرجوع إلى دار مخدومها في القاهرة بعد أسبوعين، شيَّعها إبراهيم إلى أول الطريق وهو يوصيها خيرًا بزاهية، ويسألها أن تحمل إليها تحيته وأن توصي بها سيدها الباشا. وهل كان يخطر في بال إبراهيم أن زاهية في دار غير دار الباشا؟
واشتغل كلٌّ بنفسه. أما زاهية فراحت تطرق الأبواب في التماس الرزق، لم يزدها عنفُ الصدمة الأولى إلا إصرارًا على العمل لتحقيق أمانيها، على رغم ما ينالها من مشقة، وفي رأسها خيال يداعبها في أحلامها، وأمام عينيها أمل …
وأما إبراهيم، وسرحان، والقرية جميعًا، فقد انصرفوا بعد قليل عن ذكر زاهية، لا تكاد تخطر منهم على بال، إلا رجلًا واحدًا لم تهدأ له نفس منذ سفر زاهية: ذلك ابنُ عمها إبراهيم!
ولكن شيئًا جديدًا من أخبار القرية قد ردَّ الجميع فجأة إلى ذكر زاهية، فحديثها على كل لسان وفي كل أذن …
كان ذلك يوم قدم الباشا إلى القرية يتفقَّد أرضه وزراعته، فقد استجمع إبراهيم جرأته كلها وقصد إليه يستنبئه من أنباء زاهية ويوصيه بها!
ودهش الباشا وسأل: «مَن زاهية؟» فلم يزده الجوابُ علمًا بما سأل عنه … وعرف أهلُ القرية جميعًا منذ ذلك اليوم أن زاهية ليست في دار الباشا، فأين تكون؟ وهل يعلمون من القاهرة إلا دار الباشا؟ وتناولتها الظنون والشبهات …!
– إنها خادمة في فندق!
– إنها تبيع في الأسواق!
– إنها تخدم في بيوت العزاب!
– إنها ترقص وتغنِّي في مسارح اللهو!
– إنها اتخذت بيتًا يأوي إليه الشباب في ساعات اللهو والبطالة!
وهكذا راح غياب زاهية حديثَ السامرين على مصاطب القرية كل مساء؟ وتفننت عبقرية الرواة في اختلاق الأحاديث وتزوير القصص، وكان لسان سرحان أحدَّ الألسنة في تناول عِرض زاهية، سرحان الذي لم تحفظ ذاكرةُ زاهية في غربتها من صور القرية غيرَ صورته، ولم يُلمَّ بها زائرٌ في أحلامها من شبان القرية غير طيفه المحبوب! سرحان، الذي من أجله ولأجله كانت تحتمل المشقة والجهد، وتبتذل نفسها في بيوت الخدمة لتعود يومًا إلى القرية فيلقاها على الطريق مبتسمًا يمدُّ لها يديه في ترحيب العاشق اللهفان …! وهل كان يدري؟
وجاء الصيف، وطابت مجالس السمر في ضوء القمر الساحر على مصاطب القرية، ولم يخلُ سامر من حديث زاهية. وتترامى أحاديث السامرين إلى إبراهيم فيألم أشدَّ الألم، وكأن في كل كلمة سهمًا يخزه في قلبه ويشوكه في مرقده، ولكنه صامت لا يتحدث ولا يردُّ عن زاهية فِرية، وماذا تُراه يقول؟ إنه هو نفسه يكاد يؤمن إيمانًا لا سبيل إلى الشك فيه بكل ما يتحدث به السامرون، لولا بقية من حُسن الظن وأَثَارةٌ من الرجاء، لعلهما أثر الحب الذي لم يكد يستعلن حتى اعترضه القدر!
ومضى شهر وشهر وشهر، وانقضى عام، وأهلَّ عام جديد، وعادت نعيمة من القاهرة لتقضي أيامًا بين أهلها، وسعى إبراهيم إليها فيمن سعى وعلى شفتيه سؤال، ثم ارتدَّ عنها أشدَّ ما يكون ألمًا وأشقى نفسًا؛ إن نعيمة نفسها لا تعلم عن زاهية أكثر مما يعرف أهل القرية، فما لقيتها في القاهرة قطُّ ولا عرفتْ من أخبارها!
وتلاشى الأمل الباقي في نفس إبراهيم، وانضمَّ إلى الجماعة فيما تؤمن به من مصير زاهية، ومضت الأيام تسدل على الماضي ستارها، وتناست القرية زاهية وما كان من أمر زاهية، ونسي إبراهيم!
