الفصل الثاني

النساء كعاملات ومنافسات للرجال

احتفاظ الرجال بزوجاتهم وأسراتهم وعلاقة ذلك باستخدام النساء؛ الطبقة التي لا جنس لها من الوجهة الاجتماعية

لنستعرض الآن في إيجاز شديد عمل النساء، وبصفة خاصة عمل المرأة باعتبارها عاملة صناعية تقف مع الرجل كتفًا إلى كتف وتنازله في ميدان التنافس.

فقد كان يسري بين الناس قبل الحرب ادعاء محتشم، أو قُل كان يشيع بين الطبقتين الوسيطة والعليا، على الأقل من أهل الدول الغربية، قول بأن النساء عاجزات عن أداء أعمال الصناعة العادية، وبأنهن إن كن قادرات على القيام بشئون الدار، فليس في مستطاعهن أن «يكدحن لكسب العيش»؛ فقد كان يُظَنُّ أن الطاهيات، مثلًا، يعوزهن الذكاء الذي يتطلبه إصلاح الآلة المعطوبة، وأن خادمات الدار اللائي ينفقن النهار صاعدات هابطات على سلالم الدار، تنقصهن القوة اللازمة للصعود على سلَّم مركبات الترام؛ فلما كانت الحرب العظمى وتصدي النساء لمثل هذه الأعمال في نجاح تام، لم يَسَع الناس جميعًا إلا أن يُبْدوا حيال ذلك دهشةً وإعجابًا، بل لعل النساء أنفسهن قد تولتهن الدهشة كسائر الناس مما أبدين من مقدرة، وجرت أنهر الصحف بهذا الشعور وأُلفت فيه الكتب، ومع ذلك فلم يكن ذلك جديدًا في إنجلترا؛ إذ كان من بين نسائها قبل الحرب ما يدنو من خمسة ملايين يعملن خارج دُورهن ليكسبن الأجور، وكان من هؤلاء ما يربو على مائة ألف امرأة تعمل في صناعات التعدين.

ولكن مثل هذا الخطأ في الحكم، وهذه الآراء التي تشيع بين الناس عن النساء بالجملة من غير تدقيق، هما اللذان يجعلان من العسير أن نقدِّر ما يمكن للنساء أن يعملنه، أو ما هن قائمات بأدائه فعلًا من الأعمال، فما أحسب أحدًا يستطيع أن يتناول موضوع المرأة بالبحث دون أن ينتابه في البحث شعور قوي يفسد حكمه، ودون أن ينحاز إلى الدعاوى والأوهام؛ فكل أطراف الموضوع تعاني من المواضعات التقليدية التي تميل إلى صوغ الحقائق في قالب روائي، بل إن النساء أنفسهن يضعن سلوكهن في هذا القالب الخيالي، ويضعه لهن الرجال في قالب خيالي آخر، أما أن يثبت الباحث حقائق الموضوع عارية صافية، فما أندر ذلك؛ ولذا فليس بين أيدينا إلا معلومات بتراء، وإلا إحصائيات ناقصة، بحيث لا نستطيع أن نوازن بين هذه وتلك لنخلص إلى بعض النتائج.

ومع ذلك فحياة المرأة الصناعية ماضية في طريقها رغم مقاومة هذه المُواضَعات التي جرى بها العرف، ولم يشهد التاريخ عهدًا رضي فيه الرجال أن تعمل نساؤهم ليكسبن مالًا؛ لأن قبول الرجال لهذا معناه ارتجاج في المركز الاجتماعي لرب الأسرة وتهديد لسلطانه بالزوال؛ فالأغنياء يأبون إباء قاطعًا أن تعمل نساؤهم، مدفوعين إلى ذلك بخليط من طيب الدوافع وسيئها، بل إن الفقراء أنفسهم يعارضون أن تغادر النساء دُورهن ليعملن خارجها؛ ولم يتهيأ للفرد العادي أن يتبين مقدار ما يستطيع النساء أن يعملنه في دُور الصناعة إلا حين اصطبغ العمل الصناعي بلون الوطنية، بحيث أصبح النساء في المعامل فخرًا لأُمَّتِهن، بعد أن كان يعود عليهن ذلك بالخزي الذي لا تبرِّره الأسباب؛ أما وقد انقضت الحرب وامَّحى ما كانت تبعثه في النفوس من فتنة، فقد عُدنا مرة أخرى إلى مرحلةٍ لا يدري فيها أحد، فيما يلوح، بل لا يريد أن يدري على نحوٍ شامل دقيق، إلى أي حد استُخدِمت المرأة في الصناعة، وماذا يعمل النساء وكم يأخذن من أجور وبأي الشروط يعملن.

