الرجل العجوز يفعل شيئًا
ظلَّ «أحمد» يُتابع الرجلين بعينَيه، بينما أخذ «عثمان» يُدلي بتقرير موجز عما أرسله رقم «صفر».
قال «عثمان» بصوت خفيض: يُحذِّر رقم «صفر» من الاشتباك مع الرجال الثلاثة الآن … ويُفضِّل الاكتفاء بمراقبتهم … لقد علم أن الرجال الثلاثة يَبحثُون عن رجل مجهول الشخصية يعيش أو كان يعيش في بيروت منذ فترة طويلة من الزمن. وهو يُريد أن يعرف هل عثر الرجال الثلاثة على الرجل أم لا … وإذا كان من الممكن معرفة اسم الرجل الذي يبحثون عنه.
كان «عثمان» يُدلي بتقريره وهو يشرب كوبًا من عصير الليمون، وكأنه يتحدث في أمر عادي جدًّا، بينما كانت «إلهام» تَبتسِم وكأنها تَستمِع إلى نكتة … وكان «أحمد» ما زال يُتابع ما يفعله الرجال الثلاثة في المرآة … وشاهد في المرآة رجلًا ضخم الجثة، يلبس بذلة بيضاء ويَمسح عرَقَه بمنديل يدخل من الباب، ويَنظر حوله ثم انضمَّ إلى الرجال الثلاثة. وأحنى رأسه ﻟ «هنتر» وهو يجلس، ثمَّ مال عليه وأخذ يتحدَّث بسرعة … فقال «أحمد» مُوجِّهًا حديثه إلى «عثمان»: أعتقد أن الرجل السمين سوف يخرج بعد قليل … انتظره في الخارج يا «عثمان» … واتبعه … إنه في الأغلب لبناني!
قضى الرجل السَّمين ذو الملابس البيضاء فترة يتحدَّث، ثم قام فانحنى مرةً أخرى محييًا وخرج … وكان «عثمان» قد سبقه وانتظره في الخارج … وبعد فترة أخرى قام الرجال الثلاثة واتجهوا إلى المطعم، فقالت «إلهام»: هل سنَتغدَّى هنا؟
أحمد: لا أريد أن ألفتَ أنظارهم إلينا … سنتغدَّى في مكان آخر.
وقاما معًا فغادَرا الفندق الفخم، وقال «أحمد»: آسف … سأَعتذِر عن الدعوة ونتناول الغداء في المقرِّ السرِّي … فقد تفتَّحت شهيَّتي للعمل وليس للطعام.
عادا إلى المقرِّ السري … وكان عدد من الشياطين قد عاد أيضًا … واجتمعوا جميعًا لبحث تقارير رقم «صفر» … والشيء المُدهِش الذي لاحظته «إلهام» أنهم جميعًا تحمَّسوا العمل والبحث … وكان واضحًا أنهم ضاقوا ذرعًا بفترة الهدوء التي مرَّت بهم.
بعد الغداء وصل «عثمان» … واستقبله «أحمد» باهتمام بالغ، فقال «عثمان»: إنَّ الرجل اللبناني يُدعى «كريم» … ويَملك مكتبًا للعلاقات العامة في بناية دعبور … وقد عرفت أن له نشاطًا واسعًا في منطقة الخليج العربي!
قال «أحمد» مُفكِّرًا: علاقات عامة … في الخليج العربي؟!
عثمان: هل يَعني هذا شيئًا بالنسبة للموضوع؟
أحمد: أعتقد!
وذهب «عثمان» للغداء … بينما جلس «أحمد» وبقية الشياطين يتحدَّثون … كان منهم في المقر «أحمد»، و«إلهام»، و«بو عمير»، و«هدى»، و«زبيدة» بالإضافة إلى «عثمان» … وكان الباقون في دمشق.
قال «أحمد»: أُريد فكرة لاستخدام «كريم» في عمل.
بو عمير: صاحب مكتب العلاقات العامة؟
أحمد: نعم … أريد أن نجد سببًا لدخول مكتبه، ومعرفة ماذا يريد الرجال الثلاثة منه.
إلهام: مسألة بسيطة … سنَطلُب منه خدمة.
أحمد: أي خدمة؟
إلهام: مثلًا … نريد أن نفتتح فرعًا لبيع الآلات الكاتبة في الخليج العربي، وليَختر لنا هو البلد الملائم … ويَستأجِر المكان … وسنَدفع له بسخاء.
أحمد: فكرة مدهشة! … وسيذهب «سرور» ومعه أحدنا لهذا الغرض … أين «سرور»؟
وسرعان ما كان عم «سرور» يقف أمام الشياطين مبتسمًا وقال «أحمد»: نريدك أن تساعدنا يا عم «سرور».
وتذكَّر «سرور» مغامراته القديمة … وبرقت عيناه وقال: إنني هنا في خدمتكم!
