الفصل الثالث

ما لطبقة الأغنياء من فوائد اجتماعية مُسلَّم بها

لا نكاد نرتاب في أن الطبقة الموسرة غير المسئولة التي تشغل من الحياة المعاصرة مكانة ظاهرة، تفرِّط في تبديد موارد الإنسان، وتنشر نزعات الخيال الطائش، وتُفسِد أخلاق الذين كان يُرجى منهم الإنتاج، هذا فضلًا عما يستتبعه وجودهم من إمكان التدخل القوي الأحمق في حياة المجتمع السياسية والعقلية بصفة عامة.

ولكن ذلك وجهٌ واحد فقط من وجوه الموضوع الذي يدرُس ما لهؤلاء «الموسرين الكسالى» وما عليهم، ويكون بحثنا شديد النقص إذا لم يتناول الوجه الآخر، فواجبنا أن نُعنى كل العناية ببحث ما قد يُقال دفاعًا عما تتيحه الثروات الضخمة من حرية الإنفاق وحرية الابتكار.

فلرُبَّ معترضٍ يزعم أنه إذا كان جزء كبير من إنفاق الأثرياء المعاصرين تبذيرًا، فليس ذلك صحيحًا بالنسبة إلى وجوه إنفاقهم كلها؛ فقد ينتج الأغنياء ببعض إنفاقهم ثمرات هامة لا غنى لنا عنها، ثمرات لا يلوح أن في مُكْنتنا حتى اليوم إنتاجها بغير هذا الطريق.

وقد أشرنا فيما سبق إلى مثْلِ هذا الدفاع، حين عالجنا في الكتاب الثاني١ تقدُّم العلوم وفك القيود عن قوة الاختراع، وبيَّنا كيف اعتمدت حرية الإنسان العقلية — في كل جوانب قوَّتها — على فريق يستمتع بالفراغ وحرية الانتقال، فريق أدق ما يُوصف به هو أنه جماعة من السادة المستقلين بأنفسهم؛ فأمثال هؤلاء ممن رغب في إشباع استطلاعه قبل كل شيء، هم الذين أشعلوا سراج العلم الذي يضيء الآن للإنسانية حاضرها ومستقبلها. نعم إن حركات النقد الفاحص والإصلاح الفكري قامت على أكتاف جماعة من القساوسة الثائرين بنوع خاص، ولكن خلْق أنظمة التفكير الحديثة بعد أن لم تكن، وجمع الحقائق الجديدة، كانا يتطلبان بصفة عامة حريةً أوسع وقوة شرائية أعظم مما يُتاح لأصحاب الثورة العقلية؛ فها هو ذا روجر بيكون قد نشأ في عصر إجداب وفقر انعدمت فيه طبقة الأثرياء ذات الفراغ، فصاح صيحته وانطفأ سراجه، في حين استطاعت الجمعيات العلمية التي أنشها السادة المستقلون في عهد النهضة — وكان عصرًا أيسرَ مما سبقه مالًا — أن تجري التجارب على ما جُمِع بالملاحظة، وطبعت ذلك ونشرته، فدفع بالعالم الحديث إلى الوجود.