ونستطيع أن نقسِّم النساء من حيث أعمالهن قسمين رئيسيين: نساء يعملن في الدُّور وما يتصل بالدُّور، وأخريات انتزعهن العمل إلى العالم الخارجي؛ أما الطائفة الأولى فتشتغل في كل أنحاء الأرض بأعمال وصناعات منزلية وبشئون زراعية مما يتصل بالمنزل، ومنها تتألف الكثرة الغالبة من نساء العالم؛ فهي تشمل ربة الدار الأمريكية بما تستخدمه في منزلها من مولدات الحرارة وآلات التبريد وما لها من نادٍ ريفي تعتصم به، كما تشمل الزوجة البدائية، التي إلى جانب طهي الطعام وتربية الأبناء، تبني الأكواخ وتفلح الأرض وتغزل وتنسج وتنشئ السلال وتصنع آنيات الخزف، ويدخل في هذه الطائفة كذلك هذا الجمع الحاشد من أرقاء المنازل وخادماتها؛ فيكاد نساء الهند أجمعون يدخلن في هذا الفريق، وبين نساء الهند هؤلاء بضعة ملايين من الزوجات تزوجن قبل أن يبلغن سن الزواج، فهن محض عبيد لأزواجهن وحمواتهن، بل عبيد كذلك لنظام صارم من العادات والخرافات، حتى أصبحت أوجه حياتهن في صميمها سلسلة مخيفة من القذارة والضعف؛ فألوف الألوف من هؤلاء النسوة لا يجوز لهن أن يغادرن الدُّور، حيث أُلقي بهن في أكواخ معزولة ليحملن أجنة وكفى؛ والكثرة الغالبة من النساء العاملات بين جدران المنازل لا يتقاضين عن أعمالهن أجورًا مالية، مع أن ذلك ممكن أحيانًا، وحتى إن نُقِدن الأجور فما أضألها من أجور، ورغم ما تراه في أمم الغرب من آلات للتنظيف والطهي، فلا يزال معظم العمل المنزلي عتيقًا في ظروفه ووسائله، قد تقدمه الزمن قرونًا وقرونًا، وهو عمل رتيب ممل يعزل القائمة به كأنما يزجها من بيتها في غيابة السجون، وإلقاؤه على عاتق المرأة مشوب بالتفرقة بين الجنسين، ويغلب ألا يقوم به النساء عن شغف، كما أنهن لا يُؤخذن بالتدريب على أدائه، فما تكاد تسنح لهن فرصة الإفلات منه حتى يغادرنه؛ فلئن جاز أن تكون المرأة حيوانًا مستأنسًا، فلا ريب في أن لها روحًا تستعصي على الترويض، وهي كالرجل تكره أن تعمل أو أن تُفرض عليها القيود، وها نحن أولاء نشاهد ربات المنازل يشترين الخبز ولا يعددنه، ويبعثن بما يُراد غسله من الملابس إلى مغاسل عامة، كما نرى ابنة الطاهية تُؤثِر على الطهي وظيفةً في مقهًى، والمُدَرِّسة الشابة الذكية تأبى الزواج إباء قاطعًا؛ ويحدِّثنا أولو الأمر في الروسيا البلشفية أن المرأة أشد من الرجل إقبالًا على الزراعة الجمعية، وأن النساء هن اللاتي يُصوِّتن في الانتخاب من أجل اكتساح القرى واحدة بعد أخرى بهذه الزراعة الجمعية. وهكذا سرعان ما تمَّحي الغريزة التي يُظن أنها أعمق غرائز المرأة إذا ما تهيأت وسيلةٌ للفرار من رعاية الدار، وإذا أخذنا بالأرقام الرسمية ألفينا أن أكثر من ثلاثة عشر مليونًا ونصف مليون من النساء الروسيات كن يشتغلن بتلك الزراعة الجمعية في شهر مارس عام ١٩٣١م، وكان يُقال حينئذٍ إن ذلك العدد في ازدياد مطرد، وإنه ليبدو أن نسبة النساء القابعات في دورهن آخذة في النقصان في أرجاء العالم أجمع.

