مقدمة
حياة ﻫ. ج. ولز وأدبه
وُلد هربت جورج ولز في «بروملي» بمقاطعة «كنت» في إنجلترا، عام ١٨٦٦م، من أسرةٍ تقع من طبقات المجتمع في الدرجة الدنيا من الطبقة الوسطى. وقد استُخدم في صدر شبابه عند تاجر أقمشة، ثم اشتغل مدرسًا مساعدًا في إحدى المدارس، وبعدئذٍ التحق طالبًا للعلوم في جامعة لندن يستمع إلى محاضرات «هكسلي»، وظلَّ بها حتى حاز درجة العلوم من تلك الجامعة. ومنذ ذلك الحين أخذ يلقي دروسًا بها، ويُخرِج الكتب؛ فكان أن أصدر كتابه في علم الحياة، وطفِق يكتب كتابةً متصلة في المجلات، حتى ذاع اسمه بين الناس. وأول ما استوقف انتباه القراء إليه قصصه القصيرة التي أنشأها على موضوعات علمية، وهذا الضرب من القصص هو الذي جعله من أوسع الكتاب شهرة في أرجاء العالم في عصرنا هذا؛ وأصدق مثال لهذا النمط من مؤلفاته قصته «آلة الزمن».
ويَدِين ولز بالمذهب الاشتراكي؛ فقد كان عضوًا في «الجمعية الاشتراكية المعتدلة» التي مبدؤها أن تنشر الاشتراكية بالتشريع التدريجي، لا بالثورة والانقلاب، ولكنه انفصل عنها فيما بعدُ، وشقَّ لنفسه طريقًا خاصة به في تعميم آرائه الاشتراكية، فأخذ ينشر فيها الكتب تباعًا وفي صورٍ مختلفة، من ذلك كتابه «الاشتراكية والزواج»، وكتاب «عالم جديد مكان عالم قديم»، ومجموعة فصول سمَّاها «آمال مرقوبة»، وكتاب «الإنسانية في دور التكوين» وكتاب «يوتوبيا حديثة» … ولم يلبث ولز أن انصرف بكل عنايته إلى الدراسة الاجتماعية حتى جعلها محورًا يدور حوله ما يكتب من قصص مثل كتاب «عجلات القدر». حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها، أخذ يفكِّر وينشر في إعادة تنظيم العالم من جديد على أساسٍ دولي ينظر إلى الأمم كلها حقيقة واحدة متصلة لا تفرقة بين أجزائها. ومن أهم ما أخرجه لتحقيق هذه الوحدة العالمية كتابه «خلاصة التاريخ»، وكتاب «عمل الإنسان وثروته وسعادته» وهو الذي اقتبسنا منه هذين الفصلين اللذين يكوِّنان هذا الكتاب: «الأغنياء والفقراء»، و«المرأة».
وقد بلغ إنتاج ولز من الخصوبة والغزارة والاتساع حدًّا تتعذر دراسته بغير تقسيم وتبويب؛ فقد كتب قصصًا قصيرة يعرض فيه ما يمكن أن يتمخض عنه العلم من أعاجيب، ثم انتقل من كتابته في علم الحياة وفي تطبيق مبادئ الميكانيكا إلى مستقبل الإنسانية وما يثيره من مشكلات، ولبث في هذه الدراسة خمسة وعشرين عامًا يفكِّر كل يوم في كيف تحيا الإنسانية حياةً سعيدة تشمل الأفراد جميعًا، وهذا التفكير الاجتماعي القائم على أساسٍ اشتراكي هو روح قصصه كلها، التي مزج فيها تحليلًا نقديًّا لما هو كائن بدراسة دقيقة لما يمكن أو ما ينبغي أن يكون. وإن خياله في قصصه تلك ليلتهب بعواطفه ومشاعره الثائرة الساخطة من هذه المسألة البشرية التي يمثلها الإنسان على هذه الأرض؛ فأنت تسمع الكاتب في كل قصةٍ يعترف لك بالشر الجاثم في النفوس على اختلاف ألوانه، ثم يأخذ في بحثٍ مستفيض لما يصلح له من ضروب العلاج … ثم هو ينزع بقصصه فوق ذلك نحو السياسة الدولية، ويستبشر حين يرى اتصال الشعوب وسيادة الرأي العام قد أخذا بالفعل ينحوان هذا النحو، ثم يضيف في قصصه إلى هذا وذاك فلسفة دينية يوضِّح فيها مذهبه وعقيدته، فيعالج المعضلات الفكرية كلها معالجة حرَّة من كل قيد. وقد اشتدت هذه النزعة الروحية في الكاتب خلال الحرب وبعدها؛ حتى ليُعد اليوم بشيرًا روحيًّا للإنسانية المعذبة، وراشدًا مخلصًا للأمم التي طمست العداوة قلوبها وغشت عيونها، وهاديًا أمينًا للأفراد الذين رانت الأنانية على أفئدتهم فأفقدتهم الوعي والبصيرة … فأعجبُ ما يستثير الإعجاب في ولز هو استمساكه بحقائق العلم وطرائقه، وأداؤه في الوقت نفسه رسالة روحية تمازجها النزعة الصوفية.