كان الملوك والنبلاء يكوِّنون الطبقة القديمة من الموسرين، ولسنا ندري كيف كانت الحركة العلمية في مراحلها الأولى تستطيع أن تنشأ بغير هِبات أولئك الأغنياء الأقدمين ورعايتهم، وقد كانوا أثبت قدَمًا من أغنياء اليوم، وما يزال العباقرة المبدعون حتى يومنا هذا يلجئون إلى الأثرياء الأحرار لتحقيق كثير من المشروعات التي لولاهم لظلت مقبورة، ومثال ذلك كثير من المستكشفات والمعامل الكبرى، وما طرأ على الآلات من إصلاح بعيد المدى، فذلك كله لم يفعله المواطن العادي (صاحب الصوت في الانتخاب) أو واحد ممن يُصَرِّفون السياسة. وإن الفضل الذي أسداه روكفلر وحدَه إلى العالم لَيَنْهَضُ دليلًا قويًّا يدحض كل هذه الأحكام السريعة التي تذهب إلى أن الثروات العريضة في جوهرها أمراض تفتك بالنظام الاجتماعي، فينبغي أن نضع هِبات روكفلر في كِفة لنوازن بينها وبين إفراط الأُسَرِ التي تعدله ثراء وتقل عنه ذكاء، موازنة بالغة الدقة. ولا ينفرد في هذا روكفلر، بل نرى إلى جانبه ما يقرب من عشرين رجلًا من الأعلام الذين ينهضون كالدعائم في أعمال البحث الحديث؛ فليست الثروة دائمًا سيئة الأثر، بل إنها في كثير من الحالات تعجز حتى عن صيانة نفسها.

ولا يقتصر الأمر على ميدان العلم وحدَه فيما يجوز للأغنياء أن يزعموا لأنفسهم بحق قيمة عملية؛ فقد آزروا تقدُّم الفنون وحماية الحرية الفكرية مؤازرة لم تقدَّر إلى اليوم حق قدْرها؛ إذ كان الموسرون الأحرار حماة غير رسميين لحرية الكلام، ولا يزال كثير من أصحاب البحوث النقدية والفلسفية — وهم أقوى أثرًا وأقل ذيوعًا من سواهم — يستعينون بفئة من الأثرياء ثراء نسبيًّا، ومن العسير أن نتصور كيف كان يمكنهم أن يستقلوا استقلالًا عمليًّا بغير هذه الوسيلة.

ورُبَّ قائلٍ يزعم أن أناسًا ثروتهم أقل من ثروات العصر الحاضر يستطيعون إنشاء الجمعيات والمساهمة بمبالغ صغيرة يكون لمجموعها في النهاية أثرٌ فعَّال، ولكن الموسر الصحيح الذي أُوتي الرشاد والفراغ يستطيع أن يشاهد نتيجة ما دُفِع المال من أجله، في حين يستحيل أن يُتاح هذا للأغنياء المتوسطين المشتغلين بأعمالهم والذين يساهمون بأموالهم، هذا بجنيه وذلك بخمسة؛ لأن هؤلاء يقعون فريسة لِكُتَّامِ السر ومَن إليهم من «المنظمين»، ولا تكاد الجمعية تسلِّم أمرها إلى كاتم سرها حتى يتعذر عليها عادة أن تنعقد لتناقشه الحساب. وعلى ذلك يتبدد المال الذي يدفعه متوسطو الثراء في هذه المساهمات العاجزة، كما يضيع مالهم حين يساهمون به في التجارة مساهمة عمياء، وهاتان الظاهرتان ترجعان إلى علة واحدة، وهي محاولتهم أشياء لا يبسطون إدارتهم ورقابتهم عليها؛ أعني أنهم يحاولون في كثير من الحالات أمورًا خطيرة الشأن ثم لا يجدون لها متسعًا من وقتهم وخبرتهم، وعلى ذلك فالجمعية التي تؤسسها الطبقة الوسطى بديل هزيل جدًّا للجمعية التي يرعاها موسر واحد ذكي.

وإن كان ذلك عسيرًا فأعسر منه أن يوجِّه الساسة أموال الشعب في عناية وذكاء فينفقونها في أوجهٍ قد تعود عليهم بالنقد المر أو لا تعود، ولكنها بغير شك تفقدهم أصوات الناخبين؛ ولا يَعزُبنَّ عن البال أن الجانب السيئ من فراغ الموسرين — جانب الترف والتبذير — هو أبرز جوانبه، ولكنك ترى مع ذلك كثيرًا جدًّا من الأثرياء يقل فيهم الفضول ويشرفون على أعمال لا مندوحةَ عنها لتقدُّم الإنسانية، ويستحيل أن نجزم بالنسبة الدقيقة بين فوائد الثروة الحرة السائدة في هذا العصر وبين ما تؤدي إليه من تبذير محض وضرر للمجتمع، ولكنا لا نستطيع إنكار الأمثلة النافعة ممن ينتشلون قوة الإنفاق من السقوط.٢

