النهاية … كما لا يتصورها أحد
سار «أحمد» ببساطة دون أن يُبديَ أي تصرُّف يدلُّ على أنه عرف أنه متبوع … واختار بين المقاهي العديدة القريبة من الشاطئ، مقهًى ذا واجهة زجاجية واتجه إليه … واستطاع في الزجاج أن يرى الرجل الذي يَتبعه … ودُهش أنه كان يَرتدي الملابس الوطنية … وأدرك أن «هانز» قد جنَّد عددًا آخر من المواطنين للعمل معه … وجلس «أحمد»، وراقب الرجل وهو يجلس على مبعدة، وبعد أن شرب كوبًا من العصير قرَّر أن يتجه فورًا إلى المستشفى … من المؤكد أنهم يراقبون «بو عمير» … وأنهم يتبعونه منذ خرج من المستشفى.
قام «أحمد» مسرعًا واتجه رأسًا إلى المستشفى التي كانت تقع في أطراف المدينة، ولاحظ على الفور أن الرجل يتبعه … وبعد فترة أقبل على المستشفى … ولاحظ أن الرجل ما زال يتبعه.
دخل المستشفى، وقطع الممر الطويل إلى غرفة «بو عمير» … وما زال الرجل يسير خلفه … وفتح «أحمد» الباب وتظاهَر بأنه سيدخل … ولكنه انتظر لحظات كانت كافية لأن يُصبح الرجل قريبًا منه … فألقى نظرة على الممر ولاحظ أن لا أحدَ يراه … وبسرعة جذب الرجل بكل قوته وألقى به وبنفسه من الباب المفتوح على أرض الغرفة … تمَّت العملية في سرعة مذهلة حتى إن الرجل بقي واقعًا على الأرض مذهولًا … وفي نفس الوقت وجد «أحمد» نفسه في مواجَهة خطر آخر … كان ثمة رجل يلوي ذراع «بو عمير» ويرفع خنجرًا يُحاول أن يطعنه به … وبأسرع من البرق كان «أحمد» يقفز على الرجل مُمسكًا ذراعه المرتفعة بالخنجر ويَلويها بقوَّة بالغة، وصرَخ الرجل، وأداره «أحمد» من ذراعه فوق الفراش، ثم ألقاه فوق زميله المُلقى على الأرض.
جلس «بو عمير» في فراشه رغم الآلام التي يحسُّ بها … على استعداد للتدخل، ولكن لم يكن «أحمد» في حاجة إلى أيِّ مساعدة … فقد انحنى على الرجل الواقع على الأرض وسحب من تحت حزامه مسدَّسًا شهره في وجه الرجلين.
قال «أحمد»: أنتما من طرف «هانز»؟
لم يردَّ الرجلان … وظلا ينظران إليه كأنه شيطان … لقد هزمهما معًا في لحظات خاطفة، حتى إنهما انكمشا في جانب الغرفة دون أن يَنبسا بكلمة واحدة.
قال «أحمد»: «بو عمير»، راقبهما! فسوف أذهب لأرى «جوزيف».
أمسك «بو عمير» بالمسدس وخرج «أحمد» مُسرعًا، وبعد لحظات عاد وعلى وجهه آثار غضب هائل، وقال: لقد أخذوا «جوزيف».
بو عمير: كيف؟
أحمد: حضرت سيارة بها مُمرِّضُون من المؤكد أنهم مزيَّفون، وتسلموه لإدخاله مستشفًى خاصًّا كما قالوا.
بو عمير: إنهم بالطبع من عصابة «هانز»!
أحمد: لا أشك في ذلك لحظة واحدة … لقد خطفوا «جوزيف» وحاولوا القضاء عليك … إنهم يعملون بسرعة خارقة.
وأمسك «أحمد» بالمسدَّس مرةً أخرى، وقال: سأقتل هذَين الرجلين حتى لا يتبعانا.
صاح أحد الرجلين: يا سيدي رحمتك!
أحمد: أين «هانز»؟
الرجل: نحن لا نعرف أحدًا بهذا الاسم.
أحمد: أين الرجل الذي أرسلك؟
تردَّد الرجل لحظات، ولكن «أحمد» وضع المسدس على حلق الرجل، فقال بصوت متحشرج: جزيرة مصيرة يا سيدي!
كان «أحمد» يعرف هذه الجزيرة فقد ألقى نظرة على خريطة عُمان وهو في المطار … وهي جزيرة صغيرة تقع في أقصى الجنوب الشرقي لعُمان … فقال «أحمد» موجهًا حديثه إلى «بو عمير»: هل تستطيع الحركة؟
بو عمير: إنني على ما يُرام.
أحمد: ساعدني في شدِّ وَثاق هذين الوغدَين.
وأمسك «أحمد» بأغطية الفراش، ومزَّقها بالخنجر الذي ألقاه الرجل، وسرعان ما كان هو و«بو عمير» يشدان وثاق الرجلين ويُكمِّمانهما بعد أن جرداهما من ملابسهما … وتعاونا على وضعهما تحت الفراش ثم لبسا العباءتين والعقالين.