وبديهي أن هذا النقصان في نساء المنازل مؤدٍّ إلى زيادة أولئك اللاتي يخرجن بأعمالهن من الدُّور، غير أننا نستثني من الفريق اللامنزلي من النساء العاملات، طائفة نكاد لا نشك في تقلص عددها، وهن أولئك الفقيرات اللاتي يُسَخَّرن في أسخف الأعمال بأجور ضئيلة؛ فهن طائفةٌ مُسْتَغَلَّةٌ من النساء تَراهُنَّ قابعات من العالم الصناعي في زواياه وحواشيه، يشقين بأعمال كريهة ضئيلة الأجور بحيث يأبى الرجال أداءها؛ نقول إن هذه الطائفة من النساء العاملات في نقصانٍ مطرد؛ لأن قوانين المصانع وما يُتَّخذ من إجراءات في سبيل الحالة الصحية العامة تمحو هذا الضرب من العمل في البلاد المتحضرة؛ فالأعمال القذرة مثل كشط الجلود، تناولها التنظيف والتطهير، وبعض الأعمال الأخرى، مثل تعبئة زجاجات الجعة، التي كانت تُؤدَّى فيما مضى في سراديب غير صحية، باتت تُنْجز اليوم في مصانع جافة أُجيدت تهويتها، ويُستعان على أدائها بالآلات في كثير من الحالات.

ويرى موظف كبير في مصلحة العمل بوزارة الداخلية الإنجليزية أنك لا تعود ترى اليوم إرهاق النساء والإجحاف بهن، وأقصر القول هنا على الأمم المتحضرة الحديثة، إلا في خادمات المنازل حيث يرسخ في نفوس قليل منهن أثرٌ من الرق، فتعوزهن جرأة النفس ليتخلصْنَ من سيداتهن الطاغيات. ولما كانت الحياة الصناعية تنشر رواقها في بعض البلاد المتأخرة التي تخلو من اتحادات العمال ومن القيود القانونية، فإن الاستغلال لا يزال قائمًا، حتى لتروي Dame Adelaide Anderson في تقريرها على استخدام الأطفال في دُور الصناعة في مصر وصفًا لمحالج القطن التي يختنق هواؤها بالغبار الضار، ومع ذلك ترى الأطفال من بنين وبنات في سن السابعة يزاولون أعمالهم تحت عذبات السياط؛ ولا يزال النساء في اليابان يقمن بتزويد السفائن بمئونتها من الفحم؛ ولكن الرقابة الدولية على مثل هذه الحالات تزداد ازديادًا مطردًا، ولولا ما ينتاب العالم من مشكلات تهد في قوائمه هدًّا، لرجونا لأحفادنا أن يعيشوا في عالمٍ تطهَّر من كل ما يشوبه من استغلال همجي لمنكوبات النساء في شئون الصناعة.

على أن ما نراه اليوم من النساء اللامنزليات، وهن النساء العاملات الحديثات على صورتهن الصحيحة، إن هن إلا وليدات قوانين التعليم ونقابات العمال واصطناع الآلة لتخفيف عناء الأعمال؛ فإنه إذا ما خَفَّ العمل وهان بإحدى الآلات على اختلافها، من آلات الخراطة إلى آلات الكتابة، أقبَل عليها النساء يؤدين بصفة عامة ضروب العمل التي تقل فيها التَّبعة، مما يتهيأ عمله بهذه الآلة الجديدة؛ ونستطيع أن نقارن النساء بالرجال في هذا فنقول إنهن يضربن الرسائل على الآلات الكاتبة ولكنهن لا يملينها، ويرعين آلات المصانع ولكنهن لا يعددنها ولا يصلحنها، ولا يُحَسِّنَّها ولا يخترعنها، وهن يتقاضين، كقاعدة عامة، نصف ما يتقاضاه الرجل من أجر أو ثلثيه أو شيئًا يتراوح بين ذلك، إذا أدَّيْن عملًا متشابهًا إن لم نقل عملًا بعينه في كلتا الحالتين؛ هذا إلى أنهن في سن الشباب ويعوزهن حسن التنظيم (يقدِّر السير جوزيا ستامب أن نصف النساء العاملات في الصناعة في إنجلترا لم يبلغن الثالثة والعشرين).

