المنظر الثاني
(بهو في منزل الوزير … في صدره باب يؤدي إلى
الحديقة … وفي جانبه باب مفتوح يؤدي إلى حجرة مكتب … وقد جلسَت في
البهو كريمة الوزير وهي تحتضن كلبًا صغيرًا … وبقربها جلس الخطيب …
يحادثها وعينه لا تفارق حجرة المكتب.)
الخطيبة
:
لماذا تنظر هكذا دائمًا إلى حجرة المكتب؟
الخطيب
:
معاليه … والساعي.
الخطيبة
:
إنه لن يبطئ علينا … بعد لحظة يفرغ من هذا الساعي وأوراقه …
ويأتي إلينا.
الخطيب
(يمد عنقه نحو حجرة المكتب)
:
الخطابات؟
الخطيبة
:
أي خطابات؟
الخطيب
(يرسل نظراته إلى حجرة المكتب)
:
في يده … إنها في يده … أسيفتحها الآن؟!
الخطيبة
:
لا أظن … ولا ينبغي لنا أن ندعه مشغولًا عنا طويلًا.
الخطيب
:
نعم … أرجوك … امنعيه من أن يقرأ الآن.
الخطيبة
:
لا تخف … إنه سيأتي إلينا حالًا … وسيشترك في الحديث … لماذا
كل هذه السرعة منك في إعداد برنامج القِران؟
الخطيب
(وهو ينظر)
:
أسرعي … امنعي … إنه يقلِّب بين يديه الخطابات!
الخطيبة
(مبتسمة)
:
كن صبورًا … تعلَّم الصبر … على ذِكر الخطابات لماذا لم تكتب
إلينا حتى الآن؟ … كنا ننتظر منك على الأقل خطابًا … تحدِّد
فيه الموعد … وتقترح الترتيبات.
الخطيب
(وهو ينظر إلى حجرة المكتب)
:
كتبت … أقصد … أقصد فكَّرت … ولكني فضَّلت الحضور بنفسي …
حتى يتم القِران يوم الخميس القادم إن شاء الله!
الخطيبة
:
الموعد قريب جدًّا.
الخطيب
(وهو ينظر)
:
أسرعي … إنه يريد أن يفتح خطابًا.
الخطيبة
(تلتفت إلى حجرة المكتب وتنادي)
:
بابا … بابا … نحن في انتظارك.
الوزير
(من الداخل صائحًا)
:
لا تؤاخذني.
(ثم يظهر مشيرًا إلى الساعي بالانصراف …
ويتقدَّم نحوهما … حاملًا الخطابات في يده … ويجلس على مقعد أمامه
منضدة صغيرة … بينما الخطيب ينهض لمجيئه ويجلس بجلوسه.)
الوزير
(لابنته)
:
ألم تطلبي قهوةً لخطيبك؟
الخطيبة
:
طبعًا يا بابا!
الوزير
(يضع الخطابات فوق المنضدة التي
أمامه)
:
قبل أن أنقطع لكما ويجرفنا الحديث … اسمحا لي بلحظة أتصفَّح
هذه الخطابات (ويُخرج نظارته من جيبه).
الخطيب
(بسرعة ورجفة)
:
لا يا معالي الباشا … لا … موضوعنا في غاية الأهمية … ويستحق
من معاليك أن تنقطع الآن إلينا … التفِت إلينا.
الخطيبة
:
الحقُّ معه يا بابا … يحسُن أن تترك القراءة الآن … وتشاركنا
في الحديث.
الوزير
(وهو يُعيد نظارته إلى جيبه)
:
تركتُ القراءة … أخبراني بما انتهى إليه الرأي
بينكما.
الخطيبة
(لخطيبها المحملق في الخطابات)
:
قل رأيك.
الخطيب
(يرفع عينيه عن الخطابات مرتبكًا)
:
أنا!
الخطيبة
(لخطيبها)
:
ما لك؟ … لماذا تنظر هكذا إلى هذه الخطابات؟
الخطيب
:
أنا؟! … أنا نظرت إليها؟
الخطيبة
:
أتخشى أن يعود إلى القراءة ويُشغل عن موضوعنا؟
الخطيب
(بسرعة)
:
نعم … هو ذاك (يمد يده نحو الخطابات) اسمح لي يا باشا …
أضعها فوق ذلك المكتب … سأذهب بها بعيدًا … هناك … هاتها …
هاتها.