وإذن فهو نمط جديد في الأدب، أضاف التقليد الروحي القديم إلى الأساس العلمي الجديد. وهو ديمقراطي جرت منه الديمقراطية مجرى الدم، يتشبث بها تشبُّث المستميت رغم كل ما يحيط به من العوامل المعارضة. وقد استمد من دراسته العلمية أسلوبه في البحث ومنحاه في التفكير، أضفْ إلى ذلك أنه لم يدرُس دراسة كلاسيكية فتحرر من تقاليدها وقيودها؛ ولذا تراه في ثورته عنيفًا جبارًا يكتسح الحدود والسدود ولا يرضى بأن يكون للماضي العتيق سلطانٌ على الحاضر. لقد رضي مَنْ جاء قبله من الكتاب الذين هبطوا من الطبقة الوسطى — مثل «دِكِنْز» — بالنظام الاجتماعي كما هو، وكلُّ همهم أن يحملوا الأغنياء على الإحسان ليخف عبء الفقراء، أما وِلْز فلا يتردد لحظة في تحطيمه ودك قوائمه؛ فهو يُغَرْبِلُ الآراء التقليدية غربلةً لا تُبقي إلا الصالح وحدَه ليشيد العالم على أساس جديد؛ وهل المجتمع عند هذا العالم في علم الحياة (البيولوجيا) إلا ميدان للتجارب، على أن تخلو التجارب من قيود التقاليد وأغلال الماضي؟ فهو كلما كرَّ ببصره إلى الوراء ليشهد هذا الماضي الذي يريد الناس تمجيده لم يَرَ سوى ذكرياتٍ بقيت له من عهد الطفولة وإلا تجاربَ استمدها بنفسه من الحياة القائمة، وكلاهما محلولك كله عبث وتخبُّط وفشل. فلا بد من مراجعة النظر في كل شيء.
ولا تنجو الأخلاق من هجمات ولز، تلك الأخلاق التي رسخت جذورها في المجتمع رسوخًا لم يَعُد يحتمل النقاش والبحث، وهو في نقده يقف موقف الرجل العلمي الواقعي، الذي اعتاد تحليل الأسباب تحليلًا دقيقًا، لا فرق عنده بين البحث في بناء المجتمع، والبحث في الكائنات الحية من حيث الخلايا والأنسجة والأعضاء … ولعل هذا هو الفارق الأساسي بينه وبين «برنارد شو» إذا استثنينا ما بين مزاجيهما الشخصيين من خلاف — فهما يلتقيان عند النقد الجريء، بل كثيرًا ما يلتقيان فيما يقترحان من حلول، وكذلك يتفق الكاتبان في نقطة الابتداء: وهي الاشتراكية المعتدلة التي تنفذ أغراضها بالتشريع والتطور التدريجي، وهما يعتقدان أن تحكيم العقل في شئون الحياة هو مفتاح الحق والعدل، ولا سبيل إلى الحق والعدل سواه … ولكن «شو» تربَّى تربية عادية كسائر أفراد الطبقة المثقفة؛ ولذا تراه يميل إلى المنطق الرياضي؛ أعني إلى التعليل النظري في تحليل الأمور. أما «ولز» فتسيطر على تفكيره نزعةُ الواقع المحسوس، يتمسك بالحقائق الواقعة أمام بصره، وينتقل منها إلى ما يريد من استنتاج وابتكار؛ ومن هنا كان عقل «ولز» أكثر مرونة وأقدر على تغيير موقفه وتجديد وجهة نظره؛ لأن فكره أشد اتصالًا بالحقيقة الواقعة؛ وهو يعترف أن عقله لا يمتاز عن عقل الرجل العادي إلا في الدرجة دون النوع، ولا يطمع إلا أن يعبِّر عما يطمح إليه الرجل العادي؛ ولذا تراه أحيانًا يُطلِق على نفسه اسم «الرجل العادي»؛ أعني أنه ليس فيلسوفًا نظريًّا يَسبح بفكره في عالم التجريد، ولكنه مفكِّر يحصر نفسه في عالم الحس، ويعترف أنه بشَرٌ له مثالبه ونقائصه. وهذا الوقوف عند الحقائق المحسوسة هو بغير شك سببُ ما نلحظه في أدوار حياته من تطورٍ عقلي مكَّنه من معرفة الحياة البشرية معرفةً دقيقة ممتازة بما فيها من رغبات دافعة وعواطف حافزة.
