الفصل الرابع

فكرة المساواة في الأجر بين الجميع

إن مَثَلَ الاشتراكية الأعلى الذي يوجب أن يأخذ كل فرد في المجتمع أجرًا مساويًا لما يأخذه سائر الأفراد، قد شاع في الأيام الأخيرة شيوعًا عظيمًا، بعد أن أذاعه «شو» في كتابه: «رائد المرأة الذكية إلى الاشتراكية والرأسمالية»؛ فلم يَعُد بين الناس مَن لم يسمع بهذا الرأي، ولكن لم يَثُرْ حوله إلا قليل من النقاش، أو قُل لم يَثُر حوله نقاش على الإطلاق، وهو رأي لازَمَ المذهب الاشتراكي إبَّان القرن التاسع عشر، وكان قد ذهب إليه رَسْكِنْ في كتابه «إلى هذا الأخير Unto this Last»؛ ويظهر أن المسيح قد ارتآه كذلك وأراد أن يبشِّر به في «العمال تحت عريشة الكرم» ومنه استمد رَسْكِنْ عنوان كتيبه، وهذا الرأي أيضًا هو المَثَل الأعلى الاجتماعي في الروسيا، غير أنه أملٌ لم يتحقق؛ فهو قضية خلقية وليس غاية بيلجية أو اقتصادية.

وأنت تلحظ في «شو» نزعةً صوفية جامحة في عقله الذي طُبِعَ صافيًا نقَّادًا علميَّ النزعة، ولكنه مهوَّش الفكر؛ فهو عقل علمي أنشأته وتعهدته طائفة من الموسيقيين وأرباب الفن، ثم فسد إلى حدٍّ بعيد لشدة ميله إلى المزاح، ولنبوغه المنقطع النظير في التأثير المسرحي، وهو يمتاز بذكائه المرهف الذي يجنح به الطرب دائمًا؛ ومن الثابت أنه يستحيل على كائن مَن كان أن يواصل نشاطه العقلي؛ فكل إنسان له جانب يسلِّم به من غير إجهاد لفكره، ولا يشذ «شو» عن هذه القاعدة، غير أن ركوده العقلي يتناول آراءه الأساسية؛ فهو يكره دقة البحث في مصادر أفكاره، على أنه يستقي هذه المصادر ممن يتصل به اتصالًا شخصيًّا، ويتأثر بهم تأثيرًا مباشرًا إلى حدٍّ لم يُعهَد في أمثاله من نوابغ العقول، ولم يستطِع قطُّ أن يتحرر من الميول السائدة في القرن التاسع عشر، نحو التطرف والمساواة بين الأفراد؛ فكانت فكرة مساواة الأجر بين الجميع؛ أي المساواة بين الأفراد في قوَّتهم الشرائية، امتدادًا منطقيًّا لدعوى الديمقراطية في القرن التاسع عشر، اتسع حتى شمل في تطبيقه الأشياء المادية؛ فالمساواة في الأجر — إذا سُدَّت حاجات الإنسان الشخصية الضرورية — معناها المساواة بين الأفراد في توجيههم لمناشط العالم الإنتاجية، ولكن التكوين العقلي للشخص العادي في الوقت الحاضر لا يكفي لحفزه لهذه الغاية، وهو عاجز في هذا عجزه عن الرقابة السياسية على الأقل.

ونحن نعلم كيف تأثَّرت اشتراكية ماركس تأثُّرًا عميقًا بالمُثُل الديمقراطية السائدة، وكيف أحدثت المساواة التي تنادي بها تعاليمه ازدواجًا عجيبًا في اتجاه التجربة العظيمة التي تقوم بها الروسيا السوفييتية، وذلك مع وجود الآراء الحديثة في التنظيم الاقتصادي، فكانت النتيجة في الروسيا، وستكون في كل محاولة يُراد بها تحقيق ما يقترحه «شو»، أن يعتنق الناس الاشتراكية المتطرفة في الإخاء، وفي الوقت نفسه يضعون زمام الإدارة العملية في يد هيئة تتركز فيها السلطة، وذلك بسبب الاختراع الحديث والإنتاج الكبير الذي يتطلب الإدارة الحاذقة. وهذه الفئة تبسط سلطانها بسطًا يدعو إلى الريب من بعض الوجوه، ثم تزعم أنها تعمل «للخير العام» وبذلك تُخْرس ألسنة النقط كلها، وتقيد نوازع الابتكار الحرة. وإذن فتنفيذ فكرة «المساواة في الأجر بين الجميع» لا يتم إلا على يد حكومة طاغية (دكتاتورية) تعطي المواطنين ما تراه صالحًا لهم، على أن تسوِّي بينهم في عطائها على وجه التقريب، وقد يكون ما يجره هذا التساوي من فقْد التنوُّع والحرية، وزوال الابتكار على الأخص، ثمنًا غاليًا جدًّا له، بل هو أغلى من أن نشتري به زوال الأثرياء بترفهم وتبذيرهم من مجرى الحياة الاجتماعية.