الوزير
(يضع يده فوق الخطابات)
:
لا … دعها واطمئن … إني معكما الآن بكل فكري وقلبي … وهل
عندي موضوع أهم من موضوعكما … تكلَّما … إني مصغٍ!
الخطيب
:
لن أطمئن حتى آخذ هذه الخطابات … بعيدًا … بعيدًا عن أنظارك
يا باشا (يمد يده محاوِلًا أخذ الخطابات).
الوزير
(يسبقه إلى الخطابات)
:
انتظر سأُريحك … سأضعها في جيبي … لأقرأها فيما بعد … عندما
آوي إلى حجرة نومي (يدس الخطابات في جيب جاكتته) هدأ بالك
الآن؟ … هيا تكلَّم … وقل رأيك.
الخطيب
(ناظرًا في يأسٍ إلى جيب الوزير)
:
رأيي؟
الخطيبة
:
نعم … رأيك الذي أبديتَه لي منذ قليل.
الخطيب
(وهو يختلس النظر يائسًا إلى جيب جاكتة
الوزير التي فيها الخطابات)
:
رأيي أن كل شيء انتهى!
الوزير
:
انتهى؟
الخطيب
(مستدركًا)
:
على خير بركة الله!
الوزير
:
والموعد؟
الخطيب
:
يوم الخميس القادم إن شاء الله.
الوزير
:
سوف يكون يومًا مشهودًا … أرى فيه وجوهًا تنكَّرت لي بسرعة
البرق … إن هذه الساعات الأربع والعشرين التي مرَّت ما بين
استقالتي وعودتي للحكم قد أرتني عجائب وغرائب من طباع الناس …
حتى مدير مكتبي … مدير مكتبي الذي شرعت في ترقيته ترقيةً
استثنائية قد رفض توديعي ودخول منزلي … ووصف عهدي، كما بلغني،
بالعهد البغيض!
الخطيب
:
قِصَر نظر يا معالي الباشا … قِصَر نظر!
الخطيبة
:
وماذا تنوي يا بابا أن تفعل بمثل هذا الموظف؟
الوزير
:
مدير مكتبي؟! … سوف تسمعون بما أنا صانع به وبأمثاله من
الزائفين الذين يرتدون ثياب المخلصين!
الخطيب
(وهو ينظر إلى جيب جاكتة الوزير)
:
لعنة الله على الذبذبة والمذَبذَبين!
(يدخل الخادم يحمل صينية القهوة ويتقدَّم نحو
الخطيب.)
الخطيبة
(وهي تدلِّل كلبها الصغير)
:
بوبي هذا الصغير لم يتغيَّر وفاؤه في الأيام السود ولا
الأيام البيض!
الخطيب
(للخادم المقبل عليه بالقهوة)
:
معالي الباشا أولًا!
الوزير
:
لا … الضيف أولًا!
الخطيب
(يتناول فنجانًا وينهض به إلى
الوزير)
:
لا يمكن … مستحيل أتناول القهوة قبل معاليك.
الوزير
:
أستغفر الله!
(الخطيب يتعمَّد إسقاط الفنجان على جاكتة
الوزير.)
الخطيب
(متظاهرًا بالألم)
:
يا للكارثة! … يا لخيبتي وسوء فعلتي! … كيف أعبِّر عن أسفي
يا معالي الوزير؟
الوزير
:
لا تنزعج … هذا شيء بسيط!
الخطيب
:
اخلع «الجاكتة» يا باشا … وأنا أتولَّى تنظيفها
بنفسي.
الخطيبة
(تُطلق كلبها في الخارج وتصيح)
:
وأنا … ما وظيفتي؟
الخطيب
(وهو يحاول أن يخلع الجاكتة عن
الوزير)
:
أقسم ما من أحد يمس هذه «الجاكتة» غيري! أنا الذي أُصلح ما
أفسدت … دعوها لي … دعوها لي.
الوزير
(يُبعد عنه يد الخطيب برفق)
:
مهلًا … مهلًا … لا أنت ولا خطيبتك … (يشير إلى الخادم) خذ
«الجاكتة» إلى محل التنظيف والمكوى … وأحضر لي «الروب» من
حجرتي! … (يخلع الجاكتة ويسلِّمها إلى الخادم) هل هناك أبسط من
هذا الحل؟
(الخادم يمشي بالجاكتة … وأنظار الخطيب تمشي
خلفها … ثم يتحرَّك خلف الجاكتة بدون وعي.)
