الفصل الثاني

الأثرياء المعاصرون

لقد بيَّنا أن توزيع القوة الشرائية جائر، إذا قُورنت هذه القوة بمجهود الإنتاج، وذلك لِما ينتاب عالم المال من تفكُّك عجيب، فأصبحت الثروة اليوم مالية إلى حد كبير؛ فهي سيادة مالية على الإنتاج، ولم يَعُد أساسها قائمًا على إدارة أملاك فعلية، وأصبح «المنتج المالك» مثل هنري فورد شذوذًا لا يدل على القاعدة؛ فمعظم الأثرياء أرباب أموال من عامة الناس، يستثمرون مالهم في الأعمال؛ والطبقة العليا من هؤلاء هم الموسِرون.

وكذلك وضَّحْنا سير النظام المالي في الأمثلة التي ضربناها، وظهر أن الشئون المالية في رأي مَن يخلقون الثروة خلقًا، ليست إلا عاملًا مربكًا، ولكنها مع ذلك هي السبيل المطروقة لبلوغ الغِنى؛ فإن تَوَسُّطَ غلاة المضاربين والمغامرين ومديري الأعمال على اختلافهم بين الإنتاج والاستهلاك في المجتمع يصرف شطرًا كبيرًا من إنتاج العالم عن غايةٍ يراها فريق من الناس يتكاثر عدده حقًّا مشروعًا له؛ إذ يعتقد أن الإنتاج الضخم الذي ينشئه الناس بمجهودهم المشترك، أو على الأصح إن القدرة على شراء هذا الإنتاج، ينبغي أن يكون جزءًا يقابل خدماتٍ معينة بذلها أصحابها لسعادة المجموع، أو يقابل شيئًا يزيد هذه السعادة. ولكنا على خلاف ذلك، نرى قوة الشراء ممتنعة على هؤلاء، مركَّزة في أيدٍ قليلة؛ فالقوة الشرائية المحبوسة تجتمع لدى فريق كبير من طبقات الموسرين والأغنياء، ومعنى سيادة فئة ما على قوة الشراء حقُّها في توجيه الحياة الاجتماعية، فلا يكفي للدراسة الاقتصادية الشاملة أن تقتصر على كيفية اجتماع هذه القوة الشرائية المحبوسة، بل يجب أن تبحث فوق ذلك كيفية إنفاقها أيضًا، فذلك أمرٌ له شأن عظيم في تلك الدراسة.

ولا بد أن يكون لطريقة العيش والإنفاق عند هذه الفئة الناجمة في شئون المال؛ أعني الموسرين المحدثين، أثرٌ عميق جدًّا في حالة المجتمع العامة من حيث العرض ولطلب؛ وأما هل يسيطرون بقوَّتهم الشرائية أو لا يسيطرون، وهل يوجِّهون المجتمع حقًّا أو لا يوجهونه، فذلك أمرٌ آخر يختلف عن هذا اختلافًا شديدًا؛ لأنهم لو أنفقوا مالهم في ضروبٍ متباينة، وعلى غير نسق واحد، لما انتهى الأمر في مجموعه إلى زيادة الطلب في ناحيةٍ بعينها دون سائر النواحي.