وينبغي أن نؤكد في هذا الموضع أنه من الخطأ أن نزعم أن الثروة هي «سبب» الفقر؛ فذلك في رأينا وهمٌ شائع بين الناس في هذا العصر، وتؤدي بنا أبحاثنا في هذا الكتاب إلى أن الفقر والغنى غير المسئول نتيجتان للنظام الاقتصادي الباطل المضطرب، كما أن الدخان والضوضاء والقذارة والبطء تنشأ كلها من السيارة إذا كانت رديئة التكوين، ولكن الضوضاء لا توقفها عن السير، والعكس صحيح، فيجوز أن يرتفع أحدهما ويبقى الثاني.

ولا يقل عن ذلك خطأ أن نزعم — كما يريد مبدأ المساواة في الأجور — أن كل نظام اقتصادي كائنًا ما كان سينتج مقدارًا من الثروة لا يتغير، وأن المشكلة كلها هي في تقسيم مجموع الإنتاج الثابت تقسيمًا متساويًا أو غير متساوٍ؛ فإن العقم الذي يصيب الثروة بتأثير جامعي المال من أمثال هتي جرين يؤثِّر في الإنتاج أثرًا أسوأ جدًّا مما قد يُقال عنه من أنه لا يفعل سوى أن يسلب ملايين العمل أقدارًا من المال لو أُضيف بعضها إلى بعض لكانت في مجموعها ما حصَّلته هتي من ثراء؛ فهتي جرين وأضرابها يحولون دون الاستثمار المفيد، وهم لا يحبسون الثروة وكفى، بل يخطئون في توجيهها فيحولون دون خلق ثروة جديدة. وما هتي جرين إلا حالة واحدة من الحالات التي تعمل فيها الملكية الخاصة الجامحة على جمود الموارد الطبيعية والمشروعات الاقتصادية؛ وإنما تقع تبعة هذا على النظرية العلمية لِلْمِلْكِيَّة؛ وفي رأينا أن الملكية المفيدة صورة من صور الغنى، وأما «أعمال» جاي جولد وأمثاله فتفعل فعل القنابل إذا قُذفت في غرفة الآلات، وفي مقدورنا أن نمنع مثل هذه الأعمال، وفي إمكاننا خلق الثروة كما أمكننا جمعها؛ فمثل ثروة فورد وأديسون من شأنها أن تثري الجميع.

فهل يستحيل علينا أن نعيد تنظيم شئوننا بحيث تكون الخدمة شرطًا لازمًا للثروة؟ إن الحقائق التي جمعناها ورتبناها في هذا الفصل وفي الفصول السابقة تميل إلى الجواب بالإيجاب؛ ومن الطفولة الظاهرة أن نفترض أنه قد تم لنا نظام صالح سواء في النقد أو في الإقراض، وأمعن في الخطأ أن نزعم أننا قد جرَّبنا نظامًا صالحًا في هذا أو في ذاك؛ فإن العالم لم يكد يبدأ حتى اليوم في التفكير في المال تفكيرًا رشيدًا، فنظرتنا إلى المِلْكِيَّة وما نفرضه على استخدامها من رقابة قضائية شيء صبياني محض؛ وقد أخذت تلوح اليوم تباشير عِلم يبحث في الدوافع الاجتماعية، ولكن إباحة حرية الابتكار في عالم منظَّم لا تزال مشكلة تنتظر البحث؛ ولا يزال أمامنا كثير من التفكير وكثير من التجربة وكثير من النزاع والفشل؛ فأمامنا آماد بل عصور من التنازع والفوضى لا نجد فيها ما ينصر القوى الإنشائية بحال من الأحوال؛ وإنه لَوَهْمٌ محض أن نخيِّل لأنفسنا أن في مقدورنا أن نثب بقفزة واحدة من النظام السائد اليوم بكلِّ ما فيه من عوامل التعقيد إلى حياة مثلى تسود فيها المساواة؛ هذا إن فرضنا أننا ننشد شيئًا كهذا من الوجهتين الاجتماعية والبيلجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