تقديم

يعود اسم سومر Sumer إلى الأكدية «شُمِرْ» Šumer(um)، وقد استخدمه المستشرق ج. أُبرت J. Oppert (١٨٢٥–١٩٠٥م) عام ١٨٦٩م للتمييز بين الساميين (الأكديين) وغير الساميين (السومريين)، استنادًا إلى اسمٍ يتكرَّر كثيرًا في الألواح المسمارية هو: «سومر وأكد». أما السومريون أنفسُهم فقد كانوا يسمُّون بلادهم: كِنْگِ kiengi: أي بلاد السادة الأصليين (من ki: بلد، وen: سيد، وgi: أصلي). وهو الاسم الذي تحوَّل في اللهجة السومرية الشعبية (ءٓمٓسَلْ emesal) إلى: «كَنَانْگ» kanang، وتُقرأ «كنآن»، بحذف الصامت الأخير، وهي من الظواهر اللغوية السومرية، وبإضمار العين في الألف، وفقًا لظاهرة الحروف المغيَّبَة في نقحرة العلامات المسمارية، فإن هذا الاسم يشي مباشرةً باسم «كنعان».
ومن أسماء سومر أيضًا: «كَلَمْ» kalam: أي: قُطر أو بلد، تمييزًا لها عن «كُركُر» kurkur، وهي صيغة جمع بمعنى: أقطار أو بلدان، وتنسحب «كَلَمْ» على كامل بلاد ما بين النهرَين ذات الصلة بسومر (تقابل العربية «كُلام»: الأرض الصليبة والطين اليابس)، في حين تشير «كُركُر» إلى المناطق الجبلية في الشرق أو الشمال وهي غير ذات صلة بسومر. وكانت تنافسها (كُركُر جمع kur، وتقابل العربية «كورة» (ج: كُوِر) وهي المدينة والقرية والصقع).
و«يتفق معظَم علماء الآثار على تسمية المرحلة السابقة للعصور التاريخية في بلاد الرافدَين بالعصر شبه التاريخي protohistory، ويمتدُّ من أزمنةٍ متداخلةٍ غيرِ محدَّدة بدقة إلى ٢٨٠٠ق.م.، ويتألف هذا العصر من خمسة أدوار، يتَّسم كلٌّ منها بخصائص تُميِّزه عن غيره من الأدوار الأخرى. وهي على التوالي: دَور سامراء (حسونة)، ودَور حلف، ودَور العُبيد، ودَور الوركاء، ودَور جمدة نصر المتعارف عليه بالدَّور شبه الكتابي proto literate» (يلي ذلك العصر السومري (٢٨٠٠–٢٣٧١ق.م.)، ثم العصر الأكدي (٢٣٧٠ إلى ٢٢٣٠ق.م.)، ثم العصر السومري-الأكدي (٢١١٢ إلى ٢٠٠٤ق.م.)، ثم العصر البابلي القديم (٢٠٠٤ إلى ١٥٩٥ق.م.)).

كان السومريُّون الأوائل — قبل دور الوركاء (أوروك) — خليطًا من الجماعات التي تطوف المنطقة بحثًا عن أسباب التوطُّن، ومن المستحيل بحث أصولهم العِرْقيَّة؛ فالمنطقة بأكملها لم تكن مهيَّأةً بعدُ لنشأة التجمُّعات المدنيَّة القارَّة؛ فالأدوار الأولى لم تشهَد سوى تجمُّعات متنقِّلة تعتمد على الرعي، ولم تعرف الاستقرار إلا مع انتظام الزراعة، بالإضافة إلى أن الجزء الجنوبي من الرافدين لم يكن آنذاك سوى مستنقعٍ ضحلٍ كبيرٍ غيرِ قابلٍ للاستيطان.

لقد شَهدَت أوروك (الوركاء، الطبقة الرابعة-أ) ظهور المرحلة الأولى من الخط المسماري في أواخر الألف الرابع ق.م. ولم ينتهِ هذا الخَطُّ حتى بعد انحسارِ اللغة السومرية كما نعرفُها الآن، إذ استمرَّ استخدامُه حتى عام ٥٠ ميلادية لتدوين الملاحظات الفلكية. وبين هذَين التاريخَين انتشَر استخدام اللغة السومرية لمدة تقارب ثلاثة آلاف عام، وقام الأشوريون بنَشر الخط المسماري حتى أصبح مُستخدَمًا في مراسَلات الملوك المصريين مع ملوك الشرق القديم، وانتشَرَت المسمارية العيلامية قبل وخلال العهد الأخميني متأثرةً بالمسمارية السومرية، وظهرت الأبجدية المسمارية الأوگاريتية بين ١٤٠٠–١٢٠٠ق.م.، وبشكلٍ عام لا يستطيع أحدٌ — على الإطلاق — الإلمام بتحوُّل وانتشار هذه اللغة ومدَى تأثيرها في اللغات واللهجات التي عاصرَتْها أو تلَتْها حتى ١٩٠٠ق.م. أو ١٧٠٠ق.م.، على أن اقتصار استخدامها بعد ذلك على الطقوس الدينية والملاحظات الفلكية يجعل من الرائج الجزمَ بانحسارِها واختفائها من العالم القديم، وإن كان بالإمكان تتبُّع أثَرها وتقدير تحوُّلاتها من خلال وسائطَ جديدةٍ متمثِّلة في لغات ولهجات الشرق الأدنى دون استثناء.

ظلت السومريةُ مطمورةً تحت الرمال إلى أن أُعيد اكتشافُها في القرن التاسعَ عشرَ عندما قام روَّاد الأشوريات بفك علامات الكتابة المسمارية بعد العثور على نقشٍ ثلاثي اللغة قاد إلى مقارنةٍ أولى بين الفارسية القديمة والعيلامية والأكدية، فقام هنري راولنسون H. Rawlinson (١٨١٠–١٨٩٥م) بقراءة العلامات الفارسية أولًا، وبعد عدة سنوات تمَّت قراءة العلامات العيلامية والأكدية؛ الأمر الذي أدى لاحقًا إلى قراءة العلامات التي لا تنتمي إلى أيٍّ من هذه اللغات الثلاث، وهي التي أطلق عليها ج. أُبرت اسم اللغة السومرية استئناسًا بتكرُّر اسم «سومر وأكد» في أكثر من موضع.
يُسمِّي السومريون لغتهم «ءٓمٓگِرْ» (إمِگِرْ) emegir أو «ءٓمٓگِ» (إمِگِ) emegi، بحذف الصامت الأخير؛ أي اللغة الأصلية (من eme: لسان، لغة، وgi أو gir: أصلي)، ولعلَّ دلالة هذه التسمية هي الأكثر بلاغةً لمعرفة الأثَر المباشر للغة السومرية على تكوُّن وانتشارِ ما عُرف بعدَها من لغاتٍ ولهجاتٍ أفروآسيوية وغيرها، فالأصل السومري في اللغات مسألةٌ لم يُبَتَّ نهائيًّا في شأنها وإن كانت تتوفَّر الآن على الكثير من المعطيات والقرائن التي تحتاج من الدرس اللغوي إلى مُساءلة الأصول وإعادة ترتيب للفروع، خاصةً بعد تعرُّض الفرضية الدارجة حول عُزلة اللغة السومرية إلى الكثير من الانتقادات التي تدعو الباحثين إلى تعزيز فرضيةٍ مقابلة لها آخذين في الاعتبار إمكانيةَ إعادةِ تصنيفِ السومرية باعتبارها اللغةَ الأفروآسيويةَ الأم Proto-Afroasiatic.

