الفصل السابع

هل يلزمنا للمرأة ضرب خاص من التربية في طور الشباب

ربما نكون قد أسرفنا، حين رسمنا الخطة لتعليم المرأة، في المماثلة بينها وبين نوع التربية الذي نأخذ الرجال به؛ فمن أيسر الأمور أن نأخذ الرجال بالتدريب والتربية في تقدُّم متصل من سن الخامسة إلى سن الخامسة والعشرين وما بعدها، وليس يتبع هذا أن في مقدورنا أن نتناول المرأة بالتربية على هذا النحو المتصل، فقد يقع الحد الأقصى لقابليتهن للتعلم في مراحل من حياتهن تخالف فيها الرجل.

ولما كان هذا الرأي مستمدًّا بطبيعة الحال من مقارنة الرجل بالمرأة من حيث الخصائص ومن حيث دورة الحياة في كل منهما، فقد يجمُل بنا أن نسبق الباب الذي سنخصصه للحديث في شئون التربية،١ لنناقش مضمون هذه الفكرة الآتية، وهي أنه قد يحسُن بالمرأة أن تعود فتستأنف دراسة واضحة الحدود، وأعمالًا جديدة، وتبعات جديدة حينما يتراوح سنُّها بين الخامسة والثلاثين والخمسين؛ فتربَّى الفتاة طبْعًا، منذ بداية أمرها، على أن تلقي ببصرها بعيدًا، فتجاوز به المرحلة العاطفية من حياتها، وأن تَعُدَّها مرحلة جزئية تجتازها إلى ما بعدها، وألا تعتبر أخريات سنيها فترة موقوفة للشيخوخة التي تبترها عن العالم المحيط بها، بل تنظر إليها مرحلة من عمرها تبدأ فيها مجموعة جديدة من ألوان النشاط؛ فلا ينبغي أن يكون في فقدان المرأة لشبابها كل ما فيه اليوم من أسباب الأسى، بل يجب ألا يكون في أسوأ حالاته أبلغ في مأساته من ضيعة الشباب عند الرجل، وإن يكن ذبول الشباب أقل تدرجًا في المرأة منه في الرجل، فهما يختلفان في هذا كما يختلفان في انتقالهما إلى طور المراهقة الحقيقة.

ولا بد لنا أن نلقي بالنا إلى هذا الخلاف في شيء من الدقة والتحديد ليزداد اتضاحًا عما هو الآن.

وحتى لو فرضنا أن التقاليد لا تضطر المرأة اضطرارًا إلى قبول الحياة الجنسية قبل أوانها، فإن ظهور الغريزة الجنسية عندها يؤثِّر، فيما يلوح، في حياتها، في مستهل المراهقة، أثرًا أشد خطرًا مما يفعل بحياة الرجل؛ وليس من المبالغة في شيء أن تقول إن الفتاة اليقظة الطُّلَعَة، التي قد تكون أشد رغبة في تحصيل المعرفة من الفتى في تلك السن، تكتسب شخصية جديدة عند بلوغها، فما يطرأ عليها من التغير عندئذٍ أعظم وأشد قلبًا لحياتها مما يستتبعه بلوغ الذكر سن نضوجه؛ فهجمة المراهقة على الفتاة أقرب إلى الكارثة النازلة منها على الفتى؛ أما تلك الشخصية الجديدة الطارئة فقد تميل بها إلى الدار والأمومة والحب، وقد تنزع بها إلى التديُّن، وقد تكون مزيجًا من بعض هذه العناصر — وهنا يتوقف الاختيار على نوع الفتاة وظروفها — ومهما يكن من أمر هذه الشخصية الناشئة فإنه يتحتم على كل حال أن تكون شديدة الإدراك لنفسها إلى حد بعيد، مسخَّرة لتمثيل ما يحركها من نوازع، ثم لا يمضي على هذه الشخصية الوليدة عامان أو ثلاثة حتى تتمكن من وظيفتها التي اختارت أن تؤديها. ونستطيع أن نذهب في المرأة العادية إلى حد القول بأن مجموعة النوازع والعواطف التي تنشأ مع البلوغ تتحكم في حياتها مدة من الزمن تحكمًا تامًّا، نابذة ما عداها مما يجول في نفس الكائن البشري من نزعات أوسع منها نطاقًا، بل يغلب أن تتخذ من تلك النزعات بطانة تقيم عليها دعائم هذه الحياة الشخصية الفردية العنيفة.