والحاجة إلى تنظيم النساء العاملات ظاهرة ملحوظة في أرجاء العالم كله؛ ففي اليابان حيث يوشك عدد الرجال في المصانع أن يساوي ما بها من نساء — إذ يربو كل فريق عن المليون قليلًا — نرى في النقابات ثلاثة رجال مقابل امرأة واحدة، وفي إنجلترا اثنان وثلاثون في كل مائة من «العمال المشتغلين بأعمال مفيدة» — كما تسمِّي نشرات الإحصاء عمالنا الذكور — قد شملهم التنظيم. أما الإناث وعدد العاملات منهن في أشغال مفيدة أقل في مجموعه من عدد الرجال؛ فلم ينخرط منهن في نُظُم العمال إلا خمسة عشر في المائة، والعلة في امتناع هؤلاء العاملات عن الاشتراك في النقابات ليست فيما يبدو كرهًا لها، بل هي قلة أجورهن واعتبارهن العمل ضربًا من التسلية يقضين فيه سني الشباب؛ إذ يَعُدُّ الفتيات هذا الزمن الذي ينفقنه في المصانع مرحلة انتظار تسبق الزواج، فهن أحوج إلى كل بنسٍ من أجورهن، إما ليجمعن بذلك مهورهن، وإما لينفقن على الملابس والمظاهر التي تتيح لهن دائرةً أوسع في اختيار أزواجهن، فلما ارتفعت أجور النساء إبَّان الحرب وقلَّ احتمال زواجهن، تقاطرن على النقابات أفواجًا، ولكنهن بعدئذٍ عُدن إلى موقفهن الأول، ولم يحفلن بما يتناول عالم الصناعة من طرائق التنظيم.

ويزعم الزاعمون أن تدفق الفتيات في أعمال الصناعة قد دفع ظروف العمل خطوة نحو التمدن؛ ولقد يجوز أن يكون ضعفهن المستهدف للخطر هو الذي حرَّك العاطفة في صدور أولي الأمر في العهد الفكتوري، فأصدروا أول ما صدر من قوانين المصانع، ثم احتدت تلك العاطفة أمام المنافسة الخارجية العنيفة، حتى أصبحت مرحلة لها ما بعدها في سلسلةٍ أخذت تتتابع كأنما هي أطوار من وحدة بيلجية، هي ضمير نشأ وجعل يتطور. ويلوح لنا أن وجود النساء في المعامل قد رفع مستوى النظافة والمعاملة وأسباب الرفاهية بها؛ فما كادت ظروف العمل للنساء تخلص من تلك المنزلة التي كانت من الضعة بحيث تبعث على اليأس من إصلاحها حتى اشتدت رغبتهن في صبغ الحياة بصبغة خاصة، وأقبلن على أسباب المرح وحوافز الخيال، وكان لهن نظرات في موضوع أخلاق الإنسان وسلوكه، فكان لكل ذلك أثر حاسم في محيط الصناعة، فكأنهن قد اكتسحن أمامهن القذارة وغلظة التعامل؛ وربما عزونا بعض هذه الإصلاحات إلى ارتفاع الحياة بصفة عامة في نصف القرن الماضي إلى حدٍّ ما، ولكن دخول المرأة في الصناعة هو القوة الدافعة التي انتهت إلى هذا التقدم.