أحمد: أريدك أن تلبس أحسن ثيابك … وستأخذ معك «بو عمير» وستذهب إلى مكتب «كريم» للعلاقات العامة في بناية دعبور … وتَفاهم معه أنك تريد أن تفتح فرعًا لشركتنا في الخليج … وعليه أن يَختار البلد وسيُأجِّر المكان باسمك، وتحت تصرُّفك أي مبلغ يطلبه من المال كعمولة … وقل له إنك تسافر كثيرًا، وإن «بو عمير» سيكون مندوبك.
سرور: هل أذهب الآن؟
أحمد: غدًا صباحًا … فقد يُرسل رقم «صفر» تقريرًا اليوم لاستكمال المعلومات عن الرجال الثلاثة … وقد لا نُضطر لاتخاذ هذا الإجراء، وأُريدك أن تفتح عينيك وأذنيك جيدًا لكل ما يدور في مكتب «كريم» … إن كلمة واحدة قد تدلنا على ما يُريد الرجال الثلاثة. وبالطبع فإن «بو عمير» يفهم التعليمات.
وانصرف عم «سرور» وقد ازدادت ابتسامته اتساعًا … لقد كان في شبابه من أفضل رجال المخابرات … ورغم أنه كبر في السن … إلا أنه ما زال يستطيع القيام بهذا الدور المطلوب منه ببساطة.
وانضم «عثمان» إلى الشياطين … شرح له «أحمد» الخطة التي سيبدءون بها … ووافق «عثمان» بحماس.
في صباح اليوم التالي كان «سرور» و«بو عمير» يستقلان سيارة فاخرة في الطريق إلى مكتب «كريم»؛ فلم تصل تقارير من رقم «صفر» بعد وضع الخطة … وبعد مسيرة نحو ربع ساعة وصلا إلى البناية الضخمة … وقرءوا اللافتة الخاصة بمكتب «كريم» للعلاقات العامة، وركبوا المصعد إلى الطابق الخامس.
كان المكتب يشغل شقة فاخرة … واستقبلتْهما فتاة رشيقة مُبتسمة، واستفسرت منهما عن الغرض من الزيارة، فشرح لها «سرور» أنه يريد الاستعانة بالمكتب في فتح فرع لشركة الآلات الكاتبة في إحدى دول الخليج، وطلبت منهما الفتاة الانتظار في غرفة استقبالٍ فاخرة، ثم اجتازت ممرًّا طويلًا تفتح عليه عدة غُرف … وغابت لحظات، ثم عادت ودعتهما لمقابلة الأستاذ «كريم».
استقبلهما الأستاذ «كريم» بحماس وترحيب شديدَين … فقد كان واضحًا من ملابسهما أنهما يمثلان شركة كبيرة … وجلس الثلاثة يتحدثون، ومرة أخرى شرح «سرور» ﻟ «كريم» الغرض من الزيارة … ثم أشار إلى «بو عمير» قائلًا: وهذا الشاب سيُمثِّلُني في غيبتي؛ فإنني أسافر كثيرًا.
قال «كريم» مبتسمًا: شيء عظيم الاعتماد على الشباب … ويبدو أنه على درجة كبيرة من الذكاء والمقدرة!
تلقَّى «بو عمير» المدح بابتسامة مُتواضِعة … وكانت عيناه مشغولتَين باكتشاف المكان وفحص شخصية «كريم»، وعاد «كريم» يقول: إن لنا شبكة واسعة للاستعلامات في دول وإمارات الخليج … وسوف ندرس لحسابكما أفضل الفرص للشركة … ونحن نتقاضى أربعمائة ليرة تحت حساب الأتعاب.
مدَّ «سرور» يده في جيبه وأخرج رزمة ضخمة من الليرات، ودفع إلى «كريم» بأربع ورقات من فئة المائة ليرة … تناولها «كريم» مسرورًا … وقال إن السكرتيرة سوف تعطيه إيصالًا بالمبلغ.
بدت المقابلة وكأنها تُوشك على الانتهاء … بينما كان «بو عمير» يتمنى أن تطول أكثر، حتى تُتاح له فرصة أطول للرؤية والاستماع … فألقى لهذا الغرض سؤالًا عن المدة التي يستغرقها البحث.
وقال «كريم»: بالصدفة الطيبة إنَّني مسافر خلال أيام قليلة لجولة في المنطقة … وعسى أن أعود بالمعلومات المطلوبة.