ولقد يكون من صالح الحياة أن تفقد النساء لفترة من الزمن صلاتهن بما يشغل البشر بصفة عامة، ليأخذن أنفسهن أخذًا جادًّا عنيفًا بالحياة كأشخاص فقط، فيكن محبات وحبيبات معًا، ويكن زوجات فأمهات؛ نعم قد يكون من الخير المحض أن تخضع عقولهن لهذا التحول الذي يضيِّق من آفاقهن الفكرية ويركِّز كل عنايتهن في حياة أشخاصهن؛ فنحن اليوم أحوج إلى أن تحيا المرأة هذا اللون من الحياة الخاصة من أي عهد مضى، وستشتد حاجتنا إليه كلما صعدت المدنية في مستواها؛ فأمهات صغار الأطفال بصفة عامة، أو على الأقل في الأمم المتقدمة نوعًا، مدرِكات للتبعات الجديدة التي ألقتها عليهن خطوات التقدم في تنشئة الصغار، وفي علم الصحة العامة، وفي سيكولوجية الأطفال وفي أساليب التربية العملية؛ وإنك لتشهد اليوم في أرجاء إنجلترا وأمريكا جمعيات من النساء تتألف من أفقر زوجات المزارعين والعمال غير الدائمين، فصاعدًا، تدرس هذه الموضوعات وتجد في دراستها من المتعة شيئًا كثيرًا، والواقع أن ذلك فيما أرى أهم ما أثمره انتشار التعليم بين النساء حتى اليوم، ومهما نَقُلْ في هذا الباب في مقارنتهن بالرجال فيما يؤدين من أعمال فنية وعقلية، فلسنا نشك في أن تحرُّر النساء تحررًا عقليًّا قد انتهى بهن إلى خلق أطفال أسعد وأصح من أطفال العهود السالفة؛ فصغار الأطفال في سنة ١٩٣١م، إذا قيسوا بأسلافهم الأطفال، كل طبقة بما يوازيها، لكانوا أقوى نماء، وأجمل طلعة، وأقرب إلى الأسلوب العلمي في غذائهم ولباسهم، وأكثر حرية في نموهم العقلي؛ وليَعُدْ مَن يستطيع من القراء أن يعود بذاكرته ثلاثين عامًا، ليرى المتنزهات العامة في أية مدينة من كبرى المدائن، فيقارن ما كان يتدفق فيها من جموع قذرة بالية الثياب حين كانت مدارس الفقراء تغلق أبوابها في أيام العطلة، بهذه المخلوقات الصغيرة الحبيبة الذكية التي نراها اليوم في الحدائق؛ إنه تحوُّل يثير الدهشة حقًّا، وهو راجع بالطبع إلى كثير من العوامل، ولكنه ما كان ليحدث لولا ما لقيه هؤلاء الأطفال من انصراف عناية أمهاتهم لهم.

ومهما يكن من الأمر فليس الأطفال موضوع بحثنا الآن، بل موضوعنا الأمهات؛ فقد أصبحت رعاية الأطفال اليوم مهنة تتطلب مستوًى رفيعًا من الذكاء لم تكن لتتطلبه في العهود الماضية، ولكنها مهنة لا تدوم ما دامت الحياة، فتكاد الأُسَر كلها ترسل بناتها وبنيها إلى المدرسة في هذا العصر، وقلما تزيد الأسرة عن أربعة أبناء، فما تكاد تصل الأم العصرية سنتها الثلاثين أو الخامسة والثلاثين حتى يفرغ عملها فراغًا يوشك أن يكون تامًّا؛ لقد نادتها الحياة الشخصية، فلبَّتها وها هي ذي قد أشبعت شهوتها الملحة في هذه الحياة الذاتية، فماذا عساها أن تصنع فيما بقي من عمرها، وهو زمن يقرب من ثلاثين سنة أو أربعين؟

إن الكثرة الغالبة من هؤلاء النسوة اللائي بلغن الأربعين أو الخمسين ليس لها عمل تؤديه في العصر الحاضر؛ فوظائفهن القديمة، لو كُنَّ من العاملات قبل الزواج، لا تعود ترضى بهن؛ وليس ينشأ من الأعمال الجديدة ما يكفي لاستيعابهن، فإن كان المبدعات منهن لا يلبثن حتى يخلقن لأنفسهن عملًا، فيأخذن في أعمال البر أو التديُّن أو السياسة، فليس من سبيل إلى الشك عند مَن يصادف عددًا كبيرًا من النسوة الأنْصاف، أن مثل هاتيك الأعمال لا يمكن أن تستغرق من فيض النساء إلا فئة قليلة. لقد بعثت امرأة من ذوات الفراغ منذ شهور قلائل إلى «صحيفة الدار» في إحدى جرائد المساء التي تصدر في لندن تسائل القراء: «أيستطيع مَن جاوز الأربعين أن يجد عملًا سوى لعب الورق؟» فأجابها عدد زاخر من الكتَّاب، ولكنهم لم يقدموا لها مِن لعب الورق بديلًا غير تأنيبها بأنها جديرة أن تخجل من نفسها، ومنهم من ارتأى لها أن تلتمس جارًا ضريرًا فتقرأ له شيئًا في صوت مرتفع.

ولقد يبدو هذا المَثَل تافهًا، ولكن المشكلة خطيرة غاية الخطر في حياة العالم الاجتماعية التي ما تفتأ في ازدياد؛ فهؤلاء الملايين ممن لا يجدن عملًا يملأ فراغهن، مواطنات ولهن أصوات انتخابية، ويملكن في أيديهن زمام الإنفاق، ويؤثِّرن أعمق الأثر في مجموعة الآراء السائدة، فلو تُركن لأنفسهن لأنهن لا يلزمن لشيء في الحياة، لو تُركن لهذه الحياة الذاتية التافهة الضيقة، فإن العالم يخلق لنفسه بذلك قوة من الجهل والتعصب الأعمى والقناعة، ويُوجِد حوله جوًّا من الركود العقلي والأباطيل الذهنية، يقف سدًّا منيعًا دون كل محاولة تُبذل في تنقية الفكر وتوسيع أفقه، وفي بناء المستقبل على استخدام محصوله من المعرفة استخدامًا مضبوطًا جريئًا.

