أمْنيَّة تحققت!
كانت «سمية» جالسة إلى مكتبها في الغرفة العليا من إدارة «شركة المبيعات الوطنية» وبين يديها الآلة الكاتبة تنقر عليها بأصابعها وهي تترنح وتهتز في مرح ونشوة، كأنما توقع لحنًا موسيقيًّا تناجي به أمنية عزيزة من أمنيات الشباب، وكان على شفتيها ابتسامةٌ راضية، كأنها من الأمل الذي تأمله على ميعاد. وإنها لجالسة مجلسها ذلك منذ ساعات لم ترفع رأسها ولم تبرح مقعدها، ولكن في وجنتيها حمرة ناضرة كأنما هي عائدة لساعتها من مجلس قصف وشراب. وكان في السماء برق ورعد ومطر، ولكن في قلبها هدوء الثقة وروح الاطمئنان!
وفرغت «سمية» من نقش الرسالة التي بين يديها، فكفت أصابعها عن الحركة وراحت تخلِّص الورقة من بين أضراس الآلة الكاتبة وهي تغني في صوت هامس أغنية من أغنيات الهوى والشباب. ثم نظرت في ساعتها وهمَّت أن تنهض لميعاد الغداء. ودق الجرس، وهبَّت سمية واقفة لتردَّ تحية المدير الشاب، ثم استأذنت ومضتْ معجلة إلى مثواها حيث تتوقع أن يكون أخوها في انتظارها لموعده على الغداء …
لقد كانت سمية سعيدة بحياتها على ما فيها من نصب وجهد ورزق محدود؛ إذ كان لها نفسٌ راضيةٌ قنوع، لا تتطلع إلى ما لا تملك، ولا تعرف من أيامها غير اليوم الذي تعيش فيه، فلا هي تذكر ماضيًا تأسى عليه، ولا غدًا تتشوف إليه؛ فوجدتْ سعادة الرضا حين فقدتْ سعادةَ المال ورفاهة الغنى، وتعوضتْ من شيء بشيء.
على أنها لم تكن كذلك في ماضيها، فقد كان أبوها رجلًا من رجال المال، وكان له جاه وصيت وشفاعة، ولكنها لم تدركه حين أدركته إلا شيخًا حُطمة قد لبسه الدهر فأخلقه وذهب بماله وجاهه، فلم يترك لها حين آن أوانه إلا حطامًا من الذكريات، وخلَّفَها وأخاها وحيدين فقيرين تتدافعهما أمواجُ الحياة من شاطئ إلى شاطئ، غُثاءً من غُثاء البحر أو زَبدًا طافيًا على الماء!
على أن من كرم الله على سمية أنها لم تفتح عينيها للحياة إلا على نور ذُبالةٍ توشك أن تنطفئ، وباكرها اليتم والفقر قبل أن تذوق سعادة الاجتماع ورفاهة الغنى، فلم تشعر بمرارة لما صارت إليه؛ إذ كانتْ لم تشعر قبلُ بما كانتْ فيه، وتناولتِ الحياةَ كما عرضتْ لها …
وراحت سمية وأخوها يسعيان لرزقهما في رضًا واطمئنان كما يسعى كل ساعٍ إلى رزقه في غير تبرُّم ولا سخط؛ ووجد أخوها عملًا في مصرف من مصارف المال يضمن له الكفاف؛ واستخدمتها شركة المبيعات الوطنية كاتبة حاسبة لقاء أجرٍ معلومٍ يقوم بحاجتها ويفضل؛ وزادها شعورها بأنها كاسبة مأجورة — وإنها لفتاة — زهوًا وسعادة واعتدادًا بنفسها. ولم يكن هينًا أن تجد فتاة مثل سمية عملًا في مثل الشركة التي استخدمتها، لولا أنها ابنة أبيها، وأنه كان وكانت له على الشركة أيادٍ تقتضيها الوفاء، فاستخدمت سميةَ عطفًا عليها وعرفانًا بأيادي أبيها، ولكنها لم تكن تدري، وكان أكثر من تعرف عطفًا عليها وتشجيعًا لها المدير الشاب «شفيق».
