عمامة الأفندي!
طال بنا انتظار صاحبنا «الشيخ محمد المأذون» في هذه الليلة حتى دقت العاشرة ولم يجئ، وكنا نرقب مقدمه علينا كل مساء رِقبة المشتاق، فما تخلَّف عن مجلسنا ليلةً منذ عرفناه، وإنه ليقدم فيحل البِشر ويستخفنا السرور، سرورُ النفس بدعابته، وسرور المعدة بحلواه! فقلما كان يوافينا إلا ومعه هدية من عرس نتوزعها بيننا. ولم يكن لمقدمه ميعاد، فإنه لَعلى تجوال دائم، يتأبَّط دفتره من دار إلى دار، رسولَ سلام وحب، أو رسولَ فُرقة وقطيعة! وتوزعتنا الظنونُ من غيبته، وحسبناه قد أصاب الليلة حظًّا من عرس، فَبخل علينا بحلواه وَمرق إلى الدار، فما كنا لنتركه حين يقدم علينا إلا فارغَ الجيب من الحلوى وغير الحلوى مما يجمع من الأعراس، وما كان ليتركنا إلا فارغةً رءوسنا من الضحك من دُعابته وهزله!
وجاء بعد انتظارٍ فحيَّا وجلس، ولكنه كان عابسًا مبهورًا لا يكاد يَطرف جفنه، فحسبنا وراء مظهره العابس نكتةً مبتكرة، فقد كان في الفكاهات صاحب تدبير وسياسة، وما عهدناه يألم من الحياة لشيء، وإن الهموم لتصطرع عن يمينه وشماله!
وهَممنا به نتناوله بما أعددنا له من عبث، فإذا كلماتنا تتساقط حواليه ولا تصيبه، وظل على حاله من العبوس والهمِّ!
وسَرتْ إلينا نفسه، وتقمصنا مما به روح الكآبة والوحشة، فأمسكنا عن الحديث لحظات …
ورفع الشيخ رأسه بعد هنيهة، وتحركت شفتاه بكلام، فتقصفنا عليه نستمع لما يقول …
وسأل: «ماذا لديكم من أنباء صاحبنا عاطف؟»
قلنا: «لقد انقطع عن نادينا من زمان بعيد، فلعله على شغل ببعض شأنه، وإن لذَّاتِ الحياة لحبيبةٌ إليه، فما نراه قد منعه لقاءنا إلا لهوٌ آثره علينا، أو لذةٌ دعته فلباها، أو لعله يتفيأ من دنياه الجديدةِ ظلالَ الحبِّ والسعادة!»
قال: «بل دنياه الجديدة، ولكن ليس فيها من السعادة والحب ولا ظلهما، ولكنْ مكابدةُ الأحزان، وألمُ الوحدة، ومشقة الحرمان، وظلامُ اليأس …!»
ورنَّت كلمات الشيخ في آذاننا رنينًا مفزعًا أحسستُ صداه في قلبي، فقد توثقتْ صلتي بعاطف صبيًّا وغلامًا وشابًّا، فأيُّ أملٍ كان يجيش في تلك النفس؟ وأي روح كان يحمل ذلك الجسد؟ وأي حيوية كانت تصطرع من ذلك الشباب؟
فما كربني كربٌ ونظرته إلا عادت الحياة في عينيَّ باسمة نضرة، وما أهمني همٌّ فلقيته إلا تعلمتُ منه فلسفةَ الرضا بما هو كائن، وكان من بهائه وإشراق طلعته، إلى كمال خُلقه وعفة لسانه، كأنه فتنةٌ مستحيية …
وأخذ الشيخ يقصُّ علينا من نبئه ونحن نستمع إليه في صمت: كان عاطف على ما انبسط له من النعمة، وما اتفق له من حُسن الرأي؛ لا يؤمل في الزواج إلا من فتاة ذات مال. ولقد كان عجيبًا عندنا أن يكون على هذا الرأي وهو مَن نعرف من شباب الجيل الجديد، ولكنا لم نكن لنستطيع على ما نسرف في مهاجمة رأيه أن نصرفه عن بعض ما كان يعتقد. وراح في سبيل غايته يبحث عن الزوجة الغنية على أبواب المجلس الحسبي …!