… وكان العام الثاني في أخرياته حين أخذت القرية زُخرفها وازَّيَّنت لأمر ما …
«نعيمة ريحانة القرية وزينتها تُزف الليلةَ إلى إبراهيم!»
هذه هي أول كلمة صكَّت مسمعي زاهية وهي عائدة إلى القرية …
وهبطت الفتاة القرية، والقرية كلها في شغل عنها بعرس إبراهيم ونعيمة، وإنهما لشابان حقيقان بأن تحتفل القرية بعرسهما وتفتنُّ في الزينة له؛ ومَن مثلُ نعيمة في القرية؟ ومن مثل إبراهيم؟
ونال زاهيةَ من الغيرة ما نالها حين استمعت إلى هذا النبأ، ولكن أملًا في نفسها كانت تحرص على كتمانه؛ أملٌ عزيز صحبها إلى غربتها، وطالما أنستْ في وحدتها بذكره: سرحان!
ومضت في طرقات القرية إلى دارها التي فارقتها منذ عامين، تختال في ثوب موشًّى لم تلبسه قبلها واحدة من بنات القرية، ولم تلبسه نعيمة نفسها!
وتتابع خطوها على الطريق متئدًا رتيبًا في مثل رشاقة بنات القاهرة!
وعلى شفتيها ابتسامة مصنوعة تعبِّر عن معنى تحرص زاهية على إعلانه!
وتنظر عيناها نظرات فيها زهو وكبرياء، وفيها إغراء وفتنة!
وفي وجنتيها حمرة خفيفة، إلى سمرة طبيعية في وجهها تزيدها جمالًا على بنات المدينة!
وتحمل يدها الرخصة الناعمة حقيبة من الجلد أغنتها عن الصرة التي كانت تحملها منذ عامين يوم فارقت القرية!
وفي قدميها حذاء جديد!
لقد صنعت زاهية كلَّ ما قدرت عليه لتبدو في يوم عودتها إلى القرية كما أرادت، ولكن أحدًا من أهل القرية لم يهتمَّ بمقدمها أو يخف لاستقبالها؛ وما كان يعنيها من أهل القرية جميعًا إلا شخص واحد: سرحان! أين سرحان؟
ولكن سرحان كان في شغل عنها يوم مقدمها في الاحتفال بعرس القرية، ولعله لو كان فارغًا لخفَّ لاستقبالها غير مبتسم ولا مادٍّ يديه للترحيب، فما كان سرحان، ولا كان أحد في القرية كلها يطيب له أن تعود زاهية إلى القرية؛ فلولا أن القرية كلها كانت في تلك الليلة مشغولة بعرس نعيمة، لاستقبلتها استقبالًا غير ما كانت تنتظر؛ ليسلم للقرية شرفها الرفيع وينمحي عارها!
وانتهت زاهية إلى دارها، فما أحس مقدمها أحد غير جارتها العجوز، فأقبلت عليها تحيِّيها تحية القدوم!
وعرفت الفتاة من حديث جارتها ما لم تكن تعرف من رأي القرية فيها، وحديث السامرين عنها، وتوقعتْ ما لا بد أن يكون، ولكن ذلك الذي توقعته لم يكن يهمها بقدر ما أهمها ما سمعت مما كان يتحدث به عنها سرحان …!
وانهار الأمل الباذخ الذي عاشت في أوهامه سنتين أشقى ما عاشت من سِنيها العشرين، بما تحملت فيهما من الجهد والنَّصَب والمشقة!
وفقدت كلَّ شيء في اللحظة التي ظنت فيها أنها أوشكت أن تظفر بكل شيء!
وقضت ليلتها في القرية، فلما أصبح الناس يسألون عن خبرها لم تكن زاهية هناك …
ولما التأم السامرون في المساء على المصطبة، كان إبراهيم خاليًا إلى عروسه يحدثها حديثه وتحدثه، لا يعنيهما شيء من الأمر إلا السعادة التي ينعمان بها؛ وسرحان قد توسَّط حلقة من القوم يحكي لهم ويستمعون إليه وهو يقول: «ألم أقل لكم …؟ بلى، إن الملعونة لم تطب لها حياةُ الشرف والاستقامةِ في القرية ليلة واحدة …!»
وأمَّن السامرون على ما يقول …
في تلك اللحظة، كانت زاهية في القطار ينهب بها الأرض نهبًا إلى القاهرة، إلى حيث تعود لما كانت فيه: تشقُّ طريقها في زحمة الحياة وتطرق الأبواب قائلة: «هل من حاجة إلى خادمة أمينة، حسبُها من الجزاء بيتٌ شريف يؤويها، وثوب يسترها، ولقمة تحفظ عليها الحياة!»