ولا ينبغي أن نَعُدَّ جميع الأثرياء نتيجة احتجاز القوة الشرائية بمضاربات المضاربين؛ نعم إن الثروة الضخمة الجديدة هي من هذا الضرب إلى حد كبير، ولكن هذا نوع واحد من أنواع الثروة الممكنة التحصيل؛ فهناك الموسرون الأقدمون إلى جانب المحدثين، وهنالك طبقات اجتماعية لها تقليد قديم تشارك المحدثين في استمتاعهم بإنفاقٍ غير مسئول، ومَثَل هؤلاء مَنْ يغالون فيما يتقاضونه عما نشأ من التقدُّم المدني الحديث من استخراج الفحم وسائر صنوف الثروة المعدنية التي استُكشفت تحت ضِيَاعهم ونحو ذلك. ولا بد ونحن بصدد هذا التحليل الاقتصادي أن نضيف إلى أولئك الأسرات الملكية في إنجلترا وهولندة واسكندناوة — التي تكاد الأسر الملكية الوحيدة التي دعتها سلامةُ التفكير أن تمتنع عن المقامرة في سوق الأوراق المالية التي تطوح بالملوك إلى مطارح النفي. وشبيه بهذا الضرب من الموسرين أغنياء العصور الوسطى من أمراء الهند وسائر حكام الشرق على اختلافهم؛ فهؤلاء أغنياء لم تتملكهم رغبة التحصيل إلى حدٍّ ما، وهم الذين جرُّوا وراءهم تقليدًا خلَّابًا من أمارات الشرف والألقاب وشارات التعظيم، فأثَّروا بها في الأغنياء المحدثين؛ إذ خلعوا على كل هذه الألقاب جلالًا لولاهم لما كان لها، ثم دفعوها دفعًا حتى رسخت تقاليدها، وبذلك أضْفَوا على أعلام الموسرين في هذا العصر صفةَ الهيئة الاجتماعية والنظام، وأغروهم بتماسك أفرادهم تماسكًا اجتماعيًّا، ولولا أولئك لما وقع شيء من هذا.

وربما تكون الثروة الجديدة عظيمة جديدة بالنسبة إلى الثروة القديمة، وإن تكن تعوزنا الأرقام الدقيقة لهذا. وقد بحث الموضوع «السير جوزيا ستامْب» في كتابه «بعض العوامل الاقتصادية في الحياة الحديثة» في فصل الوراثة؛ فلقد كان شطر كبير من الثروة ينحدر بالوراثة في الأيام السالفة، ولذلك كانت هنالك «طبقة» غنية دائمة لها حياتها وتقاليدها، أما الثروة في المجتمع الحديث فتختلف عنها في القرن الثامن عشر من حيث نظامها وأثرها، وهي على الجملة أقلُّ ثباتًا مما كانت.

ففي موسمٍ من كل عام تتجدد بعض التقاليد الاجتماعية التي تراها واضحة، أو تستطيع على الأقل أن تتعقب آثارها في حياة الطبقة العليا من الموسرين في معظم الجماعات الأوروبية، وهي تصحب انتقال المحاكم أو اجتماع المجالس التشريعية، أو كانت تصحبها فيما سبق، ولا تزال تستمد كثيرًا من مظاهرها من العصر السابق لإنشاء الطرق الحديدية، ولا تزال تلك المظاهر محتفظة برابطةٍ واهية تصلها بما يحدث اليوم من الأعمال السياسية والاجتماعية، ولكنها كانت فيما مضى ضرورية تترتب عليها بعض التبعات، بل إن في الولايات المتحدة نفسها بعض انتقالات قليلة لفئة الأغنياء من واشنطن وإليها، ولكن حياة الأثرياء في أمريكا أقل جدًّا في تركُّزها لدى جماعة معينة، وأكثر جدًّا في فرديتها، منها في أوروبا؛ فلست ترى هنالك ما تراه في أوروبا من رابطة بين حياة الموسرين وبين التَّبعات السياسية والاجتماعية؛ إذ تكاد الثروة الأمريكية كلها تكون حديثة بحتة قائمة على طراز جديد؛ لأنها نشأت من الأحداث المالية والصناعية التي وقعت في المائة السنة الأخيرة دون أن يصحبها شيء من تقاليد التَّبعة السياسية أو الاجتماعية. ولست تجد هناك موسمًا خاصًّا تتلاقى فيه الحياة السياسية والحياة العقيلة والحياة الفنية كما كان يحدث في «موسم» لندن، ولا يزال يحدث بها إلى حد ما. كذلك لست ترى هنالك ما تراه في باريس مما يشبه أن يكون هجرة منها في يوليو وعودة إليها في أكتوبر. ولكن هذه التقاليد تمَّحي شيئًا فشيئًا بصورة واضحة حتى من الأمم التي رسخت فيها منذ القِدَم، فيقل تدريجيًّا إلزام الموسرين أن يجتمعوا في ساحات المحاكم وحلبات السباق كما كان يحدث من قبل. ويميل الأغنياء اليوم إلى أن يرسموا لأنفسهم مناهج حياتهم، وذلك ما لم يكونوا يودونه فيما سلف؛ وبعبارة أخرى فإن تماسك الموسرين أخذ في الزوال، وأصبح لهم اليوم من الحرية والاستقلال الشخصي ما لم يسبق له نظير فيما مضى.