(١) مراحل الكتابة المسمارية

يمكن تقسيم مراحل ظهور وانتشار الكتابة المسمارية، إلى أربعة عصور، بحسب التغيُّرات التي أصابتها:

(١-١) العصر السومري العتيق (Archaic)

ويمتد من ~ ٣١٠٠ إلى ٢٦٠٠ق.م. ومعظَم شواهد هذه المرحلة تتمثَّل في المعاملات التجارية والنصوص المدرسية التعليمية كالتمارين البسيطة على كتابة العلامات، وما زالت اللغة السومرية المكتوبة بالخط المسماري في هذه المرحلة عصيةً حتى الآن على الفهم والتأويل بسبب تشوُّه الألواح وضآلة عدَدها، وقد «جاءتنا في معظَمها من مدينة الوركاء (الطبقة الرابعة أ، والطبقة الثالثة) ومن جمدة نصر، وتل العقير، ومن مدينة أور (طبعات الأختام الأسطوانية – الطبقة الرابعة والخامسة)، وأحدث كتابات هذه المرحلة عُثر عليها في مدينة فاره (شروبَّاك)» (رشيد، ٢٨).

(١-٢) العصر السومري القديم

ويمتد من ٢٦٠٠ إلى ٢٣٥٠ق.م. ويمثِّل بشكلٍ أساسي مُدَوَّنات الحكام الأوائل في مدينة لكش، وهي نصوصٌ اقتصادية وإدارية وكتاباتٌ ملكيَّة ونذريَّة ورسائلُ خاصة ورسمية، وتعويذاتٌ ورُقًى. ومصادرُ هذه المرحلة متوفِّرة أكثر مما كانت عليه مصادر المرحلة السابقة، كما أن الكتاباتِ واضحةٌ بما فيه الكفاية لإعادة بناء مُعجَم اللغة السومرية واستظهار قواعِدِها وبِنْيتها النحوية.

(١-٣) العصر السومري الوسيط

ويمتد من ٢٣٥٠ إلى ٢١٤٠ق.م. وقد سيطَر الأكديون خلال هذه المرحلة (تندرج المرحلة السركونية ضمنًا في هذا العصر)، ويُمكِن تصوُّر اللغة السومرية هنا أكثر عُرضةً للتغيُّرات من أيِّ وقتٍ مضى بسبب مُجاورَتها اللغة الأكدية، وتآثُرها معها، بالرغم من أن الرأي الشائع حتى الآن هو أن السومرية قد انحسَر استعمالها خلال هذه المرحلة في منطقةٍ محدودة.

(١-٤) العصر السومري الحديث

ويمتد من ٢١٤٠ إلى ٢٠٢٠ق.م. وقد شهد ظهور وسيطرة سلالة أور الثالثة التي شهدَت فيها المنطقة عهدًا من الاستقرار انعكَس على مظاهر الحياة، خاصة العمارةَ والبناء، وإلى مؤسِّسها ءُرْ نَمُّ تعود أقدمُ محاولةٍ لنَشر قانونٍ مكتوب يُنظِّم المعاملات. ومن هذا العصر الذي ازدهَرَت فيه الكتابة «جاءَتْنا أعدادٌ هائلة من النصوص السومرية، وبينَها أعدادٌ لا تُحصى من النصوص الاقتصادية من مدينة «لكش» Lagaš و«ءُمَّ» Umma و«ءُرْ Ur»» (رشيد، ٢٩).
وقد انتهت هذه المرحلة بتمكُّن قبائل الرُّحَّل الوافدة من الصحراء من إنهاءِ حُكْم هذه السُّلالة، فنشأَت سلالاتُ «ءِسِن» Isin و«لَرْسَ» Larsa و«بابل».

(١-٥) العصر ما بعد السومري Post-Sumerian

ويمتد من ٢٠٢٠ إلى ١٨٥٠ق.م. ويُعرف أيضًا بالعصر البابلي القديم، وفي هذه المرحلة أصبحَت بابل أهمَّ وأشهرَ مدن المنطقة، ولم يعُد بالإمكان الحديثُ عن كيانٍ سياسيٍّ سومري، إلا أن الأمر كان مختلفًا مع اللغة السومرية.

فقد كان استعمالُ العلاماتِ المسمارية منتشرًا على نطاقٍ واسع، في النصوص الإدارية والقانونية والنقوش الملكيَّة، ومعظَمها كان مزدوج اللغة (سومريًّا-بابليًّا)، كما أن كثيرًا من النصوص الأدبية السومرية التي تحدَّرَت من مراحلَ أقدمَ من خلال تقاليد الإنشاد والرواية، تمَّ تدوينُه كتابيًّا للمرة الأولى في المرحلة البابلية القديمة، وتضمَّن نصوصًا متنوِّعة الموضوعات كالأساطير والملاحم والأناشيد والمراثي والطقوس الشعائريَّة والنذريَّة والأمثال والحِكم والقصص والعِظات والملاحظات الفلكية.

وبعد عدَّة قرونٍ من المرحلة البابلية القديمة استمرَّ تعليم السومرية في المدارسِ البابلية حتى أواخرِ القرن السابع قبل الميلاد، بل إننا نجد الكلمات السومرية بعد ذلك بزمنٍ طويل تظهر مدوَّنة في العصر الهليني في رسائلَ يونانية.