… إن غدًا يوم العيد، هذه أسراب الفتيات يزحمن الطريق ويملأن السيارات العامة ومراكب الترام، رائحات غاديات من متجر إلى متجر ينتقين ثياب العيد، وهذه أفواج الشباب تخطر في مرح ونشوة على أرصفة الشوارع وعلى أبواب المتاجر يتأهبون لاستقبال العيد، وهؤلاء آباء وأمهات، وصبيان وبنات، في عيونهم نظرات البِشر، وعلى قسماتهم آيات المسرة، وسميةُ بين هؤلاء وأولئك لا تُلقي بالًا إلى أحد منهم، مُسرعةً عَجلى إلى مثواها؛ حيث تتوقع أن تلقى أخاها في انتظارها لموعده على الغداء …
لقد أوشك شهر أن ينتهي ولم تجلس معه مرة واحدة إلى المائدة، فإن مواقيتهما لمختلفة، وإن عملها في المكتب ليقتضيها أن ترابط هناك كل ليلة إلى المساء، فلا تلقى أخاها إلا رائحًا إلى فراشه، أو غاديًا على عمله في الصباح وهو عجلان. ولكن غدًا يوم العيد، فما أحرى أن تفرغ له قليلًا ويفرغ لها، وأن تُعدَّ له المائدة التي يشتهيها، وأن يجلس إليها ساعة وتجلس إليه!
وهيأت سمية المائدة وجلست تنتظر، وأُذنها إلى كل خفقةِ نعل على سُلَّم الدار تترقب مطلعه … وسرَّحتْ عينيها على المائدة بين ألوان الطعام فاستشعرت الرضا؛ إنها لمائدةٌ حافلة، ولكن أين أخوها؟ إنه لم يحضر بعدُ وقد مضى على موعده ساعة … وسمعتْ طرقًا على الباب فخفَّتْ إليه، وكان الطارق ساعي المصرف يُؤذنها أن أخاها لن يحضر لموعده؛ لأن عمله هناك يشغله اليوم عن مشاركتها في مائدة العيد!
وأغلقت سمية الباب ودخلت الدار وحيدة، ووقفت في الشرفة برهة تنظر عيدها وعيدَ الناس، وكان في الشرفات المقابلة رجال ونساء، وبنون وبنات؛ وهتفت: «يا أخي! الله لكَ ولي …!»
نعم لم تكن سمية من بناتِ جيلها، ولكن في أعراقها مِن دم أمها حواء؛ وألقى الشيطانُ في قلبها أمنية …
وعزَّ عليها أن يكون غدًا عيد الناس جميعًا ولا عيدَ لها، فتمنت، وكانت متواضعة في أمنيتها … فلم تبلغ بها المنى أن تكون مثلَ فلانة وفلانة ممن رأت وعرفتْ، ولم تتسامَ إلى الأمل بأن تكون من ذوات الغنى والجاه والدلال، ولم تنسَ الحقيقة التي تعيش فيها فتأمل أن تتغير حياتها من حال إلى حال، ولكنها تمنت … تمنت على الله الذي يهب للناس سعادة العمر أن يذيقها حلاوة هذه السعادة حينًا ثم … ثم يسلبها …
ورفعت يديها إلى الله داعية: «يا رب! لا أريدها إلا مذاقًا أعرف به كيف يعيش السعداء من خَلقك …!»
وأومضتْ في حواشي الأفق بارقةٌ من نور، ثم خَبتْ …
وسمعت سمية طرقًا على الباب، فأسرعتْ إليه لترى …
«شفيق …!»
وظل المدير الشاب واقفًا بالباب وعلى شفتيه ابتسامة مستحيية وفي عينيه رجاء، وهمس: «أتأذنين يا سمية؟»
وأذنتْ له، فدخل ودخل وراءه ساعيه يحمل إلى سمية هدية العيد؛ وقال الفتى وقد اطمأن به المجلس: «لعل زيارتي لا تسوءك يا آنسة! لقد طالما راودتني نفسي فنهنهتها، ثم ها أنا ذا …»
وتضرجتْ وجنتاها من حياء ثم أطرقتْ، واستطرد شفيق: «ولعلي إذ اخترتُ هذه الليلة لأزورك هنا أن يكون رجائي مقبولًا لديكِ … وألا يَضيق صدرك بي؛ إن عليَّ لكِ حقًّا، ولعلني أستطيع أن أتحدث إليكِ في يوم قريب.»