الخطيبة
(لخطيبها)
:
إلى أين؟ … إلى أين؟
الخطيب
(يقف مرتبكًا)
:
الجيب … ما في الجيب … الجيوب!
الوزير
:
صدقت … هات «الجاكتة» يا …
(الخادم يعود بالجاكتة إلى الوزير فيُخرج ما في
جيوبها ثم يشير إليه بالذهاب بها.)
الخطيب
(يمد يده إلى محتويات الجيوب في يد
الباشا)
:
ناولني هذه الأشياء يا معالي الباشا … حتى لا تتعب
يديك!
الوزير
:
ولماذا أُتعب بها يديك أنت … (يلتفت إلى ابنته) خذيها أنت
وضعيها في «درج» المكتب … وأغلقي عليها … هاكِ المفتاح (يُخرج
من جيب «بنطلونه» سلسلةً بها بضعة مفاتيح صغيرة).
الخطيبة
(تتناول من أبيها المُحتويات وبينها
الخطابات وسلسلة المفاتيح وتتجه إلى حجرة المكتب وهي تنادي
كلبها)
:
بوبي … بوبي!
(الخطيب يتبع بنظراته الحائرة الخطابات في يد
الخطيبة المتجهة إلى حجرة المكتب … ويمشي خلفها بلا وعي.)
الوزير
(للخطيب)
:
إلى أين؟ … إلى أين؟
الخطيب
:
إنها تناديني.
الوزير
:
إنها تنادي «بوبي».
الخطيب
:
ربما كنتُ أنا «بوبي».
الوزير
(ضاحكًا)
:
لا تعالَ … تعالَ اجلس … إنها لا تقصدك أنت … سوف تُطلق عليك
اسمًا من أسماء التدليل … فيما بعد … ولكنه لن يكون «بوبي» على
كل حال.
الخطيب
(وهو يجلس يائسًا في مقعده)
:
هذا من سوء حظي!
الخطيبة
(من الداخل)
:
ما الذي أضحكك يا بابا؟
الوزير
:
خطيبك يقول لك … (يعطس).
الخطيبة
(تظهر وهي تلعب بسلسلة المفاتيح)
:
أنت يا بابا الذي عطست؟
الوزير
:
نعم.
الخطية
:
سيُصيبك برد من تخفيف ثيابك.
الوزير
(ينهض)
:
حقًّا يحسُن أن ألبس ثيابًا كاملة … انتظروني … سأعود بعد
لحظة! (يخرج مسرعًا).
الخطيبة
(لخطيبها)
:
ماذا كنتما تقولان في غيبتي؟
الخطيب
(ناظرًا إلى سلسلة المفاتيح في
يدها)
:
هذه السلسلة من الفضة؟
الخطيبة
:
لا … إنها عادية … من المعدن.
الخطيب
(يمد يده إليها)
:
أريني … أريني.
الخطيبة
:
ماذا ترى فيها يثير الاهتمام؟
الخطيب
:
شكلها … شكل المفاتيح.
الخطيبة
:
مفاتيح عادية جدًّا.
الخطيب
:
إنها متشابهة فيما بينها … أهي كلها ﻟ «أدراج»
المكتب؟
الخطيبة
:
نعم … كل «درج» له مفتاحه.
الخطيب
:
وكيف تستطيعين التمييز بين المفاتيح؟
الخطيبة
:
أهو أمر صعب إلى هذه الدرجة؟
الخطيب
:
يبدو لي أن من الصعب استخراج مفتاح كل «درج» بمجرد
النظر.
الخطيبة
:
هذا شيء سهل … يكفي أن تنظر إلى سن كل مفتاح … إن الأسنان
فيما بينها تختلف.
الخطيب
:
حقيقة … ولكن كيف تعرفين أن هذا الدرج بالذات له مفتاحه بهذه
الأسنان بالذات؟
الخطيبة
:
مدهش!
الخطيب
:
ما هو المدهش؟
الخطيبة
:
هذا الموضوع الذي نتحدَّث فيه … إنه في غاية الشاعرية! …
ألَا تلاحظ؟ … منذ وُجد الزواج … وكل خطيب وخطيبة، إذا اجتمعا
في خلوة، تحدَّثا في القمر وفي النسيم وفي الفراق وفي اللقاء …
ولكن … قلَّما خطر لواحد منهما أن يتحدَّث في الأدراج
والمفاتيح.