وببدء العصر المسيحي يبدو أن استخدام اللغة السومرية قد اختفى، مثلما اختفَت الكتابة المسمارية، بل إن اسم سومر سيبدو كما لو أنه قد تلاشَى من الذاكرة، بعد انتشارِه لثلاثة آلاف عام، إلى أن تتم إعادةُ اكتشافه في القرن التاسعَ عشرَ بعد الميلاد.

(٢) الكتابة المسمارية وتمثيل خصائص اللغة السومرية

لقد نشأَت الكتابة المسمارية لتمثيل اللغة السومرية على نحوٍ تدرُّجيٍّ بطيء، ومتابعة ما أُنتجَ عَبْر الأدوار القديمة من فخاريَّات (وهي المَدْوَنة الوحيدة الغنية بالشواهد النموذجية) تجعلنا نرفُض الفكرة التي شاعت حينًا في الأوساط العلميَّة حول النشأة المفاجِئة لهذه الكتابة، وهي فكرةٌ انعكسَت على البحث اللغوي وحرَّفَت مسارَه إلى حين.

من المرجَّح أن أولى الألفاظ في نشأة اللغة كانت عبارةً عن حروفٍ مفردة للتعبير عن الأشياء والانفعالات، وهي البداية التي يُمكِن أن نفترضَها في رحلة تدوين اللغة ونشأة الكتابة؛ إذ جرى في المرحلة الصوريَّة تصويرُ سطوح الأشياء بخطوط تختزل أشكالها العامة، للإشارة إليها عن بُعد، وهي المرحلة التي بدأَت بها الكتابة الهيروغليفية المصرية أيضًا.

لقد جرى تدوينُ العلامات المقطعية تدريجيًّا؛ حيث بدأَت بالمقاطع المفردة، ثم تعدَّدَت شيئًا فشيئًا حتى بلغَت ألفَ علامة، كلُّ علامةٍ منها مثَّلَت مقطعًا دالًّا على شيء، وباجتماع علامةٍ مع أخرى تولَّدَت الكلمات، وكلَّما رسخَت مفردةٌ في تداوُل السومريين كان يجري تدوينُها، مقطعَين فثلاثة فأربعة، هكذا مرورًا بمراحل تطوُّر التدوين بالخط المسماري، وصولًا إلى اضمحلاله؛ أي إن المُعجَم السومري اتَّبع في انتقاله من الرَّقْم (الكتابة على الألواح) الصوري إلى الكتابة المقطعية مراحلَ في التعبير كان أوسطُها أثراها. وبغَض النظر عن عدَد من الفُويرقات التي يميِّز بها بعضُ الدارسين مراحلَ النشأة والتطوُّر، إلا أن ثلاثَ مراحلَ تُذكر عادةً في هذا الشأن:

(٢-١) المرحلة الصورية Pictographic

في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد رسَم السومريون علاماتهم المسمارية على ألواحِ الطين لتمثيلِ الألفاظ، باختزال سطوح الأشياء إلى مجموعةٍ من الحزَّات المثلَّثة، التي يُحدِثُها أثَر القلم الخشبي على الطين الطري. فكانت كلُّ علامة تمثِّل شيئًا محدَّدًا، مثلًا: يدلُّ اختزالُ رسمِ رأسِ الثور بالعلامة: (كُتبَت في الأصل) على كلمة gu4 أي: ثور. واختزال رسم رأس البقرة بالعلامة (كُتبَت في الأصل) على كلمة ab2 أي: بقرة، أما رسم العلامتَين معًا فقد عبَّروا به عن معنى: «ماشية»، ولكن العلامات المستخدَمة في هذه المرحلة لم تكن كافيةً للتعبير عن المجرَّدات وتدوين المعنويَّات. ولا «يمكن الجزم بأن نصوصَ هذه المرحلة لم تكن تحتوي على علاماتٍ مقطعيَّة، بسبب صعوبةِ قراءةِ هذه النصوص»، «وبلغ عدَد العلاماتِ المسمارية التي استُخدمَت خلال هذه الفترة في جميع المناطق السومرية حوالَي ١٠٠٠ علامة. ويُخمَّن عددُ العلامات المسمارية التي استُخدمَت خلال هذه الفترة في جميع المناطق السومرية بحوالي ٢٠٠٠ علامة، وهذا العددُ الكبير قد اختُصر في منتصف الألف الثالث ق.م. إلى ٨٠٠ علامة» (رشيد، ٢٣-٢٤).

(٢-٢) المرحلة الرمزية

في هذه المرحلة طوَّر السومريون باستخدام العلامات القديمة تِقنيَّاتِ التعبير وتمثيل الأشياء والحاجات؛ فمثلًا: مثَّلوا فعل الأكل بإضافة بعض الخطوط لعلامة الرأس للتعبير عن الفم (ربما مثَّلَت هذه الخطوط اختزالًا للأسنان)، ثم أضافوا إليها علامةَ الخُبز:

figure
ومثَّلوا كلمة أَمَة برسمٍ يختزل جسدَ المرأة مُلصَقًا بها العلامة الدالة على الجبال أو البلاد الجبلية التي يبدو أنها كانت تُناصِبهم العدَاء. ولكن هذا الأسلوب بالرغم عن تطوُّره عما سبقه، لم يكن كافيًا، فأصبحَت بعض العلامات تؤدي أكثر من معنًى متَّصِل، بحيث يصعُب التمييز بينها بسهولة، من ذلك أن نفسَ العلامة المعبِّرة عن المحراث استُخدمَت للتعبير عن الفعل «حَرثَ»، وعن العمل «حِراثة». ومن الأمثلة الأخرى على هذا الازدواج أن الصفة babar (أبيض) كُتبَت بالعلامة المعبِّرة عن الشمس ud، وهي ، والصفة: أسود، كُتبَت بالعلامة المعبِّرة عن الليل.