وخفق قلب سمية وترادفتْ أنفاسها؛ وأحسَّ الفتى خجلها فلم يُثقل، وتهيأ للنهوض، ورضيتْ أن يزورها في غد …
وتمتمت الفتاة شاكرة وفي عينيها دموع التأثر!
وخلت سمية إلى نفسها تفكر … وخرج الفتى يفكر …
أما هي فتبدلتْ نفسها منذ الساعة واستغرقها حُلم عميق، فراحت تَعرض ماضيها وحاضرها وما تأمل أن يكون في غد، وذاقتْ أولَ ما ذاقت من طعم السعادة معنى القلق …!
وأما هو فقد خَفتْ نفسه وحلَّقتْ في سماواتها، وأحسَّ شعور الراحة والرضا والاطمئنان، فمضى يدبِّر أمره أطيبَ ما يكون نفسًا بما فعل وبما يريد أن يفعل من أجل الفتاة التي رفعه أبوها وهيأ له سبيل الغنى والجاه والرياسة؛ فإنه ليحس بأن له عليه دَينًا ثقيلًا يقتضيه الوفاء لابنته!
واسترسلت الفتاة في أحلامها …!
لقد شعرتْ منذ زارها شفيق وأهدى إليها هديته شعورًا لم يكن لها به عهد، فراحت تذكر ماضيها منذ رأته أول مرة، ثم كيف كانت تراه بعد؛ ومضت تعلل وتفسر وتستنبط وتستشفُّ حجاب الغد: هذه الابتسامة التي كان يلقاها بها كلَّ صباح، وتلك النظرة التي يودِّعها بها كل مساء، وذلك الإحسان في المعاملة، وهذا السخاء في المكافأة، وهذه الهدية في ليلة العيد … إنها آيات بينات، وإنها لتزعم لنفسها أنها تعرف دلائلها، بل إنها لتحاول الليلةَ أن تُقنع نفسها أن ذلك الشعور الذي تَشعره منذ قريب ليس جديدًا عليها، ولكنه سر يستعلن وضمير يتكشَّف وحبٌّ كان يستره الحياء فانكشف عنه حجابه. بلى، إنها لتحبه حبًّا صريحًا رسخت جذوره على الأيام في أعماق قلبها إلى إبَّانه! هكذا قالت لنفسها قبل أن تأوي إلى فراشها لتُتم في منامها الحلمَ اللذيذ الذي بدأته في يقظتها …!
… وقال شفيق لنفسه وهو في طريقه إلى داره: حَسن! لقد فعلتُ اليوم شيئًا ولكن عليَّ أشياء، إن روح أبيها لتتمثَّل لي لتذكِّرني بواجبي، فأكون لها كما كان أبوها لي؛ زهرة غضة لفحتها أعاصيرُ الحياة الهوج فاقتلعتها من منبتها إلى حيث ألقتها داميةً على الشوك، فلم تشكُ حظها ولم تتسخَّط. ما أحراها وأحرِ بي أن أذيقها طعمَ السعادة التي حُرمتها، وأن يكون لها عيد مثل عيد الناس …! هؤلاء الفتياتُ اللاتي يغدون ويرحن مع أزواجهن أو آبائهن يحملن هدايا العيد ويرفلن في مطارف الشباب وأبراد السعادة، لسنَ أولى من سمية بما يتمتعن به …! دَينٌ طالما هممتُ بالوفاء به، ثم نهنهت نفسي مخافةَ أن أجرح كبرياءها إن مددت إليها بالإحسان يدًا، ولكنه دَين الحي للميت، لا حلَّ منه ولا براءة، وقد استأذنتها فأذنت …
وراح شفيق لموعده صبيحة يوم العيد، وخرجا معًا يرودان مغاني الشباب ومجالي الأُنس والمسرة ذراعًا إلى ذراع، وفي كل قلب حديثه ونجواه …