ومرةً أخرى سأل «بو عمير»: هل للمكتب أنشطة أخرى يُمكن الاستفادة منها؟
وفتح «كريم» فمه ليتكلَّم، ولكن جرس التليفون دق في هذه اللحظة، وأسرع يرفع السماعة، وما كاد يضعها على أذنه حتى بدَت على وجهه علامات الاهتمام الزائد، وأخذ يتحدث بالفرنسية بصوت مُنخفِض. وكانت أذن «بو عمير» كالرادار تتجه إليه محاولًا الاستماع إلى أي كلمة … بينما كان ينظر في اتجاه آخر حتى لا يتسرَّب أي شك إلى الرجل السمين «كريم»، ولاحظ «بو عمير» أن «سرور» يبتسم، وسمع «كريم» يقول بصوت لاهث: أرجو ذلك يا سيدي. إنني في انتظار …
وضاعت الكلمة من «بو عمير» … ثم عاد يسمع: إنني أفعل ما بوسعي يا سيدي … وهناك ستة … ومرة أخرى ضاعت الكلمات من «بو عمير» … ثم عاد «كريم» يقول: بالطبع يا سيدي.
ووضع «كريم» السماعة وأخرج منديله وأخذ يجفف عرقه … ثم التفت إلى «بو عمير» قائلًا: إن هناك قائمة بالأعمال التي نقوم بها مع السكرتيرة يمكنك الحصول عليها.
كان واضحًا من حديثه أنه يُريد أن ينهي المقابلة … وقبل أن يسأل «بو عمير» سؤالًا آخر وقف «سرور» ومد يده يسلِّم على «كريم» … واضطرَّ «بو عمير» للوقوف وهو ساخط … فهو لم يحصل على شيء ذي قيمة.
عندما غادر «سرور» و«بو عمير» العمارة الضخمة، واتجها إلى السيارة قال «بو عمير»: كنت أريد أن تُتيح لي فرصة أطول للحديث معه.
سرور: لماذا؟
بو عمير: لماذا؟ ألم نأتِ أصلًا لمعرفة ماذا يدور في هذا المكتب؟!
سرور: طبعًا. وسنَعرف كل شيء يدور في غرفة «كريم».
التفت «بو عمير» إلى «سرور» وهما يَركبان السيارة وقال: كيف؟
ابتسم «سرور» وقال: لأنني وضعت جهاز تسجيل دقيق أسفل مكتب «كريم»، منذ دخلت الغرفة، ولعلَّك لاحظت أنني انحنيت لأربط حذائي.
بو عمير: لاحظت ولم أهتم!
سرور: هذه اللحظة كنت ألصق الجهاز الصغير أسفل المكتب خلف القائم مباشرةً حيث لا يُمكن أن يراه أحد إلا إذا نزل تحت المكتب وفحص كل سنتيمتر فيه.
اصطبغ وجه «بو عمير» بحمرة الخجل عندما سمع هذا الكلام. وأدرك أن «سرور» العجوز أبرع مما تصوَّر بكثير، وقال معتذرًا: آسف جدًّا … فقد أحسست عندما أنهيت المقابلة أنني أكاد أنفجر غيظًا.
سرور: إن «كريم» رجل حذر، ولا أظنه كان سيتحدَّث عن أسرار أمامنا … رغم أن بعض ما قاله يَصلُح لبعض الاستنتاجات.
ومضت السيارة تشق طريقها ببطء بين مئات السيارات التي يحفل بها شارع الكورنيش وهي في الطريق إلى المقر السري.
وقال «سرور»: لقد فحصت قفل الباب بنظرة سريعة، وعرفت أي نوع هو، وسأُدبِّر لكم مفتاحًا له، ويُمكن أن تقوموا ليلًا بأخذ جهاز التسجيل ووضْع جهاز آخر … أو استبدال الشريط.
ومرةً أخرى أحس «بو عمير» بالاحترام لعم «سرور» العجوز وأدرك أن رقم «صفر» كان على حق عندما ألحقه بالخدمة في المقرِّ السري.
عندما عاد «سرور» و«بو عمير» إلى المقر السري كان بقية الشياطين في انتظارهما. ودخل «سرور» إلى غرفته، وقدَّم «بو عمير» تقريرًا بما حدث لبقية الشياطين … وقد روى «بو عمير» بدقة كل ما حدث … وشرح ما قام به «سرور» … وابتسم الشياطين جميعًا … ثم قال «أحمد»: إنه درس قيم من عم «سرور» لنا.
بو عمير: لقد أحسستُ بالخجل أمام ذكائه وتدبيره.
وفي هذه اللحظة انطلق صوت جهاز اللاسلكي منبئًا بتقريرٍ من رقم «صفر» وأسرعت «زبيدة» لتلقِّي التقرير، وجلس الشياطين جميعًا صامتين في انتظار عودة «زبيدة» التي لم تَغِب طويلًا ثم عادت ومعها التقرير، وقالت وعلى وجهها علامات الدهشة: إنَّ تقرير رقم «صفر» يعني أن نتوقف عما نفعل تمامًا!
نظر إليها الشياطين فمضت تقول:
من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س»
لقد غادر الرجال الثلاثة بيروت منذ ربع ساعة إلى باريس … أعتقد أن مهمَّتكم تنتهي عند هذا الحد … ولا تنسوا على كل حال أنَّني قلت لكم من البداية إن التقرير الأول كان للتسلية أو التمرين فقط. شكرًا.