(٢-٣) المرحلة المقطعية

استطاع السومريون في هذه المرحلة اختزالَ علاماتِ الكتابة المسمارية في أصواتها بغَض النظر عن دلالاتها الأصلية. وأحدُ أقدمِ الأمثلة على ذلك يعود إلى دور جمدة نصر، حوالَي ٢٩٠٠ق.م.؛ حيث استُخدمَت العلامة الممثِّلة للقصب «گِ» gi لتمثيل معنى: عوَّض، أعاد دَيْنًا؛ الذي يُلفظ gi كذلك. ومن الأمثلة الأخرى أن اللفظ «تِ» ti مثلًا يؤدي معنيَين؛ حِسِّيًّا وهو: سهم، ومجرَّدًا وهو: حياة، وهكذا كلما أرادوا كتابة كلمة: حياة، وضعوا علامة السهم؛ أي إن علاماتِ الكتابة المسمارية جُرِّدَت من معانيها الأصلية (إلا متى ما أرادوا التعبير عن هذه المعاني) واستخدموا أصواتَها كمقاطع يتم لصْقُها بمقاطعَ أخرى للتعبير عن معانٍ ومفاهيمَ جديدة.
من الأمثلة المتكرِّرة نجد أن لفظ: ka يُؤدَّى بعلامةٍ ليعني: فم، كلام، وبعلامةٍ أخرى معنى: بوَّابة. وهذه إحدى أساليب الكناية الشائعة في اللغات واللهجات الأفروآسيوية؛ فالمقطع «ك» ka بشكلَيه يؤدي معنًى واحدًا، لا لاتفاقٍ عَرَضِي، بل لأن كلمة فم الأقدم، انصرفَت بالتخصيص إلى: كلام، كما انصرفَت بالكناية إلى: باب.
ونجد أن هذه الكلمة ka العتيقة archaic في المصرية القديمة كانت تعني: فم، أيضًا، ولكنها أخذَت معنًى آخر هو: روح؛ لأن الروح في الميثولوجيا المصرية القديمة كانت تُغادِر الجسد عَبْر الفم.
وقد كان لتمثُّل المقطع «گُ» gu أربعَ عشرةَ علامةً، منها: gu حبل ، gu2 عنق، قوة ، gu3 صوت ،     gu4 ثور ، gu7 أكلَ ، gu14 أرض ، وهكذا.
وكذلك العلامة «گِر» gir التي تَرِد تجانُساتُها الصوتية بأشكالٍ كثيرة منها:
gir     (سمكة)، gir2     (شفرة، سيف، حدٌّ حاد)،     gir3     (نوعٌ من الأشجار)، gir4     (فرن)، gir5     وgir7     (ساعٍ)، gir8     (شذَّب)، gir9   (وعاءٌ كبير)، gir10   (غضَب)، gir11   (نِير)، gir12     (حيوانٌ قارض، متوحش، شيءٌ متحرِّك).
وفي تمثيل ni نجد: ni   (لتمييز الشِّباك)، ni2    (خوف)، ni3   (طَلْع، باكورة الثمار) … إلخ. إلا أن     ni أيضًا قد ترِد، في نفس الوقت، لتمثيل أكثر من مقطع: ne2، li2، le2، i3، zal. كما يمكن أن ترِد لتمثيل مقطعَين من هذه المجموعة، مثلًا: تُقرأ:    i2-li3  illi   وهي الأكدية awēlu: رجل، العربية: أَلْوى (رجل فرد).

(٣) المُحدِّدات

لمزيد من التدقيق لجأ السومريون إلى كتابة المحدِّدات، وهي علامات ساعدَت على تلبية الحاجة إلى القراءة بمرونة، وتفادي الخلط بين ما تمثِّله العلامات وبين الدلالات المتوخَّاة منها. والمحدِّدات هي العلامات المسمارية التي تُوضَع قبل الكلمات أو بعدها لتعيين الدلالة.

مثال: لكتابة اسم إله الشمس «ءُتُ» Utu     يُكتب محدِّد تعيين أسماء الآلهة dingir    ، وهي أيضًا الكلمة «آن» an وتعني: سماء، إذ بغير هذا المحدِّد تُقرأ الكلمة ud بأحد معانيها الأخرى، وهي: يوم، حرارة، حُمَّى، صيف، شمس. وفي النقحرة اللاتينية للعلامات المسمارية يتم اختزال هذه العلامة في الحرف d ويُكتب مرفوعًا إلى أعلى مثلًا: الإله ءُتُ dutu.

(٣-١) العلامات السَّابقة (وتُوضَع قبل الكلمات)

  • إله     dingir، لأسماء الآلهة.
  • جرَّة     dug، للأواني والأقداح الفخَّارية.
  • قصَب     gi، للقصَب والأدوات المصنوعة منه.
  • خشب     giš، للأشجار والأخشاب.
  • نهر     id، للأنهار والجداول وقنوات الماء.
  • رجل     ، لمِهَن الرجال وأنسابهم.
  • امرأة     munus، لمِهَن النساء وأنسابهن.
  • حجر     na4، لأنواع الحجارة وأدواتها.
  • نباتٌ عطِر     šim، لأنواع العطور.
  • نبات     ú، لأنواع النبات.
  • مدينة     uru، لأسماء المدن.
  • نحاس     urudu، للأدوات المعدنية.
  • لحم     uzu، للحوم.
  • الرقم «١»     ، لأسماء الأعلام.

(٣-٢) العلامات اللاحقة (وتُوضَع بعد الكلمات)

  • مكان     ki، لأسماء المدن والمناطق.
  • سمكة     ku6، لأنواع الأسماك والحيوانات النهرية.
  • طير     mušen، لأنواع الطيور والحشرات.
  • خضار     sar، لأنواع الخضار.
figure
أمثلة من المُحَدِّدات.

ولم تمُرَّ الكتابة المسمارية بالتسلسُل الذي أوردناه دون تعقيد؛ فنمط الكتابة في العصور الأولى مثلًا، لم يكن يتَّبِع نسقًا منتظمًا من أعلى إلى أسفل أو من اليمين إلى اليسار، بل إن الألواحَ التي حَفِظَت النصوصَ الأركائية كانت تبدو أشبه بألواح التمرين على الكتابة؛ فالعلاماتُ وُضِعت بشكلٍ غير مُنتظِم، ولم تكن بالضرورة تعبِّر عن موضوعٍ واحد.

وقد مثَّل استخدام العلامات المسمارية لتمثيل اللغة الأكدية مرحلةً أخرى قاد فيها هذا التداخُل إلى وضع المزيد من قواعد الكتابة، والتواضُع على استخدامها.