لقد درسنا في الفصول السابقة١ بوجه عام «كيف يَطْعَم الإنسان» و«كيف يكتسي وكيف يسكن» ولا يسعنا في هذا الصدد إلا أن نلم إلمامة عجلى بالطريقة التي يَطْعَم بها الأغنياء ويكتسون ويسكنون ويلهون؛ فإن الفراغ وقوة الشراء العظيمة يقتضيان إقبالًا عنيفًا على أسباب اللهو. ويحسن أن نبدأ البحث بالسكن؛ فقصة الموسرين المعاصرين من حيث دورهم ترجع إلى منزل الأسرة العتيقة الغنية التي تملك على الأقل ضَيعة ريفية كبرى تكون كافية لنفسها بنفسها، كما تملك منزلًا فخمًا في المدينة، أضف إلى هذا وذلك ضِياعًا للصيد، ومنازل في مناطق الصيد وحظائر لتربية الجياد، وكل هذه تموج بالخدم والأتباع. وكان الموسرون المحدَثون يريدون في بادئ الأمر أن ينغمسوا في هذا اللون من الحياة، بل إن كثيرًا من أوائل المحدَثين قد غاص إلى أقصاه في مجتمع التقاليد، وأبناؤهم الآن يواصلون تقليد الدار الريفية ويتشبثون به تشبُّثًا قويًّا.

ومع ذلك فالدار الريفية، حتى حين، كانت محصورة في أيدي الموسرين الأقدمين، أخذت تفقد عزلتها واستقلالها شيئًا فشيئًا، لِما استحدث من الوسائل التي يسَّرت تزويدها بما يعوزها من مؤن، فلما انقضى عهد الضِّياع الريفية الحقيقية، تكاثر نوع جديد من اللهو، وهو اتخاذ المزارع ومعامل الألبان وما إليهما، وهو ضرب من العبث بموارد النفع يقلدون به ما كان يحدث في قصر «البتي تريانو». ثم أخذ طراز جديد من المنازل الخلوية يَحل تدريجًا محل المنازل الضخمة القديمة؛ أعني قصور النظام القديم، وهذه المنازل الخلوية أصغر حجمًا من القصور، وأكثر منها رفاهة وأفضل إعدادًا؛ فهي توفِّر العمل والعناء، ويقل بالتدريج اتخاذها مركزًا لحياة محلية، كما يزيد تدريجًا استمدادها المئونة من الموارد الخارجية. كذلك نشأت لدى الموسرين رغبة في السفر إلى الخارج — إلى الرفييرا الإيطالية والفرنسية مثلًا — وأقصد بذلك الموسرين من الإنجليز والألمان والأمريكيين؛ وهنالك يبتنون المقصورات الصغيرة الجميلة تكتنفها الحدائق، فيأوون إليها في أشهر قلائل كل عام؛ وهم ينشئون اليوم أمثال هذه المنازل الجميلة في جنوبي أفريقيا وفي فلوريدا وكالفورنيا، أو حيثما وجدوا مناخًا يمتاز بجماله، وبذلك يتبعثر الأغنياء شيئًا فشيئًا ويزدادون ميلًا إلى الأخذ بالمذهب العالمي.