الخطيب
(يُفيق)
:
آه … لا مؤاخذة!
الخطيبة
:
لعل هذا الموضوع له عندك أصل أو مناسبة.
الخطيب
:
لا … لا … أبدًا … لا يوجد أصل ولا مناسبة … المسألة
مجرد.
الخطيبة
:
مجرد ماذا؟
الخطيب
:
مجرد … إعجاب بذكائك.
الخطيبة
:
ذكائي؟
الخطيب
:
نعم … لقد لفت نظري الآن منك أنك لم تستغرقي وقتًا طويلًا
وأنت تضعين الخطابات … أقصد محتويات جاكتة الباشا … في درج
المكتب … وفتحتِ الدرج وأغلقتِه بالمفتاح … مع أن المفاتيح في
السلسلة متشابهة … هذا طبعًا يدل على الذكاء.
الخطية
:
متشكرة.
الخطيب
:
العفو … أنا مثلًا لو كنت في موضعك لكنت حِرت وتُهت بين
الأدراج والمفاتيح … وإذا لم تصدِّقي فلنجرِّب … هلمي امتحني
درجة ذكائي.
الخطيبة
:
إني واثقة أنك ستنجح.
الخطيب
:
من يدري؟ … عند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان.
الخطيبة
:
كيف تريد مني أن أمتحنك؟
الخطيب
:
المسألة بسيطة … أريني بسرعة مفتاح الدرج الذي وضعتِ فيه
الخطابات … أقصد المحتويات … وقولي لي: اذهب وافتحه
بمفردك.
الخطيبة
:
إنك ستفتحه طبعًا.
الخطيب
:
أبدًا.
الخطيبة
:
فلنجرِّب.
الخطيب
:
نعم … فلنجرِّب.
الخطيبة
(بسرعة)
:
هذا هو المفتاح.
الخطيب
:
ليس بهذه السرعة … إني لم أرَ شيئًا … مرةً أخرى من
فضلك.
الخطيبة
(ضاحكة وهي تشير إلى مفتاح من بين مفاتيح
السلسلة)
:
التفت جيدًا هذه المرة … هذا هو المفتاح.
الخطيب
(يُسرع ويقبض عليه)
:
هاتي.
الخطيبة
(تتركه له)
:
خذ واذهب وافتح في طرفة عين مثلما فعلت أنا!
الخطيب
(ينهض بالمفتاح مسرعًا وقد جاءه
الفرج)
:
بقي أن أعرف الدُّرج!
الخطيبة
:
سأعد من واحد إلى عشرة.
الخطيب
:
إلى عشرين من فضلك.
الخطيبة
(في تسامح)
:
إلى عشرين.
الخطيب
(وهو متجه بالمفتاح إلى حجرة
المكتب)
:
يا بركة الله!
الخطيبة
:
وعند العشرين أُهرَع أنا إلى المكتب لأرى النتيجة … (تعد
بصوت مرتفع) واحد … اثنين … ثلاثة.
الخطيب
(على عتبة حجرة المكتب)
:
انتظري … وحياة عينيك … «غششيني» قليلًا وإلا سقطت سقوطًا
شنيعًا … قولي لي أين الدرج؟
الخطيبة
(ضاحكة)
:
وماذا بقيَ إذن من مواد الامتحان؟
الخطيب
(متوسلًا)
:
قولي لي … الله لا يفضحك!
الخطيبة
(ضاحكة متسامحة)
:
الدرج الذي في الصدر! … سأستأنف العد … أربعة … خمسة.
الخطيب
:
لا … لا … أرجوك … عدي من الأول (ثم يختفي سريعًا في حجرة
المكتب).
الخطيبة
:
أمرك و… احد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة.
الخطيب
(صائحًا من الداخل)
:
اسكت يا بوبي … ابعد يا بوبي!
(يُسمع نباح الكلب من الداخل.)
الخطيبة
(ضاحكة ومستمرة في العد)
:
ثمانية … تسعة … عشرة.
الخطيب
(صائحًا)
:
حوشي بوبي … يا للكارثة! … الكلب خطف السلسلة. خطف
المفاتيح.