ووجدها بعد جهد ناصب؛ ولم تكن جميلة، ولكنها كانت بعيدة من الدمامة، وقد مات أبواها وخلَّفا قصرًا وضيعة، وأخًا يقوم عليها وعلى القصر والضيعة جميعًا!
واستوثق الفتى من غنى صاحبته، فأقبل يخطبها إلى أخيها وقد اجتمعت له الأسباب، وأدى المهر: مهرَ الضيعة والقصر والعروس …! وعُقد له على فتاته!
لقد غبطناه يومئذ على النعمة، نعمةِ الثروة والجاه والزواج، وما عَنانا كم دفع وكم أنفق، فقد كنا على ثقة بأن حَبته مردودةٌ إليه سبعَ سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ورحنا نتهم أنفسنا بفساد النظر وأَفَن الرأي وسوء التدبير!
ومضى أسبوع، وشهر، وأشهر، وأوشك العام أن ينتصف، وعاطف متهلل الوجه ضاحك السن، يحلم بالغد القريب يوم تُزف زوجته إليه، وتُزف ثروتها إلى خزانته … وسعى إلى صهره يستعجله، فإذا هو يبسط له المدى ويفسح الأجل ويستشفع بالتقاليد …
وعاد الفتى إلى نفسه يطمئنها ويترضاها. وما عليه من ذاك؟ أليستْ ستُزفُّ إليه لا محالة في يوم قريب أو بعيد؟ بلى، وإنها لزوجته، ما في ذلك شك ولا إنكار، فلا عليه أن ينتظر!
ودار دولاب الزمن فأتمَّ دَورة، وراح الفتى يستنجز صهره الوعد، فقابله وهو يبتسم ويبسط له وجهه ومجلسه، وأخذ يتنقل به في الحديث من فن إلى فن حتى زالت وحشته وأنستْ روحه ولم يظفر بجواب …!
وتوالت الأيام بعضها في أعقاب بعض، وتصرمت الأشهر شهرًا في أذيال شهر، وما يزال صاحبنا يُراوح النفس في فراش الوحدة، وعروسه هناك من دونها الأبواب والحارس العتيد!
وملَّ الفتى مقامه، وضاقت نفسه، وأراد أن يسمع الرأي الصريح، وعاد الأخ يعتذر ويجدد الميعاد وهو يربت على كتف الزوج الغاضب!
وخرج عاطف من الدار والقِدْر تغلي في رأسه؛ لقد ابتدأ يعرف ما هنالك ولكنه لم يجرؤ على التصريح … أيكون ذلك من قوانين البر؟ أهو كذلك ناموس الرحمة والعدل؟ أيعضل الأخ أخته فيحرمها الاستمتاع بالحياة من أجل المال، من أجل مالها الذي يخشى أن يفلت من يده إلى الزوج يتصرف فيه كيف يشاء؟!
وهمَّ عاطف أن يعود فيصرح في وجهه بما عَرف من خبيئته، ولكنه كظم الغيظ على ألم وضيق.
وتلاقيا بعد أيام، وكانت القِدْر ما تزال تغلي، فعلا الزبد يَترششُ مصرحًا عن غيظ وغضب … وافترق الرجلان على عداوة …!
ودقَّ عاطف باب المحكمة لعلها أن تحمل زوجته على«الطاعة».
أين هي المسكينة؟ وعلى طاعةٍ هي أم على عصيان؟ إنه لم يرها إلا مرسومة في ورقة، أتُراها في الأحياء؟ أم هي من وراء جدران سجنها جثة بلا روح، وجسد بلا عاطفة، وطاعة بلا إرادة، ومعدة بلا وجدان …؟
وا رحمتا للمسكينة! أتشعر أنها في الأحياء؟ لعل في الموتى من هم أقرب منها إلى الحياة؛ لأنهم يعيشون من عواطف أهليهم في ذكرى حية وحبٍّ مشبوب …!