ولم تَعُد الدار الريفية في إنجلترا — حيث لا تزال قائمة حتى اليوم — مركزًا اجتماعيًّا ولا مستقلة بنفسها في سد حاجتها؛ فعلى مقربة منها ترى ندوة الجولف أو ندوة ريفية تتمازج فيها طبقات المجتمع في غير كلفة، ولم تَعُد الدار الريفية — كما كانت فيما مضى — مركزًا لحياةٍ متصلة؛ وبات الناس اليوم يلتقون زرافات لينفقوا عطلة الأسبوع ثم يتفرقون، وزاد إقبال الموسرين على تأجير منازلهم في الريف والحضر، فأصبحت على وجه العموم أقل خصوصًا مما كانت؛ ولكن تلك الصفة الفردية من حيث تخصيص الدار لصاحبها وحده زادت في حالات نادرة، وذلك حين يُنشِئها أربابها وفق هواهم الشخصي مسرفين في ذلك، ومعظمنا قد سمع أو رأى مثالًا من هذا الضرب الأخير من المنازل التي رجحت فيها النزعة الشخصية في أمريكا وأوروبا؛ فهي ما قد تسميه عامة لندن بالمنازل «المبهرجة» — تشبيهًا لها بالغواني المبهرجات. أما الثري الحديث فلا يقيم في بيتٍ يملكه، بل يسكن دارًا عظيمة يستأجرها، فإن اتخذ مقصورة للهو فلا تتبعها ضِياع، ويكفيه أن تلحق بها ملاعب الرياضة، وإلا فهو قانع بالمُقَام في فندق فاخر؛ وذلك لأن الثروة الحديثة لا تستقر في مكانٍ بعينه، بل تنتقل هنا وهنالك من حين إلى حين، فهي لا تمتد بجذورها امتدادًا محليًّا كما كانت تفعل الثروة القديمة، ولذلك لا تتخذ لها طرازًا خاصًّا من المنازل، ولعلها مدركة ما قد يطرأ عليها من الزوال.

ولسنا في هذا الصدد بحاجة إلى وصفٍ مطول لحياة البذخ الحديثة بكل ما فيها من تبرُّج غير مسئول؛ فإن ما يصدر اليوم من الصحف التي تروي أنباء الأغنياء، وكبرى المجلات الأسبوعية المصورة التي تحمل في طياتها الإعلان عن الموسرين، لتصور لنا تلك الحياة في مناشطها المتغيرة المتجددة؛ فترى منهم زرافات يرتدون أفخر الثياب، ولا يدل ظاهرهم على أنهم حقيقون بالنعمة الجزيلة، بل إنهم في الحق لا يستحقون منها شيئًا كثيرًا؛ فإن كانوا في ظاهر الأمر لا يُضيِّقون على الناس سُبل الحياة، فهم لا يجهدون أنفسهم البتة لدرء كارثة قد تصيب النظام الذي كان سببًا في وجودهم، بل إنهم لا يدرون كيف جاءوا إلى الوجود، ولا يفقهون من أين يأتيهم الخطر؛ فترى شطرًا عظيمًا من الإنفاق في العصر الحديث منصرفًا إلى اللذة، وإلى اللذة الحسية بنوع خاص، أو يُراد به مجرد إشباع الغرور، أو درء ما قد يتهدد الموسر في شخصه من خطر، فإن كان كثير من الأثرياء المحدثين يقنع بخدمٍ أقل ممن كان يتخذهم الموسرون الأقدمون، فهم يستتبعون حاشية أكبر مما استتبع أولئك، حاشية لا يستطيع وصفَها إلا طائفة من كتَّاب القصص. أما المسرفون في الغنى فلهم بِطانات تضارع بطانات الملوك، تخدمهم خدمة تنتهي حينًا إلى الصداقة وحينًا إلى الذل؛ وإنه ليتضح مما يُتاح علمُه للباحث في هذا الجانب من الحياة — من مطالعة ما يُنْشر من الخطابات ومن الدعاوى القضائية ومن القصة المعاصرة التي تكشف عن هذه المخازي — أن المرأة المغامرة تلعب فيما يظهر دورًا يتزايد في مآسي الحياة لم تقُم بمثله في أي وقتٍ مضى، وأن جماعات الأتباع المرائين والأذناب المتطفلين يزدادون على اختلاف صنوفهم، ازديادًا سريعًا حول معظم القابضين على زمام القوة الشرائية؛ هذا إلى أن هؤلاء الأذناب يستتبعون بدورهم عددًا كبيرًا من الأذناب.