وقال «أحمد»: هيا بنا.
خرج الاثنان … «أحمد» يَحمل المسدس تحت ملابسه … و«بو عمير» يضعه تحت العباءة في انتظار أية مفاجآت … ولكن لم يحدث شيء حتى غادرا المستشفى وانطلقا إلى الميناء.
اختارا مقهًى صغيرًا قبل الميناء وجلسا … كان كلٌّ منهما يفكر في الخطوة التالية.
قال «أحمد»: لقد أرسلت برقية إلى بيروت … وطلبت حضور بعض الزملاء.
بو عمير: لا أظن أنهم سيأتون قبل منتصف الليل … أين تركت عنوانك؟
أحمد: طلبت منهم الانتظار في المطار لحين حضوري. على أن يرسلوا برقية إلى مكتب التلغراف.
بو عمير: وماذا نفعل حتى ذلك الوقت؟
أحمد: أقترح أن نبحث عن غرفة في فندق صغير … فنحن لا نستطيع الهجوم قبل أن يهبط الظلام.
بو عمير: هل سنُهاجم «هانز» وعصابته؟
أحمد: ما رأيك؟
بو عمير: إنني سأكون عبئًا عليك … ولن تهاجم وحدك … فهذا جنون؟!
هز «أحمد» رأسه … كان منطق «بو عمير» معقولًا … ولكن هل يترك الفرصة تفوته بعد أن أصبح «هانز» وجهًا لوجه … يتركهم يستولون على الكنز الذهبي!
قال «أحمد»: سأذهب للبحث عن غرفة … وسأعود بعد لحظات.
اختار «أحمد» أقرب فندق إلى الميناء، وحجز غرفة باسمه، فلم تكن هناك أوراق مع «بو عمير»، ثم عاد وأخذ زميله … وصعدا إلى الغرفة معًا … وطوال الوقت كان «أحمد» يراقب ما حوله جيدًا حتى لا يكونا مُراقبَين.
جلسا معًا في الغرفة الرطبة … وابتسم «أحمد» قائلًا: قصة غريبة، والأغرب أن يقف الشياطين دون حراك وعدوُّهم على بعد خطوات منهم.
بو عمير: إنني على استعداد للعمل.
أحمد: إذا لم يحضر أحد من الشياطين في منتصف الليل فسوف نهاجمهم معًا رغم كل النتائج.
بو عمير: هناك حلقة ناقصة في هذه القصة … إن ثلاثة رجال كما قال «جوزيف» كانوا يعلمون سر الغواصة المجهولة … «جوزيف» نفسه … والبحَّار الذي مات في بوسطن، فمن هو الثالث؟!
أحمد: لا بد أن «هانز» قد أحضره هو الآخر.
بو عمير: ولكن لم يكن معنا في الطائرة.
أحمد: ربما سبقكم.
تمدَّد «بو عمير» على الفراش الوحيد في الغرفة … وسرعان ما ذهب في النوم … وانتهز «أحمد» الفرصة ونزل مسرعًا … وأخذ تاكسيًا إلى مكتب التلغراف … وكم كانت فرصة عندما وجد برقية من «عثمان»: سنصل في العاشرة تقريبًا.
نظر «أحمد» في ساعته. كانت الثالثة بعد الظهر، أسرع عائدًا بالتاكسي إلى الفندق وطلب غداءً له وﻟ «بو عمير» … ثم أيقظه من النوم وأبلغه بمضمون برقية «عثمان».
قال «بو عمير» وهو يتناول قطعة من اللحم: لقد أفادني النوم كثيرًا … وأُحسُّ برغبة قوية في العمل.
أحمد: سننتظر حتى وصول «عثمان» … وأعتقد أنه سيأتي مع «زبيدة» و«إلهام».
وبعد أن انتهيا من الكلام قال «أحمد»: سأنام قليلًا.
وتمدَّد «أحمد» ومضى الوقت.
في السابعة تقريبًا استيقظ «أحمد» أكثر نشاطًا … وشربا الشاي معًا … وتبادلا بعض الحديث.
وفي التاسعة غادرا الفندق إلى المطار … وفي العاشرة كانت الطائرة القادمة من بيروت تدرج على أرض المطار … وبعد دقائق كان الثلاثة الذين توقع «أحمد» حضورهم ينزلون.
«عثمان» … و«زبيدة» … و«إلهام» …
وخفق قلب «أحمد» عندما شاهد «إلهام» بطولها الفارع ورشاقتها تخطو على أرض المطار، وابتسم وهو يرى حقيبتها … كان أي شخص غيره يظنُّ أنها تحمل فيها أدوات التجميل … أما هو فقد كان يعلم أن في جيوبها السحرية عددًا لا بأس به من أحسن أنواع المسدسات.
