أم بلا ولد!
كانت خديجة في الخامسة والعشرين من عمرها، أو لعلها قد جاوزتها، وإن كانت تبدو لمن يراها أصغر من ذلك، فهي قد نالت إجازة التدريس منذ بضع سنين، فكم كانت سنها يومئذ …؟ على أن ذلك لم يكن يعنيها كثيرًا، ولعلها لم تشغل نفسها يومًا بحساب عمرها، وماذا يُجدي عليها ذلك وإنها لسعيدة بحياتها التي تحيا، فما لها فِكر في غد ولا أملٌ يمتدُّ إلى ما وراء غد!
وهل يَشغل نفسه بحساب عمره وما مضى من أيامه، إلا ذو أمل يعيش به من يومه في غده، أو عاشقٌ تتجاذبه لهفة الذكرى وخطرات المنى؟
منذ بضع سنين لم تغيِّر خديجةُ شيئًا من نظام حياتها، فهي تغادر مدرستها كل يوم قُبيل العصر، بعد أن تودِّع تلميذاتها، لتلقاهم في صبيحة اليوم التالي أشوقَ ما تكون أمٌّ إلى بنيها وبناتها!
وفيما بين مسائها وصباحها لم يكن لها من عمل إلا أن تأوي إلى غرفتها تقرأ في كتاب، أو تشارك في عمل هين من أعمال البيت، أو تخرج لزيارة بعض جاراتها وصديقاتها؛ فإذا بدا لها يومًا أن تخرج إلى بعض الحدائق العامة للرياضة، أو تشاهد رواية جديدة في السينما، أو تقصد إلى بعض المشاهد التي يؤمها الناس للتفرج؛ فلا بد لها يومئذ من رفيقات أو رفقاء من تلاميذها الصغار في روضة الأطفال، يشاركونها في الرحلة والتفرج.
على أن هذا الحب العجيب الذي كانت تمنحه هؤلاء الصغار لم يكن بلا جزاء؛ فقد كان تلاميذها يبادلونها حبًّا يفوق ما يمنحون آباءهم وأمهاتهم اللائي ولدنهم!
وما كانت خديجة هي المعلمة الوحيدة في روضة الأطفال، فإن سبع معلمات يحملن معها أعباء العمل المدرسي، ولكنها هي وحدها — بهذه العواطف الأموية الصادقة — كانت في عيون أطفالها هي المعلمة الوحيدة، لا جَرم كانت خديجة بذلك أسعدَ زميلاتها وأكثرهن شعورًا بمسرات الحياة!
وغنيتْ خديجةُ بدنياها تلك عن المنى والأحلام، فما طَوعتْ لنفسها أن تحلم أو تتمنى، ولا هجس في قلبها أن وراء هذه الحياة التي تنعم بهدوئها حياةً تتخايل في أوهام كلِّ فتاة في فنون وألوان!
وكان صباح، وجاءها ساعي البريد بخطاب …
ونظرت الفتاة في غلافه قبل أن تفضه فأطالت النظر، وكأنما أحست وراءه عينين تنظران إليها نظرة لم تفهم معناها ولا رأت مثلها لذي عينين، وقرأت على الغلاف «الآنسة خديجة» وحسب …
من يكون صاحب هذا الخط …؟ وترددت برهة، ثم همَّت أن تفضه لتعرف ما فيه، ولكنها لم تفعل، لقد خُيل إليها أن أربع عشرة عينًا تنظر إليها لتعرف قبلها ما في هذا الخطاب، إن زميلاتها في المدرسة على مقربة …! وتصنَّعت عدم المبالاة ووضعت الرسالة في حقيبتها وما قرأتها …
ولأول مرة أحست خديجة أنها في حاجة إلى أن تبتعد عن أطفالها لتخلو إلى نفسها برهة؛ وكما تحاول الأم أحيانًا أن يبعد عنها أطفالها وهم أحب إلى قلبها لتخفي عنهم بعض أسرار الأمومة، كذلك فعلت خديجة …
عزيزتي خديجة!