ولكنا نسارع إلى القول بأن السبب الذي وسَّع من أفق «ولز» ودائرة تفكيره والذي زاد عقله مرونة، هو نفسه السبب الذي ضيَّق نطاقه الفكري في بعض الجوانب؛ ففكره يتغذَّى بالتجربة الواقعية المحسوسة، ولكنها التجربة الفردية الشخصية، والخطر في هذا واضح، وهو أن يَثِب الكاتب إلى تعميمٍ لا يستند إلى تجاربَ شاملة، ولم ينجح ولز دائمًا في إنقاذ نفسه من هذا الخطر؛ فشخصيته المضطربة أحيانًا هي التي تهديه إلى الإحساس والشعور فيما يَعرِض له من مشكلات، ونقده وإنشاؤه يتفجران أحيانًا من أحزانه وعواطفه الشخصية، لا باعتبارها أحزانًا وعواطف بشرية تمثَّلت في فرد، بل باعتبارها خلجات نفسية عَرَضية سرعان ما تزول.
ولكن على الرغم من اندفاعه واضطراب نفسه الذي يؤدي إلى اضطراب تفكيره، فهو عَلَمٌ فكري يهدي أوروبا المعاصرة بآرائه، وفكرُه هو محور إنتاجه الأدبي ومورد ضوئه وخصبه. وقد كان هذا الفكر وحدَه كفيلًا أن يلفت أنظار أوروبا عامة وإنجلترا خاصة إلى الاضطراب الخلقي الذي يَضْرِبُ بِجِرانه في هذا العصر المرتَجِّ الفاسد؛ فقيمة ولز كلها من حيث هو كاتب فنان تنحصر في فكره، وهو لا يؤمن بأن يكون الفن خالصًا لوجه الفن دون أن يكون له غرضٌ يرمي إليه، وغرض ولز من فنه هو إعادة بناء الإنسانية على أساسٍ جديد، وهو دائم التفكير فيما يمكن أن يتمخض عنه الإنسان في مستقبله. ويسوءُه أن يرى الأمم في العصر الحاضر متقاتلة متنازعة، ويقول إن الفناء نتيجةٌ لا محيص عنها إن دامت هذه الحال، فإن نشبت حربٌ أخرى بين الشعوب فسلامٌ على المدنية سلامًا لا لقاء بعده! فالمشكلة كلها هي كيف نُصلِح عقول الناس بحيث يُصلِحون أمور عيشهم ويرفضون الحرب والقتال؛ فولز في هذا لسانٌ يعبِّر صادقًا عن آمال عصره وأمانيه، ولكنَّا حين نُثبت هذا الجانب العقلي في ولز بقولنا إنه يعتمد فيما يكتب على التحليل الفكري، نحذِّر القارئ من تصديقه في كلِّ ما يقول؛ لأن نتائجه مليئة بالأغلاط.
ويختلف «ولز» و«شو» في طريقة التهكم؛ فشو يكفيه أن يسخر من المجتمع ليوضح لقرائه ما يريد، أما «ولز» فيضيف إلى ذلك تحليلًا لعناصر المجتمع كأنه يشرِّحه ليبين ما فيه من أنسجة وخلايا، وهو يتغلغل في تحليله حتى يصل إلى الأعماق الغامضة من حياة الإنسان، حيث تعمل العوامل الاقتصادية والتقاليد في صمت وقوة، وحيث تكمن الغرائز والميول الطبيعية التي تدفع الإنسان إلى ما يعمل. على أن ولز إن استخدم السخرية في كتابته فهي سخرية الكهل الرزين الرصين لا سخرية العابث الطروب.