التقى الشياطين الخمسة لقاءً حارًّا … وكانت مفاجأة للثلاثة القادمين ما رأوه على وجه بو عمير من آثار الحادث … وقال «أحمد»: إنه حسنُ الحظ … فقد سقطت به الطائرة.
زبيدة: كيف؟
وروى لهم «أحمد» كل ما حدث باختصار … وأخذوا تاكسيًا إلى الفندق؛ حيث حجزوا ثلاث حجرات، ثم فتحت «إلهام» الحقائب وأخرجت الأسلحة.
استطاع «أحمد» بسرعة أن يستأجر قاربًا بخاريًّا للشياطين … وسرعان ما كانوا يَطيرون فوق الماء في اتجاه جزيرة مصيرة الصغيرة بعد أن سألوا عن مكانها بالضبط، وبعد ساعة تقريبًا كانوا يقتربون من الجزيرة.
ولاحظوا على الفور وجود يخت ضخم مُضاء الأنوار في طرف الجزيرة البعيد. فأرسلوا القارب عند صخرة كبيرة ثم هبطوا إلى الشاطئ وبدءوا رحلتهم فوق الصخور محاذرين.
بعد فترة من الوقت شاهدوا كوخًا صغيرًا مضاءً … وأمامه رجل يَحمل مدفعًا رشاشًا … وابتسم «عثمان» وهز كرته الجهنمية في يده … ثم تقدم وحده حتى أصبح على بعد عشرة أمتار من الرجل وأطلق الكرة في خط مستقيم … وسرعان ما كان الرجل يسقط كقطعة الطوب.
وابتسم «عثمان» للأصدقاء وتقدم ليلتقط كرتَه … وتقدم خلفه الأصدقاء ودخلوا الكوخ … لم يكن به شيء له أهمية … ووجدوا قاربًا صغيرًا قفزوا إليه … وبعد لحظات كانوا يشقون طريقهم إلى اليخت الضخم بعد أن داروا دورة واسعة ليأتوا إليه من جانب البحر وليس من جانب الجزيرة حتى يكونوا بعيدين عن مراقبة الحراس.
أخرج «عثمان» سلمًا من الحبال له خطاف مُغطًّى بالمطاط حتى لا يُحدث صوتًا ثم قذفه إلى فوق فأمسك بطرف اليخت … وسرعان ما كان «أحمد» يصعد السلم وخلفه بقية الشياطين … وكما توقع الشياطين … كان هناك حارسان على الجانب الآخر لليخت … فزحف هو و«عثمان» وخلفهما «زبيدة» و«إلهام» واقترب الأربعة من الحارسين … كان هدفهم إسقاطهم في الماء حتى لا يُحدِثا صوتًا إذا سقطا على سطح اليخت … ووقف «عثمان» في وجه الحارس فجأةً … وارتبك الرجل … فأطلق «عثمان» يده في لكمة ساحقة، بينما تلقت «زبيدة» الرجل بين ذراعيها قبل أن يسقط على سطح اليخت … وتكرَّر نفس المشهد مع «أحمد» و«إلهام»، وسرعان ما كان الحارسان ينزلقان على جانب اليخت بهدوء إلى الماء.
وتقدم «أحمد» من السلم النازل إلى قلب اليخت … وشاهد كابينة مضاءة تَصدُر منها بعض الأصوات … واقترب «أحمد» وخلفه «عثمان» … بينما بقيت «إلهام» و«زبيدة» على السطح مع «بو عمير».
تقدم «أحمد» حتى وقف أمام الباب ونظر … وشاهد منظرًا لا يُنسى … كان «جوزيف سليم» نائمًا على ظهره، وأحد الأطباء مُنحنٍ عليه … وكان «هانز» ورجل آخر يقفان يراقبان ما يحدث.
ووقف الطبيب قائلًا: لا فائدة، لقد مات.
قال «هانز» بغضب: يا للحظ السيئ! … بعد كل ما فعلتُ يموت الرجل الذي يعرف السر!
قال الرجل الآخر: ما زال هناك الرجل الثالث … فتمالك نفسك يا «هانز».
صاح «هانز» كالمجنون: أتمالك نفسي كيف؟! لقد طفتُ بالعالم كله حتى وصلت إلى رجلين من الثلاثة … فأين أعثر على الثالث؟!
انسحب «أحمد» في هدوء … وأشار إلى «عثمان» … وانضمَّ الاثنان إلى بقية الشياطين على سطح اليخت … ثم نزلوا السلم إلى قاربهم الصغير وقال «أحمد»: لقد مات «جوزيف» ومات سرُّه معه …
قال «بو عمير»: والرجل الثالث؟
رد «أحمد»: إن «هانز» يبحث عنه … وإذا وجده ما زال حيًّا فسوف يأتي مرةً أخرى إلى هنا، ولعلَّنا نكون خلفه نحن أيضًا.
ومضى القارب الصغير في طريقه إلى الشاطئ. والشياطين الخمسة يُفكِّرون كيف يمكن أن تنتهي مغامرة عنيفة … هذه النهاية الهادئة …