وحقيق بالروائي الحديث أن يُعنى بخبراء التجمُّل والأطباء الذين يعيشون كَلًّا على الأغنياء؛ فأما الطبيب الطفيلي فوسيلة سهلة للحصول على صنوف المنبِّهات والعقاقير التي يهيِّئها بما له من الخبرة في مهنته. كذلك باتت حرفة من الحِرَف أن يعيش الفنان في كنف الأغنياء، وأن يظفر مع الكاتب والناقد بإعجابهم إذا أنتجوا ثمرات عقلية وفنية تخدِّر العقول، وأن يقول رجل الدين ما يفعل بالروح فعلَ العقاقير، ثم يجيء مع هؤلاء صانع الثياب الفاخرة ويوشك أن ينزل معهم في منزلة واحدة.

وننتقل بعد هؤلاء إلى مَن يستخدمهم الموسر من بَنَّاء ونَقَّاش وجَنَّان وصانع السيارة؛ فهؤلاء لا يذلون للأغنياء إلى حد بعيد، إنما ينشأ عامل جديد هو المهارة الفنية ويقظة الضمير الفني، وأضف إلى هذه الطائفة الخَدَم الذين يهيئون للموسر شئون داره وضَيعته؛ ففي حدود ما يعمل هؤلاء جميعًا تسير الأمور على وجهها الصحيح، حيث لا يعود لغواية الرياء وإذلال النفس ما رأيناه من عظيم الشأن، وذلك لأن هذه الطائفة من العمال تحتفظ لنفسها بالكرامة، وتشتد هذه الظاهرة في الفنادق الفاخرة والمطاعم الكبرى، التي لا تلتزم بتهيئة أسباب الراحة لكبار الأغنياء وحدهم، بل تهيئها كذلك للأغنياء العاديين، وفي مثل هذه المحال كلها ينبغي أن تكون الخدمة عالية المستوى جدًّا، وأن تديرها أيدٍ حازمة صارمة، فثم عِراكٌ عارض لا ينقطع بين الطائشين من أفذاذ الأغنياء وبين الطبقة الوسطى من الموسرين التي يمكن حصرها على كثرة عددها، وكل فريق منهما ينازع الآخر خدمات هذا الضرب من رجال الإدارة والتنظيم، وهذا الصراع بعينه قائم فيما يُستحدَث من وسائل السفر الفاخرة المريحة المطردة التقدم، التي خفَّضت الكُلَفَ خفْضًا سريعًا، بحيث تدلت إلى ما يَسُدُّ حاجة الطبقة الوسطى، وهي آمنُ من الوسائل الأولى على نقص نفقاتها.

وقليل من الموسرين، بل قليل جدًّا من الموسرين المغامرين المحدثين، مَن يقنع باللذة الحسية محوطًا بألسنة الرياء، فتراهم يميلون إلى ألوان من النشاط؛ فهم يخرجون من مكامنهم الآمنة — وبخاصة الشباب الناشئ — ليداعبوا المخاطر، المخاطر المُتْرَفة، فيشقون الفضاء أو يسبحون على ظهر الماء بطوائرهم، ويجتازون في أسفارهم الأقطار المضطربة، ويصيدون من ضخم الحيوان ما يخلد على الدهر، ويعبُرون على صهوات جيادهم حقول الزرع إلى حيث كلابهم السلوقية، وينطلقون بسياراتهم العتيدة انطلاق المستميت؛ وإلى جانب هذا النفر ترى فريقًا كبيرًا منهم يستمرئون المغامرات الخطرة وضروب الرياضة الجريئة، يقوم بها مَن يعيشون في أكنافهم فيشدون أزرهم ويرقبون ما يفعلون، وترى آخرين يستوون إلى موائد الميسر على رءوس الأشهاد، يريدون بذلك أن يهزءوا بالمخاطر التي يجوز أن تودي بحياتهم؛ والميسر بين الأغنياء أشد خطرًا على المجتمع منه بين الفقراء، وإن تكن القوانين فيما يظهر قائمة على نقيض هذه الفكرة؛ فليس ثَمَّ ما يحول رجل الأعمال النشيط الذي يتوقف على استقراره مشروع عظيم يتوقف عليه اشتغال ألوف العمال، دون أن يخاطر بمصلحة العمل والعمال جميعًا أمام أقدار الموائد، كما أنه ليس ثَمَّ ما يحوله دون أن يُمعِن في المقامرة بعمله في سوق الأوراق المالية، وبهذا أو ذاك قد ينتقل العمل بين عشية أو ضحاها إلى أيدي سواه، أو قد يستولي عليه منافسوه، وعندئذٍ يديره مَن لا يركن إلى خبرته، أو قد يُصاب بالحبوط جملة واحدة.