تُرى هل تذكرين؟ أو تعرفين …؟
إن أيامًا لا أتمتع فيها بمرآك ليست من الحياة، إن هذا القدر الذي أبعدني عنك إلى حين قد صدع صَدعًا في أيامي!
وفجأني الفراق بين غفوة الأمل وصحوة الحلم، فلم أودِّعك يا عزيزتي، ولم أتحدث إليك، وسافرتُ وما تدرين …
تُرى بماذا تحدثك نفسك الآن يا عزيزتي …؟ ليتني قريب منك، فأرى، وأسمع، وأعلم … بل إنني لأعلم علمَ قلبي وإن لم تحدثيني … وستعرفين عذري، وتغفرين لي … وسنلتقي من بعدُ يا عزيزتي فأحدثك وتحدثينني، وأضحك وتضحكين معي حين نتذكر هذا الحاضر بعد أن تطويه الأيام في مَدرجةِ الماضي …
ولست أغفر لنفسي، ولكنك ستغفرين لي، ويوم يجمعنا القدر الذي فرَّق بيننا يا عزيزتي ويعود ما كان … وأراك … ويعود الربيع النضر طلقًا ضاحكًا يتهلل … يومئذ أقول لك … لا، لست قائلها اليوم، ولن أقولها غدًا، سأجعلها رسالةً على فم طفل صغير يلثغ بها همسًا في أذنك، فتضحكين، وأضحك، ويضحك الطفل الصغير كأمه وأبيه وإن لم يعرف لماذا يضحكان …!
كيف أنتِ الآن يا عزيزتي؟ هل رضيتِ وسُرِّيَ عنك؟ إن كان كذلك فاكتبي إليَّ لتهدأ نفسي …
مضى يومان وأنا في هذا المنأى البعيد كأنهما ليل مطبق ليس وراءه نهار، فكيف تمضي الثلاثون؟
ارقبي مطلع الهلال يا عزيزتي فإني أرقبه كل مساء لأعرف متى يحين اللقاء! وأترك قلبي لديك وديعة إلى معاد!
كانت أناملها باردة كالثلج، وكانت شفتها تختلج، وكانت الصحيفة مبسوطة تحت عينيها ولا تكاد ترى، وأحسَّت فجأة، وقد بلغت آخر الرسالة، مثلَ إحساس من يهبط من علو شاهق مغمض العينين إلى وادٍ من أودية الجنة كان مخبوءًا عن عينيه، فلما وطئته رجْلاه فتَّح فرأى …
وعادت تقرأ الرسالة ثانية وثالثة، وكل مرة تُجدُّ لها فكرًا وتوقظ معنًى، ثم طوت الكتاب برفق وأودعته غلافه، وراحت تفكر … وسألتْ: «تُرى من هو؟ وأين هو؟ ومتى رآني؟ وأين …؟»
وتوزعتها الصورُ والأوهام، وراحت تكدُّ خاطرها لتذكر، وتعاقبت على مخيلتها صور ورسوم، ولكنها لم تعرف … يا لها حيرة!
فتى يبلغ حبها من نفسه هذا المبلغ، فيكتم هواه عنها وعن الناس، ويقنع منها بالنظر على مَبعدة وهي لا تدري، ويطوي جوانحه على ألم الحب، وبرحاء الوجد، وشقة النوى، وهي لا تعرف مِن أمره، ولا تسمع من خبره، ولا تحس وقْع نظرته، حتى إذا أبعدته بعض شئون الحياة عن طريقها، وحِيلَ بينه وبين أن يراها، غلبه الهوى على الكتمان فباح بحبه وأمانيه في رسالة. أيُّ فتى ذاك؟ وأين مثله في الشباب؟ يا له من رجل!
وأحست الفتاة بعد فترة أنها قد غابت كثيرًا عن أطفالها، فأصلحت شأنها وعادت إليهم، ولكن خديجة التي فارقتهم غير خديجة التي عادت …
… ودق الجرس، وقامت خديجة لتودِّع أطفالها وتمضي لشأنها، ولكن أين تذهب اليوم؟
وأخرجت الرسالة من حقيبتها وعادت تقرأ: «عزيزتي خديجة …!»