figure
أمثلة من تطوُّر الكتابة المسمارية.
العلامة dingir     (المتطوِّرة عن الشكل القديم ) مثلًا، استخدمها السومريُّون كمحدِّد يسبق أسماء الآلهة، كما استخدموها لتمثيل اسم الإله An، ولتأدية معنى السماء an، وفي نفس الوقت استخدمها الأكديون لتمثيل كلمة ilum (إله)، كما لتمثيل اسم الإله Anum، ولتأدية معنى السماء šamū. وقد كانت ترِد قبل أسماء الآلهة بغَض النظر عن اختلافها بين الأكدية والسومرية؛ فاسمُ إلهِ الشمسِ الأكدي dšamaŠ كُتب وهي علامةُ إلهِ الشمسِ السومري dutu. إلا أن الأكديين استخدموا العلامة an أيضًا كمقطعٍ صوتي أينما ورَد؛ أي كجزء من كلمة، أو ككلمةٍ كاملة بمعنى: إلى، المُختصَرة من صيغة ana. كما استخدموها كقيمةٍ صوتيةٍ لتأدية il خاصة في أسماء الآلهة. وأخيرًا كمحدِّد يسبق هذه الأسماء. وكان تَكْرارها مرتَين يعني صيغة الجمع من إله، وتَكْرارها ثلاثَ مراتٍ يُقرأ an il ويعني: إلى الآلهة.
والعلامة السومرية e    : بيت، معبد. استُخدمَت لتمثيل كلمة bitum الأكدية بنفس المعنى. والأكدية لغة مُعربة تتغير أواخر كلماتها بحسب ورودها في سياق الكلام؛ فكلمة bītum تتحول أحيانًا إلى bītim، كما في العربية: بيتٌ وبيتٍ؛ لذا عمد الناسخون إلى كتابة علامة e السومرية بالإضافة إلى النهاية tim     كلما أرادوا تأدية صيغة الكسرِ أو الجرِّ. كما ألحقوا علامةَ dingir بعلامة e لتأدية معنى السماء (الجنَّة) بكلمة anu     التي تعني حرفيًّا: بيت الله.

(٤) الضمائم المقطعية

لإعادة قراءة الضمائم السومرية يتم تفكيك المقاطع المُكوِّنة للكلمات واعتبارها جذورًا مفردة؛ فالأساس في اللغة السومرية هو البناء على الدلالة المنفصلة لكل مقطع وضمِّها إلى دلالةٍ أخرى بلصقِ مقطعٍ غيره لإنتاج معنًى جديد؛ فالمقطع-الكلمة «لُ» lu مثلًا أي «رجل»، إذا أُلصِق به المقطع-الكلمة «گَلْ» gal أي «عظيم»، ينتج كلمة «لُگَلْ» lugal التي تُحمَل على الكناية فتؤدي معنى: ملِك. ومن معادلاتها المعروفة:
  • ama (أم) + gal (عظيم) = amagal: الأم العظيمة > كاهنة، جَدَّة.
  • am (ثور وحشي) + si (قَرن، ~ خرطوم) = amsi: ثَور بخُرطوم > فيل.
  • amsi (فيل) + arran (طريق) = amsiarran: فيل الطريق > جَمَل.
  • e (بيت) + anna (سماء) = eanna: بيت السماء > معبد، حرم.
  • igi (عين) + ul (شر) = igiul: عين الشر > حسد.
  • lu (رجل) + im (ريح) = luim: رجل الريح > لئيم، محتال.

وبعبارةٍ أخرى فإن مُعجَم اللغة السومرية إنما هو سلسلةٌ من الكنايات والاستعارات والأساليب البلاغية التي ترتدُّ فيه دلالة المفردات إلى الوحدات المقطعيَّة الأصلية المكوِّنة لها.

(٥) القيم الصوتية العامة

تؤدي القيم الصوتية للفونيمات المفردة دلالاتٍ متعدِّدة، يتم التعبير عنها بعلاماتٍ مسمارية مختلفة؛ فهي إذن من المتشابه لفظًا المختلف معنًى، بحسب الوصف العربي القديم. وسبب ذلك — غالبًا — هو التوافُق بين الاستعمال اللغوي الدارج للمُفردات وبين تحميلاتِها الدلالية الاجتماعية أو الدينية أو غيرها.

فيما يلي مساردُ بأغلب هذه الفونيمات المفردة والمقطعيَّة التي جرى ترتيبها بإضافة الحركات الأربعة متعاقبةً (.َ، .ِ، .ُ، .ٓ):