ولا يتم لنا وصفُ فراغ الأثرياء دون أن نُلِمَّ إلمامة عجلى بعالمَي الرياضة والمقامرة؛ فحلبات السباق أثر باقٍ من آثار الأعصر الأولى، وهي في بريطانيا العظمى جزء من تقاليد المَلَكية، ولا يزال الملك بما له من الحق الإلهي يقصد حلبتي «أسْكُتْ» و«إبسوم» كما كان «ابن الله» من شأنه أن يذهب إلى «المعبد» في مدينة بكين ليذبح الأضاحي ويفتتح المواسم، فما أشد الشبه بين هذا وذاك! واحتشاد الناس في حلبات السباق ظاهرة قديمة جدًّا كان لها شأن في تاريخ الإنسان؛ فقد كانت في غابر الزمان عملًا اجتماعيًّا لا منصرف عنه في حياة الجماعة؛ إذ لم يكن بد من هذا الاستعراض الشامل لأفراد المجتمع جميعًا، ولذا كان يعقد للسباق مواسم خاصة قبل فجر التاريخ، ولست أدري إن كان سباق اليوم قد انحدر إلينا من حفل ديني قديم في أقطار الشرق، وما زال حيًّا، حتى أدركناه في هذه الصورة التقليدية، أم تراه أثرًا من آثار أسرة ستيوارت، ولكني أجزم في يقينٍ قاطع أن أسبوع عرض الجياد في دبلين أثرٌ باقٍ من حفل قديم.

ولقد يكون من الممتع أن نسجل — إذا استطعنا — في موسوعة «العمل والثروة» التي لم يتحقق وجودها بعد، تاريخ حلبات السباق وأن نَصِفها وصفًا اجتماعيًّا — ليقرأه مَن لا شأن لهم بالرياضة.

ولو كان لدينا الوقت والمصادر الصالحة لقصدنا إلى اصطبلات السباق لنتدبَّر ما يسود فيها من قواعد الترف، ولنبحث في مواضعات الناس هنالك، فنجمع المادة اللازمة للإلمام بنفسية المراهنة، وسنجد في هذا الباب أيضًا أن ما يبدؤه الموسرون يسري أثره ويشيع في جوانب الحياة الإنسانية كلها.

فهناك فريق قليل من الناس يتخذون المراهنة وسيلة لعيشهم، وكثيرون من هؤلاء يكسبون من ذلك مالًا كثيرًا، فيسكنون المنازل الجميلة، وينفقون أيامهم في ظلال الأشجار يستمتعون بشيء من ضوء الشمس وأمامهم الطيور الجميلة وخمائل العشب، ومن حولهم الجماهير وقد احتشدت لتقضي أيام عطلتها، وإلى جانب ذلك كله ترى الجياد صاخبة عاديَة في مضمارها؛ وفي هذا العالم الصغير المتلألئ تتدفق الثروة تدفقًا مما يراهن به المسافرون العابرون حينًا بعد حين، ومما ينفقه الموسرون في ذلك عامدين؛ ومع ذلك فنظامنا الاقتصادي يحتمل هذا كما يحتمل ألوف الألوف من المضاربين والمقامرين، ولم يحاول أحد قط أن يقدِّر نسبة ما تنفقه الإنسانية في المراهنة من فكر ومجهود؛ فكم ترى من المكاتب الفخمة المؤثثة بجميع الأثاث الغاصَّة بجماعة الكاتبين والمديرين، والمليئة بطوائف الضاربين على الآلات الكاتبة، وكل هؤلاء يعملون من أجل هذا النشاط العقيم.