ولكن إذا أمكن للثروة — كما رأينا فيما سلف — أن يتغير مظهرها في مائتي عام؛ إذ تحولت من أملاك عينية إلى أرقام مدوَّنة في قوائم الأسهم وودائع المصارف، فلماذا لا تمضي في هذه السبيل حتى تتشكل في صورة أكثر تجريدًا من هذه وتتيح فرصة أكبر لضبط قوة الإنفاق بما يُفرض عليها من تحفظات وقيود؟

نحن نزعم أننا نستطيع أن نظفر بكلِّ ما في الإنفاق الحر من خير وأن نتخلص من بعض شره إذا نشأت طبقة أخرى تنفق إنفاقًا حرًّا، غير أن هذه الطبقة لم تتحدد في عقولنا تحديدًا واضحًا؛ فليس ما يبرر مثلًا ألا تمنح اليوم هِبات ملكية وشعبية — كما كان يحدث فيما مضى — إلى المخترعين والفنانين وأصحاب القدرة الإنشائية الممتازة؛ نعم إن قدرة الإنشاء لا تصحبها دائمًا قدرة التنظيم والإدارة، ولكن العالم الغزير الإنتاج الموفور الرفاهة الرفيع الاخلاق سوف يحتمل الأثرياء الممتازين بعقولهم التجريبية ونشاطهم العقلي، وسيتبين فوق ذلك ضرورتهم له، بل قد يجاوز ذلك فيصطفي بعض الرجال والنساء ويبيح لهم أن ينفقوا الأموال العريضة فيما يرونه جديرًا بالإنفاق. ويَلَذُّ لنا أن نرقُب طبقة غنية يأتي ثراؤها عن انتخاب وتعيين جزاء ما يعمل أفرادها، ولا ينتج عن انصرافهم إلى التحصيل؛ أعني أن يكون الأغنياء أفرادًا أُعطيت لهم الثروة ولم يختطفوها اختطافًا.

وتستطيع أن تلمح بارقةً خافتة لما عساه أن يحدث في المستقبل بشكل أوسع، في القانون الذي صدر منذ حينٍ يبيح لخمسة رجال هم: المستر بولدوين، ومستر هيو ماكملان، والسير جيمس إيرفن، والسير جوزيا ستامب، ومستر جون باكان، حرية عملية لا حدَّ لها في إنفاق مليوني جنيه في وجهٍ يرونه مؤديًا إلى صالح الشعب الإنجليزي؛ وصاحب هذه الهِبة التي ستتيح لنا تجربة لذيذة في موضوع الثروة، هو المستر هاركنسْ من أهل نيويورك، الذي أدَّى به التواضع أن يشك في قدرته على إنفاق ماله في أحسن الوجوه، فاعتزم أن ينيب عنه هؤلاء الخمسة في القيام بهذا العمل، وهو ينفض يديه من ماله نفضًا ويلح في أن يكون لنائبِيه تمام الحرية؛ وبديهي أن عالم الثروة يستطيع أن يصنع في المستقبل ما صنعه مستر هاركنس، فيجيز لرجل معروف أو لجماعة من الأكفَاء حرية التصرُّف في مبالغ عظيمة من المال.

١  يشير الكاتب إلى الفصول الأولى من كتابه «عمل الإنسان وثروته وسعادته» الذي أخذنا منه هذه الفصول.
٢  إذا أردت أن تطالع في هِبات الأغنياء فاقرأ الفصل السادس من كتاب: «أخطار الطاعة Dangers of Obedience» لمؤلفه الأستاذ هارولد لاسكي Harold Lasqi.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