وفي المحكمة رأى الفتى عروسه لأول ما يراها وقد جاءت تسعى عن أمر أخيها تطالب زوجها بالغذاء والكساء والمأوى!
وكأنما ضاق بها أخوها طاعمةً كاسيةً من مالها عنده، فدفعها إلى القضاء تلتمس القوت والكساء!
وكان بينهما ما يكون دائمًا بين كل زوجين يعرفان المحكمة الشرعية: في كل حين بينهما «جلسة» للقضاء، وليس لواحد منهما همٌّ إلا فيما يفتنُّ من فنونٍ ليكيد لصاحبه ويغيظه، والغالب منهما من ينال من صاحبه من غير عائدةٍ عليه، والمال يتسرب من بين أيديهما للمحامي والكاتب ورسوم الدعاوى وأجرة الشهود …
وامتدت بينهما الفتنة، ولجَّت بهما الخصومة، وطالت إجراءات التقاضي، ومضى عام ثالث، وأخذ الزوج المسكين يبيع ما يملك قطعة قطعة؛ وفاءً لنفقة الزوجة ونفقة القضاء، وأوشك الرجل الذي راح يطلب الغنى من تحت أقدام امرأة أن تصفر يداه …
واصطلحا في النهاية على الطلاق …!
قال المأذون: «وقلت للفتاة: أراغبة أنتِ في الطلاق على ما اشترط لكِ من مال؟»
وزاغت نظرة الضحية العذراء من يمين إلى شمال، ثم استقرت نظرتها على أخيها الجالس هنالك ثم نكست رأسها ولم تُجِب …
قلت: إنكِ إنما تفصلين في أمر مستقبلك، فليس هنا لأحد عليكِ سلطان!
فحدقت فيَّ طويلًا كأنما تلتمس المعونة، ثم حولت النظر ثانية إلى أخيها فإذا في عينيه كلام طويل، فأطرقت وهي تقول في همس: نعم، أُريد الطلاق …!
ونظر إليها الفتى دهشًا حيران، ثم نطق بالكلمة الفاصلة …
وتحولتُ إلى صاحبي فأنكرتهُ، وأقسم لكأنني لم أكن أعرفه من قبل، وما كان في بالي أنه صديقي عاطف؛ لقد انطفأ بريق عينيه كأنما ينظر من خلف زجاجة، وغاض ماء الشباب من وجهه فما تراه إلا كوردة الخريف، وقد أطلق لحيته، كأنما تركت لطماتُ القدر في عارضيه سوادَ حظه، وكانت في يده سبحة، أحسبه كان يُحصي عليها همومه وأحزان نفسه، وما رأيت شيئًا أبيض فيما رأيت، إلا عمامته …!
قلنا: «عمامته …؟ عَهدنا به يلبس الطربوش …!»
قال: نعم عمامته … فاستأنوا … قلت له: ما فعلتْ بك الأيام يا عاطف؟
قال: ذاك ما ترى! ولقد أقسمتُ أن أفرغ لله، فلم تعد لي في الزواج إربة، ولن تراني إلا بين المسجد والبيت حتى ألقى الله. حسبي، حسبي ما لقيتُ من دنياي …!
وانكب على سبحته يتمتم والحبات تتساقط في الخيط واحدة فوق واحدة، ورأسه يهتز كأنه يقول: كذلك تتعاقب الأيام كما تتساقط الحبات حبة وراء حبة، حتى تكون النهاية!
وما وجدتُ عندي جوابًا إلا أن أتحول عنه وأدعه حيث جلس يداعب سبحته؛ أتُراه كان يذكر ربه، أم يحصي على الدنيا ذنوبها …؟!
لقد راح المسكين يبحث عن الزوجة الغنية ليضاعف بمالها ماله، فآب فقيرًا من مالها ومن ماله، وذهب يسعى لأن يضاعف بالزواج مسرات الشباب، فرده الزواج شيخًا في الثلاثين!