عاطفتان من أسمى ما غرس الله في قلوب البشر. أما قلبٌ فيخفق بالحب وسعادة الأمل؛ وأما قلبٌ فتغمره سعادة الرضا وتملؤه عاطفةٌ أسمى وأنبل. وإن في الحياة ما هو أسمى من الحب وأنبل …
وشعر كلاهما أن الله يظلهما بجناحيْ رحمته حين تحققت لكل منهما أمنيته …
ومضيا وإنها لسعيدةٌ وإنه لسعيد، لا يكاد يشغلهما عن أمرهما شيء، والشباب يجدد لسمية كل يوم مُناها ويوقظ أحلامها وهي نائمة، ثم استيقظت فجأة …
وغدا عليها شفيق ذات صباح ينبئها …
… كانت سمية قد ذاقت في أيام قلائل من ألوان السعادة ما لم تكن تتوقع أن يتهيأ لها في عمر مديد؛ ونالت — بمعونة صديقها — حظوةً ورياسة في العمل الذي تتولاه لا تتسنَّى لمثلها بعد سنين من المثابرة والدأب، وزاد أجرها زيادة مرموقة تُهيئ لمثلها العيش الرغد في أمانٍ وثقة بالمستقبل. ولكن الغد السعيد الذي كان يتخايل لها في أحلامها ويقظتها، وتتنوره على البعد قريبًا قريبًا دون مدِّ ذراع؛ ذلك الغد كان يشغلها عن الشعور بما هي فيه؛ فلم تكن مَن كانت، فتاةً تعيش ليومها بلا ماضٍ تأسى عليه ولا أمل تتشوف إليه؛ فقد أجدَّ لها هذا الشعور الطارئ أملًا تَرقُب له الغد، ولكن هذا الغد الذي كانت تتوهم أنها تنظر إليه — حين تنظر — من وراء سِتر رقيق، لم يكن إلا صورةً في إطار ليس وراءه إلا الحائط الصلب، على حين كانت تظن أنها بالغة إليه بين صبح ومساء؛ ومدت يدها تهتك الستر لترى، فإذا الإطار الذي يمسك الصورة الخادعة يردها إلى حقيقة دنياها فيوقظها من أحلامها …
… وقال لها شفيق: «أنتِ مدعوة غدًا يا صديقتي إلى حفل زفافي …!»
وفغرت الفتاة فاها مدهوشة وهتفت: «حفل زفافك!»
إذن ففيمَ كانت هذه العناية بها …؟
وعرفتْ بعد لَأْيٍ فسكتت، ثم خلت إلى نفسها فأرسلتْ عينيها أسفًا وندامة!
نعم، إنها لم تخسر شيئًا، ولكنها فقدت الأمل الذي عاشت له أيامًا من حياتها كانت كفيلة بأن تُنشئها خلقًا آخر؛ ولم يخدعها صديقها أو يزوِّر لها الحقيقة، ولكنها هي خدعتْ نفسها فباءت بالخسران والحسرة!
قلبان كانا يخفقان لمعنيين متباعدين لم يتكاشفا معنًى لمعنى، ألقى الشيطان بينهما أمنية فرَّقتْ بينهما، على حين كان يُرجى بقاءُ الوداد؛ ما ذنبها؟ وما ذنبه؟ ذلك حكم القدر!
وعادت سمية وحيدة إلى مثواها، كعادتها يوم كانت، ولكنها اليوم فتاةٌ غير من كانت!
لقد نالتْ كثيرًا مما كانت تتمنى، وحظيتْ من نعماء الحياة بما لم تكن تأمل، ولكن …
وذكرت موقفها ذات ليلة، يوم رفعت يديها إلى الله داعية: «يا رب! لا أريدها إلا مذاقًا أعرف به كيف يعيش السعداء من خلقك …!»
هكذا كانت دعوتها، فهل كان شيء غيرُ ما أرادت؟
لقد استجاب الله دعاءها، فأذاقها من ألوان السعادة ما لم تكن تتوقع، وزادها على ما أرادت، ولكنها لم تكسب شيئًا …
لقد باعت الغالي بالخسيس، يوم باعت سعادة الرضا بسعادة الأمل …!