إنه يعرف اسمها، على حين لم تكن تعرف اسمه ولا تحس وجوده، بلى، وإنها إلى الساعة لا تعرف من اسمه إلا الكلمة الواحدة التي جعلها في ذيل كتابه، وكم مرة رآها، وأتبعها عينيه، واستمع إليها تحدِّث صواحبها في الطريق، وهي لا تدري …
وعادت تقرأ: «وفجأني الفراق وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم، فلم أودِّعك يا عزيزتي، ولم أتحدث إليكِ … وسافرتُ وما تدرين …!»
وخفق قلبها، وأحست مثل إحساس المفارق حِيلَ بينه وبين الكلمة الأخيرة، وعضت على شفتيها، واستمرت تقرأ وفي قلبها وجيب، وفي دمها سعار يتلهَّب!
وجلست خديجة في الشرفة في المساء ترقب مطلع الهلال وتُحصي ما بقي من ليالي البعاد!
تغيرت حياة خديجة بعد ذلك اليوم، فكأنما هي تعيش في دنيا غير الدنيا التي عرفتها منذ كانت، وتضاعف إحساسها بالحياة منذ عرفتْ أن وراء اليوم غدًا، ورأت في عيون أولئك الصغار الذين تعيش معهم نصف أيامها معانيَ جديدةً لم ترها في عيونهم من قبل؛ إذ كملت في نفسها معاني الأمومة حين بزغ في قلبها الحب. وعَمرت لياليها بالأحلام …!
ولمحت طفلًا يهمس في أذن رفيقه، فاشتاقت أن تسمع رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همسًا في أذنها فتضحك ويضحك شخص ثانٍ …!
ووسع خيالها ما لم يكن يسع!
وتعاقبت الأيام، والأحلام تطاولها وتمدُّ لها …
ولما خلت إلى نفسها في غرفتها بعد أسبوعين من تلك الرسالة، اعترفت لنفسها بصوت مسموع أنها تحبه، وأنها تكاد تعرفه لو رأته … بل إنها لتعرفه يقينًا لا شبهة فيه … هكذا زعمتْ وهي خالية إلى نفسها تحدثها!
وارتسمت في خيالها صورة كاملة للرجل الذي جاءتها رسالته ولم تره قط، ورسمت لنفسها صورةً أخرى من خيالها يوم تراه فتعاتبه ثم تصفح عنه!
وبقي يومان على مطلع الهلال …
وكانت واقفة في الشرفة تستروح رَوحَ الربيع، حين سمعت رنين الجرس … وكنَّ ثلاثًا من صديقاتها، وجلسن وجلست معهن في غرفة الاستقبال. ومضى الحديث يتنقَّل من فن إلى فن إلى فنون.
وقالت واحدة لجارتها: «متى زفاف أخيك؟»
قالت: «لقد أذكرتني أمرًا … فإن رسالة جاءتني منه منذ قريب يشكو إليَّ خطيبته، فقد كتب إليها كتابًا غداة سفره فلم تُجِبه حتى اليوم، وذهبت أزورها أمس، فإذا هي غضبانةٌ كذلك، تشكو إليَّ أنه لم يكتب لها منذ سفره! أفرأيتِ …؟»
وضحكتْ، وضحك صواحبها، واعتدلت خديجة في مجلسها وقد رفَّت على شفتيها ابتسامة راضية؛ إنها وصاحبها لأسعد حالًا، فليس بينهما مغاضبة ولا عتاب، أم تُراه يغضب لأنها لم تُجِبه على رسالته؟ ولكنها لا تعرف أين تكتب إليه، بل إنها لا تعرف تمام اسمه! فماذا عليها إن لم تجبه؟
وهجس في نفسها هاجس حين بلغتْ من الحديث إلى نفسها هذا المبلغ … إنها لا تعرف مكانه، ولا اسمه، حتى ولا صورته …
وعادت تسأل نفسها: أصحيح أنها وصاحبها أسعدُ حالًا؟
كانت خديجة منصرفة عن صواحبها تتحدث إلى نفسها هذا الحديث، وإن الحديث بين صواحبها لم يزل يدور في شأن العروسين المتغاضبين، وقالت واحدة: «وتحسبين أخاك صادقًا حين يزعم أنه كتب إليها، أم ترينه بما يزعمه يحاول أن يعتذر …؟»
قالت: «بل أراه صادقًا، وما أراها كاذبةً حين تزعم أنها لم تتسلم رسالة منه، فما أكثر ما يغلط بعض سعاة البريد أو يتعمَّدُون الغلط … حين يفوح من بعض الرسائل عطرُ الحب أو عطر المال …!»