ولكن ما موقف النساء اليوم في الصناعة، وكيف يُنظر إليهن؟ الأرجح فيما يلوح، أنهن لا يزلن عاملًا صناعيًّا هامًّا — وقد ترجع أهميته إلى تزايد عددهن — ولكنهن لا يستقررن في أعمالهن مدى الحياة؛ ونحن في ظروف الحياة الحاضرة لا نتردد في أن نُؤثِر لصالح المجتمع أن تعمل الفتاة عملًا كائنًا ما كان بعد مغادرتها المدرسة حتى يتم زواجها؛ ولكن هل كونهن مؤقتات في أعمالهن سيكون معناه أنهن لن يشغلن قطُّ إلا أحط المراكز في الصناعة؟ لسنا نشك في أن النساء، كجنس، يعوزهن طموح الرجل، كما تعوزهن رغبته الشديدة في البحث العقلي، الذي لا يقصد إلى غايةٍ غير البحث في ذاته؛ فهن لا يقصدن إلى مزاولة أعمالهن مدى الحياة، ولا يَرَيْن أن يتدربن على الأعمال التي تتطلب المهارة وتستتبع التبعات — ونستثني من ذلك بعض المهن هنا وهنالك مثل صناعة القطن في لانكشير — وفضلًا عن ذلك فإن أصحاب الأعمال لما رأوا عدم استقرار المرأة في عملها واحتمال تركها له بعد حين، فإنهم لا يميلون إلى تدريب النساء ليشغلن الوظائف العليا، ويأبون أن يستمعوا حتى إلى الفتيات اللائي يطالبن بإفساح مجال التدريب أمامهن ليصعدن إلى تلك المراكز. وإذن فمن العسير أن نحكم كم من القوة والصواب في ميلهن هذا إلى إفساح طريق الرقي أمامهن، وكيف يستخدمنه لو أُتيح لهن، ويزيد الأمر تعقيدًا أن قوانين نقابات العمال تحرِّم على النساء مزاولة صناعات بأسرها، ولا تبيح لهن أن يستمتعن بالوظائف التي تتطلب شيئًا من المهارة في معظم الصناعات الأخرى. وأما في أمريكا فإن أجور الأعمال الوضيعة عالية، حتى كان من العسير أن تغري الرجال أنفسهم أن يأخذوا في التدريب ليتولوا أعمال المهارة الرفيعة، فاستدعت الحال من أجل ذلك أن تسند هذه الوظائف الرئيسية إلى عمال ماهرين من أوروبا في كثرةٍ تلفت النظر. وأما في الروسيا، حيث تحطمت هذه الحوائل التي تعترض سير المرأة، فيُقال إن مائة وخمسين ألف امرأة يُؤخذن بالتدريب ليتولين الوظائف الفنية الرفيعة، ولكن لا نستطيع حتى اليوم أن نعلم إن كنَّ سيبدين من المهارة ما يبديه الرجال. نعم إنك قد ترى في الأمم اللاتينية بعض شواذ النساء يؤدين كل ضروب الأعمال — ولكنهن أفذاذ شواذ. وإذن فليس بين دول العالم إلا اسكندناوة التي يبدي فيها النساء — كجنسٍ بصفة عامة — بعض الجدارة التي تتيح لهن أن يتولين فروع العمل الفني الدقيق؛ فهن في ذلك القطر يقفن مع الرجال في حق الاستخدام إلى أبعدِ حد مستطاع من المساواة.

احتفاظ الرجال بزوجاتهم وأسراتهم وعلاقة ذلك باستخدام النساء

إن دخول النساء في الصناعة على أساسٍ فيه أي معنًى من معاني مساواتهن بالرجال ينقض الحواجز التي أقامتها نقابات العمال في وجوههن، ثم لا يقتصر على هذا الحد، بل إنه كذلك ليقضي على سوق الزواج التي تتنافس مع سوق العمل الصناعي في اجتذاب المرأة، كما يمحو من أذهان الناس رأيهم في المرأة الذي لا يقوم على أساس صحيح، والذي قرَّ في الأذهان حينًا طويلًا من الدهر؛ فلا يزال الرأي السائد هو انحطاط المرأة دون الرجل من حيث جدارتها في العمل، ولكن انحطاطها هذا لم يَقُم عليه البرهان القاطع، وذلك لأن الحوائل التي تعترض طريقها، وإغراء الزواج الذي أشرنا إليه، يحولان دون اختبارها على نحوٍ صحيح، ومع ذلك فهذا هو الرأي الراسخ اليوم؛ إذ العقيدة سائدة بأنه حتى لو أزلنا من وجهها الحدود والقيود لظلت أقل جدارة من الرجل، ولعله مما دعا إلى الأخذ بهذا الرأي أن المرأة تُؤجَر أقل مما يُؤجَر الرجل، حتى في العمل الذي تتقنه أكثر مما يتقنه الرجل، وحصول المرأة على ستين في المائة مما يحصل عليه الرجل معناه في حقيقة الأمر أنها تستمتع بستين في المائة مما يستمتع به الرجل من قوتٍ وحرية وتقدير للنفس؛ وإن الفتيات منذ اليوم الأول الذي يزاولن فيه العمل ليعتدن هذا الوضع الدنيء بالنسبة إلى إخوانهن الفتيان، دون أن يبدين شيئًا من الضجر، ولأنهن قد قبلن على أنفسهن هذا تراهن في صنوف كثيرة من العمل قد استُبْدلن بالرجال؛ والواقع أنهن لم يطردن الرجال من أعمالهم ليحللن محلهم — فقوانين النقابات تمنع حدوث ذلك بوجه العموم — ولكنهن خرجن بالصناعات المنزلية كالحياكة والطهي وغسل الملابس، من جهة، ومن جهة أخرى فقد تحولت بعض الصناعات الدقيقة التي كانت من نصيب الرجل، فأصبح كل ما يطلب لها من مهارة هو في إدارةِ آلاتٍ تستطيع أن تديرها الفتيات؛ ومن الجائز أن ذلك لم يكن ليحدث لولا أن أجر المرأة أدنى قدْرًا من أجر الرجل، وإنه ليحتمل أن تزداد مشكلة النسبة بين أجور الفريقين حدة في المستقبل؛ إذ كلا الرجل العامل والمرأة العاملة يقبلان اليوم عن رضًى هذه النظرية بأن من حق الرجل أن يتقاضى أكثر مما تتقاضاه المرأة؛ لأنه أقدر منها ولأنه مفروض أن يكون للمرأة حاميًا؛ ولكي يحافظ الرجل على مستوى معيشته، لا يلجأ إلى مقاومة منافسة المرأة إياه بقلة أجرها، بل يكتفي بأن يُوصِد دونها هذا الميدان أو ذلك من ميادين العمل لينفرد به، فكانت النتيجة أن استولت المرأة على الصناعات الجديدة — كأعمال الكهرباء التي تتصل بأجهزة اللاسلكي — لا يكاد يشركها فيها الرجل، هذا فضلًا عن أن كثيرًا من الصناعات القديمة الدقيقة تسير في اطراد نحو التغير فيصبح أداؤه على النحو الجديد من نصيب المرأة؛ ولو سار الأمر في هذا الطريق شوطًا بعيدًا، لحان يومٌ ترفض فيه النساء هذا التفريق في الأجور الذي نراه اليوم، بل لعله يحين يوم يلح فيه الرجل في المطالبة بمساواة الأجر بين الجنسين، وإن حدث هذا فقد يكون عاملًا على وقف تيار استخدام المرأة المتزايد مدى حين، ولو أنه في النهاية سيؤدي إلى زيادة نسبة النساء في الأعمال التي تتطلب مهارة، ممن يعتزم منهن أن تنصرف إلى عملها مدى الحياة غير راغبة في زواج.