الخطيبة
(ناهضة بسرعة)
:
بوبي!
الخطيب
(يظهر مهرولًا)
:
قفز بالمفاتيح من النافذة إلى الحديقة.
الخطيبة
:
وأنت … إلى أين تجري؟
الخطيب
:
خلفه … أُمسك به … أُحضر المفاتيح … لم أفتح بعد … يا للحظ
العاثر! يا لليوم الشؤم (يهرول من الباب المؤدي إلى
الحديقة).
الخطيبة
(تتبعه بأنظارها عند الباب ضاحكة)
:
لن تلحق به … ارجع … خيرًا لك.
الخطيب
(في الحديقة يُمصمص بفمه للكلب)
:
بوبي … تعالَ … تعالَ يا حبيبي … أرجوك … أنا في جاهك … كن
لطيفًا … أرجع المفاتيح (يخفت صوته كمن ابتعد خلف
الكلب).
(الخطيبة بالباب تضحك … وعندئذٍ يُسمع في
الخارج قرب الباب جلبة وهمهمة أصوات مقتربة … ثم صوت مدير المكتب
يهتف.)
مدير المكتب
(في الخارج)
:
فليحيَ وزيرنا المحبوب!
أصوات
(في الخارج تُردِّد هاتفة)
:
فليحيَ وزيرنا المحبوب!
مدير المكتب
(في الخارج لمَن معه)
:
لا تدخلوا … لا تُزعجوا الباشا … انتظروا أنتم حتى يخرج لكم
… (يظهر بالباب وتحت إبطه مظروف) معالي الوزير في حجرة
المكتب؟
الخطيبة
:
إنه يلبس … لحظة واحدة (تخرج مسرعةً من أحد الأبواب
الجانبية).
(مدير المكتب يتقدَّم في البهو … ويضع مظروفه
على المنضدة ويهم بالجلوس … وعندئذٍ يظهر «الخطيب» داخلًا من
الحديقة يمسح عرقه بمنديله.)
الخطيب
:
أف! اختفى الكلب!
مدير المكتب
(يلتفت نحوه)
:
الكلب؟
الخطيب
(يرى مدير المكتب)
:
أنت؟ … وتعني «هباب» … (يهمس في أذنه) كلام في سرك … الخطاب
الملعون في هذا المكتب … في درج الصدر … ومكثت ساعةً أُحاول
الحصول عليه بكافة الوسائل … وأخيرًا نجحت في أخذ المفتاح …
وما كدت أدنو به من الدرج … حتى خطفه ذلك الكلب الأزعر … إني
في أحْرج مركز … إني منكوب. لن أعرف طعم الراحة ما دام الخطاب
هناك … لم أحصل عليه قبل أن يقرأه.
مدير المكتب
:
هدِّئ بالك … اعتمد عليَّ.
الخطيب
:
أعتمد عليك أنت … الآن؟! … أنت أيضًا وقْعتك ثقيلة … سبحان
المنجي!
مدير المكتب
(يلتفت إلى الباب الجانبي)
:
صه! معالي الوزير.
الوزير
(يظهر ويقول بنبرة تهكُّم)
:
أهلًا بمدير مكتبنا المخلص!
مدير المكتب
:
دائمًا يا معالي الوزير.
الوزير
:
طبعًا … دائمًا وفي كل وقت … حتى بعد الاستقالة.
مدير المكتب
:
هل عند معاليك شك في إخلاصي؟
الوزير
(متهكمًا)
:
أبدًا … حاشا لله! … وهل هناك إخلاص أشد من أن تدخل بيتي بعد
استقالتي … وتودِّعني ذلك الوداع المؤثر … دون أن تتنصَّل أو
تخاف أو تهرب؟
مدير المكتب
:
أودِّع معاليك؟ … لماذا؟ … لا يا معالي الوزير … إني لم
أُرِد أن أجيئك مودِّعًا … لأني كنت عميق الإيمان بك وبعودتك
في الوزارة الجديدة … يودِّعك اليائس … أمَّا أنا فلم أيئس …
كنت على يقين أن كفاءتك العظيمة ومواهبك النادرة لا يمكن أن
توضع على الرف … .
الوزير
:
أهذا حقًّا كان تفكيرك؟
مدير المكتب
:
تفكيري وإيماني وعقيدتي يا معالي الوزير … وإنه من بواعث
فخري أن إيماني بك لم يتزعزع في يوم من الأيام.