مسرد «١»: ء + حركة
ءَ a ماء، مني، نسْل. دمع. ذراع، جناح. صياح. آن.
ءِ i كساء، ثوب. زيت، زبد، وعاء لحفظ الزيت.
ءُ u صوت. إصبع، قَرن، طعام. سلام. ١٠. وَ، لكن.
ءٓ e بيت، معبد، حَرَم. رأَى، تحدَّث، غادر.
مسرد «٢» ء + حركة + صامت
ءَبْ ab بحر. نافذة. بقرة. سمكة.
ءِبْ ib لعنَ. ركن. أعطاف، ورك، خصر. غضبَ.
ءُبْ ub ركن. فجوة. طبْل.
ءٓبْ eb بيضة. بيضوي الشكل.
ءِگْ ig باب، مدخل.
ءُگْ ug ضوء. غضب. أسد. عويل. ضئيل. ماتَ.
ءٓگْ eg سُدَّ، أقام سُدًى.
ءَگْ٢ قاسَ، كالَ.
ءُگْ٢ شعب، ناس.
ءَخْ a جافٌّ. بلغم، مُخاط، بُصاق، لُعاب. سُم. عجين.
ءُخْ u حلْق، حنجرة. سلَحفاة.
ءٓخْ e حشرة، بَقَّة، عِتَّة، قملة.
ءَدْ ad دغَل. لوْح [خشبي]، طوْف. صخَب، صُراخ.
ءِدْ id نهر، قناة، ساقية، مسيل.
ءُدْ ud شمس، يوم، حرارة، صيف، حُمَّى. طائر. عاصفة. ثمَّ.
ءٓدْ ed ثارَ، خرَّب، ثقبَ، خدَشَ، كشَطَ.
ءَرْ ar تسبيح، حمْدُ [الآلهة]. خراب.
ءِرْ ir عظيم. وتد. قوْل. عِطر، رائحة، عَرَق.
ءُرْ ur رجُل. خادم. كلب. كبد. خاصرة. حصَدَ. جمَعَ.
ءٓرْ er بكى، ناحَ، دموع، بُكاء، حِدَاد.
ءَزْ az نبْتُ آس.
ءُزْ uz بط، بط برِّي.
ءُسْ us ماشية. حد، جانب. رافقَ، تبعَ، جرَّ. اتَّكأ.
ءَشْ لعنة. عنكبوت. ٦. ١. خبز، طحين.
ءِشْ جبل.
ءُشْ دم، موت، قتْل، سُم، ريق. أساس [البناء]. ماتَ.
ءٓشْ حَرَم. خيمة. ٣. شجرة، شجرة لوز. طحين. برَدَ.
ءَكْ ak جعلَ، صنعَ، فعلَ.
ءَلْ al سياج [من القصب]. مجْرَفة، مِعوَل. جرْف، عزْق.
ءِلْ il أجير. طائر. سمكة. سلَّة. حملَ، نهضَ.
ءُلْ ul السماء، ثمار، أحبَّ، سطعَ، طحنَ.
ءَمْ am طائر. ثور [وحشي].
ءِمْ im طين، لوْحٌ طيني. مطر، عاصفة.
ءُمْ um طائر. حبل.
ءَنْ an سماء. عُرْجُون.
ءِنْ in رُكن، قِسم. أساء، ظلمَ.
ءُنْ un سماء، عالٍ. علا، نهضَ.
ءٓنْ en رب، سيِّد، حاكم، كاهن، تعويذة، رُقية.
مسرد «٣»: صامت + حركة
بَ ba كساء. قَسَّمَ، نصف. وعاء. الرقم ٣٠.
بُ bu تامٌّ. سرَّ. فرَّ.
بٓ be أنقَص، أضعَف، انتقَل، تراجَع.
پَ pa جناح، فرْع، سعفة.
پُ pu فم. بستان. منبع. عمق.
تَ ta ﺑِ، بواسطة.
تِ ti ضلع، سهم. سمكة.
تُ tu رُقية، كاهن. مرق. سمكة.
تٓ te غشاء، لِحاء. وجنة.
گَ ga حليب، رضاعة.
گِ gi قصَب. قتلَ. عادَ.
گُ gu طائر. ثور، قرن. عنق. قوة. حبل. جانب. صوت.
گٓ ge   نسْخ، [رقيم] مكتوب.
گَ٢ ĝa بيت.
گِ٢ ĝi طائر. ليل، ظلام.
خَ a خضار.
خِ i مَزَجَ.
خُ u كَشَطَ.
خٓ e كانَ.
دَ da طائر، صقر. خط، جانب.  رقيم [الكتابة].
دِ di ذهَبَ، مشى. لمعَ.
دُ du غرسَ، ساقَ، حملَ، بنى، صنعَ. عزفَ.
دٓ de أحْضَرَ، حملَ، سكبَ.
رَ ra نقي، طاهر، بيِّن. سطعَ، أشرقَ.
رِ ri قذفَ، أطلق، أرخى، ساقَ، ابتعد.
رٓ re ذلك.
زَ za رجل. خرزَة، عقيق.
زِ zi حياة. قطعَ، أزاحَ، نقلَ.
زُ zu معرفة، عَرفَ، تعلَّم. صخر. سِن.
زٓ ze قذارة.
سَ sa أكملَ، ضاهى، ساوى. باعَ. نقلَ. جوهرة.
سِ si ثملَ، سكرَ. ملأ. تذكَّر. قرن. إصبع.
سُ su نثرَ، بذر. احمرَّ. غرقَ. طائر.
سٓ se أقام، توطَّن.
شَ ša طائر.
شِ ši تعبَ.
شُ šu سلَّة. يد. [اﻟ] دنيا.
شٓ še أقام، توطَّن. نادى. مزَّق. قمح. ذلك.
كَ ka فَم.
كِ ki أرض، بلد.
كُ ku وضعَ، نشرَ.
لَ la أظهرَ، حملَ. فيضان.
لِ li عصرَ. دهن. غصن.
لُ lu رَجُل، شخص. مَنْ. الذي.
مَ ma احترقَ. قارب.
مِ mi سبَّح.
مُ mu نما. اسم. سنة. جميل، حسن. تعويذة، رُقية.
مٓ me ناموس، كينونة. قتال. صمت. رغبَ، غسلَ.
نَ na رَجُل. حجر.
نِ ni نفْس. طائر. خوف.
نُ nu مني، قضيب. رجل. خالق. بعوضة. لا. بدون.
نٓ ne كانون. قوَّة.

(٦) قراءة الصوائت

إن الطريقة التي قُرئَت بها الصوائت على يد علماء الأشوريَّات ودارسي السومرية، عن الألواح المسمارية، فيها عمْدٌ إلى مقاربة الصوائت كما استقرَّت في اللغات الهندوأوروبية وبما يتفق ومخارجَ الحروف المعروفة فيها، ليتمَّ تصوُّر آخر وهو إغفال أن ما تُضْمِرُهُ النقائش المسمارية إنما هو أقربُ إلى الحركات التي نعرفها في اللغات الأفروآسيوية، والتي اشتُهر منها ثلاثٌ فقط؛ فلا أحد يستطيع إثبات صِيَغ ما نطق به السومريُّون من مقاطع ونَبْر، أو كيف جعلوا مُدَد الحركات والمدَّات، أو كيف كانت استساغتهم وتفضيلهم لنحوٍ دون آخرَ في تذوُّق الحروف.

نُقدِّر أنهم لجَئوا إلى إدغام الصوائت المتشابهة عندما تكون في نهاية مقطع وبداية آخر، وهو أمرٌ حسمَتْه المقارنة بالأكدية، على ما فيه أصلًا من ضرورةٍ صِواتيَّة تقتضيها مخارجُ الحروف وأسبابُ حدوثها.

وقد رأينا علماء السومريَّة وقُرَّاء علاماتها بادَروا إلى المقارنة بالأكدية، التي قُرئَت علاماتُها أولًا، لكنهم بعد هذه المعالجة، التي سرَّعَت قراءة العلامات المسمارية، وفهْم اللغة السومرية، لم يمضُوا إلى قراءة الصوائت قياسًا بلُغات الجِوار، سَوْقًا على الظنِّ في انعدام القرابة بين السومرية وما جاوَرَها، بالرغم من أن التقليد الذي سرى فيما بعدُ بين علماء الأشوريات والسومريات دَرَجَ على القياس بالأكدية التي استخدَمَت الخط المسماري كلَّما تعسَّرَت القراءة. والأكدية لغةٌ اشتقاقيةٌ معرَّبَةٌ، يقع تجذير مفرداتها؛ أي ردُّها إلى جذورٍ مفرَدة، والتحريكُ — أو التصويت القصير — ظاهرةٌ غالبةٌ على أصوات حروفها الصامتة، إلا أن ذلك لم يتحوَّل إلى منهجٍ دائمٍ يمكِن أن يؤدي تاليًا إلى إدراك القرابة بينهما، بل كان يوظَّف من حينٍ لآخر لاستبيانِ ما استشكلَت قراءتُه من علامات.