وإنه لمما يستوقف النظر الدقيق المتأمل احتذاء الناس حذو الموسرين المحدثين في عقليتهم وحياتهم؛ فليس قبضهم على زمام القوة الشرائية يسيطر تمام السيطرة على الحياة الاقتصادية بأية صورة من الصور، بل إنهم ليفقدون هذه السيطرة الكاملة حتى في خلق الأنماط والطُّرز الفنية؛ نعم إن لهم في ذلك نفوذًا عظيمًا، ولكنه لم يبلغ من العظمة مبلغ سلطان الأشراف والسادة في فرنسا وإنجلترا، وصغار الملوك والأمراء في ألمانيا وإيطاليا في القرن الثامن عشر؛ فهؤلاء قد أنشئوا نظامًا متسقًا لم تُنشِئ مثله الثروة الحديثة، وسلطان الأغنياء في هذا العصر (البلوتوقراطية) عبارة عن ضغط القوة الشرائية ضغطًا مبهمَ المعالم؛ فربما اصطنع بعض المقاييس المعينة للأناقة، وربما عمل على توجيه المقامر وكثير من ضروب الرياضة الغالية، وقد يستطيع هؤلاء الأغنياء أن يُكثِروا من الرشاوى وأن يساهموا في دفع الديون عن الساسة الطائشين إذا ما اشتدت بهم الأزمات، وفي مقدورهم أن يُقحِموا أنفسهم في شئون الدولة العامة أو في الشئون العالمية إقحامًا أساسه الجهل والسوء، وأما أثرهم في مجرى التجارة بصفة عامة، فأشك أن يكون للقوة الشرائية عند الأغنياء المحدثين قدرة توجيهية مثل ما للطبقة الوسطى، سواء أكان أفراد هذه الطبقة الوسطى من أصحاب الأموال أم من العاملين.

وإذا استثنينا من هذه الطبقة الوسطى أصحاب المال الذين يحرصون في إنفاق مالهم حرصًا شديدًا، وجدنا أن هذه الطبقة — وهي تكوِّن الجانب الرئيسي الأكبر من المجتمع الحديث — من وجهة نظر القوة الشرائية — على الرغم مما يعوزها من الفراغ ومن اتساع التجربة، ما يتيح لها أن تشتري بحيث يكون لشرائها قوة توجيهية شديدة، ولها من المطالب العريضة الهامة ما ينبغي أن نقابله بالتقدير والاستجابة؛ على أن ما تتميز به هذه الطبقة من نقص الفراغ يكمله التقدم في وسائل الإعلان الحديثة؛ فعلى القائمين بالإعلان أن يأخذوا تلك الطبقة بالرياء والإغراء ليحملوها على الإنفاق، وعليهم أن يهدوا هذه الطبقة سواء السبيل؛ إذ هم لا يملكون اليوم اختيار الطريق التي يسلكونها، وعليهم كذلك أن يبحثوا في الموقف وأن يفترضوا له الفروض ثم يرجِّحوا أقرب الفروض الذي تتبلور فيه الرغبات الغامضة التي تختلج في نفوس أفراد الطبقة الوسطى الناجحين، فلا شك في أن الناجحين من هذه الطبقة هم — دون الأغنياء — عماد الكثرة الغالبة من المسارح، وهم الذين يستخدمون الإذاعة والسِّنما، ويحتملون عناء الصحافة الحديثة، ويقومون بضروب الرياضة كالتنس والجولف، ويروِّجون لهذا النوع من الرياضة، وهم الذين يقنعون بالمقاهي والمطاعم ووسائل السفر العاديَّة بصورتها الراهنة.