والأساس الذي بُنيت عليه الرغبة في الحط من أجور النساء بالنسبة إلى أجور الرجال هو التقليد العتيق القائل بأن الرجل من واجباته «أن يرعى أسرته»، وهذا هو ما تحتج به نقابات العمال حين تحول المرأة دون بلوغ صنوف الأعمال ذات الأجور العالية؛ ولكن الصناعة الحديثة لا تدري شيئًا، ولا تستطيع أن تدري شيئًا من أمر زواج العمال، في تحديد الأجور؛ فلو أن مصنعًا اضطر إلى التمييز بين المتزوجين والعزاب من عماله، فيرفع أجر العامل إذا ما بدا له أن يتأهل ثم يزيد من أجره كلما أضافت إليه الزوجة ابنًا إلى أبنائه، لكان بدهيًّا في هذا العالم الذي يقوم على التنافس أن يقْصِرَ المصنعُ أعمالَه على العزاب الذين لا يُرجى لهم أن يتزوجوا، وإن لم يفعل تردَّى في هوة الإفلاس بعد حين قصير. فالحالة على صورتها الراهنة، إنما جاءت نتيجة ملائمة بعض الملاءمة للظروف الاجتماعية التي تضطر الرجال إلى الزواج، ما داموا قد انسلخوا من أُسَرِهم وانخرطوا في سلك العمل؛ فالرجل الراشد العادي في إحدى النقابات الصناعية مفروض أنه رب أسرة أو أنه سيكون كذلك يومًا؛ ولذا تراه يسعى جهده أن تحول النقابة دون منافسة الفتاة إياه بما تؤديه من عمل أقل جودة من عمله، كما تحول بين الفتاة وبين أن تشق لنفسها طريقًا لتقف معه على قدم المساواة في المطالبة بأداء الأعمال الدقيقة خشيةَ أن تسبقه في هذا المضمار. والواقع أن المرأة الآن تتهدد الرجل بالخطر الأول، ولكنها حتى اليوم لم تُبْدِ من المجهود إلا قليلًا نحو بلوغ الغاية الثانية؛ وما يزال الرجل يسعى مطالبًا أن يظل أجره عاليًا ليمكِّنه من «رعاية زوجته».