(٧) قراءة المقاطع

قُرئَت جميعُ النصوصِ السومرية في مختلف مراحلها، التي تمتد ثلاثة آلاف عام، بالاستناد إلى المقاربات الصوتية للعلامات المسمارية التي تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد (حوالي ١٨٥٠ق.م.) والتي سجَّلَت فيها المعجَماتُ الأكدية مقابلاتها السومرية، بالرغم من أن الكثير من الإشارات يُبيِّن لنا أن نُطْق العلامات المسمارية قد طرأ عليه تغيير منذ مرحلة العصر السومري الحديث (رشيد، ٣٨)، وتدُل المقارنة بين بعض الكلمات السومرية وما يقابلها في الأكدية على أن تبادلًا حدث بين حرفَي «ت» t و«د» d، وبين حرفي «ﮔ» g و«ﮐ» k، وبين حرفي «س» s و«ز» z، كما في الأمثلة التالية (رشيد، ٣٩-٤٠):
سومري أكدي عربي
dam-a-ra tamarum معركة
ma-da mātum أرض
Ša-tu Šadum جبل
ga-ra-an karmum كرمة (كرمٌ)
ra-gaba rākibum رسول، مسافر (راكب)
ga-ba-ra kaparrum راعٍ صغير
maš-gana maškānum مَخْزن غِلال (مَسْكن)
gu-za kussum عرش، كرسي
e-gal ekallum قصر (هيكل)
za-mi sammum قيثارة

ويمكِن الاستفادة من إشكاليات قراءة الأكديَّة، للتعرُّف على الصعوبات التي واكبت نقحرةَ العلامات المسمارية، وتُشكِّل الأكدية مع السومرية، بيئةً لغوية وحضارية واحدة، استفادتا من نفس تقنيَّات التمثيل والأداء.

يقرِّر موسكاتي في معرض حديثه عن تبدُّلات الحروف في الأكدية، أن غياب حرف الواو في النصوص السومرية يرجع، في الغالب، إلى طُرق نقل العلامات المسمارية ونقحرتها، لا إلى أسبابٍ تلفُّظية؛ إذ لا يمكِن الجزم على الإطلاق أن السومريين لم ينطقوا هذا الحرف. كما أنه من الصعب الآن التيقُّن من صحَّة جميع ما تمَّ نقله حرفيًّا من تلك العلامات، بمقابلاتها اللاتينية، خاصة وأن قراءتها ظلت مشوبةً بالشك في أكثر من موضع، ومن ذلك فكرة أن العلامات لم تمثِّل بشكلٍ صريح جميعَ الحروف، وكما يقول موسكاتي فإن «نظام الكتابة المسماري لم يميِّز تمييزًا كافيًا بين (پ) p و(ب) b» على سبيل المثال؛ الأمر الذي يمكِن اعتماده كمظهر لما حدث في الأصل من عدم اتساقٍ وانتظامٍ في النقوش.
ومن ملاحظات موسكاتي على الأكدية القديمة أن حرف «ث» كُتب بسلسلة من علامات الحرف السومري «ش» š، على أن كتابة حرف «ش» تمت بسلسلة من رموز حرف «س» s، وأن تغييرًا، بالتالي، حدث فيما بعدُ في اللغات السامية من «ث» إلى «ش» š. كما أن علامة حرف «د» d المسمارية مثَّلت حرف «ط» في البابلية القديمة، مع ملاحظة أن حرف «ط» مثَّلَته علامة حرف «ت» t في شمال بابل، وأن الكتابات المصرية في الألف الثاني قبل الميلاد استخدمت «د» d بدلًا من «ط» للأسماء الأكدية، وبشكلٍ عام فإن الأكدية لا تبدو أنها تميِّز في آخر الكلمة بين «ت» t، «د» d، و«ط» لخصوصيةٍ في الخط المسماري، الذي يبدو أيضًا غيرَ مناسبٍ لتمثيل الاختلاف بين حروف «س» s، و«ز» z و«ص» في جميع الحالات. وكذلك «ك» k و«گ» g في بعض الحالات. و«خ» و«ك» k في حالاتٍ أخرى، وإن كانت الأخيرة إبدالًا شائعًا في الأكدية.
العلامة e استُخدمَت للقيمتَين الصوتيتَين a وa اللتَين من المحتمل أنهما تقابلان الساكنَين «ﻫ» h و«ح» . ولم يكن للهمزة علامةٌ خاصة إلا في الحقبتَين البابلية المتوسطة والأشورية المتوسطة، بل لم تكن حتى ذلك الوقت تُستعمل بانتظام، وقد تمَّ تمثيل الهمزة بطرقٍ مختلفة؛ بعلامة المدِّ «آ» (كما في iš-a-am لكلمة am) أو بعلامة «خ» (كما في e-i-il-tum لكلمة e-i-il-tum)، و«إلى حقبتَي البابلية القديمة والأشورية القديمة كانت المقاطع «وَ» wa، «وٓ» we، «وِ» wi، «وُ» wu، تُكتب مع العلامة السومرية «pi»؛ وفي بابل كانت العلامات التي تُستعمل فيما بعدُ لتمثيل «م» m تُستعمل لتمثيل «و» w في أغلب الأحوال، وفي أشور كانت العلامات التي تُستعمل لتمثيل «ب» b (مثال: البابلية القديمة والأشورية): ءَواتُم awātum (كلمة)، أصبحَت في البابلية المتوسِّطة ءَماتُ amātu، وفي الأشورية الوسيطة ءَبَتُ abatu. وفي أوائل الألفاظ بقيت «و» w، بعامة، إلى مرحلة البابلية القديمة والأشورية القديمة، أما بعد ذلك فقد حُذفَت، أو انقلبَت همزة، أو كُتبَت مع علامات تمثيل «م» m، كما في وُشُّرُم wuššurum (إرسال) فإنها صارت ءُشُّرُ uššuru ومُشُّرُ muššuru؛ وكما في وَرَادُم warādum (نزول، انحدار) فإنها صارت ءَرادُ arādu، أما لتمثيل «ي» y فلا يُوجَد في العلامات السومرية إلا السياق الصوتي: i-a، ولا يُستعمل لتمثيل المقطع الأكدي «يَ» ya فقط، ولكن للمقطع «يِ» yi و«يٓ» ye و«يُ» yu، وتُستعمل العلامتان a-a لتمثيل: «ءَيْ» ay، و«آيَ» āya، و«ءَيَّ» ayya، و«ءَيّٓ» ayye و«ءَيُّ» ayyu». (موسكاتي، ٥١–٨٢. مع التصرُّف في نقل العلامات بما يُناسِب علامات النقحرة المُعتمَدة في هذا الكتاب).
أما حرف ĝ الذي يُنطق كما حرفي ng مجتمعَين؛ أي إنه ناتج عن التقاء حرفَي النون والگاف في حالة السكون، وقد نُقلا دون سببٍ واضحٍ حرفًا واحدًا. وكما دعوتُ (في كتاب ما قبل اللغة) أرى أن يُعاد استظهار الحرفَين «ن» و«گ» أثناء كتابة الكلمات التي تضُمُّ ĝ، مع ما يمكِن أن يؤدِّيا إليه من إبدالات، وأن يُلغى استخدام هذه العلامة.
لقد قُرِئ حرف الخاء بمقاربته لدى قُرَّاء السومرية من الألمان من اجتماع حرفَي ch، كما في كلمة boch. فإذا كان الخاء واردًا هكذا بهذا اليسر في نُطْق السومريين، فلِمَ لا يكون العين كذلك، وخاصيَّة أوليَّةِ العين الصواتيَّة معروفةٌ في لغات ولهجات الشرق الأدنى؟