إذن فأحسبنا بحاجة إلى شيء من التجديد في نظامنا التعليمي؛ فها أنت ذا ترى وقتًا ضائعًا يمكن استثماره، ها أنت ذا ترى جموعًا حاشدة من المواطنات، لا يكدن يفرغن من فترة لا تجاوز العشرين عامًا ينفقنها في حياة ذاتية عنيفة، أخذت منهن بمجامع الأفئدة، أقول إنهن لا يكدن يفرغن من تلك الأعوام العشرين، حتى يتلفتن باحثات في شغف عن حياة جديدة شائقة، راجيات بصفة عامة أن ينفعن الناس، وأن يصلحن أنفسهن بشيء يعملنه، ولكنهن في معظم الحالات يفشلن في أن يجدن ما يحقق رجاءهن؛ ولذلك ترى كثيرات من أولئك النسوة اللائي فُكَّت عنهن الأغلال في حالة قصوى من الشقاء، فما فُكَّت أغلالهن إلا لينعمن بأتفه التوافه، وليحيين حياة الخمول، وتستطيع أن تلمس حاجتهن الماسة إلى عملٍ يؤدينه، تلك الحاجة التي عمَّت أرجاء البلاد كلها، فيما تراه في كندا وإنجلترا من المعاهد النسوية، وفيما تشاهده في الولايات المتحدة من أندية النساء؛ فهذه المعاهد والأندية تخفِّف عن كروبهن، فهي بمثابة منصرف اجتماعي يُنَفِّسْنَ فيه عن صدورهن المحرجة، ولكنهن مع ذلك ما يزلن في حاجة إلى شيء أكثر من هذا، شيء أكثر اطرادًا وأقرب إلى العلم، مع أن في مقدور المرأة النصف أن تستأنف تثقيف نفسها، فلا تشعر بأن المجتمع غني عن وجودها، ولا تقف موقف السخرية من الناس، ولا تضطر إلى أن تقف في وجوه الشبان حائلًا منيعًا؛ فقد تميل إلى استئناف ما كانت انصرفت إليه قبل زواجها من مشاغل أهملتها بسبب الحياة الزوجية، وقد تحب أن توسِّع من أفقها فتتزود من أحد العلوم التي تبحث في شئون البشر، كالسياسة أو الاقتصاد أو التربية أو علم النفس أو علم الصحة أو التاريخ؛ أو ربما اقتصرت على أن تجعل نفسها مشغلة لسواها، بأن تلتمس غيرها ممن يشعرن شعورها فيسقنها إلى ما تملأ به فراغها؛ وهي حتى إن لجأت إلى ذلك فإنما تخلق لنفسها مجالًا قد ينفع لأنها بمثابة المادة الغفل، صالحة أن تسير فيما يُصلِح النظام الاجتماعي، فهي على كل حال فرد من أفراد الوطن، ويمكن أن تُستثمر في عمل تؤديه، وهي بحاجة إلى ما يسميه أصحاب السيارات «عمارة» لكي تستطيع أن تعود إلى طريق الحياة المزدهرة من جديد.

وسنبحث في الفصل الآتي٢ صنوف الأعمال المتميزة بطابعها النسوي التي في مُكْنة النساء أن يشتغلن بها في هذا المجتمع العصري الذي ما يزال يزداد تعقدًا واشتباكًا، حتى إذا ما بلغنا الباب الذي سنخصصه للبحث في التربية سنبحث فيما يمكن أن نبذله من مجهود خلقي وعقلي ييسر لنا تنظيم المجتمع البشري تنظيمًا أقرب إلى القواعد العلمية. ولقد أسلفنا في الباب الثامن تعريفًا لما نسميه بالطبقة المتعلمة؛ وكلما أمعنا في هذا البحث الاستعراضي الذي نصوِّر فيه الحياة العقلية لهذا العالم الذي نعيش فيه، ازدادت الأسباب ظهورًا ووضوحًا، الأسباب التي تحتِّم على النساء أن يعتبرن الأعوام التي تشتد فيها النزعة الجنسية والحياة الذاتية وهي التي تعقب بلوغهن سن المراهقة، مرحلة من مراحل الحياة لا أكثر، وأن يَلْتَمِسْن في استئناف التثقيف والاشتغال بعملٍ ما لِذاته، مهربًا من هذه الحياة الميتة التي يحياها كثير منهن اليوم، فلا يكنَّ بذلك إلا مادة هملًا في جسم المجتمع.
١  خصَّص الكاتب آخر فصول كتابه «عمل الإنسان وثروته وسعادته» للبحث في التربية.
٢  يشير إلى الفصل الذي يلي هذا في كتابه «عمل الإنسان وثروته وسعادته» فليرجع إليه مَن شاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