ولطالما أشارت الصحافة الإنجليزية إلى أن سببًا خطيرًا من أسباب البطالة إنما يرجع إلى أن النساء ينافِسْنَ الرجال فيحللن محلهم في أعمالهم، ولكن ذلك زعم باطل، نعم إنه بينما يزداد عدد المشتغلين من الرجال فإن زيادة العاملات من النساء تسير أسرع خُطًى، ولكنها زيادة، إن تكن ملحوظة، فليست بعيدة المدى، فمجمل الفرق بين عدد النساء العاملات سنة ١٩٢٣م، وبينه سنة ١٩٣٠م يدل على زيادة مطردة فيمن استُخدمْنَ في الصناعات التي يشملها قانون التأمين ضد البطالة في إنجلترا؛ إذ يبلغ شيئًا يتراوح بين أقل من ثلاثة ملايين قليلًا، وثلاثة ملايين ونصف مليون، ولو أن نسبة الأجور فيما قبل الحرب ظلت قائمة إلى اليوم لزاد عدد المشتغلين من الرجال بما يقرب من مائة ألف عامل، ولنقص عدد النساء العاملات بعدد كهذا. هذا هو كل الفرق؛ فإن شطرًا عظيمًا من زيادة النساء العاملات في الصناعة لا علاقة له قطعًا بتعطل الرجال، بل هو انتقال النساء من الحياة المنزلية إلى الحياة الصناعية، وسَبَبُهُ أن العمل الذي كانت تنجزه المرأة بين جدران دارها، كغسل الملابس والحياكة والخَبْز وإعداد الغداء وموائد الشاي، باتت تؤديه خارج حدود الدار، هذا إلى جانب قلة في الأطفال قَلَّتْ بسببها الحاجة إلى المربيات، حتى نقص عدد خادمات المنازل في إنجلترا ربعَ مليونٍ سنةَ ١٩٢١م عما كان عليه عام ١٩١١م؛ وفضلًا عن هذا كله فلا يمكن أن تُعدَّ المرأة مسئولة عن بطالة الرجال في الأعمال الشاقة التي لا تنافسهم فيها، مع أن البطالة في هذا الضرب من الأعمال في إنجلترا أكثر منها في الجوانب الأخرى.

وبناء على ذلك نستطيع أن نرفض الرأي القائل بأن دخول النساء في الصناعة كان سببًا له أثره في البطالة بين الرجال. إن من تقاليد المرأة التي ورثتها منذ أجيال بعيدة أن تتطلع إلى رجل يحميها ويعولها، والواقع أن ذلك ما لا يزال يرجوه تسعة وتسعون في كل مائة من النساء، ولا تُستثنى منهن أرقى طبقاتهن. نعم إن المرأة العصرية تحب أن تتحرر من كل القيود، وأن تملك بنفسها زمام نفسها، ولكنها تتبين في معظم الحالات أن رجاءها ذاك أقرب إلى التحقيق من الوجهة العملية على حساب إنسان آخر. ولعل أهم ما ينبغي أن نتوجَّه إليه بالبحث في حالة النساء في الظروف الحديثة، هو هذه الجموع الغفيرة من الرجال المتعطلين الذين يبدون اليوم في كل الأمم المتمدينة، وليس لهم من قوة الكسب إلا قليل، أو قد لا يكون لهم منها شيء، وبينا هم في كسادهم هذا، فإن الغريزة والتقليد يتآمران على كثرتهم الغالبة، فيتمنون أن تكون لهم زوجات يرعونهن؛ ولكن شطرًا عظيمًا من هؤلاء المتعطلين قد تبيَّن في يقين أنه عاجز كل العجز عن تربية الأبناء، وكذلك فإن فئة تطَّرد في الزيادة من العمال الذكور، عمال المصانع الآلية وعمال الصناعة اليدوية على السواء، تضطر إلى الإقدام على الزواج بعد تعاقد الطرفين على اجتناب النسل، وهكذا تزداد عقود الزواج الذي لا يقصد إلى إنتاج البنين زيادة مطردة، فنشأ ضرب جديد من الزواج ونشأت دار جديدة، يزدادان في خطًى وئيدة وطيدة، وهو زواج لا يعقب ضجيج الأبناء، ولكنه في الوقت نفسه يستتبع وجود امرأة في حالة من الفراغ الخطر، وما يلبث فراغها هذا أن يصبح مشكلة خطيرة من مشكلات المجتمع، فهي تشعر بعبث حياتها بالقياس إلى ذكائها؛ ويقوم إلى جانب هذا الزواج العقيم عدد من العوانس يزداد على مر الأيام، يَعُلْن أنفسهن بما يكسبن من أجور، كما ترى من جهة أخرى عددًا يتزايد من الرجال يشغلون من ضروب الأعمال ويتقاضون من الأجور ما لا يمكِّنهم من الإنفاق على زوجة بغير أبناء.