إن الرسالة التي أداها «بلزاك» و«زولا» في فرنسا، هي بعينها التي جاء «ولز» يؤديها في إنجلترا، وإن يكن أقل منهما نبوغًا وعبقرية؛ فهو يحلل نفسية الأفراد كما كان يفعل «بلزاك» ولكنه دونه في ذلك فَهْمًا لها وأقرب منه إلى الزلل والخطأ. وهو يُشَرِّح نفسية الجماعات كما كان يفعل «زولا» ولكنه في ذلك أضعف قدرة منه. على أن «ولز» يمتاز عن ذينك الكاتبَين بدقة الحاسة الاجتماعية. وإن له في أبحاثه الاجتماعية لَدِقَّةً علمية يحسده عليها كثير من العلماء.
إن ولز يرى العالم من حوله يضطرب اضطراب العليل، فلا يألو جهدًا في وصف الدواء، وقد وصفه في وضوحٍ لا يعرف الغموض، وهو الاشتراكية المنظمة. وهو أوضح في نظرته إلى الاشتراكية المنشودة من برنارد شو، لولا أنه ينظر إلى اضطراب المجتمع من وجهة نظر جزئية شخصية في معظم الحالات.
إن المدنية الصحيحة عند ولز هي رقي الفكر والخُلق، ولكي تبعث شعبًا من غفوته فحسبك أن تبعث في حياته روحًا علمية في التفكير؛ فأمل الإنسانية الزاهر هو عند ولز نشرُ المعرفة المنظمة بين الناس، وهو يوقن أن العالم لا يلبث أن تتبدل حاله غير هذه الحال السيئة إن أدرك الناس ما في ظواهر الطبيعة ومظاهر الحياة من أسباب ومسببات؛ فمستقبل الإنسانية مرهون بالتربية التي تَبُث هذه الروح في النفوس.
ولكن العلم والفكر ليسا بالدافعَين الوحيدَين لروح الشعب، ولا يقتصر عليهما ولز في حث الهمم، بل يُعنى كذلك بجانب الشعور في الإنسان؛ فمن الشعور يتفجر الحب والعواطف، ومن هذه يندفع الإنسان إلى كثيرٍ مما يعمل. وهذه النزعة التصوفية أخذت تنبت في نفس ولز قبل الحرب، فلما نزلت نازلة الحرب الكبرى أينعت تلك النزعة وازدهرت. ولم تَعُد الاشتراكية هي كل شيء عند ولز، بل استولت عليه رغبةٌ ملتهبة نحو توحيد أفراد البشرية جميعًا؛ فالإنسانية وحدةٌ لا انفصال بين أجزائها؛ هكذا يجب أن نفهم التاريخ وهكذا ينبغي أن نمهِّد الطريق للمستقبل؛ ففي هذه الخطة وحدَها سبيلُ النجاة مما يتخبط فيه الناس اليوم من فعل القوة والدمار والخوف. اتحاد الدول هو الهدف الذي استولى على ولز بعد الحرب فأخذ يعمل لتحقيقه جاهدًا لا يدَّخر في سبيل ذلك وُسعًا. إن هذه الأرض التي تسبح بين أطباق الفضاء وهي تئن أنينًا مما تنوء به من الكوارث والآلام، وإن هؤلاء البشر الذين تحترق نفوسهم نيران العقل والواجب والحب، أقول إن هذه الأرض ومَنْ فوقها تنزع إلى أملٍ واحد يطمح إليه كل شيء وكل إنسان، وهو أن تبلغ مرتبةً تدنو من الكمال لتحقق وجود الله في الواقع، وستكون البشرية المتحدة المتسقة شعلة من نور تنهض برهانًا على الألوهية الخالدة؛ هكذا مَسَّ ولز موضوع الدِّين وهو يرنو إلى وحدة الإنسانية، فأغضب الملحدين؛ لأنه طرق موضوعًا ما كان ينبغي له أن يخوض فيه، وأغضب رجال الدين؛ لأنه صوَّر الله على غير ما جرى به الدين. ولكن ولز لا يعبأ بهؤلاء ولا بأولئك؛ فعقله ينشد الفهم الصحيح والتعبير عما فَهِم، وهو لا يعرف حدودًا لأطماعه ولا يجد ما يشكمه عن محاولاته الجريئة في جوانب التفكير على اختلاف ألوانه؛ فهو ثائر، ثائر لا يهدأ، ولكنَّ من وراء الثورة المتأججة خضوعًا واستسلامًا؛ خضوعًا لا يمليه العقل واستسلامًا للدين كما يراه.