الوزير
:
وعهدي ألم يكن بغيضًا؟
مدير المكتب
:
طبعًا … كان بغيضًا … عند خصومك وحُسَّادك … وأولئك الجاحدين
الذين لم يرَوا أعمالك ومشروعاتك وإصلاحاتك!
الوزير
:
كانوا هم إذن الذين يقولون ذلك!
مدير المكتب
:
بالتأكيد … كل الأفذاذ والمصلحين يسمعون أحيانًا ما يكرهون
ويبلُغهم من تقوُّلات الناس ما لا يحبون … ويشهد الله كم كان
يؤذي سمعي أن أسمع فيك بعض هذا الجحود … ولكني كنت أعزِّي نفسي
دائمًا بقولي: معاليه من العباقرة العظماء … وتلك ضريبة
العبقرية والعظمة.
الوزير
:
إني على كل حال لم أصنع لك إلا كل خير.
مدير المكتب
:
وهل من المعقول أن أنسى … كل ترقية لي كانت على يدَي معاليك!
… إن أقل الواجب وأضعف الإيمان أن أكون على الأقل من أشد
المتحمِّسين لك وأخلَص المُتصلين بك!
الوزير
:
يجب أن يكون الأمر كذلك.
مدير المكتب
:
أُقسِم لمعاليك أن هذا هو الواقع … وإن كره الواشون والحُساد
والنمَّامون … إن إخلاصي لمعاليك شيء في دمي، وإيماني بشخصيتك
الممتازة وعقليتك الجبارة دين راسخ في قلبي.
الوزير
:
أرجو أن تكون دائمًا مدير مكتبي الذي أضع فيه كامل
ثقتي!
مدير المكتب
:
ثقة معاليك الغالية كل زادي … وكل ثروتي … والله يشهد في
سمائه أني بهذه الثقة جدير.
الوزير
:
عندي مجلس وزراء بعد نصف ساعة.
مدير المكتب
(يتناول المظروف)
:
جهَّزت لمعاليك كل الأوراق اللازمة.
الخطيبة
(تدخل حاملةً بوبي والمفاتيح)
:
ها هو بوبي جاءني بنفسه يحمل سلسلة المفاتيح.
الخطيب
(بدون وعي)
:
هاتي … أرجوك.
الوزير
(لابنته)
:
أعطي المفاتيح لمدير مكتبي ليعرض عليَّ ما فيه من بريد
وأوراق … كالعادة.
مدير المكتب
(وهو يتسلَّم المفاتيح)
:
شكرًا … تسمح معاليك لحظة.
الوزير
:
ماذا؟
مدير المكتب
(يقترب من الباب ويهتف)
:
فليحيَ وزيرنا المحبوب!
الأصوات
(في الخارج)
:
فليحيَ وزيرنا المحبوب!
الوزير
:
ما هذا؟
مدير المكتب
:
موظفو مكتبي جاءوا معي يُظهرون ابتهاجهم بعودة معاليك
للوزارة.
الوزير
(باسمًا)
:
أنت الذي نظَّمت هذه المظاهرة (يتجه الوزير نحو الباب وخلفه
ابنته).
مدير المكتب
:
هذا شعور طبيعي قد تفجَّر … ومن ذا الذي ينسى إحسان معاليك
لموظفي مكتبك؟
الوزير
:
لا تنسَ أن تُذكِّرني بقرار ترقيتك الاستثنائية!
(يخرج إلى عتبة الباب ويحيِّي الهاتفين بيديه …
وخلفه ابنته تشاهد هي وكلبها بوبي … بينما يمسك الخطيب بذراع مدير
المكتب ويحاول جذبه إلى ناحية حجرة المكتب.)
الخطيب
(هامسًا لمدير المكتب)
:
المفتاح في يدك … أنا في جاهك … أنقِذني!
مدير المكتب
(هامسًا)
:
هدِّئ بالك! … قلت لك اعتمد عليَّ … ولكنك لم تصدق.
الخطيب
:
صدَّقت … وآمنت … كنت مغفلًا ولم أفهم.
مدير المكتب
:
تفهم ماذا؟
الخطيب
:
أن صاحب السلطة بسهولة يصدق المَلَق … وبسرعة ينسى
النفاق!
(ستار)