الطبقة التي لا جنس لها من الوجهة الاجتماعية

إن هذا اللون من الحياة الذي يتخذ العقم عن قصد، قديم العهد. ففي فرنسا مثلًا، كانت العادة في عدد كبير من بيوت الطبقة الوسطى منذ زمن بعيد، أن تستخدم الرجل وزوجته، وغالبًا ما يكونان في سن الشباب اليانع، على شريطة ألا يعقبا نسلًا، وكان هذا الشرط موضع المراقبة الدقيقة؛ أضف إلى ذلك بعض الوظائف، كالمعاونة في متجر، لبثت مائة عام أو يزيد، تفرض العزوبة من الوجهة العملية على أغلب مَن يشتغلون بها؛ ولكن إن كان التاريخ قد شهد تلك الضروب من الحياة الزوجية العقيمة، إلا أنه لم يرَ قبل هذا العهد المرأة التي تعول نفسها بنفسها — إذا استثنينا الشواذ — فهي عمليًّا وليدة هذا العصر؛ وما هو أكثر من هذا دلالة على روح العصر هو هذه الزيادة السريعة، والانتشار الفسيح المدى، لهذه الأنماط من الحياة التي كانت تُعَدُّ من قبل ألوانًا شاذة عن العرف المألوف، أعني أنماط الحياة التي لا تفيد المجتمع من الوجهة التناسلية؛ ولقد كانت هنالك طبقة فقيرة من الناس في العهد الروماني لم تكن تنتج للأمة إلا أطفالًا، أما هذه الأنماط الجديدة من الحياة فتكون على نقيض تلك؛ إذ لا تضيف إلى الأمة إلا قليلًا من الأبناء، أو لا تضيف إليها من الأبناء شيئًا.

فهذه المدنية الآلية التي تظللنا إنما تنتج أفرادًا يتزايد عددهم تدريجًا، ليس لحياتهم الجنسية خطر من الوجهة الاجتماعية على الإطلاق؛ ولكني لا أقصد بهذا أنهم لا يتبادلون الحب أو أنهم لا يحيون حياة جنسية تامة من حيث العواطف وإشباع الحس؛ فكثير من هؤلاء الأفراد يحيون هذه الحياة الجنسية، ولكن هذا الجانب من حياتهم لا ينتج النتائج التي تبرر للمجتمع أن يفرض أي لون من ألوان الرقابة على الحياة الجنسية؛ فهم من وجهة نظر بيلجية لا جنس لهم (أي لا هم بالذكور ولا هم بالإناث) كفَعَلَة النمل.

وسنعالج في الباب الثالث عشر١ أهم عناصر مشكلة السكان، وسيتضح في جلاء بعد ذلك البحث، الاحتمال القوي بأن هذه الطائفة الكبيرة ممن لا جنس لهم في النوع الإنساني ستزداد عما هي اليوم؛ وربما يكون قد دنا اليوم الذي لا ينتج النسلَ فيه إلا نصفُ أو ثلثُ الرائدين والراشدات في أرجاء العالم.

والاستغلال الاقتصادي والاجتماعي لنساء هذه الطبقة العديمة الجنس يكوِّن مشكلة أخطر جدًّا من مشكلة رجالها، وذلك لأن جانب التناسل (وليس ذلك معناه مجرد الجانب الجنسي) من الحياة أهم جدًّا في فريق النساء منه في فريق الرجال؛ ولكن فشل المرأة هذا وتعذُّر وجود عمل لها خارج جدران بيتها لا يبدو بكل خطره اليوم؛ لأن العالم منصرف بنظره إلى ما هو أفدح من ذلك، من المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تسد في وجهه الطريق، فإذا جاء يوم تنقشع عن عينَي العالم هذه المشكلات طَفَتْ على السطح مسألة المرأة وجذبت إليها الأنظار؛ فلئن كانت نسبة الزيادة في استخدام النساء أكثر منها في استخدام الرجال ظاهرة خطيرة تتهدد بناء المجتمع في هذا العصر، فهنالك ظاهرة أشد جدًّا في خطرها، وهي أن هذا العدد القليل من النساء اللائي يعشن الآن معتمدات على أزواجهن ولو أنهن يدبرن العقم، يجاهدن ليظفرن باستقلال اقتصادي واجتماعي.

١  هو فصل عقَده مؤلف هذا الكتاب ليحلل فيه الطوائف التي يتألف منها سكان الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