وضحكتْ ثم أردفتْ: «وأحسب خديجةَ قد اقتنعتْ ببعض ما قلتُ فوعدتني أن تكتب إليه!»
وفاءت خديجة إلى نفسها حين جاء اسمها في عرض الحديث، فقالت مُعجلة: «ماذا؟»
قالت صاحبتها ضاحكة: «أين كنتِ …؟ آه، لقد نسيتُ أن أخبرك أن خطيبة أخي «كامل» اسمها خديجة أيضًا، كاسمك … فلعلنا منذ اليوم في حاجة إلى أن نقول: خديجة الأولى، وخديجة الثانية؛ كما يتعاقب الملوك في الدولة على اسم مشترك!»
وضحكت ثانية، وضحك صواحبها كما ضحكت، وانفرجت شفتا خديجة عن شيء يشبه الابتسام، ولكنهما ظلتا منفرجتين، وزاغت عيناها ودارت بها أرض المكان، ثم استمسكت … وأطبقت شفتيها على السرِّ …!
ووضحت الحقيقة كاملة لعين الفتاة وعرفتْ، واستيقظت من الحلم الرائع الذي عاشت منه عمرًا سعيدًا في أيام …
وانصرف صواحبها، ونهضت متثاقلة إلى غرفتها لتفتح حقيبتها فتُخرج الرسالة التي ضلت طريقها إلى صاحبتها لتضلَّ هي بها … ونظرتْ إليها نظرةً حزينة منكسرة ثم دفعتها إلى النار وتهاوت على مقعدها خائرة!
… وصفا ما بين الحبيبين وفاء قلباهما إلى الرضا، وتحطم قلب ثالث …
وكانت خديجة في بعض الطريق ذات مساء، حين أبصرتهما يمشيان ذراعًا إلى ذراع، فأتبعتهما عينيها في ألم ولهفة، ثم دارت على عقبيها ورجعت من حيث أتت.
وعادت إلى أطفالها الذين كانوا؛ تلتمس بينهم العزاء والسلوى، فما وجدت أطفالها ولكن أطفالَ الناس.
واستنجدتْ أمومتها، فإذا أمومتها التي كانت عُدتها من قبلُ في تأليف هؤلاء الصغار هي أمومة الأثرِ الغيرانِ الذي يتشهَّى ولا يجد، ويرجو ولا يرى سبيلًا إلى تحقيق الرجاء.
ونظرتْ فإذا طفل يهمس في أذن رفيقه، فابتسمت، ثم قطبت، ثم مدت يدها إليهما بالعصا!
وهمَّ طفل أن يناديها فأخطأ النداء ونطق على عادته: ماما! فَلوتْ وجهها لتخفي عن أطفالها دمعة!
وأحس الصغار إحساس الطفولة الملهمة، فداروا بها يسألونها عما بها محزونين وفي كل عين دمعة!
ونظرت ثانية فابتسمت وسُري عنها، ثم ضمت أطفالها إلى صدرها وهي تتمتم: «لا عَليَّ يا أحبائي ما دمتم معي؛ أنتم بَنِيَّ وبناتي، وأنا لكم أُمٌّ، أُم بلا ولد!»