وأميل إلى الظن بأن القائمين بشئون الإعلان هم الذين يحددون ألوان التغير والبدع التي تطرأ على استهلاك الطبقة المتوسطة الثراء، ويزيد شأنهم في هذا التحديد شيئًا فشيئًا، وأرى أن ما أخذت به هذه الطبقة في الماضي من المحاكاة السخيفة والتقليد في حياتها يقل تدريجًا؛ فلم تكن للطبقة الوسطى في العصور السالفة مواضعات خاصة بها في سلوكها الاجتماعي سوى ما تنقله عن الملوك وطبقة الأشراف والسادة الظرفاء من طرائق ومظاهر، حتى لقد كان الأشراف والسادة يلعبون دورًا هو في الحقيقة بمثابة الإعلان للتجار؛ فكنت ترى أصحاب المتاجر في لندن يفيدون أعظم الفائدة من عرض «الأسلحة الملكية» أمام محالهم، أو من كتابة هذه العبارة «بتصريح ملكي» على أبوابهم، ولكني أشك في أن يكون لها اليوم هذا الشأن. وأما الموسرون المحدثون فليس بينهم — بالنسبة إلى الأقدمين — مظهر متَّحد، وليس لهم ما لأولئك من النفوذ أو الرغبة في فرض مقاييس حياتهم على الناس؛ فهم لا يحبون أن تكون لهم السيادة والقيادة في عالم الأخلاق؛ لأنهم لا يشعرون بتبعة السلوك العام، بل هم يؤثرون أن يكونوا أحرارًا آمنين من النقد، وأن يختلفوا عن مألوف الناس اختلافًا ظاهرًا، وأن يكونوا من الناس موضع الإعجاب؛ فهم اليوم أقرب إلى أن يكونوا أشتاتًا من أفرادٍ موسرين، يتخذ كلٌّ لنفسه طريقًا في الحياة، من أن يكونوا طبقة موصولة الأعضاء، وهم يحركون الحسد أكثر مما يثيرون التنافس؛ وذيوع صوتهم، ببعض أعمالهم الباهرة التي ينفقون فيها المال، قد لا يثير في صدر الرائي من عامة الناس، الذي حرَمته الأقدار العجيبة أن يكون له مثلها، مجرد الإعجاب وحب الاستطلاع، بل تثير في نفسه ذلة وعداوة تشتعل حسدًا.

ولقد أصبح وجود غلاة الأغنياء ظاهرة تستوجب النقد في النظام الاجتماعي؛ فكل الناس يحدقونهم بعيونهم كما يحدقون صنوف الحيوان الضخم العجيب، ولكنهم لا يكنون لهم شيئًا من الحب؛ فلا تشعر عامة الناس بشيء من الرضا نحو الملكية بكل ضروبها (إذا استثنينا شعورهم نحو الملكية في إنجلترا واسكندناوة) وحتى الملكية نفسها لا يتيسَّر لنا الجزم بمدى نفوذها؛ فقد اندكت عروشها في الروسيا وإسبانيا بين عشية وضحاها؛ فإذا غضضنا النظر عن الملكية لم نجد إلا قليلًا من الناس ينهض لمؤازرة الأغنياء، ولا تدخل في هذا جماعات الطفيليين الذين يلتفون حول كبار الموسرين؛ ولم يَعُد عسيرًا أن تفرض عليهم الضرائب؛ فضريبة الدخل وأنواع الضرائب الإضافية وضريبة المال بعد موت صاحبه، كل ذلك يحد مالهم وليس في مُكْنتهم أن يتقوه؛ أضف إلى هذا أن توطيد مشروعات الإنتاج بتعديل قوانين الشركات وتغييرها، وبما يُذاع من الإحصائيات الدقيقة، يعمل بطريقٍ مباشر على حصر مكاسب المضاربات ويمنع ظهور ثروات ضخمة جديدة؛ فإذا كنا على حق فيما افترضناه من أن أصحاب الأموال الضئيلة الذين يستثمرون مالهم على صورة مفككة إن هم إلا ظاهرة مؤقتة في مجرى التقدم الاقتصادي، فنحن — فيما يحتمل — أكثر صوابًا في تنبُّؤنا بزوال الثروات الضخمة الضارية التي تزحف زحفًا مخيفًا في ميدان الحياة المعاصرة المضطربة بما فيها من نوازع التحصيل، كأنها ذيل لموكب ساخر تأخَّر به الموعد وأرخى الليل عليه السدول فأسرع في المسير.

١  يقصد الفصول الأولى من كتابه «عمل الإنسان وثروته وسعادته».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