على أن ولز ليس متساوي الفكر والنبوغ في كلِّ ما كتب؛ فقصصه الخيالية التي كتبها في المرحلة الأولى من حياته يَعُدُّها هو نفسه اليوم مجهودًا ضئيلًا، ومع ذلك فلها حسناتها؛ فأسلوبها سهل متسق؛ ولذا فقد حققتِ الغرض من تأليفها أتمَّ تحقيق. وأما مؤلفاته في علم الاجتماع فرصينة هادئة واضحة. وإذا بلغْنا مرحلة القصص المطولة وجدت للكاتب غرضًا فنيًّا ساميًا طموحًا. وإنا لنلاحظ في رسم أشخاصها أن الكاتب يُجيد كل الإجادة حين يصف الشخصيات التي عرفها في طفولته وشبابه، وقد بلغت من الكثرة والتنوُّع ما يشهد لولز بالقدرة الممتازة. أما في وصفه للنساء والبنات فهو مقصِّرٌ بعض الشيء، وبخاصة إذا حاول أن يقدِّم صورة للحب العميق؛ فهو ينتزع العواطف من خياله وذهنه انتزاعًا ولا يستمدها من القلب. وهو بارع جدًّا حين يصوِّر البيئة الاجتماعية في الطبقتين الدنيا والوسطى.
وأصاب ولز بعض التطور في أسلوبه؛ فقد بدأ بأسلوب هادئ مستقيم، ثم أخذت تستولي عليه حماسة عنيفة ظهر أثرها في اللغة. ولعل أبرز ما يستوقف النظر في كتابته الآن سَعة الألفاظ اللغوية التي يستخدمها. وطرأ على ولز تحوُّل آخر؛ فقد بدأ واقعيًّا يُعنى بتصوير المحسات ولكنه آخذ اليوم في تجريد فكره شيئًا فشيئًا، فأبعده تجريدُه هذا عن نزعته العلمية بعض الشيء ولم يَدْنُ به نحو الشعر. ومهما يكن من أمر أسلوبه فهو قليل الجمال وإن يكن جزلًا قويًّا، وهو يتعمَّد القوة في اختيار الألفاظ؛ لأنه لا يحب أن يقرأه القارئ وهو فارغ البال، بل يريد أن تُدرَس كتبه دراسة متئدة.
- (١)
فهو مجهود جبار يريد به أن يعيد بناء العالم الاقتصادي. وتغيير الأسس الاجتماعية من أهم أغراض ولز كما رأيت في التحليل السابق.
- (٢)
وهو دعوة صريحة قوية نحو وحدة الأمم التي لا يرى نجاة للإنسانية من شر الحروب بغيرها، وهذه أَحَدُّ رغبات الكاتب منذ نهاية الحرب العظمى.
- (٣)
وهو اشتراكي في أساسه. وقد رأيت أن الاشتراكية عند ولز علاج الفوضى القائمة.
- (٤)
والكتاب يمثِّل طريقة ولز في التحليل العلمي، وقد ظهر لك من تحليل أدبه أن دراسته العلمية قد أثَّرت في أسلوبه وطريقته.
- (٥)
وهذان الفصلان مَثَلٌ قوي لما أشرنا إليه فيما سلف من أن ولز يستمد معظم أدبه من عقله. على أنه يمزج فكره بقليل من المشاعر والعواطف.
- (٦)
وحلَّل ولز بعضَ الأغنياء في هذا الكتاب تحليلًا يبين لك بعض الشيء كيف يكتب ولز قصته، هذا إلى أن هذين الفصلين اللذين نقدمهما يصوِّران كيف يدرس ولز الشئون الاجتماعية دراسة العالم الرزين — وإن أخطأ في بعض النتائج — وذلك مصداق ما قدمنا في تحليل أدبه.
فنحن إذن نقدِّم إلى قراء العربية بهذا الكتاب صورةً للكاتب الإنجليزي الذي يقرؤه العالم كله اليوم؛ وهو ﻫ. ج. ولز. وإن يكن متعذرًا متعسرًا، بل يكاد يستحيل أن تصوِّر هذه القطرة الضئيلة ذلك البحر اللجي المتلاطم إلا صورة غامضة.
والله ولي التوفيق.
١٥ أغسطس سنة ١٩٣٨م