(٨) حروفٌ مُغيَّبة

إذا عالجنا الصوائت a وe وi وu في بدايات الكلمات، نجد كثيرًا منها، قياسًا بلسان العرب، يُغيِّبُ حرفَ العين ويُضمِره:
ءَ ( a) ، ءَ٢ عَ (a)
ءِ ( i) عِ (i)
ءُ ( u) ، ءُ٢، ءُ٣، ءُ٤، ءُ٥ عُ (u)
ءٓ ( e)، ءٓ٢، ءٓ٣، ءٓ٤، ءٓ٥ عٓ (e)

وتدلُّنا الشواهد على أن القُرَّاء الأوائل إنما عُنوا بتقريب السومرية لفظًا إلى ما في اللغات الهندوأوروبية من حروف، دون مقاربة مخارج هذه الحروف وأزمنة تصويتها مع ما جاور السومرية من لغات، وعلى رأسها الأكدية واللغات التي تفرَّعَت عنها، فانتشرَت واسترسلَت، فكان منها ما هو أكثر قُربًا إلى مَبدَئه، وما هو أبعد بهذا القَدْر أو ذاك، بل إن بعض الحروف تم تغييبها لأسباب تتعلق بنقحرة العلامات ولا تتعلق بتلفُّظها ضمن اتجاهٍ عام غلَّب إحلال الأصوات القريب حيِّزها من الشفاه والأسنان على الأصوات الحلقية واللهَوية المميِّزة للأفروآسيويات.

هذه بعض الأمثلة:

  • (١)
    «س» agar (ءَ گَرْ): حقل.
    • «ع»agar (عگر).
    • العَقْر والعَقَار: المنْزِل والضَّيعة والنخل والأرض.

  • (٢)
    «س» agarin (ءَگَرِنْ): نبتة تُنقع خمرًا، راقود (حوض للتخمير).
    • «ع»agarin (عَگَرِنْ).
    • العُقار: الخمر، عاقَر النبيذ: داوَمَه، العَقَّار: النبات يُتداوى به.

  • (٣)
    «س» aĝar (ءَ گَرْ): وابلٌ، مطرٌ غزير.
    • «ع»aĝar (عَگَرْ).
    • عَكَرَ المطر: اشتدَّ.

  • (٤)
    «س» aka (ءَ كَ): أُسكُفَّة الباب، عتبةٌ عُليا تشدُّ جانبَيه.
    • «ع»aka (عَكَ).
    • عكا: شدَّ وأوثَق، العُكوة: حُجْزَة غليظة.

  • (٥)
    «س» akan (ءَكَنْ): ضَرْع الشاة.
    • «ع»akan (عَكَنْ).
    • العُكن: الأطواء في البطن من السِّمَن.

  • (٦)
    «س» akkil (ءَكِلْ): النُّواح على الميت.
    • «ع»akkil (عَكِّل).
    • عكلَ: مات.

  • (٧)
    «س» alad (ءَلَد): الجَلَد، قوة الشكيمة.
    • «ع»alad (عَلَد).
    • العَلْد: الرجل الصُّلب، القوي الشكيمة.

  • (٨)
    «س» alam (ءَلَم): صورة، شكل، نُصب.
    • «ع»alam (عَلَم).
    • العَلَم: النُّصب، الوسم، رسْم الثوب. العلامة.

  • (٩)
    «س» alan (ءَلَن): مظهر.
    • «ع» alan (عَلَن).
    • العلن: الظهور والشيوع.

  • (١٠)
    «س» ili5 (ءِلِ): نهَض، ارتفَع.
    • «ع»ili (عِلِ).
    • عَلِيَ وعلا: ارتفع، والعليُّ: الرفيع.

    فإذا صحَّ أن السومريين نطَقوا حرف العين على هذا القياس المعجمي، فلِمَ لا يكونون قد عرفوا حروفَ الحلْق جميعًا، كما نعرفها، أو بتمييزها بقَدْرٍ أو بآخر، بما يصحُّ أن نُسميه بيئةَ تلفُّظ محليَّةً خاصة، جعلَت لكلِّ حرف فُرَيقاتٍ لا تُعارض طبيعته الأكوستيكية Acoustic (المسموعيَّة)، ولا تنفي مادَّته نُطْقًا وسَمْعًا في فيزيائيتها العامة؟

إن الجدول التالي يُبيِّن ما أمكَن حَصرُه من أشكالٍ مختلفة لقراءة العلامات السومرية كما نُقِلَت بالحروف اللاتينية، ومبدلاتها العربية:

Su. Ar.
a ح خ ع h
aa ي y
b ف f
d ت t ط
G ج j غ ġ ق q ك k
ĝ نج nj نغ نق nq نك nk
ĝ ج j غ ġ ق q ك k
k خ
m ء و w
p ب b ف f و w
s ز z ش š ص
š ث س s
t ط
وهي ظاهرةٌ عرفَتها العربية، وقد وُضع لأغلبها مسمَّياتٌ تعبِّر عنها وتحدِّد أثرها (كالاستنطاء (عْ نْ)، والشنشنة (ك ش)، والعجعجة (ي ج)، والعنعنة (ء ع)، والفخفخة (ح ع)، والوتْم (س ت) … إلخ)، كما عرفَتها جميع اللغات واللهجات الأفروآسيوية دون استثناء، كما في المصرية القديمة التي عرفَت إبدالاتٍ كثيرةً منها: «أ ع»، «ز س»، «س ج»، «ج د»، «ث ت»، «خ غ»، أو العبرية «ء ح، ع، ﻫ، ق»، «ب م، ف»، «ج غ، ق، ك»، «د ز، ت»، «س ش، ص، ز، ت» … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